الباحث القرآني

﴿وما أنْفَقْتُمْ مِن نَفَقَةٍ أوْ نَذَرْتُمْ مِن نَذْرٍ فَإنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾ (p-٣٢٢)ظاهِرُهُ العُمُومُ في كُلِّ صَدَقَةٍ في سَبِيلِ اللَّهِ، أوْ سَبِيلِ الشَّيْطانِ، وكَذَلِكَ النَّذْرُ عامٌّ في طاعَةِ اللَّهِ أوْ مَعْصِيَتِهِ، وأتى بِالمُمَيِّزِ في قَوْلِهِ: ﴿مِن نَفَقَةٍ﴾ ﴿ومِن نَذْرٍ﴾ وإنْ كانَ مَفْهُومًا مِن قَوْلِهِ: ﴿وما أنْفَقْتُمْ﴾ ومِن قَوْلِهِ: ﴿أوْ نَذَرْتُمْ مِن نَذْرٍ﴾ لِتَأْكِيدِ انْدِراجِ القَلِيلِ والكَثِيرِ في ذَلِكَ، ولا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولا كَبِيرَةً، وقِيلَ: تَخْتَصُّ النَّفَقَةُ بِالزَّكاةِ لِعَطْفِ الواجِبِ عَلَيْهِ وهو النَّذْرُ، والنَّذْرُ عَلى قِسْمَيْنِ: مُحَرَّمٍ وهو كُلُّ نَذْرٍ في غَيْرِ طاعَةِ اللَّهِ، ومُعْظَمُ نُذُورِ الجاهِلِيَّةِ كانَتْ عَلى ذَلِكَ؛ ومُباحٍ مَشْرُوطٍ وغَيْرِ مَشْرُوطٍ، وكِلاهُما مُفَسِّرٌ، نَحْوُ: إنْ عُوفِيتُ مَن مَرِضِ كَذا فَعَلَيَّ صَدَقَةُ دِينارٍ، ونَحْوُ: لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وغَيْرُ مُفَسِّرٍ، نَحْوُ: إنْ عُوفِيتُ فَعَلَيَّ صَدَقَةٌ أوْ نَذْرٌ، وأحْكامُ النَّذْرِ مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ الفِقْهِ، قالَ مُجاهِدٌ: مَعْنى (يَعْلَمُهُ) يُحْصِيهِ، وقالَ الزَّجّاجُ: يُجازِي عَلَيْهِ، وقِيلَ: يَحْفَظُهُ. وهَذِهِ الأقْوالُ مُتَقارِبَةٌ. وتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآيَةُ وعْدًا ووَعِيدًا بِتَرْتِيبِ عِلْمِ اللَّهِ عَلى ما أنْفَقُوا أوْ نَذَرُوا (ومِن نَفَقَةٍ) (ومِن نَذْرٍ) تَقَدَّمَ نَظائِرُها في الإعْرابِ فَلا تُعادُ، وفي قَوْلِهِ: (مِن نَذْرٍ) دَلالَةٌ عَلى حَذْفِ مَوْصُولٍ قَبْلَ قَوْلِهِ: (نَذَرْتُمْ) تَقْدِيرُهُ: أوْ ما نَذَرْتُمْ مِن نَذْرٍ؛ لِأنَّ (مِن نَذْرٍ) تَفْسِيرٌ وتَوْضِيحٌ لِذَلِكَ المَحْذُوفِ، وحُذِفَ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِهِ، ولِدَلالَةِ ما في قَوْلِهِ: ﴿وما أنْفَقْتُمْ﴾ عَلَيْهِ، كَما حُذِفَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ؎أمَن يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنكم ويَمْدَحُهُ ويَنْصُرُهُ سَواءُ التَّقْدِيرُ: ومَن يَمْدَحُهُ، فَحَذْفُهُ لِدَلالَةِ: مَن، المُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِ، وعَلى هَذا الَّذِي تَقَرَّرَ مِن حَذْفِ المَوْصُولِ، فَجاءَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا في قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾ لِأنَّ العَطْفَ بِأوْ، وإذا كانَ العَطْفُ بِأوْ كانَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا؛ لِأنَّ المَحْكُومَ عَلَيْهِ هو أحَدُهُما، وتارَةً يُراعى بِهِ الأوَّلُ في الذِّكْرِ، نَحْوَ: زَيْدٌ أوْ هِنْدٌ مُنْطَلِقٌ، وتارَةً يُراعى بِهِ الثّانِي، نَحْوَ: زَيْدٌ أوْ هِنْدٌ مُنْطَلِقَةٌ، وأمّا أنْ يَأْتِيَ مُطابِقًا لِما قَبْلَهُ في التَّثْنِيَةِ أوِ الجَمْعِ فَلا، ولِذَلِكَ تَأوَّلَ النَّحْوِيُّونَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أوْ فَقِيرًا فاللَّهُ أوْلى بِهِما﴾ [النساء: ١٣٥] بِالتَّأْوِيلِ المَذْكُورِ في عِلْمِ النَّحْوِ، وعَلى المَهْيَعِ الَّذِي ذَكَرْناهُ، جاءَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا رَأوْا تِجارَةً أوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْها﴾ [الجمعة: ١١] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أوْ إثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا﴾ [النساء: ١١٢] كَما جاءَ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾ ولَمّا عَزَبَتْ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الأحْكامِ عَنْ جَماعَةٍ مِمَّنْ تَكَلَّمَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ، جَعَلُوا إفْرادَ الضَّمِيرِ مِمّا يَتَأوَّلُ، فَحُكِيَ عَنِ النَّحاسِ أنَّهُ قالَ: التَّقْدِيرُ: وما أنْفَقْتُمْ مِن نَفَقَةٍ فَإنَّ اللَّهَ يَعْلَمُها، أوْ نَذَرْتُمْ مِن نَذْرٍ فَإنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، ثُمَّ حُذِفَ، قالَ: وهو مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها﴾ [التوبة: ٣٤] وقَوْلِهِ ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ وإنَّها لَكَبِيرَةٌ﴾ [البقرة: ٤٥] وقَوْلِ الشّاعِرِ:(p-٣٢٣) ؎نَحْنُ بِما عِنْدَنا وأنْتَ بِما ∗∗∗ عِنْدَكَ راضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وقَوْلِ الآخَرِ: ؎رَمانِي بِأمْرٍ كُنْتُ مِنهُ ووالِدِي ∗∗∗ بَرِيئًا ومِن أجْلِ الطَّوِيِّ رَمانِي التَّقْدِيرُ: نَحْنُ بِما عِنْدَنا راضُونَ، وكُنْتُ مِنهُ بَرِيئًا، ووالِدِي بَرِيئًا، انْتَهى. فَأجْرى أوْ مَجْرى الواوِ في ذَلِكَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ووَحَّدَ الضَّمِيرَ في (يَعْلَمُهُ) وقَدْ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ مِن حَيْثُ أرادَ ما ذَكَرَ أوْ نَصَّ، انْتَهى. وقالَ القُرْطُبِيُّ: وهَذا حَسَنٌ، فَإنَّ الضَّمِيرَ يُرادُ بِهِ جَمِيعُ المَذْكُورِ، وإنْ كَثُرَ، انْتَهى. وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا ذِكْرُ حُكْمِ أوْ، وهي مُخالِفَةٌ لِلْواوِ في ذَلِكَ، ولا يُحْتاجُ لِتَأْوِيلِ ابْنِ عَطِيَّةَ؛ لِأنَّهُ جاءَ عَلى الحُكْمِ المُسْتَقِرِّ في لِسانِ العَرَبِ في: أوْ. ﴿وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ ظاهِرُهُ العُمُومُ، فَكُلُّ ظالِمٍ لا يَجِدُ لَهُ مَن يَنْصُرُهُ ويَمْنَعُهُ مِنَ اللَّهِ، وقالَ مُقاتِلٌ: هُمُ المُشْرِكُونَ. وقالَ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ: هُمُ المُنْفِقُونَ بِالمَنِّ والأذى والرِّياءِ، والمُبَذِّرُونَ في المَعْصِيَةِ، وقِيلَ: المُنْفِقُو الحَرامَ. والأنْصارُ: الأعْوانُ جَمْعُ نَصِيرٍ، كَحَبِيبٍ وأحْبابٍ، وشَرِيفٍ وأشْرافٍ، أوْ ناصِرٍ، كَشاهِدٍ وأشْهادٍ، وجاءَ جَمْعًا بِاعْتِبارِ أنَّ ما قَبْلَهُ جَمْعٌ، كَما جاءَ: ﴿وما لَهم مِن ناصِرِينَ﴾ [آل عمران: ٢٢] والمُفْرَدُ يُناسِبُ المُفْرَدَ نَحْوُ: ﴿ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: ١٢٠] لا يُقالُ: انْتِفاءُ الجَمْعِ لا يَدُلُّ عَلى انْتِفاءِ المُفْرَدِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ في مَعْرِضِ نَفْيِ النَّفْعِ والإغْناءِ، وحُصُولِ الِاسْتِعانَةِ، فَإذا لَمْ يَجِدِ الجَمْعُ ولَمْ يُغْنِ، فَأحْرى أنْ لا يُجْدِيَ ولا يُغْنِيَ الواحِدُ. ولَمّا بَيَّنَ تَعالى فَضْلَ الإنْفاقِ في سَبِيلِهِ وحَثَّ عَلَيْهِ، وحَذَّرَنا مِنَ الجُنُوحِ إلى نَزَغاتِ الشَّيْطانِ، وذَكَّرَنا بِوَعْدِ اللَّهِ الجامِعِ لِسَعادَةِ الآخِرَةِ والدُّنْيا مِنَ المَغْفِرَةِ والفَضْلِ، وبَيَّنَ أنَّ هَذا الأمْرَ والفَرْقَ بَيْنَ الوَعْدَيْنِ لا يُدْرِكُهُ إلّا مَن تَخَصَّصَ بِالحِكْمَةِ الَّتِي يُؤْتِيها اللَّهُ مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ، رَجَعَ إلى ذِكْرِ النَّفَقَةِ والحَثِّ عَلَيْها، وأنَّها مَوْضُوعَةٌ عِنْدَ مَن لا يَنْسى ولا يَسْهُو، وصارَ ذِكْرُ الحِكْمَةِ مَعَ كَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِما تَقَدَّمَ كالِاسْتِطْرادِ، والتَّنْوِيهِ بِذِكْرِها، والحَثِّ عَلى مَعْرِفَتِها. ﴿إنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ﴾ أيْ: إنْ تُظْهِرُوا إعْطاءَ الصَّدَقاتِ، قالَ الكَلْبِيُّ: «لَمّا نَزَلَتْ: ﴿وما أنْفَقْتُمْ مِن نَفَقَةٍ﴾ الآيَةَ، قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ أصَدَقَةُ السِّرِّ أفْضَلُ أمْ صَدَقَةُ العَلانِيَةِ ؟ فَنَزَلَتْ: ﴿إنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ﴾» وقالَ يَزِيدُ بْنُ أبِي حَبِيبٍ: نَزَلَتْ في الصَّدَقَةِ عَلى اليَهُودِ والنَّصارى، وكانَ يَأْمُرُ بِقِسْمِ الزَّكاةِ في السِّرِّ، و(الصَّدَقاتِ) ظاهِرُ العُمُومِ، فَيَشْمَلُ المَفْرُوضَةَ والمُتَطَوَّعَ بِها. وقِيلَ الألِفُ واللّامُ لِلْعَهْدِ، فَتُصْرَفُ إلى المَفْرُوضَةِ، فَإنَّ الزَّكاةَ نَسَخَتْ كُلَّ الصَّدَقاتِ، وبِهِ قالَ الحَسَنُ، وقَتادَةُ، ويَزِيدُ بْنُ أبِي حَبِيبٍ، وقِيلَ: المُرادُ هُنا صَدَقاتُ التَّطَوُّعِ دُونَ الفَرْضِ، وعَلَيْهِ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ، وقالَهُ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ. وقَدِ اخْتَلَفُوا: هَلِ الأفْضَلُ إظْهارُ المَفْرُوضَةِ أمْ إخْفاؤُها ؟ فَذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ وآخَرُونَ إلى أنَّ إظْهارَها أفْضَلُ مِن إخْفائِها، وحَكى الطَّبَرِيُّ الإجْماعَ عَلَيْهِ، واخْتارَهُ القاضِي أبُو يَعْلى، وقالَ أيْضًا ابْنُ عَبّاسٍ: إخْفاءُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ أفْضَلُ مِن إظْهارِها، ورُوِيَ عَنْهُ: صَدَقاتُ السِّرِّ في التَّطَوُّعِ تَفَضُلُ عَلانِيَتَها بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وصَدَقَةُ الفَرِيضَةِ عَلانِيَتُها أفْضَلُ مِن سِرِّها بِخَمْسَةٍ وعِشْرِينَ ضِعْفًا. قالَ القُرْطُبِيُّ: ومِثْلُ هَذا لا يُقالُ بِالرَّأْيِ، وإنَّما هو تَوْقِيفٌ، وقالَ قَتادَةُ: كِلاهُما إخْفاؤُهُ أفْضَلُ. وقالَ الزَّجّاجُ: كانَ إخْفاءُ الزَّكاةِ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أحْسَنَ، فَأمّا اليَوْمُ فالنّاسُ مُسِيئُونَ الظَّنَّ فَإظْهارُها أفْضَلُ. وقالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: لَيْسَ في تَفْضِيلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلى العَلانِيَةِ، ولا صَدَقَةِ العَلانِيَةِ عَلى صَدَقَةِ السِّرِّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. ﴿فَنِعِمّا هِيَ﴾ الفاءُ جَوابُ الشَّرْطِ، ونِعِمْ فِعْلٌ لا يَتَصَرَّفُ، فاحْتِيجَ في الجَوابِ إلى الفاءِ، والفاعِلُ بِنِعِمْ مُضْمَرٌ مُفَسَّرٌ بِنَكِرَةٍ لا تَكُونُ مُفْرَدَةً في الوُجُودِ نَحْوُ: شَمْسٍ وقَمَرٍ، ولا مُتَوَغِّلَةً في الإبْهامِ نَحْوُ غَيْرِ، ولا أفْعَلَ (p-٣٢٤)التَّفْضِيلِ نَحْوُ أفْضَلِ مِنكَ، وذَلِكَ نَحْوُ: نِعْمَ رَجُلًا كَزَيْدٍ، والمُضْمَرُ مُفْرَدٌ، وإنْ كانَ تَمْيِيزُهُ مُثَنًّى أوْ مَجْمُوعًا، وقَدْ أعْرَبُوا: ما، هُنا تَمْيِيزًا لِذَلِكَ المُضْمَرِ الَّذِي في نِعِمْ، وقَدَّرُوهُ بِـ (شَيْئًا) فَـ (ما) نَكِرَةٌ تامَّةٌ لَيْسَتْ مَوْصُوفَةً ولا مَوْصُولَةً، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى: ما، اللّاحِقَةِ لِهَذَيْنِ الفِعْلَيْنِ، أعَنى: نِعْمَ وبِئْسَ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهم أنْ يَكْفُرُوا﴾ [البقرة: ٩٠] وقَدْ ذَكَرْنا مَذاهِبَ النّاسِ فِيها، فَأغْنى ذَلِكَ عَنْ إعادَتِهِ هُنا، وهي: ضَمِيرٌ عائِدٌ عَلى الصَّدَقاتِ، وهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ: فَنِعِمّا إبْداؤُها، ويَجُوزُ أنْ لا يَكُونَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، بَلْ يَعُودُ عَلى الصَّدَقاتِ بِقَيْدِ وصْفِ الإبْداءِ، والتَّقْدِيرُ في (فَنِعِمّا هي) فَنِعِمّا الصَّدَقاتُ المَبْداةُ وهي مُبْتَدَأٌ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ، وجُمْلَةُ المَدْحِ خَبَرٌ عَنْهُ، والرّابِطُ هو العُمُومُ الَّذِي في المُضْمَرِ المُسْتَكِنِّ في (نِعْمَ) وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ووَرْشٌ، وحَفْصٌ: (فَنِعِمّا) بِكَسْرِ النُّونِ والعَيْنِ هُنا وفي النِّساءِ، ووَجْهُ هَذِهِ القِراءَةِ أنَّهُ عَلى لُغَةِ مَن يُحَرِّكُ العَيْنَ، فَيَقُولُ: نِعِمْ، ويُتْبِعُ حَرَكَةَ النُّونِ بِحَرَكَةِ العَيْنِ، وتَحْرِيكُ العَيْنِ هو الأصْلُ، وهي لُغَةُ هُذَيْلٍ، ولا يَكُونُ ذَلِكَ عَلى لُغَةِ مَن أسْكَنَ العَيْنَ؛ لِأنَّهُ يَصِيرُ مِثْلَ: ”جِسْم مّالِكٍ“، وهو لا يَجُوزُ إدْغامُهُ عَلى ما ذَكَرُوا. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ (فَنَعِمّا) فِيهِما بِفَتْحِ النُّونِ وكَسْرِ العَيْنِ، وهو الأصْلُ؛ لِأنَّ وزْنَهُ عَلى فَعِلَ، وقالَ قَوْمٌ: يَحْتَمِلُ قِراءَةُ كَسْرِ العَيْنِ أنْ يَكُونَ عَلى لُغَةِ مَن أسْكَنَ، فَلَمّا دَخَلَتْ ما وأُدْغِمَتْ حُرِّكَتِ العَيْنُ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وقالُونُ، وأبُو بَكْرٍ: بِكَسْرِ النُّونِ وإخْفاءِ حَرَكَةِ العَيْنِ، وقَدْ رُوِيَ عَنْهُمُ الإسْكانُ، والأوَّلُ أقْيَسُ وأشْهَرُ، ووَجْهُ الإخْفاءِ طَلَبُ الخِفَّةِ، وأمّا الإسْكانُ فاخْتارَهُ أبُو عُبَيْدٍ، وقالَ: الإسْكانُ، فِيما يُرْوى، لُغَةُ النَّبِيِّ ﷺ في هَذا اللَّفْظِ، قالَ لِعَمْرِو ابْنِ العاصِ: «نِعِمّا المالُ الصّالِحُ لِلرَّجُلِ الصّالِحِ» . وأنْكَرَ الإسْكانُ أبُو العَبّاسِ، وأبُو إسْحاقَ، وأبُو عَلِيٍّ؛ لِأنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ ساكِنَيْنِ عَلى غَيْرِ حَدِّهِ. أبُو العَبّاسِ لا يَقْدِرُ أحَدٌ أنْ يَنْطِقَ بِهِ، وإنَّما يَرُومُ الجَمْعُ بَيْنَ ساكِنَيْنِ ويُحَرَّكُ ولا يَأْتِيهِ، وقالَ أبُو إسْحاقَ: لَمْ تَضْبُطِ الرُّواةُ اللَّفْظَ في الحَدِيثِ، وقالَ أبُو عَلِيٍّ: لَعَلَّ أبا عَمْرٍو أخْفى، فَظَنَّهُ السّامِعُ إسْكانًا وقَدْ أتى عَنْ أكْثَرِ القُرّاءِ ما أنْكَرَ، فَمِن ذَلِكَ الإسْكانُ في هَذا المَوْضِعِ، وفي بَعْضِ تاءاتِ البَزِّيِّ، وفي (اسْطاعُوا) وفي (يَخِصِّمُونَ) انْتَهى ما لَخَّصَ مِن كَلامِهِمْ. وإنْكارُ هَؤُلاءِ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأنَّ أئِمَّةَ القِراءَةِ لَمْ يَقْرَءُوا إلّا بِنَقْلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ومَتى تَطَرَّقَ إلَيْهِمُ الغَلَطُ فِيما نَقَلُوهُ مِن مِثْلِ هَذا، تَطَرَّقَ إلَيْهِمْ فِيما سِواهُ، والَّذِي نَخْتارُهُ ونَقُولُهُ: إنَّ نَقْلَ القِراءاتِ السَّبْعِ مُتَواتِرٌ لا يُمْكِنُ وُقُوعُ الغَلَطِ فِيهِ. ﴿وإنْ تُخْفُوها﴾ الضَّمِيرُ المَنصُوبُ في ﴿تُخْفُوها﴾ عائِدٌ عَلى الصَّدَقاتِ، لَفْظًا ومَعْنًى، بِأيِّ تَفْسِيرٍ فُسِّرَتِ الصَّدَقاتُ، وقِيلَ: الصَّدَقاتُ المُبْداةُ هي الفَرِيضَةُ، والمُخْفاةُ هي التَّطَوُّعُ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ قَدْ عادَ عَلى الصَّدَقاتِ لَفْظًا لا مَعْنًى، فَيَصِيرُ نَظِيرَ: عِنْدِي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ، أيْ: نِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، كَذَلِكَ ﴿وإنْ تُخْفُوها﴾ تَقْدِيرُهُ: وإنْ تُخْفُوا الصَّدَقاتِ غَيْرَ الأُولى، وهي صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وهَذا خِلافُ الظّاهِرِ، والأكْثَرُ في لِسانِ العَرَبِ، وإنَّما احْتَجْنا في: عِنْدِي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ، إلى أنْ نَقُولَ: إنَّ الضَّمِيرَ عائِدٌ عَلى الدِّرْهَمِ لَفْظًا لا مَعْنًى لِاضْطِرارِ المَعْنى إلى ذَلِكَ؛ لِأنَّ قائِلَ ذَلِكَ لا يُرِيدُ أنَّ عِنْدَهُ دِرْهَمًا ونِصْفَ هَذا الدِّرْهَمِ الَّذِي عِنْدَهُ، وكَذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎كَأنَّ ثِيابَ راكِبِهِ بِرِيحٍ ∗∗∗ خَرِيقٍ وهي ساكِنَةُ الهُبُوبِ يُرِيدُ: رِيحًا أُخْرى ساكِنَةَ الهُبُوبِ. ﴿وتُؤْتُوها الفُقَراءَ﴾ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى تَطَلُّبِ مَصارِفِها وتَحَقُّقِ ذَلِكَ وهُمُ الفُقَراءُ. ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ الفاءُ جَوابُ الشَّرْطِ، وهو ضَمِيرٌ عائِدٌ عَلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ: ﴿وإنْ تُخْفُوها﴾ التَّقْدِيرُ: فالإخْفاءُ خَيْرٌ لَكم، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ (خَيْرٌ) هُنا أُرِيدَ بِهِ خَيْرٌ مِنَ الخُيُورِ، و(لَكم) في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، والظّاهِرُ أنَّهُ أفْعَلُ التَّفْضِيلِ، والمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ (p-٣٢٥)وهُوَ الإبْداءُ، والتَّقْدِيرُ: فَهو خَيْرٌ لَكم مِن إبْدائِها، وظاهِرُ الآيَةِ أنَّ إخْفاءَ الصَّدَقاتِ عَلى الإطْلاقِ أفْضَلُ، سَواءٌ كانَتْ فَرْضًا أوْ نَقْلًا، وإنَّما كانَ ذَلِكَ أفْضَلَ لِبُعْدِ المُتَصَدِّقِ فِيها عَنِ الرِّياءِ والمَنِّ والأذى، ولَوْ لَمْ يُعْلِمِ الفَقِيرَ بِنَفْسِهِ، وأخْفى عَنْهُ الصَّدَقَةَ أنْ يَعْرِفَ، كانَ أحْسَنَ وأجْمَلَ بِخُلُوصِ النِّيَّةِ في ذَلِكَ. قالَ بَعْضُ الحُكَماءِ: إذا اصْطَنَعْتَ المَعْرُوفَ فاسْتُرْهُ، وإذا اصْطُنِعَ إلَيْكَ فانْشُرْهُ. وقالَ العَبّاسُ بْنُ عَبْدِ المَطَّلِبِ: لا يَتِمُّ المَعْرُوفُ إلّا بِثَلاثِ خِصالٍ: تَعْجِيلِهِ، وتَصْغِيرِهِ في نَفْسِكَ، وسَتْرِهِ، فَإذا عَجَّلْتَهُ هَنَّيْتَهُ، وإذا صَغَرْتَهُ عَظَّمْتَهُ، وإذا سَتَرْتَهُ أتْمَمْتَهُ. وقالَ سَهْلُ بْنُ هارُونَ: ؎يُخْفِي صَنائِعَهُ واللَّهُ يُظْهِرُها ∗∗∗ إنَّ الجَمِيلَ إذا أخْفَيْتَهُ ظَهَرا وفِي الإبْداءِ والإخْفاءِ طِباقٌ لَفْظِيٌّ، وفي قَوْلِهِ: ﴿وتُؤْتُوها الفُقَراءَ﴾ طِباقٌ مَعْنَوِيٌ؛ لِأنَّهُ لا يُؤْتِي الصَّدَقاتِ إلّا الأغْنِياءُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: إنْ يَبْدُ الصَّدَقاتِ الأغْنِياءُ وفي هَذِهِ الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الصَّدَقَةَ حَقٌّ لِلْفَقِيرِ، وفِيها دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ يَجُوزُ لِرَبِّ المالِ أنْ يُفِرِّقَ الصَّدَقَةَ بِنَفْسِهِ. ﴿ويُكَفِّرُ عَنْكم مِن سَيِّئاتِكُمْ﴾ قَرَأ بِالواوِ الجُمْهُورُ في (ويُكَفِّرُ) وبِإسْقاطِها وبِالياءِ والتّاءِ والنُّونِ، وبِكَسْرِ الفاءِ وفَتْحِها، وبِرَفْعِ الرّاءِ وجَزْمِها ونَصْبِها، فَإسْقاطُ الواوِ رَواهُ أبُو حاتِمٍ عَنِ الأعْمَشِ، ونَقَلَ عَنْهُ أنَّهُ قَرَأ بِالياءِ وجَزْمِ الرّاءِ، ووَجْهُهُ أنَّهُ بَدَلٌ عَلى المَوْضِعِ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ لِأنَّهُ في جَزْمٍ، وكَأنَّ المَعْنى: يَكُنْ لَكُمُ الإخْفاءُ خَيْرًا مِنَ الإبْداءِ، أوْ عَلى إضْمارِ حَرْفِ العَطْفِ، أيْ: ويُكَفِّرُ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ بِالياءِ ورَفْعِ الرّاءِ. وقَرَأ الحَسَنُ بِالياءِ وجَزْمِ الرّاءِ، ورُوِيَ عَنِ الأعْمَشِ بِالياءِ ونَصْبِ الرّاءِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ بِالتّاءِ وجَزْمِ الرّاءِ، وكَذَلِكَ قَرَأ عِكْرِمَةُ إلّا أنَّهُ فَتَحَ الفاءَ وبَنى الفِعْلَ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ. وقَرَأ ابْنُ هُرْمُزٍ، فِيما حَكى عَنْهُ الَمَهَدَوِيُّ بِالتّاءِ ورَفْعِ الرّاءِ، وحُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ: بِالتّاءِ ونَصْبِ الرّاءِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وأبُو بَكْرٍ بِالنُّونِ ورَفْعِ الرّاءِ. وقَرَأ نافِعٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ بِالنُّونِ والجَزْمِ، ورُوِيَ الخَفْضُ عَنِ الأعْمَشِ بِالنُّونِ ونَصْبِ الرّاءِ فِيمَن قَرَأ بِالياءِ. فالأظْهَرُ أنَّ الفِعْلَ مُسْنَدٌ إلى اللَّهِ تَعالى، كَقِراءَةِ مَن قَرَأ: ونُكَفِّرُ، بِالنُّونِ فَإنَّهُ ضَمِيرٌ لِلَّهِ تَعالى بِلا شَكٍّ، وقِيلَ: يَعُودُ عَلى الصَّرْفِ، أيْ: صَرْفِ الصَّدَقاتِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُعَوَّلَ عَلى الإخْفاءِ أيْ: ويُكَفِّرُ إخْفاءَ الصَّدَقاتِ، ونَسَبَ التَّكْفِيرَ إلَيْهِ عَلى سَبِيلِ المَجازِ؛ لِأنَّهُ سَبَبُ التَّكْفِيرِ، ومَن قَرَأ بِالتّاءِ فالضَّمِيرُ في الفِعْلِ لِلصَّدَقاتِ، ومَن رَفَعَ الرّاءَ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الفِعْلُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: ونَحْنُ نُكَفِّرُ، أيْ: وهو يُكَفِّرُ، أيِ: اللَّهُ. أوِ الإخْفاءُ أيْ: وهي تُكَفِّرُ أيِ: الصَّدَقَةُ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا لا مَوْضِعَ لَهُ مِنَ الإعْرابِ، وتَكُونُ الواوُ عَطَفَتْ جُمْلَةَ كَلامٍ عَلى جُمْلَةِ كَلامٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى مَحَلِّ ما بَعْدَ الفاءِ، إذْ لَوْ وقَعَ مُضارِعٌ بَعْدَها لَكانَ مَرْفُوعًا، كَقَوْلِهِ: ﴿ومَن عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنهُ﴾ [المائدة: ٩٥] ومَن جَزَمَ الرّاءَ فَعَلى مُراعاةِ الجُمْلَةِ الَّتِي وقَعَتْ جَزاءً؛ إذْ هي في مَوْضِعِ جَزْمٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ﴾ [الأعراف: ١٨٦] . ونَذَرْهم، في قِراءَةِ مَن جَزَمَ، ونَذَرَهم، ومَن نَصَبَ الرّاءَ فَبِإضْمارِ (أنْ)، وهو عَطْفٌ عَلى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، ونَظِيرُهُ قِراءَةُ مَن قَرَأ ﴿يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ﴾ [البقرة: ٢٨٤] بِنَصْبِ الرّاءِ، إلّا أنَّهُ هُنا يَعْسُرُ تَقْدِيرُ ذَلِكَ المَصْدَرِ المُتَوَهَّمِ مِن قَوْلِهِ: فَهو خَيْرٌ لَكم، فَيَحْتاجُ إلى تَكَلُّفٍ بِخِلافِ قَوْلِهِ: (يُحاسِبْكم) فَإنَّهُ يُقَدِّرُ تَقَعُ مُحاسَبَةٌ فَغُفْرانٌ، وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَعْناهُ وإنْ تُخْفُوها يَكُنْ خَيْرًا لَكم، وأنْ نُكَفِّرَ عَنْكم، انْتَهى. وظاهِرُ كَلامِهِ هَذا أنَّ تَقْدِيرَهُ؛ وأنْ نُكَفِّرَ، يَكُونُ مُقَدَّرًا بِمَصْدَرٍ، ويَكُونُ مَعْطُوفًا عَلى (خَيْرًا) خَبَرُ يَكُنِ الَّتِي قَدَّرَها كَأنَّهُ قالَ: يَكُنِ الإخْفاءُ خَيْرًا لَكم وتَكْفِيرًا، فَيَكُونُ (أنْ يُكَفِّرَ) في مَوْضِعِ نَصْبٍ. والَّذِي تَقَرَّرَ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ أنَّ هَذا المَصْدَرَ المُنْسَبِكَ مِن أنِ المُضْمَرَةَ مَعَ الفِعْلِ المَنصُوبِ بِها هو مَرْفُوعٌ مَعْطُوفٌ عَلى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ مَرْفُوعٍ، تَقْدِيرُهُ مِنَ المَعْنى، فَإذا قُلْتَ: ما تَأْتِينا فَتُحَدِّثُنا، فالتَّقْدِيرُ: ما يَكُونُ مِنكَ إتْيانٌ (p-٣٢٦)فَحَدِيثٌ، وكَذَلِكَ إنْ تَجِئْ وتُحْسِنْ إلَيَّ أُحْسِنُ إلَيْكَ، التَّقْدِيرُ إنْ يَكُنْ مِنكَ مَجِيءٌ وإحْسانٌ أُحْسِنُ إلَيْكَ، وكَذَلِكَ ما جاءَ بَعْدَ جَوابِ الشَّرْطِ، كالتَّقْدِيرِ الَّذِي قَدَّرْناهُ في ﴿يُحاسِبْكم بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٤] في قِراءَةِ مَن نَصَبَ (فَيَغْفِرَ) فَعَلى هَذا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: وإنْ تُخْفُوها وتُؤْتُوها الفُقَراءَ يَكُنْ زِيادَةُ خَيْرٍ لِلْإخْفاءِ عَلى خَيْرٍ لِلْإبْداءِ وتَكْفِيرٌ. وقالَ الَمَهَدَوِيُّ: في نَصْبِ الرّاءِ: هو مُشَبَّهٌ بِالنَّصْبِ في جَوابِ الِاسْتِفْهامِ، إذِ الجَزاءُ يَجِبُ بِهِ الشَّيْءُ لِوُجُوبِ غَيْرِهِ كالِاسْتِفْهامِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الجَزْمُ في الرّاءِ أفْصَحُ هَذِهِ القِراءاتِ؛ لِأنَّها تُؤْذِنُ بِدُخُولِ التَّكْفِيرِ في الجَزاءِ، وكَوْنِهِ مَشْرُوطًا إنْ وقَعَ الإخْفاءُ، وأمّا رَفْعُ الرّاءِ فَلَيْسَ فِيهِ هَذا المَعْنى، انْتَهى. ونَقُولُ: إنَّ الرَّفْعَ أبْلَغُ وأعَمُّ؛ لِأنَّ الجَزْمَ يَكُونُ عَلى أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى جَوابِ الشَّرْطِ الثّانِي، والرَّفْعُ بَدَلٌ عَلى أنَّ التَّكْفِيرَ مُتَرَتِّبٌ مِن جِهَةِ المَعْنى عَلى بَذْلِ الصَّدَقاتِ، أبْدَيْتَ أوْ أخْفَيْتَ؛ لِأنّا نَعْلَمُ أنَّ هَذا التَّكْفِيرَ مُتَعَلِّقٌ بِما قَبْلَهُ، ويَخْتَصُّ التَّكْفِيرُ بِالإخْفاءِ فَقَطْ، والجَزْمُ يُخَصِّصُهُ بِهِ، ولا يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ الَّذِي يُبْدِي الصَّدَقاتِ لا يُكَفِّرُ مِن سَيِّئَآتِهِ، فَقَدْ صارَ التَّكْفِيرُ شامِلًا لِلنَّوْعَيْنِ مِن إبْداءِ الصَّدَقاتِ وإخْفائِها، وإنْ كانَ الإخْفاءُ خَيْرًا مِنَ الإبْداءِ. ومِن، في قَوْلِهِ ﴿مِن سَيِّئاتِكُمْ﴾ لِلتَّبْعِيضِ؛ لِأنَّ الصَّدَقَةَ لا تُكَفِّرُ جَمِيعَ السَّيِّئاتِ. وحَكى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ قالَتْ: (مِن) زائِدَةٌ في هَذا المَوْضِعِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وذَلِكَ مِنهم خَطَأٌ، وقَوْلُ مَن جَعَلَها سَبَبِيَّةً وقَدَّرَ: مِن أجْلِ ذُنُوبِكم ضَعِيفٌ. ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ خَتَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛ لِأنَّها تَدُلُّ عَلى العِلْمِ بِما لَطُفَ مِنَ الأشْياءِ وخَفِيَ، فَناسَبَ الإخْفاءُ خَتْمَها بِالصِّفَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِما خُفِيَ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب