يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا الآية: وذلك
إنّ المسلمين كانوا يقولون راعنا يا رسول الله وأرعنا سمعك يعنون من المراعاة، وكانت هذه اللفظة سبّا مبيحا بلغة اليهود، وقيل:
كان معناه عندهم: اسمع لا سمعت، وقيل: هو إلحاد إلى الرعونة لما سمعتها اليهود اغتنموها، وقالوا فيما نسب بعضهم إلى محمّد سرا. فاعلنوا الآن بالشّتم، وكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمّد ويضحكون فيما بينهم. فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها، وكان يعرف لغتهم. فقال لليهود: عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده يا معشر اليهود إن سمعنا من رجل منكم يقولها لرسول الله ﷺ لضربت عنقه. فقالوا: أولستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا لكي لا يجد اليهود بذلك سبيلا إلى شتم رسول الله ﷺ.
وفي هذه اللفظة ثلاث قراءات:
قرأ الحسن راعناً بالتنوين أراد قولا راعنا: أي حقا من الرعونة فحذف الاسم وأبقى الصّفة. كقول الشاعر:
ولا مثل يوم في قدار ظله ... كأني وأصحابي على قرن أعفرا
أراد قرن ظبي أعفر. حذف الاسم وأبقى النعت.
وقرأ أبي بن كعب: راعونا بالجمع.
وقرأت العامّة: راعِنا بالواحد من المراعاة. يقال: أرعى إلى الشيء وأرعاه وراعاه. إذا أصغى إليه واستمعه. مثل قولهم: عافاه الله وأعفاه.
قال مجاهد: لا تقولوا راعناً: يعني خلافا.
يمان: هجرا.
الكسائي: شرّا.
وَقُولُوا انْظُرْنا قال أبي بن كعب: أَنظرنا بقطع الألف أي أخرنا، وقرأت العامّة موصولة أي انظر إلينا. فحذف حرف التعدية كقول قيس بن الحطيم:
ظاهرات الجمال والحسن ينظرن ... كما ينظر الأراك الظّبا
أي إلى الأراك، وقيل: معناه انتظرنا وتأننا. كقول امرؤ القيس:
فإنكما أن تنظراني ساعة ... من الدهر تنفعني لدى أم جندب
وقال مجاهد: معناه فهّمنا، وقال يمان: بيّن لنّا وَاسْمَعُوا ما تؤمرون به، والمراد به أطيعوا لأنّ الطّاعة تحت السّمع.
وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني اليهود.
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية: وذلك إنّ المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمّد قالوا: ما هذا الّذي تدعوننا إليه بخير مما نحن عليه ولو [هدانا] [[كلمة غير مقروءة في المخطوط والظاهر ما أثبتناه.]] لكان خيرا. فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم (ما يَوَدُّ) : يريد ويتمنى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني اليهود.
وَلَا الْمُشْرِكِينَ [[في هامش المخطوطة: والمراد مشركو العرب كأبي سفيان.]] مجرور في اللفظ بالنسق على من مرفوع المعنى بفعله كقوله عزّ وجلّ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [[سورة الأنعام: 38.]] أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي خبر كما نقول: ما أتاني من أحد من فيه، وفي جوابها صلة، وهي كثيرة في القرآن.
وَاللَّهُ يَخْتَصُّ والاختصاص أوكد من الخصوص لأن الاختصاص لنفسك والخصوص لغيرك.
بِرَحْمَتِهِ بنبوّته. مَنْ يَشاءُ يخص بها محمّدا ﷺ.
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [أي ابتداء لعلى ... خبر علة أو المراد من الرحمة الإسلام والهداية [[عن هامش المخطوط.]] ] ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها الآية وذلك إنّ المشركين قالوا: ألّا ترون إلى محمّد يأمر أصحابه بأمر لم ينهاهم عنه، ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولا ويرجع فيه غدا، ما هذا القرآن إلّا كلام محمّد يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضا. فأنزل الله وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [[سورة النحل: 101.]] ، وأنزل أيضا ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ثمّ بيّن وجه الحكمة في النّسخ بهذه الآية.
وأعلم إنّ النسخ في اللغة شيئان:
الوجه الأول: بمعنى التغيير والتحويل قال الفراء: يقال: مسخه الله قردا ونسخه قردا، ومنه نسخ الكتاب وهو أن يحول من كتاب إلى كتاب فينقل ما فيه إليه قال الله تعالى إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [[سورة الجاثية: 29.]] : أي نأمر الملائكة بنسخها.
قال ابن عبّاس في هذه الآية: ألستم قوما عربا هل يكون نسخة إلّا من أصل كان قبل ذلك؟ وعلى هذا الوجه القرآن كلّه منسوخ لأنّه نسخ من اللوح المحفوظ فأنزل على النبيّ ﷺ.
روى عبد الوهاب بن عطاء عن داود عن عكرمة عن ابن عبّاس: أنزل الله تعالى القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا ثمّ أنزله جبرائيل على محمّد آيا بعد آي، وكان فيه ما قال المشركون وردّ عليهم.
والوجه الثاني: بمعنى رفع الشيء وإبطاله يقال: نسخت الشّمس الظل: أي ذهبت به وأبطلته [ ... ] عنّى بقوله ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ وعلى هذا الوجه يكون بعض القرآن ناسخا ومنسوخا وهي ما تعرفه الأمّة من ناسخ القرآن ومنسوخه وهذا أيضا يتنوّع نوعين: أحدهما: إن يثبت خط الآية، وينسخ علمها والعمل بها. كقول ابن عبّاس في قوله ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قال: ثبت خطها وتبدل حكمها. ومنها رفع تلاوتها وبقاء حكمها مثل آية الرجم.
الثاني: أنّ ترفع الآية أصلا أي تلاوتها وحكمها معا فتكون خارجة من خط الكتاب، وبعضها من قلوب الرّجال أيضا، والشّاهد له ما
روي أبو أمامة سهل بن حنيف في مجلس سعيد ابن المسيب: إنّ رجلا كانت معه سور فقام يقرأها من الليل فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأها.
فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأها فلم يقدر عليها. فأصبحوا فأتوا رسول الله ﷺ فقال بعضهم:
يا رسول الله قمت البارحة لأقرأ سورة كذا وكذا فلم أقدر عليها، وقال الآخر: يا رسول الله ما جئت إلّا لذلك، وقال الآخر: وأنا يا رسول الله.
فقال رسول الله ﷺ: «إنّها نسخت البارحة» [98] [[نواسخ القرآن لابن الجوزي: 34، والدر المنثور: 1/ 105.]] .
ثمّ اعلم أنّ النّسخ إنّما يعترض على الأوامر والنواهي دون الأخبار إذا نسخ صار المخبر كذابا، وإنّ اليهود حاولوا نسخ الشرائع وزعموا إنّه بداء فيقال لهم: أليس قد أباح الله تزويج الاخت من الأخ ثمّ حظره وكذلك بنت الأخ وبنت الأخت؟ أليس قد أمر إبراهيم عليه السّلام بذبح ابنه، ثمّ قال له لا تذبحه؟
أليس قد أمر موسى بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد العجل منهم وأمرهم برفع السّيف عنهم؟
أليست نبوة موسى غير متعبد بها، ثمّ تعبّد بذلك؟ أليس قد أمر حزقيل النبيّ بالختان، ثمّ نهاه عنه؟ فلما لم يلحقه بهذه الأشياء بداء فكذلك في نسخ الشرائع لم يلحقه بداء بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة، وحكم إلى حكم لضرب من المصلحة إظهار لحكمته وكمال مملكته وله ذلك وبه التوفيق.
فهذه من علم النّسخ وهو نوع كثير من علوم القرآن، لا يسع جهله لمن شرع إلى التفسير.
وعن أبي عبد الرحمن السّلمي: إنّ عليا عليه السّلام مرّ بقاص يقصّ في جامع الكوفة بباب كندة فقال: هل تعلم النّاسخ من المنسوخ؟
قال: لا. قال: هلكت وأهلكت [[المصنف لعبد الرزاق: 3/ 221 ح 5407، والناسخ والمنسوخ لابن حزم: 5.]] .
وأمّا معنى الآية لقوله ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قرأت العامّة بفتح النون والسين من النّسخ.
وقرأ ابن عامر: بضم النون وكسر السّين.
قال أبو حاتم: هو غلط وقال: بعضهم له وجهان، أحدهما نجعله نسخه من قولك نسخت الكتاب إذا كتبته وأ نسخته غيري إذا جعلته نسخة له ومعناها ما مسختك.
والوجه الثاني: تجعله في جملة المنسوخ كقولك: طردت الرّجل إذا نفيته وأطردته جعلته طريدا. قال الشاعر:
طردتني حسد الهجاء حيفاء ... واللّات والأصنام ما قالوا تنل
أو ننسها [[في هامش المخطوطة: عن قلبك أي نتركها.]] : فيه تسع قراءات:
قرأ سعيد بن المسيب وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب: نُنْسِها بضمّ النون وكسر السّين. وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم أي: ننسها نسيا قاله أكثر المفسرين.
قال الحسن: هو ما أنسى الله رسوله ﷺ.
قال ابن عبّاس: أي نتركها ولا نبدّلها قال الله: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ [[سورة التوبة: 67.]] وقال الله تعالى:
كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [[سورة طه: 126.]] . كلّ هذا من التّرك كانّه جعل أنسى ونسي بمعنى واحد.
قال الكلبي وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا منصور الأزهري يقول: معناه أو نأمر بتركها يقال أنسيت الشيء أي أمرت بتركه.
قال الشّاعر:
جرت عليّ قصة أقصيتها ... لست بناسيها مجمع ولا منسيها
أي ولا آمر بتركها.
وقرأ أبي بن كعب: أو ننسيك.
وقرأ عبد الله: ننسيك من آية أو ننسخها.
قرأ سالم مولى حذيفة: أو ننسّكها.
وقرأ أبو رجاء: أو ننسّها بالتشديد، وقرأ الضحّاك: أو نُنسَها بضم التاء وفتح السين على مجهول، وقرأ سعد بن أبي وقّاص: أو تَنسها بتاء المفتوحة من النسيان، وعن القاسم بن الربيع ابن فائق قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: بالنسخ من آية أو ننسها.
قال: فقلت له: إنّ سعيد بن المسيّب يقرأ: نُنْسِها. قال: إنّ القرآن لم ينزل على آل المسيّب.
قال الله تعالى لنبيه ﷺ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [[سورة الأعلى: 6.]] وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ [[سورة الكهف: 24.]] .
وقرأ مجاهد: (أو نَنسها) بفتح النون مخففة أي نتركها.
وقرأ عمر بن الخطّاب وابن عبّاس وعبيد بن عمير وعطاء وابن كثير وابو عمرو والنخعي:
أو ننساها بفتح النون الأول وفتح السين مهموزة فلا نؤخرها فلا نبدّلها ولا ننسخها، يقال: نسأ الله في أجله وأنسأ الله أجله، ومنه النسيئة في البيع.
وقال أبو عبيد: ننسأها مجازه نمضيها لذكر ما فيه، قال طرفة:
أمون كألواح الاران نسأتها ... على لاحب كأنّه ظهر برجد [[مجمع البيان: 1/ 346.]]
أي لسقتها وأمضيتها، وقال سعيد بن المسيب وعطاء: أما ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ فهو ما قد نزل من القرآن جعلاه من النسخة، أو ننساها نؤخرها فلا يكون وهو ما لم ينزّل.
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها [[في هامش المخطوطة: وكل ما نسخ إلّا اليسير فالناسخ أسهل في العمل.]] أيّ بما هو أجدى وأنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم لا أنّ آية خير من آية لأن كلام الله عزّ وجلّ واحد ولكنّها في المنفعة المثوبة وكلّه خير.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [[في هامش المخطوطة: من النسخ والتبديل.]] قادر قال الزجاج: لفظه استفهام ومعناه توفيق وتقرير.
{"ayahs_start":104,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَقُولُوا۟ رَ ٰعِنَا وَقُولُوا۟ ٱنظُرۡنَا وَٱسۡمَعُوا۟ۗ وَلِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابٌ أَلِیمࣱ","مَّا یَوَدُّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَلَا ٱلۡمُشۡرِكِینَ أَن یُنَزَّلَ عَلَیۡكُم مِّنۡ خَیۡرࣲ مِّن رَّبِّكُمۡۚ وَٱللَّهُ یَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِیمِ","۞ مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَایَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَیۡرࣲ مِّنۡهَاۤ أَوۡ مِثۡلِهَاۤۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَقُولُوا۟ رَ ٰعِنَا وَقُولُوا۟ ٱنظُرۡنَا وَٱسۡمَعُوا۟ۗ وَلِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابٌ أَلِیمࣱ"}