الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ حَتّى يَقُولا إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ وما هم بِضارِّينَ بِهِ مِن أحَدٍ إلا بِإذْنِ اللهِ ويَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهم ولا يَنْفَعُهم ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاقٍ ولَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهم لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٠٢] ﴿وَلَوْ أنَّهم آمَنُوا واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِن عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وقُولُوا انْظُرْنا واسْمَعُوا ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ذَكَرَ ابْنُ الأعْرابِيِّ في الياقُوتَةِ أنَّ "يُعَلِّمانِ" بِمَعْنى يَعْلَمانِ ويَشْعُرانِ، كَما قالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: ؎ تَعَلَّمْ رَسُولَ اللهِ أنَّكَ مُدْرِكِي وأنَّ وعِيدًا مِنكَ كالأخْذِ بِاليَدِ وحَمَلَ هَذِهِ الآيَةَ عَلى أنَّ المَلَكَيْنِ إنَّما نَزَلا يُعَلِّمانِ الناسَ بِالسِحْرِ ويَنْهَيانِ عنهُ. وقالَ الجُمْهُورُ: بَلِ التَعْلِيمُ عَلى عُرْفِهِ. و"لا تَكْفُرُ": قالَتْ فِرْقَةٌ: بِتَعَلُّمِ السِحْرِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بِاسْتِعْمالِهِ، وحَكىالمَهْدَوِيُّ أنَّ قَوْلَهُما: ﴿إنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ [البقرة: ١٠٢] اسْتِهْزاءً، لِأنَّهُما إنَّما يَقُولانِهِ لِمَن قَدْ تَحَقَّقا ضَلالَهُ. و"مِن" في قَوْلِهِ: ﴿مِن أحَدٍ﴾ [البقرة: ١٠٢] زائِدَةٌ بَعْدَ النَفْيِ، وقَوْلُهُ تَعالى: "فَيَتَعَلَّمُونَ"، قالَ سِيبَوَيْهِ: التَقْدِيرُ فَهم يَتَعَلَّمُونَ، وقِيلَ: هو مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿يُعَلِّمُونَ الناسَ﴾ [البقرة: ١٠٢] ومَنَعَهُ الزَجّاجُ، وقِيلَ: هو مَعْطُوفٌ عَلى مَوْضِعِ (p-٣٠٤)( ما يُعَلِّمانِ ) لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَما يُعَلِّمانِ﴾ [البقرة: ١٠٢] وإنْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ ما النافِيَةُ فَمُضَمِّنُهُ الإيجابُ في التَعْلِيمِ، وقِيلَ: التَقْدِيرُ فَيَأْتُونَ فَيَتَعَلَّمُونَ، واخْتارَهُ الزَجّاجُ. والضَمِيرُ في "يُعَلِّمانِ" هو لِهارُوتَ ومارُوتَ المَلَكَيْنِ أوِ المَلَكَيْنِ العِلْجَيْنِ عَلى ما تَقَدَّمَ. والضَمِيرُ في "مِنهُما" قِيلَ: هو عائِدٌ عَلَيْهِما، وقِيلَ: عَلى السِحْرِ، وعَلى الَّذِي أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ. و"يُفَرِّقُونَ" مَعْناهُ فِرْقَةُ العِصْمَةِ وقِيلَ مَعْناهُ يُؤَخِّذُونَ الرَجُلَ عَنِ المَرْأةِ حَتّى لا يَقْدِرَ عَلى وطْئِها، فَهي أيْضًا فِرْقَةٌ. وقَرَأ الحَسَنُ، والزُهْرِيُّ، وقَتادَةُ "المُرُّ" بَراءٍ مَكْسُورَةٍ خَفِيفَةٍ، ورُوِيَ عَنِ الزُهْرِيِّ تَشْدِيدُ الراءِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ "المَرْءُ" بِضَمِّ المِيمِ وهَمْزَةٍ، وهي لُغَةُ هُذَيْلٍ. وقَرَأ الأشْهَبُ العَقِيلِيُّ "المِرْءُ" بِكَسْرِ المِيمِ وهَمْزَةٍ، ورُوِيَتْ عَنِ الحَسَنِ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ "المَرْءَ" بِفَتْحِ المِيمِ وهَمْزَةٍ. والزَوْجُ هُنا امْرَأةُ الرَجُلِ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما زَوْجُ الآخَرِ، ويُقالُ لِلْمَرْأةِ: زَوْجَةٌ، قالَ الفَرَزْدَقُ: ؎ وإنَّ الَّذِي يَسْعى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي ∗∗∗ كَساعٍ إلى أسَدِ الشَرى يَسْتَبِيلُها وقَرَأ الجُمْهُورُ "بِضارِّينَ". وقَرَأ الأعْمَشُ "بِضارِي بِهِ مِن أحَدٍ" فَقِيلَ: حُذِفَتِ النُونُ تَخْفِيفًا، وقِيلَ: حُذِفَتْ لِلْإضافَةِ إلى أحَدٍ، وحِيلَ بَيْنَ المُضافِ والمُضافِ إلَيْهِ بِالمَجْرُورِ. و"بِإذْنِ اللهِ" مَعْناهُ: بِعِلْمِهِ وتَمْكِينِهِ، و"يَضُرُّهُمْ" مَعْناهُ: في الآخِرَةِ، "وَلا يَنْفَعُهُمْ" فِيها أيْضًا وإنْ نَفَعَ في الدُنْيا بِالمَكاسِبِ، فالمُراعى إنَّما هو أمْرُ الآخِرَةِ. والضَمِيرُ في "عَلِمُوا" عائِدٌ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ حَسَبَ الضَمائِرِ المُتَقَدِّمَةِ، وقِيلَ: عَلى "الشَياطِينُ" وقِيلَ: عَلى "المَلَكَيْنِ" وهُما جَمْعٌ، وقالَ: "اشْتَراهُ لِأنَّهم كانُوا يُعْطُونَ الأُجْرَةَ عَلى أنْ يَعْلَمُوا، والخَلاقُ: النَصِيبُ والحَظُّ، وهو هُنا بِمَعْنى الجاهِ والقَدْرِ. واللامُ في قَوْلِهِ "لَمَنِ" المُتَقَدِّمَةُ لِلْقَسَمِ، المُؤْذِنَةُ بِأنَّ الكَلامَ قَسَمٌ لا شَرْطٌ. وتَقَدَّمَ القَوْلُ في "بِئْسَما"، و"شَرَوْا" مَعْناهُ: باعُوا، وقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ، والضَمِيرُ في "يُعَلِّمُونَ" عائِدٌ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ بِاتِّفاقٍ، ومَن قالَ: إنَّ الضَمِيرَ في "عَلِمُوا" عائِدٌ عَلَيْهِمْ خَرَجَ هَذا الثانِي عَلى المَجازِ، أيْ لَمّا عَمِلُوا عَمَلَ مَن لا يَعْلَمُ، كانُوا كَأنَّهم لا يَعْلَمُونَ، ومَن قالَ: إنَّ الضَمِيرَ في "عَلِمُوا" عائِدٌ عَلى "الشَياطِينُ" أو عَلى "المَلَكَيْنِ" قالَ: إنَّ أُولَئِكَ عَلِمُوا ألّا خَلاقَ لِمَنِ اشْتَراهُ، وهَؤُلاءِ لَمْ يَعْلَمُوا، فَهو عَلى الحَقِيقَةِ. وقالَ مَكِّيُّ: الضَمِيرُ في "عَلِمُوا" لِعُلَماءِ أهْلِ الكِتابِ، وفي قَوْلِهِ: ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٠٢] لِلْمُتَعَلِّمِينَ مِنهم. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَوْ أنَّهم آمَنُوا﴾ مَوْضِعُ أنَّ رَفْعٌ، المَعْنى: لَوْ وقَعَ إيمانُهُمْ، ويَعْنِي الَّذِينَ اشْتَرَوُا السِحْرَ، و"لَوَ" تَقْتَضِي جَوابًا، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: جَوابُها "لَمَثُوبَةٌ" لِأنَّها مَصْدَرٌ يَقَعُ لِلْمُضِيِّ والِاسْتِقْبالِ، وجَوابُ "لَوَ" لا يَكُونُ إلّا ماضِيًا أو بِمَعْناهُ، وقالَ الأخْفَشُ: لا جَوابَ لِـ "لَوَ" في هَذِهِ الآيَةِ مَظْهَرًا ولَكِنَّهُ مُقَدَّرٌ، أيْ: لَوْ آمَنُوا لَأُثِيبُوا. وقَرَأ قَتادَةُ، وأبُو (p-٣٠٦)السِمّالِ، وابْنُ بُرَيْدَةَ "لَمَثْوَبَةٌ" بِسُكُونِ الثاءِ، وفَتْحِ الواوِ، وهو مَصْدَرٌ أيْضًا كَمَشُورَةٍ ومَشْوَرَةٍ. و"مَثُوبَةٌ" رُفِعَ بِالِابْتِداءِ و"خَيْرٌ" خَبَرُهُ، والجُمْلَةُ خَبَرُ "أنَّ". والمَثُوبَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الناسِ بِمَعْنى الثَوابِ والأجْرِ، وهَذا هو الصَحِيحُ، وقالَ قَوْمٌ: مَعْناهُ: الرَجْعَةُ إلى اللهِ، مِن ثابَ يَثُوبُ إذا رَجَعَ، واللامُ فِيها لامُ القَسَمِ، لِأنَّ لامَ الِابْتِداءِ مُسْتَغْنًى عنها، وهَذِهِ لا غِنى عنها. وقَوْلُهُ: ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٠٢] يُحْتَمَلُ نَفْيُ العِلْمِ عنهُمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ عِلْمًا يَنْفَعُ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ "راعِنا" مِنَ المُراعاةِ بِمَعْنى فاعِلْنا، أيِ ارْعَنا نَرْعَكَ، وفي هَذا جَفاءٌ أنْ يُخاطَبَ بِهِ أحَدٌ نَبِيَّهُ، وقَدْ حَضَّ اللهُ تَعالى عَلى خَفْضِ الصَوْتِ عِنْدَهُ، وتَعْزِيرِهِ، وتَوْقِيرِهِ. فَقالَ مَن ذَهَبَ إلى هَذا المَعْنى: إنَّ اللهَ تَعالى نَهى المُؤْمِنِينَ عنهُ لِهَذِهِ العِلَّةِ، ولا مَدْخَلَ لِلْيَهُودِ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى هَذا التَأْوِيلِ، بَلْ هو نَهْيٌ عن كُلِّ مُخاطَبَةٍ فِيها اسْتِواءٌ مَعَ النَبِيِّ ﷺ. وقالَتْ طائِفَةٌ: هي لُغَةٌ كانَتِ الأنْصارُ تَقُولُها، فَقالَها رِفاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التابُوتِ لِلنَّبِيِّ ﷺ لَيًّا بِلِسانِهِ وطَعْنًا، كَما كانَ يُقالُ: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، فَنَهى اللهُ المُؤْمِنِينَ أنْ تُقالَ هَذِهِ اللَفْظَةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ووَقْفُ هَذِهِ اللُغَةِ عَلى الأنْصارِ تَقْصِيرٌ، بَلْ هي لُغَةُ جَمِيعِ العَرَبِ، فاعِلٌ مِنَ المُراعاةِ، فَكانَتِ اليَهُودُ تَصْرِفُها إلى الرُعُونَةِ، يُظْهِرُونَ أنَّهم يُرِيدُونَ المُراعاةَ، ويُبْطِنُونَ أنَّهم يُرِيدُونَ الرُعُونَةَ الَّتِي هي الجَهْلُ. وحَكى المَهْدَوِيُّ عن قَوْمٍ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ عَلى هَذا التَأْوِيلِ ناسِخَةٌ لِفِعْلٍ قَدْ كانَ مُباحًا، ولَيْسَ في هَذِهِ الآيَةِ شُرُوطُ النَسْخِ، لِأنَّ الأوَّلَ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا مُتَقَرِّرًا. وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، وابْنُ أبِي لَيْلى، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وأبُو حَيْوَةَ: "راعِنًا" بِالتَنْوِينِ وهَذِهِ مِن مَعْنى الجَهْلِ، وهَذا مَحْمُولٌ عَلى أنَّ اليَهُودَ كانَتْ تَقُولُهُ، فَنَهى اللهُ (p-٣٠٧)تَعالى المُؤْمِنِينَ عَنِ القَوْلِ المُباحِ سَدَّ ذَرِيعَةٍ لِئَلّا يَتَطَرَّقَ مِنهُ اليَهُودُ إلى المَحْظُورِ، إذِ المُؤْمِنُونَ إنَّما كانُوا يَقُولُونَ "راعِنا" دُونَ تَنْوِينٍ. وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ "راعَوْنا"، وهي شاذَّةٌ، ووَجْهُها أنَّهم كانُوا يُخاطِبُونَ النَبِيَّ ﷺ كَما تُخاطَبُ الجَماعَةُ، يُظْهِرُونَ بِذَلِكَ إكْبارَهُ، وهم يُرِيدُونَ في الباطِنِ فاعُولًا مِنَ الرُعُونَةِ، و"انْظُرْنا" مَضْمُومَةُ الألْفِ والظاءِ مَعْناها: انْتَظِرْنا وأمْهِلْ عَلَيْنا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى تَفْقِدُنا، مِنَ النَظَرِ، وهَذِهِ لَفْظَةٌ مُخْلِصَةٌ لِتَعْظِيمِ النَبِيِّ ﷺ عَلى المَعْنَيَيْنِ. والظاهِرُ عِنْدِي اسْتِدْعاءُ نَظَرِ العَيْنِ المُقْتَرِنِ بِتَدَبُّرِ الحالِ، وهَذا هو مَعْنى "راعِنا"، فَبُدِّلَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ اللَفْظَةُ لِيَزُولَ تَعَلُّقُ اليَهُودِ. وقَرَأ الأعْمَشُ، وغَيْرُهُ "أنْظِرْنا" بِقَطْعِ الألِفِ وكَسْرِ الظاءِ، بِمَعْنى أخِّرْنا وأمْهِلْنا حَتّى نَفْهَمَ عنكَ ونَتَلَقّى مِنكَ. ولَمّا نَهى اللهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ وأمِرَ، حَضَّ بَعْدُ عَلى السَمْعِ الَّذِي في ضِمْنِهِ الطاعَةُ، واعْلَمْ أنَّ لِمَن خالَفَ أمْرَهُ فَكَفَرَ عَذابًا ألِيمًا، وهو المُؤْلِمُ، و"اسْمَعُوا" مَعْطُوفٌ عَلى "قُولُوا" لا عَلى مَعْمُولِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب