الباحث القرآني

القول في تأويل قوله عز وجل: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ﴿ومثل الذين ينفقون أموالهم﴾ فيصَّدَّقون بها، ويحملون عليها في سبيل الله، ويقوُّون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله، وفي غير ذلك من طاعات الله، طلب مرضاته = [[في المطبوعة والمخطوطة: "طلب مرضاته، وتثبيتًا يعنى بذلك وتثبيتًا من أنفسهم يعنى لهم وهو كلام مختل، والظاهر أن الناسخ لجلج في كتابته فأعاد وكرر، فحذفت"وتثبيتًا يعني بذلك" وأضفت"بذلك وتثبيتا" بعد"يعنى الثانية التي بقيت.]] . = ﴿وتثبيتًا من أنفسهم﴾ يعني بذلك: وتثبيتًا لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله وتحقيقًا، من قول القائل:"ثَبَّتُّ فلانًا في هذا الأمر" - إذ صححت عزمَه، وحققته، وقويت فيه رأيه -"أثبته تثبيتًا"، كما قال ابن رواحة: فَثَبَّتَ اللهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ تَثْبِيتَ مُوسَى، وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا [[سيرة ابن هشام ٤: ١٦، وابن سعد ٣/ ٢ /٨١، والمختلف والمؤتلف للآمدي: ١٢٦ والاستيعاب ١: ٣٠٥، وطبقات فحول الشعراء: ١٨٨، من أبيات يثني فيها على رسول رب العالمين. وروى الآمدي وابن هشام السطر الثاني"في المرسلين ونصرًا كالذي نصروا". ولما سمع رسول الله عليه وسلم هذا البيت، أقبل عليه بوجهه مبتسمًا وقال: "وإياك فثبت الله".]] * * * وإنما عنى الله جل وعز بذلك: أن أنفسهم كانت موقنة مصدقة بوعد الله إياها فيما أنفقت في طاعته بغير منّ ولا أذى، فثبتَتْهم في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وصححت عزمهم وآراءهم، [[في المخطوطة: "فيثبتهم في إنفاق أموالهم ... "، وهو سهو من الناسخ، أو خطأ في قراءة النسخة التي نقل عنها. وفي المطبوعة: "فثبتهم ... وصحح عزمهم"، فغير ما في المخطوطة، وجعل"صححت"، "صحح"، لم يفهم ما أراد الطبري. وانظر التعليق التالي.]] . يقينًا منها بذلك، [[في المطبوعة: "وأراهم"، ومثلها في المخطوطة، والصواب"وآراءهم" كما أثبتها. يعنى أن نفوسهم صححت عزمهم وآراءهم في إنفاق أموالهم. وهذا ما يدل عليه تفسير الطبري. لقولهم"ثبت فلانا في الأمر"، كما سلف منذ قليل.]] . وتصديقًا بوعد الله إياها ما وعدها. ولذلك قال من قال من أهل التأويل في قوله: ﴿وتثبيتًا﴾ ، وتصديقًا = ومن قال منهم: ويقينًا = لأن تثبيت أنفس المنفقين أموالَهم ابتغاء مرضاة الله إياهم، [["إياهم" مفعول المصدر"تثبيت"، أي أن أنفسهم ثبتتهم في الإنفاق.]] . إنما كان عن يقين منها وتصديق بوعد الله. * ذكر من قال ذلك من أهل التأويل: ٦٠٦٣ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الشعبي: ﴿وتثبيتًا من أنفسهم﴾ ، قال: تصديقًا ويقينًا. ٦٠٦٤ - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الشعبي: ﴿وتثبيتًا من أنفسهم﴾ قال: وتصديقًا من أنفسهم ثبات ونُصرة. ٦٠٦٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ﴿وتثبيتًا من أنفسهم﴾ ، قال: يقينًا من أنفسهم. قال: التثبيت اليقين. ٦٠٦٦ - حدثني يونس قال، حدثنا علي بن معبد، عن أبي معاوية، عن إسماعيل، عن أبي صالح في قوله: ﴿وتثبيتًا من أنفسهم﴾ يقول: يقينًا من عند أنفسهم. * * * وقال آخرون: معنى قوله: ﴿وتثبيتًا من أنفسهم﴾ أنهم كانوا يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم. * ذكر من قال ذلك: ٦٠٦٧ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿وتثبيتًا من أنفسهم﴾ قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم. ٦٠٦٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: ﴿وتثبيتًا من أنفسهم﴾ ، فقلت له: ما ذلك التثبيت؟ قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم. ٦٠٦٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: ﴿وتثبيتًا من أنفسهم﴾ ، قال: كانوا يتثبتون أين يضعونها. ٦٠٧٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن علي بن علي بن رفاعة، عن الحسن في قوله: ﴿وتثبيتًا من أنفسهم﴾ ، قال: كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم -يعني زكاتهم. ٦٠٧١ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن علي بن علي، قال: سمعت الحسن قرأ: ﴿ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم﴾ ، قال: كان الرجل إذا همّ بصدقة تثبّت، فإن كان لله مضى، وإن خالطه شك أمسك. * * * قال أبو جعفر: وهذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن، تأويل بعيد المعنى مما يدل عليه ظاهر التلاوة، وذلك أنهم تأولوا قوله: ﴿وتثبيتًا من أنفسهم﴾ ، بمعنى:"وتثبُّتًا"، فزعموا أنّ ذلك إنما قيل كذلك، لأن القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم. ولو كان التأويل كذلك، لكان:"وتثبتًا من أنفسهم"؛ لأن المصدر من الكلام إن كان على"تفعَّلت""التفعُّل"، [[في المطبوعة: "إن كان على تفعلت"، وأثبت ما في المخطوطة، وعبارة الطبري عربية محكمة، بمعنى: لأن المصدر من الكلام الذي كان ... ".]] . فيقال:"تكرمت تكرمًا"، و"تكلمت تكلمًا"، وكما قال جل ثناؤه: ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾ [النحل: ٤٧] ، من قول القائل:"تخوّف فلان هذا الأمر تخوفًا". فكذلك قوله: ﴿وتثبيتًا من أنفسهم﴾ ، لو كان من"تثبَّت القومُ في وضع صدقاتهم مواضعها"، لكان الكلام:"وتثبُّتًا من أنفسهم"، لا"وتثبيتًا". ولكن معنى ذلك ما قلنا: من أنه: وتثبيتٌ من أنفس القوم إياهم، بصحة العزم واليقين بوعد الله تعالى ذكره. * * * فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك نظيرَ قول الله عز وجل: ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا﴾ [المزمل: ٨] ، ولم يقل:"تبتُّلا". قيل: إن هذا مخالف لذلك. وذلك أن هذا إنما جاز أن يقال فيه:"تبتيلا" لظهور"وتبتَّل إليه"، فكان في ظهوره دلالةٌ على متروك من الكلام الذي منه قيل:"تبتيلا". وذلك أن المتروك هو:"تبتل فيبتلك الله إليه تبتيلا". وقد تفعل العرب مثلَ ذلك أحيانا: تخرج المصادر على غير ألفاظ الأفعال التي تقدمتها، إذا كانت الأفعال المتقدمة تدل على ما أخرجت منه، كما قال جل وعز: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا﴾ [نوح: ١٧] ، وقال: ﴿وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ [آل عمران: ٣٧] ، و"النبات": مصدر"نبت". وإنما جاز ذلك لمجيء"أنبت" قبله، فدل على المتروك الذي منه قيل"نباتًا"، والمعنى:"والله أنبتكم فنبتم من الأرض نباتًا". وليس [في] قوله: ﴿وتثبيتًا من أنفسهم﴾ كلامًا يجوز أن يكون متوهَّمًا به أنه معدول عن بنائه، [[في المطبوعة: "وليس قوله ... كلامًا يجوز" بالنصب، وفي المخطوطة: "وليس قوله ... كلام يجوز" بالرفع، وظاهر أن الصواب ما أثبت من زيادة: "في"، بمعنى أنه ليس في الجملة فعل سابق يتوهم به أن المصدر معدول به عن بنائه.]] . ومعنى الكلام:"ويتثبتون في وضع الصدقات مواضعها"، فيصرف إلى المعاني التي صرف إليها قوله: ﴿وتبتَّل إليه تبتيلا﴾ ، وما أشبه ذلك من المصادر المعدولة عن الأفعال التي هي ظاهرة قبلها. * * * وقال آخرون: معنى قوله: ﴿وتثبيتًا من أنفسهم﴾ ، احتسابًا من أنفسهم. * ذكر من قال ذلك: ٦٠٧٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿وتثبيتًا من أنفسهم﴾ يقول: احتسابًا من أنفسهم. [[سقط من الترقيم سهوا رقم: ٦٠٧٢.]] . * * * قال أبو جعفر: وهذا القول أيضًا بعيد المعنى من معنى"التثبيت"، لأن التثبيت لا يعرف في شيء من الكلام بمعنى"الاحتساب"، إلا أن يكون أراد مفسِّرُه كذلك: أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في تثبيتها أصحابها. فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام، فليس الاحتساب بمعنًى حينئذ للتثبيت، فيترجَم عنه به. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل وعز: ومثل الذين ينفقون أموالهم، فيتصدقون بها، ويُسبِّلُونها في طاعة الله بغير منٍّ على من تصدقوا بها عليه، ولا أذى منهم لهم بها، ابتغاء رضوان الله وتصديقًا من أنفسهم بوعده = ﴿كمثل جنة﴾ . * * * و"الجنة": البستان. وقد دللنا فيما مضى على أن"الجنة" البستان، بما فيه الكفاية من إعادته. [[انظر ما سلف ١: ٣٨٤.]] . * * * = ﴿برَبْوة﴾ والرَّبوة من الأرض: ما نشز منها فارتفع عن السيل. وإنما وصفها بذلك جل ثناؤه، لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية أغلظ، وجنان ما غلُظ من الأرض أحسنُ وأزكى ثمرًا وغرسًا وزرعًا، مما رقَّ منها، ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة: مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ [[ديوانه: ٤٣، وسيأتي هو والأبيات التي تليه في التفسير ٢١: ١٩ (بولاق) ، من قصيدته البارعة المشهورة. يصف شذا صاحبته حين تقوم: إِذَا تَقُومُ يَضُوعُ المِسْكُ أَصْوِرَةً ... وَالزَّنْبَقُ الوَرْدُ مِن أَرْدَانِهَا شَمِلُ مَا رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْها مُسْبِلٌ هَطِلُ يُضَاحِكُ الشَّمسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ ... مُؤَزَّرٌ بعَميم النَّبْتِ مُكْتَهِلُ يَوْمًا بِأَطْيَبَ منها نَشْرَ رَائِحَةٍ ... وَلا بِأَحْسَنَ مِنْهَا إِذْ دَنَا الأُْصُلُ ضاع المسك يضوع، وتضوع: تحرك وسطع رائحته. وأصورة جمع صوار: وهو وعاء المسك، أو القطعة منه. والورد: الأحمر، وهو أجود الزنبق. وشمل: شامل، عدل به من"فاعل" إلى"فعل". والحزن: موضع في أرضى بني أسد وبني يربوع، وهو أرض غليظة كثيرة الرياض ممرعة، وهو مربع من أجل مرابع العرب. مسبل: مرسل ماء على الأرض. هطل: متفرق غزيز دائم= والكوكب: النور والزهر، يلمع كأنه كوكب. شرق: ريان، فهو أشد لبريقه وصفائه. مؤزر: قد صار عليه النبات كالإزار يلبسه اللابس، تغطى الخضرة أعواده. ونبت عميم: ثم وطال والتف. واكتهل النور: بلغ منتهى نمائه، وذلك أحسن له. يقول: ما هذه الروضة التي وصف زهرها ونباتها ما وصف ... بأطيب من صاحبته إذا قامت في أول يومها، حين تتغير الأفواه والأبدان من وخم النوم. والأصل جمع أصيل: وهو وقت العشي، حين تفتر الأبدان من طول تعب يومها، فيفسد رائحتها الجهد والعرق.]] فوصفها بأنها من رياض الحزن، لأن الحزون: غرسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها. * * * وفي"الربوة" لغات ثلاث، وقد قرأ بكل لغة منهنّ جماعة من القرأة، وهي"رُبوة" بضم الراء، وبها قرأت عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والعراق. و"رَبوة" بفتح الراء، وبها قرأ بعض أهل الشام، وبعض أهل الكوفة، ويقال إنها لغة لتميم. و"رِبوه" بكسر الراء، وبها قرأ -فيما ذكر- ابن عباس. * * * قال أبو جعفر: وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين: إما بفتح"الراء"، وإما بضمها، لأن قراءة الناس في أمصارهم بإحداهما. وأنا لقراءتها بضمها أشدّ إيثارًا مني بفتحها، لأنها أشهر اللغتين في العرب. فأما الكسر، فإنّ في رفض القراءة به، دِلالةٌ واضحة على أن القراءة به غير جائزة. * * * وإنما سميت"الربوة" لأنها"ربت" فغلظت وعلت، من قول القائل:"ربا هذا الشيء يربو"، إذا انتفخ فعظُم. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ٦٠٧٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ﴿كمثل جنة بربوة﴾ ، قال: الربوة المكان الظاهرُ المستوي. ٦٠٧٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال مجاهد: هي الأرض المستوية المرتفعة. ٦٠٧٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿كمثل جنة بربوة﴾ يقولا بنشز من الأرض. ٦٠٧٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: ﴿كمثل جنة بربوة﴾ والربوة: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار، [[في المخطوطة: "الذي تجري فيه الأنهار"، وأثبت ما في المطبوعة، لأنه موافق ما في الدر المنثور ١: ٣٣٩، ولأنه هو صواب المعنى، ولأنه سيأتي على الصواب بعد قليل في الأثر: ٦٠٨٠.]] والذي فيه الجِنان. ٦٠٧٨ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: ﴿بربوة﴾ ، برابية من الأرض. ٦٠٧٩ - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ﴿كمثل جنة بربوة﴾ ، والربوة النشز من الأرض. ٦٠٨٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: ﴿كمثل جنه بربوة﴾ ، قال: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار. * * * وكان آخرون يقولون: هي المستوية. * ذكر من قال ذلك: ٦٠٨١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: ﴿كمثل جنه بربوة﴾ ، قال: هي الأرض المستوية التي تعلو فوق المياه. * * * قال أبو جعفر: وأما قوله: ﴿أصابها وابل﴾ فإنه يعني جل ثناؤه: أصاب الجنة التي بالربوة من الأرض، وابلٌ من المطر، وهو الشديد العظيم القطر منه. [[انظر تفسير"وابل" فيما سلف قريبا ص: ٥٢٤.]] . * * * وقوله: ﴿فآتت أكلها ضعفين﴾ ، فإنه يعني الجنة: أنها أضعف ثمرها ضعفين حين أصابها الوابل من المطر. * * * و"الأكل": هو الشيء المأكول، وهو مثل"الرُّعْب والهُزْء"، [[في المطبوعة: "والهدء"، وأثبت ما في المخطوطة. ولم يشر الطبري إلى ضم الكاف في"الأكل" وهي قراءتنا في مصحفنا.]] . وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي على"فُعْل". وأما"الأكل" بفتح"الألف" وتسكين"الكاف"، فهو فِعْل الآكل، يقال منه:"أكلت أكلا وأكلتُ أكلة واحدة"، كما قال الشاعر: [[أبو مضرس النهدي.]] . وَمَا أَكْلَةٌ إنْ نِلْتُها بِغَنِيمَةٍ، وَلا جَوْعَةٌ إِنْ جُعْتُهَا بِغَرَام [[حماسة الشجري: ٢٤، من أبيات جياد، وقبله، بروايته، وهي التي أثبتها: وإنِّي لَمِنْ قَوْمٍ إذا حَارَبُوا العِدَى ... سَمَوا فَوْقَ جُرْدٍ للطِّعَانِ كِرَامِ وإنِّي إذَا مَا القُوتُ قَلَّ لَمُؤْثِرٌ ... رَفِيقِي عَلى نفْسِي بِجُلِّ طَعَامِي فمَا أكْلَةٌ إنْ نِلْتُهَا بِغَنِيمَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وكان في المطبوعة: "وما أكلة أكلتها"، وفي المخطوطة: "وما أكله إن أكلتها"، وظاهر أن الناسخ أخطأ فوضع"أكلتها" مكان"نلتها"، وإن كلام الطبري في شرح البيت يوهم روايته: "وما أكلته أكلتها ... ". وقوله: "بغرام"، أي بعذاب شديد. والغرام: اللازم من العذاب والشر الدائم.]] ففتح"الألف"، لأنها بمعنى الفعل. ويدلك على أن ذلك كذلك قوله:"ولا جَوْعة"، وإن ضُمت الألف من"الأكلة" كان معناه: الطعام الذي أكلته، فيكون معنى ذلك حينئذ: ما طعام أكلته بغنيمة. * * * وأما قوله: ﴿فإن لم يصيبها وابل فطلّ﴾ فإن"الطل"، هو النَّدَى والليِّن من المطر، كما: - ٦٠٨٢ - حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: ﴿فطل﴾ ندى = عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس. ٦٠٨٣ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"الطل"، فالندى. ٦٠٨٤ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿فإن لم يصيبها وابل فطلّ﴾ ، أي طشٌ. ٦٠٨٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: ﴿فطلّ﴾ قال: الطل: الرذاذ من المطر، يعني: الليّن منه. ٦٠٨٦ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ﴿فطل﴾ أي طشٌ. * * * قال أبو جعفر: وإنما يعني تعالى ذكره بهذا المثل: كما ضعَّفتُ ثمرة هذه الجنة التي وصفتُ صفتها حين جاد الوابل، فإن أخطأ هذا الوابل، فالطل كذلك. يضعِّف الله صَدقة المتصدِّق والمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبيتًا من نفسه، من غير مَنِّ ولا أذى، قلَّت نفقته أو كثرت، لا تخيب ولا تُخلِف نفقته، كما تضعَّف الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها، قل ما أصابها من المطر أو كثُر لا يُخلِف خيرُها بحال من الأحوال. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ٦٠٨٧ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: ﴿فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصيبها وابل فطل﴾ ، يقول: كما أضعفتُ ثمرة تلك الجنة، فكذلك تُضاعف ثمرة هذا المنفق ضِعفين. ٦٠٨٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل﴾ ، هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن، يقول: ليس لخيره خُلْف، كما ليس لخير هذه الجنة خُلْف على أيّ حال، إمَّا وابلٌ، وإمّا طلّ. ٦٠٨٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله. ٦٠٩٠ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: ﴿الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله﴾ . الآية، قال: هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن. * * * فإن قال قائل: وكيف قيل: ﴿فإن لم يصيبها وابل فطل﴾ وهذا خبرٌ عن أمر قد مضى؟ قيل: يراد فيه"كان"، ومعنى الكلام: فآتت أكلها ضعفين، فإن لم يكن الوابلُ أصابها، أصابها طل. وذلك في الكلام نحو قول القائل:"حَبَست فرسين، فإن لم أحبس اثنين فواحدًا بقيمته"، بمعنى:"إلا أكن" - لا بدَّ من إضمار"كان"، لأنه خبر. [[هذا كله في معاني القرآن للفراء ١: ١٧٨.]] . ومنه قول الشاعر: [[زائدة بن صعصعة الفقعسي.]] . إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ ... وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بها بُدَّا [[سلف تخريجه وبيانه في ٢: ١٦٥، ٣٥٣.]] * * * القول في تأويل قوله: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك: ﴿والله بما تعملون﴾ أيها الناس، في نفقاتكم التي تنفقونها = ﴿بصير﴾ ، لا يخفي عليه منها ولا من أعمالكم فيها وفي غيرها شيء، يعلم مَنِ المنفق منكم بالمنّ والأذى، والمنفق ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من نفسه، فيُحصي عليكم حتى يجازيَ جميعكم جزاءه على عمله، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا. وإنما يعني بهذا القول جل ذكره، التحذيرَ من عقابه في النفقات التي ينفقها عباده وغير ذلك من الأعمال أن يأتي أحدٌ من خلقه ما قد تقدّم فيه بالنهي عنه، أو يفرّطَ فيما قد أمر به، لأن ذلك بمرأى من الله ومَسمَع، يعلمه ويحصيه عليهم، وهو لخلقه بالمرصاد. [[في المطبوعة: "بخلقه". لم يحسن قراءة المخطوطة.]] . * * * القول في تأويل قوله: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ﴾ قال أبو جعفر: ومعنى ذلك: [[في المطبوعة: "يعنى تعالى ذكره". لا أدرى لم غيره الطابع.]] . ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صَفوان عليه تراب فأصابه وابلٌ فتركه صلدًا لا يقدرون على شيء مما كسبوا﴾ = (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصَابه الكبر) ، الآية. [[يعنى أبو جعفر: أن هذه الآية، مردودة على الآية السابقة التي ساقها.]] * * * ومعنى قوله: ﴿أيود أحدكم﴾ ، أيحب أحدكم، [[انظر تفسير"ود" فيما سلف ٢: ٤٧٠.]] . أن تكون له جنة - يعني بستانًا [[انظر تفسير"جنة" فيما سلف قريبا: ٥٣٥ تعليق: ١، ومراجعه.]] . = ﴿من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار﴾ ، يعني: من تحت الجنة = ﴿وله فيها من كل الثمرات﴾ ، و"الهاء" في قوله: ﴿له﴾ عائدة على"أحد"، و"الهاء" و"الألف" في: ﴿فيها﴾ على الجنة، ﴿وأصابه﴾ ، يعني: وأصاب أحدكم = ﴿الكبر وله ذريه ضعفاء﴾ . * * * وإنما جعل جل ثناؤه البستانَ من النخيل والأعناب = الذي قال جل ثناؤه لعباده المؤمنين: أيود أحدكم أن تكون له = [[وضعت هذا الرقم على هذه المواضع جميعًا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة: "وإنما جعل ثناؤه البستان ... مثلا لنفقة المنافق ... في حسنه كحسن البستان وهي الجنة ... من نخيل وأعناب ... ".]] . مثلا لنفقة المنافق التي ينفقها رياء الناس، لا ابتغاء مرضاة الله، فالناس -بما يظهر لهم من صدقته، وإعطائه لما يعطى وعمله الظاهر - يثنون عليه ويحمدونه بعمله ذلك أيام حياته = [[وضعت هذا الرقم على هذه المواضع جميعا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة: "وإنما جعل ثناؤه البستان ... مثلا لنفقة المنافق ... في حسنه كحسن البستان وهي الجنة ... من نخيل وأعناب ... ".]] . في حسنه كحسن البستان وهي الجنة التي ضربها الله عز وجل لعمله مثلا [[وضعت هذا الرقم علىهذه المواضع جميعا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة: "وإنما جعل ثناؤه البستان ... مثلا لنفقة المنافق ... في حسنه كحسن البستان وهي الجنة ... من نخيل وأعناب ... ".]] . من نخيل وأعناب، له فيها من كل الثمرات، لأن عمله ذلك الذي يعمله في الظاهر في الدنيا، له فيه من كل خير من عاجل الدنيا، يدفع به عن نفسه ودمه وماله وذريته، ويكتسب به المحمَدة وحسن الثناء عند الناس، ويأخذ به سهمه من المغنم مع أشياء كثيرة يكثر إحصاؤها، فله في ذلك من كل خير في الدنيا، كما وصف جل ثناؤه الجنة التي وصف مثلا لعمله، بأن فيها من كل الثمرات. [[في المطبوعة والمخطوطة: "بعمله" والصواب ما أثبت، وسياق الجملة: "كما وصف جل ثناؤه الجنة، ... بأن فيها من كل الثمرات".]] . * * * ثم قال جل ثناؤه: ﴿وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء﴾ ، يعني أنّ صاحب الجنة أصابه الكبر = ﴿وله ذرية ضعفاء﴾ صغارٌ أطفال = [[قد مضت"ذرية" فيما سلف ٣: ١٩، ٧٣، ولم يفسرها. وذلك من اختصاره لتفسيره كما بينا في مقدمة الجزء الأول، وكما جاء في ترجمته.]] . ﴿فأصابها﴾ يعني: فأصاب الجنة - ﴿إعصار فيه نار فاحترقت﴾ ، يعني بذلك أنّ جنته تلك أحرقتها الريح التي فيها النار، في حال حاجته إليها، وضرورته إلى ثمرتها بكبره، وضعفه عن عمارتها، وفي حال صغر ولده وعجزه عن إحيائها والقيام عليها. فبقي لا شيء له، أحوج ما كان إلى جنته وثمارها، بالآفة التي أصابتها من الإعصار الذي فيه النار. يقول: فكذلك المنفق ماله رياء الناس، أطفأ الله نوره، وأذهب بهاء عمله، وأحبط أجره حتى لقيه، وعاد إليه أحوج ما كان إلى عمله، حين لا مُسْتَعْتَبَ له، [[لا مستعتب: أي لا استقالة ولا استدراك ولا استرضاء لله تعالى: من قولهم: "استعتبت فلانًا" أي استقلت مما فعلت، وطلبت رضاه، ورجعت عن الإساءة إليه.]] . ولا إقالة من ذنوبه ولا توبة، واضمحل عمله كما احترقت الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذريته أحوجَ ما كان إليها فبطلت منافعها عنه. * * * وهذا المثل الذي ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس في هذه الآية، نظير المثل الآخر الذي ضربه لهم بقوله: ﴿فمثله كمثل صفوان عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلدًا لا يقدرون على شيء مما كسبوا﴾ . * * * قال أبو جعفر: وقد تنازع أهل التأويل في تأويل هذه الآية، إلا أن معاني قولهم في ذلك وإن اختلفت تصاريفهم فيها عائدةٌ إلى المعنى الذي قلنا في ذلك، وأحسنهم إبانة لمعناها وأقربهم إلى الصواب قولا فيها السدي. ٦٠٩١ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر ولا ذرية ضعفاه فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت﴾ هذا مثل آخر لنفقة الرياء. إنه ينفق ماله يرائي الناس به، فيذهب ماله منه وهو يرائي، فلا يأجره الله فيه. فإذا كان يوم القيامة واحتاجَ إلى نفقته، وجدها قد أحرقها الرياء، فذهبت كما أنفق هذا الرجل على جنته، حتى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلى جنته جاءت ريح فيها سَموم فأحرقت جنته، فلم يجد منها شيئًا. [[في المخطوطة: "ريح فيها سمره" الهاء الأخيرة متصلة بالراء، ولم أجد لها وجها، والذي في المطبوعة، هو ما في الدر المنثور ١: ٣٤٠، وفي سائر الآثار الأخرى.]] . فكذلك المنفق رياء. ٦٠٩٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: ﴿أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب﴾ كمثل المفرِّط في طاعة الله حتى يموت. قال، يقول: أيود أحدكم أن يكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله، كمثل هذا الذي له جنات تجري من تحتها الأنهار، ﴿له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصارٌ فيه نار فاحترقت﴾ ، فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير، لا يغني عنها شيئًا، وولده صغار لا يغنون عنها شيئًا، وكذلك المفرِّط بعد الموت كل شيء عليه حَسْرة. ٦٠٩٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. ٦٠٩٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء، قال: سأل عُمر الناس عن هذه الآية فما وجد أحدًا يشفيه، حتى قال ابن عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين، إنِّي أجد في نفسي منها شيئًا، قال: فتلفت إليه، فقال: تحوَّل ههنا، لم تحقّر نفسك؟ قال: هذا مثل ضربه الله عز وجل فقال: أيودُّ أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة، حتى إذا كان أحوجَ ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره، واقترب أجله، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء، فأفسده كله فحرقه أحوج ما كان إليه. ٦٠٩٥ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن محمد بن سليم، عن ابن أبي مليكة: أن عمر تلا هذه الآية:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب"، قال: هذا مثل ضرب للإنسان: يعمل عملا صالحًا، حتى إذا كان عنده آخر عمره أحوجَ ما يكون إليه، عمل عمل السوء. [[الأثر: ٦٠٩٥ -"محمد بن سليم المكي أبو عثمان". روي عن ابن أبي مليكة، قال الحافظ ابن حجر: "ولم أر له رواية عن غيره". روى عنه وكيع بن الجراح، وعبد الله بن داود الخريبي، وأبو عاصم النبيل. مترجم في التهذيب. وهذا الأثر أشار إليه في الفتح ٨: ١٥١ في كلامه عن الأثر: ٦٠٩٦.]] . ٦٠٩٦ - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر عن عبيد بن عمير أنه سمعه يقول: سأل عمر أصحاب رسول الله ﷺ فقال: فيم تَرَون أنزلت:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب"؟ فقالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا:"نعلم" أو"لا نعلم". فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء، يا أمير المؤمنين. فقال عمر: قل يا ابن أخي، ولا تحقِّر نفسك! قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال: لعمل. فقال عمر: رجل عنيٌّ يعمل الحسنات، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها= قال: وسمعت عبد الله بن أبي مليكة يحدث نحو هذا عن ابن عباس، سمعه منه. [[الأثر: ٦٠٩٦ -رواه البخاري من طريق هشام بن يوسف، عن ابن جريج، وأشار الحافظ في الفتح ٨: ١٥١، إلى رواية الطبري له من طريق ابن المبارك، عن ابن جريج. وكان في المطبوعة: "رحل عنى" مهملة، والصواب ما أثبت من المراجع. وانظر التعليق التالي.]] . ٦٠٩٧ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر أنه سمع عبيد بن عمير= قال: ابن جريج: وسمعت عبد الله بن أبي مليكة، قال: سمعت ابن عباس= قالا جميعًا: إن عمر بن الخطاب سأل أصحاب رسول الله ﷺ فذكر نحوه= إلا أنه قال عمر: للرجل يعمل بالحسنات، ثم يُبعث له الشيطان فيعمل بالمعاصي. [[الأثر: ٦٠٩٧ -رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٢٨٣، وأشار إليه الحافظ في الفتح ٨: ١٥١ وهو مكرر الذي قبله. وسلقه الحاكم بلفظة وقال"وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.]] . ٦٠٩٨ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عنها= ثم قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد= قالا ضربت مثلا للأعمال = قال ابن جريج: وقال ابن عباس: ضربت مثلا للعمل، يبدأ فيعمل عملا صالحًا، فيكون مثلا للجنة التي من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل الثمرات - ثم يسيء في آخر عمره، فيتمادى على الإساءة حتى يموت على ذلك، فيكون الإعصار الذي فيه النار التي أحرقت الجنة، مثلا لإساءته التي مات وهو عليها. قال ابن عباس: الجنة عيشُه وعيش ولده فاحترقت، فلم يستطع أن يدفع عن جنته من أجل كبره، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن جنتهم من أجل صغرهم حتى احترقت. يقول: هذا مثله، تلقاه وهو أفقر ما كان إليّ، فلا يجد له عندي شيئًا، [[في المطبوعة: "تلقاه"، وفي المخطوطة "للعال" مصحفة مضطربة الخط، وهذا صواب قراءتها.]] ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئًا، ولا يستطيع من كبره وصغر أولاده أن يعملوا جنة، [[في المخطوطة: "من كبره وصغره أن يعملوا جنته"، وما في المطبوعة أشبه بالصواب.]] كذلك لا توبة إذا انقطع العمل حين مات= قال ابن جريج، عن مجاهد: سمعت ابن عباس قال: هو مثل المفرِّط في طاعة الله حتى يموت = قال ابن جريج، وقال مجاهد: أيود أحدكم أن تكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله، كمثل هذا الذي له جنة؟ فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير لا يغني عنها شيئًا، [[في المطبوعة: "حين أحرقت جنته"، وأثبت ما في المخطوطة.]] وأولاده صغار ولا يغنون عنه شيئًا. وكذلك المفرِّط بعد الموت، كل شيء عليه حسرة. ٦٠٩٩ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار" الآية، يقول: أصابها ريح فيها سموم شديدة [[في المطبوعة: "سموم شديدة"، و"السموم" مذكر، ويؤنث، لمعنى الريح الحارة.]] " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون"،: فهذا مثلٌ، فاعقلوا عن الله جل وعز أمثاله، فإنه قال: ﴿وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ﴾ [سورة العنكبوت: ٤٣] ، هذا رجل كبرت سنه، ورَقَّ عظمه، وكثر عياله، [[في المخطوطة والمطبوعة: "دق عظمه"، والصواب بالراء، وفي حديث عثمان: "كبرت سني، ورق عظمي"، وقولهم: "رق عظم فلان"، أي كبر وضعف. والرقق (بفتحتين) . ضعف العظام، قال الشاعر في ناقته: خَطَّارَةٌ بَعْدَ غِبّ الجَهْدِ نَاجِيةٌ ... لم تَلْقَ فِي عَظْمِهَا وَهْنًا وَلا رَقَقَا .]] ثم احترقت جنته على بقية ذلك، كأحوج ما يكون إليه، يقول: أيحب أحدكم أن يضلَّ عنه عمله يوم القيامة كأحوج ما يكون إليه؟ ٦١٠٠ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ" إلى قوله:"فاحترقت" يقول: فذهبت جنته كأحوج ما كان إليها حين كبرت سِنُّه وضعُف عن الكسب="وله ذرية ضعفاء" لا ينفعونه. قال: وكان الحسن يقول:"فاحترقت" فذهبت أحوجَ ما كان إليها، فذلك قوله: أيود أحدكم أن يذهب عمله أحوجَ ما كان إليه؟ ٦١٠١ - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ضرب الله مثلا حسنًا، وكل أمثاله حسنٌ تبارك وتعالى. وقال قال: [[في المخطوطة: "وقال قال أيوب: أيود أحدكم"، وقوله: "أيوب" لا معنى له هنا، ليس في هذا الإسناد من اسمه"أيوب"، ولو كان أيضًا، لكان سياقًا مضطربًا. وظاهر أن"أيوب" هي"أيود"، والناسخ في هذا الموضع قد اضطرب. كما سترى في التعليق التالي. وصحته ما جاء في الدر المنثور ١: ٣٤٠، كما سترى بعد.]] "أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل" إلى قوله:"فيها من كل الثمرات" يقول: صنعه في شبيبته، فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون عليه. وكذلك الكافر يوم القيامة، إذا رُدّ إلى الله تعالى ليس له خيرٌ فيستعتب، [[كان بين الكلمات في المخطوطة بياض هكذا: "ذرية ضعفاء عمره فجاءه إعصار فيه نار فاحترقت عنده قوة إن نسله خير يعودون الكافر يوم القيامة إذا رد إلى خير فيستعتب"، وهو مع البياض خلط من الكلام! وأثبت ما في المطبوعة، وهو نص الأثر كما أخرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ٣٤٠، ونسبه لابن جرير، وأبي حاتم. وابن كثير في التفسير ٢: ٣٨، ٣٩.]] كما ليس له قوة فيغرس مثل بستانه، [[في المخطوطة والمطبوعة: "كما ليس له قوة"، والصواب من الدر المنثور، وابن كثير.]] ولا يجد خيرًا قدم لنفسه يعود عليه، كما لم يغن عن هذا ولده، وحُرِم أجره عند أفقرِ ما كان إليه، كما حرم هذا جنته عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته. وهو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فيما أوتيا في الدنيا: كيف نجَّى المؤمنَ في الآخرة، وذخر له من الكرامة والنعيم، وخزَن عنه المال في الدنيا، وبسط للكافر في الدنيا من المال ما هو منقطعٌ، وخزَن له من الشر ما ليس بمفارقه أبدًا، ويخلد فيها مهانًا، من أجل أنه [فخر على صاحبه] ووثق بما عنده، [[الذي بين القوسين هو ما ثبت في المطبوعة، أما المخطوطة فكانت: "من أكل أنه ووثق بما عنده" بياض. ولم أجد بقية الأثر في المراجع السالفة، فتركت ما استظهره طابع المطبوعة على حاله. ولو استظهرته لقلت: "من أجل أنه كفر بلقاء ربه"، والله أعلم.]] ولم يستيقن أنه ملاق ربه. [[الأثر: ٦١٠١ -في الدر المنثور ١: ٣٤٠، وابن كثير ٢: ٣٨، ٣٩، كما أسلفت.]] . ٦١٠٢ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أيود أحدكم أن تكون له جنة"، الآية، قال: [هذا مثل ضربه الله] : أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب [له فيها من كل الثمرات] ، والرجل [قد كبر سنه وضعف] ، وله أولاد صغار [وابتلاهم الله] في جنتهم، [[الذي وضعته بين الأقواس، هو ما استظهر الطابع في المطبوعة فيما أرجح، وكان مكانه في المخطوطة بياض.]] فبعث الله عليها إعصارًا فيه نار فاحترقت، [[كان في المخطوطة: "فبعث الله عنها إعصار فيه نار"، وهو تحريف وخطأ، وما في المطبوعة أشبه بالصواب.]] فلم يستطع الرجل أن يدفع عن جنته من الكبر، [[في المخطوطة: "من الكفر". وهو خطأ بين.]] ولا ولده لصغرهم، فذهبت جنته أحوجَ ما كان إليها. يقول: أيحب أحدكم أن يعيش في الضلالة والمعاصي حتى يأتيه الموت، فيجيء يوم القيامة قد ضلّ عنه عمله أحوجَ ما كان إليه؟ فيقول: ابن آدم، أتيتني أحوجَ ما كنت قطُّ إلى خير، فأين ما قدمت لنفسك؟ ٦١٠٣ - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وقرأ قول الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا لا تُبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى"، ثم ضرب ذلك مثلا فقال:"أيود أحدكم أن تكون له جنّة من نخيل وأعناب"، حتى بلغ"فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت". قال: جرت أنهارها وثمارها، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت. أيودُّ أحدكم هذا؟ كما يتجمَّل أحدكم إذ يخرُج من صدقته ونفقته، [[في المطبوعة"فما يحمل"، وفي المخطوطة"كما يحمل"، ثم فيهما جميعًا: "أن يخرج"، وهو كلام لا مفهوم له. واستظهرت قراءاتها كذلك، لأن الذي يخرج نفقته رئاء الناس، إنما يتجمل بذلك عندهم. وهذا هو الصواب سياق الأثر. والمخطوطة كما تبين من التعليقات السالفة، فاسدة كل الفساد من اضطراب كتابة الناسخ، ومن عجلته، أو عجزه عن قراءة النسخة التي نقل عنها.]] حتى إذا كان له عندي جنّة وجرت أنهارها وثمارها، وكانت لولده وولد ولده أصابها ريح إعصار فحرقها. ٦١٠٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار"، رجل غرس بستانًا فيه من كل الثمرات، فأصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، فلا يستطيع أن يدفع عن بستانه من كبره، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن بستانه، فذهبت معيشته ومعيشة ذريته. فهذا مثل ضربه الله للكافر، يقول: يلقاني يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى خير يصيبه، فلا يجد له عندي خيرًا، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئًا. * * * قال أبو جعفر: وإنما دللنا أن الذي هو أولى بتأويل ذلك ما ذكرناه، لأن الله جل ثناؤه تقدَّم إلى عباده المؤمنين بالنهي عن المنّ والأذى في صدقاتهم، ثم ضرب مثلا لمن منَّ وآذى من تصدق عليه بصدقة، فمثَّله بالمرائي من المنافقين المنفقين أموالهم رئاء الناس. وكانت قصة هذه الآية وما قبلها من المثل، نظيرةَ ما ضرب لهم من المثل قبلها، فكان إلحاقُها بنظيرتها أولى من حمل تأويلها على أنه مثلُ ما لم يَجر له ذكر قبلها ولا معها. [[انظر ما قاله القرطبي في تفسيره ٣: ٣١٨، في رد اختيار ابن جرير في تفسيره. ومذهب ابن جرير أوثق وأضبط في البيان، وفي الاستدلال.]] * * * فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"وأصابه الكبر"، وهو فعل ماض، فعطف به على قوله:"أيود أحدكم"؟ قيل: إن ذلك كذلك، لأن قوله:"أيود"، يصح أن يوضع فيه"لو" مكان"أن" فلما صلحت ب"لو" و"أن" ومعناهما جميعًا الاستقبال، استجازت العرب أن يردّوا"فعل" بتأويل"لو" على"يفعل" مع"أن" [[أي: أن يردوا الفعل الماضي بتأويل"لو" على الفعل المضارع مع"أن".]] فلذلك قال:"فأصابها"، وهو في مذهبه بمنزلة"لو"، إذْ ضارعت"أن" في معنى الجزاء، فوضعت في مواضعها، وأجيبت"أن" بجواب"لو" و"لو" بجواب"أن"، فكأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة من نخيل وأعناب، تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر؟ [[هذا نص مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ١٧٥، وقد استوفى الباب هناك. وانظر ما سلف في جواب"لو" بالماضي من الفعل ٢: ٤٥٨ /٣: ١٨٤، ١٨٥، والتعليق هناك.]] . فإن قال: وكيف قيل ههنا:"وله ذرية ضعفاء"، وقال في [النساء:٩] ، ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا﴾ ؟ قيل: لأن"فعيلا" يجمع على"فعلاء" و"فِعال"، فيقال:"رجل ظريف من قوم ظرفاء وظراف. * * * وأما"الإعصار"، فإنه الريح العاصف، تهب من الأرض إلى السماء كأنها عمود، تجمع"أعاصير"، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري: أُنَاسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوارُهُمْ ... أَعَاصِيرَ مِنْ فَسْوِ العِرَاقِ المُبَذَّرِ [[تاريخ الطبري ٦: ١٧٨، والأغاني ١٧: ١٧٨: وسيأتي في التفسير ١٥: ٥٣ مصحفًا أيضًا: "من فسق العراق المبذر". والبيت في المطبوعة والمخطوطة هنا: "من سوء العراق المنذر"، وهو كلام بلا معنى، ولكنى رأيت شارحًا شرحه على ذلك، فأشهد الله كاد يقتلني من فرط الضحك! وهو من أبيات ثلاثة قالها ابن مفرغ في خبره مع بن زياد، حين هجاه، وهجا معاوية بن أبي سفيان (وانظر ما سلف ٤: ٢٩٣ وتعليق: ٢) وفارق عبادًا مقبلًا إلى البصرة، فطاف بأشرافها من قريش يسجير بهم، فما كان منهم إلا الوعد، ثم أتي المنذر بن الجارود (من عبد القيس) فأجاره وأدخله داره، ووشى الوشاة به إلى عبيد الله بن زيادة أنه دار المنذر. وكان المنذر في مجلس عبيد الله، فلم يشعر إلى بابن مفرغ قد أقيم على رأسه، فقام المنذر فقال: أيها الأمير، قد أجرته! فقال: يا منذر، واله يمدحنك وأباك ويهجوني أنا وأبي، ثم تجيره على! فأمر به فسقى دواء وحمل على حمار يطاف به وهو يسلح في ثيابه من جراء الدواء، فقال عندئذ لعبيد الله بن زياد: يَغْسِلُ المَاءُ مَا صَنَعْتَ وَقَولِي ... راَسِخٌ مِنْكَ فِي العِظَامِ البَوالِى ثم هجا المنذر بن الجارود فقال: تَرَكْتُ قُرَيْشًا أَنْ أُجَاوِرَ فِيهمُ ... وَجَاورْتُ عبدَ القَيْس أَهْلَ المُشَقَّرِ أُناسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوَارُهُمْ ... أَعَاصِيرَ مِنْ فَسْوِ العِرَاقِ المبَذَّرِ فَأَصْبَحَ جَارِي مِنْ جَذِيمةَ نَائمًا ... ولا يمنَعُ الجِيرَانَ غَيْرُ المُشَمِّرِ وقوله: "من فسو العراق"، وذلك أن عبد القيس ونبي حنيفة وغيرهم من أهل البحرين وما جاورها، كانوا يعيرون بالفسو، لأن بلادهم بلاد نخل فيأكلونه، ويحدث في أجوافهم الرياح والقراقير. والمبذر: من التبذير، وهو الإسراف في المال وتشتيه وتفريقه. وهذه صفة قد انتزعها ابن مفرغ أحسن انتزاع في هذا الموضع، فجعلت سخرتته بالمنذر بن الجارود، ألذع ما تكون، مع روعة قوله: "أعاصير"!! قد جاء الأخطل بعد ذلك فهجا ابنه أيضًا مالك بن المنذر بن الجارود، فقال له: وَعَبْدُ القَيْسِ مُصْفَرٌ لِحَاهَا ... كَأَنَّ فُسَاءَهَا قِطَعُ الضَّبَابِ!! فبلغ منه ما بلغ!! ، وانظر طبقات فحول الشعراء: ٢٩٨، ٢٩٩، والتعليق هناك.]] * * * قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"إعصار فيه نار فاحترقت". فقال بعضهم: معنى ذلك: ريح فيها سموم شديدةٌ. * ذكر من قال ذلك: ٦١٠٥ - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا يوسف بن خالد السمتي، قال: حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"إعصار فيه نار"، ريح فيها سموم شديدةٌ. ٦١٠٦ - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في:"إعصارٌ فيه نار"، قال: السموم الحارة التي خلق منها الجانّ، التي تحرق. ٦١٠٧ - حدثنا أحمد [[في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا حميد"، والصواب: "أحمد"، وهو: "أحمد بن إسحق الأهوازي"، كما سلف مئات من المرات في روايته عن أبي أحمد الزبيري، فاطلبه في الفهارس، وانظر الآتي رقم: ٦١٠٩.]] قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت"، قال: هي السموم الحارة التي لا تبقى أحدًا. [[في المطبوعة حذف قوله: "لا تبقي أحدًا"، وعلق عليه بقوله: "في بعض النسخ زيادة: "التي لا تضر أحدًا"، وهي في المخطوطة كذلك، ولكن الناسخ أفسد الكلمة، وصوابها كما أثبت: "لا تبقى أحدًا". وسيأتي في حديث التميمي عن عباس، وهو الحديث التالي: "التي تقتل". فهذا هذا.]] . ٦١٠٨ - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"إعصار فيه نار فاحترقت" التي تقتل. ٦١٠٩ - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عمن ذكره، عن ابن عباس، قال: إن السموم التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءًا من النار. ٦١١٠ - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إعصار فيه نار فاحترقت"، هي ريح فيها سموم شديدٌ. ٦١١١ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس:"إعصار فيه نار"، قال: سموم شديد. ٦١١٢ - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"إعصار فيه نار"، يقول: أصابها ريح فيها سموم شديدة. ٦١١٣ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، نحوه. ٦١١٤ - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"إعصار فيه نار فاحترقت" أما الإعصار فالريح، وأما النار فالسموم. ٦١١٥ - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إعصار فيه نار"، يقول: ريح فيها سموم شديد. * * * وقال آخرون: هي ريح فيها برد شديد. * ذكر من قال ذلك: ٦١١٦ - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: كان الحسن يقول في قوله:"إعصار فيه نار فاحترقت"، فيها صِرٌّ وبرد. [[الصر (بكسر الصاد) . البرد الذي يضرب النبات ويحرقه.]] ٦١١٧ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"إعصار فيه نار فاحترقت"، يعني بالإعصار، ريح فيها بَرْدٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب