الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وتَثْبِيتًا مِن أنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ واللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ مِن أسالِيبِ فَصاحَةِ القُرْآنِ أنَّهُ يَأْتِي فِيهِ ذِكْرُ نَقِيضِ ما يَتَقَدَّمُ ذِكْرُهُ، لِتَسْتَبِينَ حالُ التَضادِّ بِعَرْضِها عَلى الذِهْنِ، فَلَمّا ذَكَرَ اللهُ صَدَقاتِ القَوْمِ الَّذِينَ لا خَلاقَ لِصَدَقاتِهِمْ، ونَهى المُؤْمِنِينَ عن مُواقَعَةِ ما يُشْبِهُ ذَلِكَ بِوَجْهٍ ما، عَقَّبَ في هَذِهِ الآيَةِ بِذِكْرِ نَفَقاتِ القَوْمِ الَّذِينَ تَرَكُوا صَدَقاتِهِمْ وهي عَلى وجْهِها في الشَرْعِ، فَضَرَبَ لَها مَثَلًا. وتَقْدِيرُ الكَلامِ: ومَثَلُ نَفَقَةِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ كَمَثَلِ غِراسِ جَنَّةٍ، لِأنَّ المُرادَ بِذِكْرِ الجَنَّةِ غِراسُها. أو تُقَدِّرُ الإضْمارَ في آخِرِ الكَلامِ، دُونَ إضْمارِ نَفَقَةٍ في أوَّلِهِ، كَأنَّهُ قالَ: كَمَثَلِ غارِسٍ جَنَّةً. و"ابْتِغاءَ" مَعْناهُ: طَلَبُ، وإعْرابُهُ النَصْبُ عَلى المَصْدَرِ في مَوْضِعِ الحالِ، وكانَ يَتَوَجَّهُ فِيهِ النَصْبُ عَلى المَفْعُولِ مِن أجْلِهِ، لَكِنَّ النَصْبَ عَلى المَصْدَرِ هو الصَوابُ مِن جِهَةِ عَطْفِ المَصْدَرِ الَّذِي هو و"تَثْبِيتًا" عَلَيْهِ، ولا يَصِحُّ في "تَثْبِيتًا" أنَّهُ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، لِأنَّ الإنْفاقَ مِن أجْلِ التَثْبِيتِ. وقالَ مَكِّيٌّ في "المُشْكِلِ": كِلاهُما مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ وهو مَرْدُودٌ بِما بَيَّنّاهُ. (p-٦٦)وَ"مَرْضاتِ" مَصْدَرٌ مِن رَضِيَ يَرْضى. وقالَ الشَعْبِيُّ، والسُدِّيُّ، وقَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ، وأبُو صالِحٍ: و"تَثْبِيتًا" مَعْناهُ: وتَيَقُّنًا، أيْ أنَّ نُفُوسَهم لَها بَصائِرُ مُتَأكِّدَةٌ، فَهي تُثَبِّتُهم عَلى الإنْفاقِ في طاعَةِ اللهِ تَثْبِيتًا، وقالَ مُجاهِدٌ، والحَسَنُ: مَعْنى قَوْلِهِ: "وَتَثْبِيتًا" أيْ أنَّهم يَتَثَبَّتُونَ أيْنَ يَضَعُونَ صَدَقاتِهِمْ، وقالَ الحَسَنُ: كانَ الرَجُلُ إذا هَمَّ بِصَدَقَةٍ تَثَبَّتَ، فَإنْ كانَ ذَلِكَ لِلَّهِ أمْضاهُ، وإنْ خالَطَهُ شَكٌّ أمْسَكَ، والقَوْلُ الأوَّلُ أصْوَبُ لِأنَّ هَذا المَعْنى الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مُجاهِدٌ والحَسَنُ إنَّما عِبارَتُهُ "وَتَثَبُّتًا" فَإنْ قالَ مُحْتَجٌّ: إنَّ هَذا مِنَ المَصادِرِ الَّتِي خَرَجَتْ عَلى غَيْرِ المَصْدَرِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلا﴾ [المزمل: ٨] وكَقَوْلِهِ: ﴿أنْبَتَكم مِنَ الأرْضِ نَباتًا﴾ [نوح: ١٧]، فالجَوابُ أنَّ هَذا لا يَسُوغُ إلّا مَعَ ذِكْرِ المَصْدَرِ، والإفْصاحِ بِالفِعْلِ المُتَقَدِّمِ لِلْمَصْدَرِ، وأمّا إذا لَمْ يَقَعْ إفْصاحٌ بِفِعْلٍ فَلَيْسَ لَكَ أنْ تَأْتِيَ بِمَصْدَرٍ في غَيْرِ مَعْناهُ، ثُمَّ تَقُولَ: أحْمِلُهُ عَلى فِعْلِ كَذا وكَذا لِفِعْلٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، هَذا مَهْيَعُ كَلامِ العَرَبِ فِيما عَلِمْتُ. وقالَ قَتادَةُ: "وَتَثْبِيتًا" مَعْناهُ: وإحْسانًا مِن أنْفُسِهِمْ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا نَحْوُ القَوْلِ الأوَّلِ. والجَنَّةُ: البُسْتانُ، وهي قِطْعَةُ أرْضٍ نَبَتَتْ فِيها الأشْجارُ حَتّى سَتَرَتِ الأرْضَ، فَهي مِن لَفْظِ الجَنِينِ والجَنَنِ والجَنَّةِ وجَنَّ اللَيْلُ. والرَبْوَةُ: ما ارْتَفَعَ مِنَ الأرْضِ ارْتِفاعًا يَسِيرًا مَعَهُ في الأغْلَبِ كَثافَةُ التُرابِ وطِيبُهُ وتَعَمُّقُهُ، وما كانَ كَذَلِكَ فَنَباتُهُ أحْسَنُ. ورِياضُ الحَزْنِ لَيْسَ مِن هَذا كَما زَعَمَ الطَبَرِيُّ، بَلْ تِلْكَ هي الرِياضُ المَنسُوبَةُ إلى نَجْدٍ لِأنَّها خَيْرٌ مِن رِياضِ تِهامَةَ، ونَباتُ نَجْدٍ أعْطَرُ، ونَسِيمُهُ أبْرَدُ وأرَقُّ، ونَجْدٌ يُقالُ لَهُ: الحَزْنُ، وقَلَّما يَصْلُحُ هَواءُ تِهامَةَ إلّا بِاللَيْلِ، ولِذَلِكَ قالَتِ الأعْرابِيَّةُ: زَوْجِي كَلِيلُ (p-٦٧)تِهامَةَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: "الرَبْوَةُ المَكانُ المُرْتَفِعُ الَّذِي لا تَجْرِي فِيهِ الأنْهارُ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا إنَّما أرادَ بِهِ هَذِهِ الرَبْوَةَ المَذْكُورَةَ في كِتابِ اللهِ، لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أصابَها وابِلٌ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّها لَيْسَ فِيها ماءٌ جارٍ، ولَمْ يُرِدِ ابْنُ عَبّاسٍ أنَّ جِنْسَ الرُبا لا يَجْرِي فِيها ماءٌ، لِأنَّ اللهَ تَعالى قَدْ ذَكَرَ رَبْوَةً ذاتَ قَرارٍ ومَعِينٍ. والمَعْرُوفُ في كَلامِ العَرَبِ أنَّ الرَبْوَةَ ما ارْتَفَعَ عَمّا جاوَرَهُ سَواءٌ جَرى فِيها ماءٌ أو لَمْ يَجْرِ، وقالَ الحَسَنُ: الرَبْوَةُ الأرْضُ المُسْتَوِيَةُ الَّتِي لا تَعْلُو فَوْقَ الماءِ، وهَذا أيْضًا أرادَ أنَّها لَيْسَتْ كالجَبَلِ والظَرِبِ ونَحْوِهِ. وقالَ الخَلِيلُ: الرَبْوَةُ أرْضٌ مُرْتَفِعَةٌ طَيِّبَةٌ. وخَصَّ اللهُ بِالذِكْرِ الَّتِي لا يَجْرِي فِيها ماءٌ مِن حَيْثُ هي العُرْفُ في بِلادِ العَرَبِ فَمَثَّلَ لَهم بِما يُحِسُّونَهُ كَثِيرًا. وقالَ السُدِّيُّ "بِرَبْوَةٍ" أيْ بِرُباوَةٍ، وهو ما انْخَفَضَ مِنَ الأرْضِ، وهَذِهِ عِبارَةٌ قَلِقَةٌ. ولَفْظُ الرَبْوَةِ هو مَأْخُوذٌ مِن رَبا يَرْبُو إذا زادَ، يُقالُ "رُبْوَةٌ" بِضَمِّ الراءِ، وبِها قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ ونافِعٌ وأبُو عَمْرٍو، ويُقالُ: "رَبْوَةٌ" بِفَتْحِ الراءِ، وبِها قَرَأ عاصِمٌ وابْنُ عامِرٍ، وكَذَلِكَ خِلافُهم في سُورَةِ المُؤْمِنِينَ. ويُقالُ: "رِبْوَةٌ" بِكَسْرِ الراءِ، وبِها قَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ فِيما حُكِيَ عنهُ، ويُقالُ: رَباوَةٌ بِفَتْحِ الراءِ والباءِ وألِفٍ بَعْدَها، وبِها قَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وأبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ، ويُقالُ: رِباوَةٌ بِكَسْرِ الراءِ وبِها قَرَأ الأشْهَبُ العُقَيْلِيُّ. (p-٦٨)وَ"آتَتْ" مَعْناهُ: أعْطَتْ، والأُكْلُ: بِضَمِّ الهَمْزَةِ وسُكُونِ الكافِ الثَمَرُ الَّذِي يُؤْكَلُ، والشَيْءُ المَأْكُولُ مِن كُلِّ شَيْءٍ يُقالُ لَهُ: أُكْلٌ، وإضافَتُهُ إلى الجَنَّةِ إضافَةُ اخْتِصاصٍ، كَسَرْجِ الدابَّةِ، وبابِ الدارِ، وإلّا فَلَيْسَ الثَمَرُ مِمّا تَأْكُلُهُ الجَنَّةُ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو. "أُكْلَها" بِضَمِّ الهَمْزَةِ وسُكُونِ الكافِ، وكَذَلِكَ كُلَّ مُضافٍ إلى مُؤَنَّثٍ، وفارَقَهُما أبُو عَمْرٍو فِيما أُضِيفَ إلى مُذَكَّرٍ مِثْلِ "أُكُلِهِ" أو كانَ مُضافًا إلى حِكْنِيٍّ مِثْلِ "أُكُلٍ خَمْطٍ" فَثَقَّلَ أبُو عَمْرٍو ذَلِكَ وخَفَّفاهُ. وقَرَأ عاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ في جَمِيعِ ما ذَكَرْناهُ بِالتَثْقِيلِ. ويُقالُ: أُكُلٌ وأُكْلٌ بِمَعْنىً، وهو مِن أكَلَ بِمَنزِلَةِ الطُعْمَةِ مِن طَعِمَ، أيِ الشَيْءُ الَّذِي يُطْعَمُ ويُؤْكَلُ، "وَضِعْفَيْنِ" مَعْناهُ: اثْنَيْنِ، مِمّا يُظَنُّ بِها ويُحْزَرُ مِن مِثْلِها، ثُمَّ أكَّدَ تَعالى مَدْحَ هَذِهِ الرَبْوَةِ بِأنَّها إنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَإنَّ الطَلَّ يَكْفِيها، ويَنُوبُ مَنابَ الوابِلِ، وذَلِكَ لِكَرَمِ الأرْضِ. والطَلُّ: المُسْتَدِقُّ مِنَ القَطْرِ الخَفِيفُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ، وهو مَشْهُورُ اللُغَةِ، وقالَ قَوْمٌ: الطَلُّ: النَدى، وهَذا تَجَوُّزٌ وتَشْبِيهٌ، وقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. قالَ المُبَرِّدُ: تَقْدِيرُهُ: فَطَلٌّ يَكْفِيها، وقالَ غَيْرُهُ: التَقْدِيرُ: فالَّذِي أصابَها طَلٌّ، فَشَبَّهَ نُمُوَّ نَفَقاتِ هَؤُلاءِ المُخْلِصِينَ الَّذِينَ يُرْبِي اللهُ صَدَقاتِهِمْ كَتَرْبِيَةِ الفَلُوِّ والفَصِيلِ حَسَبَ الحَدِيثِ بِنُمُوِّ نَباتِ هَذِهِ الجَنَّةِ بِالرَبْوَةِ المَوْصُوفَةِ، وذَلِكَ كُلُّهُ بِخِلافِ الصَفْوانِ الَّذِي انْكَشَفَ عنهُ تُرابُهُ فَبَقِيَ صَلْدًا. وفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ وعْدٌ ووَعِيدٌ، وقَرَأ الزُهْرِيُّ: "يَعْمَلُونَ" بِالياءِ، كَأنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الناسَ أجْمَعْ، أو يُرِيدُ المُنافِقِينَ فَقَطْ، فَهو وعْدٌ مَحْضٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب