الباحث القرآني

﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وقُولُوا انْظُرْنا واسْمَعُوا ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ ولا المُشْرِكِينَ أنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكم مِن خَيْرٍ مِن رَبِّكم واللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ [البقرة: ١٠٥] ﴿ما نَنْسَخْ مِن آيَةٍ أوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنها أوْ مِثْلِها ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ١٠٦] ﴿ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ وما لَكم مِن دُونِ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: ١٠٧] ﴿أمْ تُرِيدُونَ أنْ تَسْألُوا رَسُولَكم كَما سُئِلَ مُوسى مِن قَبْلُ ومَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ﴾ [البقرة: ١٠٨] ﴿ودَّ كَثِيرٌ مِن أهْلِ الكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكم مِن بَعْدِ إيمانِكم كُفّارًا حَسَدًا مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ فاعْفُوا واصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ١٠٩] ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ وما تُقَدِّمُوا لِأنْفُسِكم مِن خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة: ١١٠] ﴿وقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلّا مَن كانَ هُودًا أوْ نَصارى تِلْكَ أمانِيُّهم قُلْ هاتُوا بُرْهانَكم إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [البقرة: ١١١] ﴿بَلى مَن أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهو مُحْسِنٌ فَلَهُ أجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ١١٢] ﴿وقالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلى شَيْءٍ وهم يَتْلُونَ الكِتابَ كَذَلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهم يَوْمَ القِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [البقرة: ١١٣] . الرِّعايَةُ والمُراعاةُ: النَّظَرُ في مَصالِحِ الإنْسانِ وتَدْبِيرِ أُمُورِهِ. والرُّعُونَةُ والرَّعَنُ: الجَهْلُ والهَوَجُ. ذُو: يَكُونُ بِمَعْنى (p-٣٣٧)صاحِبٍ، وتُثَنّى، وتُجْمَعُ، وتُؤَنَّثُ، وتَلْزَمُ الإضافَةَ لِاسْمِ جِنْسٍ ظاهِرٍ. وفي إضافَتِها إلى ضَمِيرِ الجِنْسِ خِلافٌ، المَشْهُورُ: المَنعُ، ولا خِلافَ أنَّهُ مَسْمُوعٌ، لَكِنْ مَن مَنَعَ ذَلِكَ خَصَّهُ بِالضَّرُورَةِ. وإضافَتُهُ إلى العَلَمِ المَقْرُونِ بِهِ في الوَضْعِ، أوِ الَّذِي لا يُقْرَنُ بِهِ في أوَّلِ الوَضْعِ مَسْمُوعٌ. فَمِنَ الأوَّلِ قَوْلُهم: ذُو يَزَنَ، وذُو جَدَنٍ، وذُو رُعَيْنٍ، وذُو الكُلاعِ. فَتَجِبُ الإضافَةُ إذْ ذاكَ. ومِنَ الثّانِي قَوْلُهم: في تَبُوكَ، وعَمْرٍو، وقَطَرِيٍّ: ذُو تَبُوكَ، وذُو عَمْرٍو، وذُو قَطَرِيٍّ. والأكْثَرُ أنْ لا يُعْتَدَّ بِلَفْظِ ذُو، بَلْ يُنْطَقُ بِالِاسْمِ عارِيًا مِن ذُو. وما جاءَ مِن إضافَتِهِ لِضَمِيرِ العَلَمِ، أوْ لِضَمِيرِ مُخاطَبٍ لا يَنْقاسُ، كَقَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وعَلى ذَوِيِهِ، وقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎وإنّا لَنَرْجُو عاجِلًا مِنكَ مِثْلَ ما رَجَوْناهُ قُدْمًا مِن ذَوِيكَ الأفاضِلِ ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ: أنَّ وزْنَهُ فَعَلٌ، بِفَتْحِ العَيْنِ، ومَذْهَبُ الخَلِيلِ: أنَّ وزْنَهُ فَعْلٌ، بِسُكُونِها. واتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ يُجْمَعُ في التَّكْسِيرِ عَلى أفْعالٍ. قالُوا: أذْواءٌ. وذُو مِنَ الأسْماءِ السِّتَّةِ الَّتِي تَكُونُ في الرَّفْعِ بِالواوِ، وفي النَّصْبِ بِالألِفِ، وفي الجَرِّ بِالياءِ. وإعْرابُ ذُو كَذا لازِمٌ بِخِلافِ غَيْرِها مِن تِلْكَ الأسْماءِ، فَذَلِكَ عَلى جِهَةِ الجَوازِ. وفِيما أُعْرِبَتْ بِهِ هَذِهِ الأسْماءُ عَشَرَةُ مَذاهِبَ ذُكِرَتْ في النَّحْوِ، وقَدْ جاءَتْ ذُو أيْضًا مَوْصُولَةً، وذَلِكَ في لُغَةِ طَيِّءٍ، ولَها أحْكامٌ، ولَمْ تَقَعْ في القُرْآنِ. النَّسْخُ: إزالَةُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ بَدَلٍ يَعْقُبُهُ، نَحْوُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، ونَسَخَتِ الرِّيحُ الأثَرَ. أوْ نَقْلُ الشَّيْءِ مِن غَيْرِ إزالَةٍ نَحْوُ: نَسَخْتُ الكِتابَ، إذا نَقَلْتَ ما فِيهِ إلى مَكانٍ آخَرَ. النَّسِيئَةُ: التَّأْخِيرُ، نَسَأ يَنْسَأُ، ويَأْتِي نَسَأ: بِمَعْنى أمْضى الشَّيْءَ، قالَ الشّاعِرُ: ؎أمُونٍ كَألْواحِ الأرانِ نَسَأْتُها ∗∗∗ عَلى لاحِبٍ كَأنَّهُ ظَهْرُ بُرْجُدُ الوَلِيُّ: فَعِيلٌ لِلْمُبالَغَةِ، مِن ولِيَ الشَّيْءَ: جاوَرَهُ ولَصِقَ بِهِ. الحَسَدُ: تَمَنِّي زَوالِ النِّعْمَةِ عَنِ الإنْسانِ، حَسَدَ يَحْسُدُ حَسَدًا وحَسادَةً. الصَّفْحُ: قَرِيبٌ مَعْناهُ مِنَ العَفْوِ، وهو الإعْراضُ عَنِ المُؤاخَذَةِ عَلى الذَّنْبِ، مَأْخُوذٌ مِن تَوْلِيَةِ صَفْحَةِ الوَجْهِ إعْراضًا. وقِيلَ: هو التَّجاوُزُ مِن قَوْلِكَ، تَصَفَّحْتُ الوَرَقَةَ، أيْ تَجاوَزْتُ عَمّا فِيها. والصَّفُوحُ، قِيلَ: مِن أسْماءِ اللَّهِ، والصَّفُوحُ: المَرْأةُ تَسْتُرُ بَعْضَ وجْهِها إعْراضًا، قالَ: ؎صَفُوحٌ فَما تَلْقاكَ إلّا بَخِيلَةً ∗∗∗ فَمَن مَلَّ مِنها ذَلِكَ الوَصْلَ مَلَّتِ تِلْكَ: مِن أسْماءِ الإشارَةِ، يُطْلَقُ عَلى المُؤَنَّثَةِ في حالَةِ البُعْدِ، ويُقالُ: تَلْكَ وتِيلِكَ وتالِكَ، بِفَتْحِ التّاءِ وسُكُونِ اللّامِ، وبِكَسْرِها وياءٍ بَعْدَها وكَسْرِ اللّامِ، وبِفَتْحِها وألِفٍ بَعْدَها وكَسْرِ اللّامِ، قالَ: ؎إلى الجُودِيِّ حَتّى صارَ حِجْرًا ∗∗∗ وحانَ لِتالِكَ الغَمْرِ انْحِسارُ هاتُوا: مَعْناهُ أحْضِرُوا، والهاءُ أصْلِيَّةٌ لا بَدَلٌ مِن هَمْزَةِ أتى لِتَعَدِّيَها إلى واحِدٍ لا يُحْفَظُ هاتِي الجَوابَ، ولِلُزُومِ الألِفِ، إذْ لَوْ كانَتْ هَمْزَةً لَظَهَرَتْ، إذْ زالَ مُوجِبُ إبْدالِها، وهو الهَمْزَةُ قَبْلَها، فَلَيْسَ وزْنُها أفْعَلَ، خِلافًا لِمَن زَعَمَ ذَلِكَ، بَلْ وزْنُها فاعِلٌ كَرامٍ. وهي فِعْلٌ، خِلافًا لِمَن زَعَمَ أنَّها اسْمُ فِعْلٍ، والدَّلِيلُ عَلى فِعْلِيَّتِها اتِّصالُ الضَّمائِرِ بِها. ولِمَن زَعَمَ أنَّها صَوْتٌ بِمَنزِلَةِ هاءٍ في مَعْنى أحْضِرْ، وهو الزَّمَخْشَرِيُّ، وهو أمْرٌ وفِعْلُهُ مُتَصَرِّفٌ. تَقُولُ: هاتى يُهاتِي مُهاتاةً، ولَيْسَ مِنَ الأفْعالِ الَّتِي أُمِيتَ تَصْرِيفُ لَفْظِهِ إلّا الأمْرُ مِنهُ، خِلافًا لِمَن زَعَمَ ذَلِكَ. ولَيْسَتْ ها لِلتَّنْبِيهِ دَخَلَتْ عَلى أتى فَأُلْزِمَتْ هَمْزَةُ أتى الحَذْفَ؛ لِأنَّ الأصْلَ أنْ لا حَذْفَ، ولِأنَّ مَعْنى هاتِ ومَعْنى ائْتِ مُخْتَلِفانِ. فَمَعْنى هاتِ أحْضِرْ، ومَعْنى ائْتِ احْضُرْ. وتَقُولُ: هاتِ هاتِي هاتِيا هاتُوا هاتِينَ، تَصْرِفُها كَرامٍ. البُرْهانُ: الدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ الدَّعْوى، قِيلَ: هو مَأْخُوذٌ مِنَ البَرَهِ، وهو القَطْعُ، فَتَكُونُ النُّونُ زائِدَةً. وقِيلَ: مِنَ البَرْهَنَةِ، وهي البَيانُ، قالُوا: بَرْهَنَ إذا بَيَّنَ، فَتَكُونُ النُّونُ زائِدَةً لِفِقْدانِ فَعْلَنَ ووُجُودِ فَعْلَلَ، فَيَنْبَنِي عَلى هَذا الِاشْتِقاقِ التَّسْمِيَةُ بِبُرْهانٍ، هَلْ يَنْصَرِفُ أوْ (p-٣٣٨)لا يَنْصَرِفُ ؟ الوَجْهُ: مَعْرُوفٌ، ويُجْمَعُ قِلَّةً عَلى أوْجُهٍ، وكَثْرَةً عَلى وُجُوهٍ، فَيَنْقاسُ أفْعُلٌ في فِعْلِ الِاسْمِ الصَّحِيحِ العَيْنِ، ويَنْقاسُ فُعُولٌ في فِعْلِ الِاسْمِ لَيْسَ عَيْنُهُ واوًا. اليَهُودُ: مِلَّةٌ مَعْرُوفَةٌ، والياءُ أصْلِيَّةٌ، فَلَيْسَتْ مادَّةُ الكَلِمَةِ مادَّةَ هَوَدَ مِن قَوْلِهِ: ﴿هُودًا أوْ نَصارى﴾ [البقرة: ١١١] لِثُبُوتِها في التَّصْرِيفِ يَهْدِهِ. وأمّا هَوَّدَهُ فَمِن مادَّةِ هَوَدَ. قالَ الأُسْتاذُ أبُو عَلِيٍّ الشَّلَوْبِينُ - وهو الإمامُ الَّذِي انْتَهى إلَيْهِ عِلْمُ اللِّسانِ في زَمانِهِ -: يَهُودُ فِيها وجْهانِ، أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ جَمْعَ يَهُودِيٍّ، فَتَكُونَ نَكِرَةً مَصْرُوفَةً. والثّانِي: أنْ تَكُونَ عَلَمًا لِهَذِهِ القَبِيلَةِ، فَتَكُونَ مَمْنُوعَةَ الصَّرْفِ. انْتَهى كَلامُهُ. وعَلى الوَجْهِ الأوَّلِ دَخَلَتْهُ الألِفُ واللّامُ فَقالُوا: اليَهُودُ، إذْ لَوْ كانَ عَلَمًا لَما دَخَلَتْهُ، وعَلى الثّانِي قالَ الشّاعِرُ: ؎أُولَئِكَ أوْلى مِن يَهُودَ بِمِدْحَةٍ ∗∗∗ إذا أنْتَ يَوْمًا قُلْتَها لَمْ تُؤَنَّبِ لَيْسَ: فِعْلٌ ماضٍ، خِلافًا لِأبِي بَكْرِ بْنِ شُقَيْرٍ، ولِلْفارِسِيِّ في أحَدِ قَوْلَيْهِ، إذْ زَعَما أنَّها حَرْفُ نَفْيٍ مِثْلُ ما، ووَزْنُها فَعِلَ بِكَسْرِ العَيْنِ. ومَن قالَ: لُسْتُ بِضَمِّ اللّامِ، فَوَزْنُها عِنْدَهُ فُعُلٌ بِضَمِّ العَيْنِ، وهو بِناءٌ نادِرٌ في الثُّلاثِيِّ اليائِيِّ العَيْنِ، لَمْ يُسْمَعْ مِنهُ إلّا قَوْلَهم: هَيُؤَ الرَّجُلُ، فَهو هَيِّئٌ، إذا حَسُنَتْ هَيْئَتُهُ. وأحْكامُ لَيْسَ كَثِيرَةٌ مَشْرُوحَةٌ في كُتُبِ النَّحْوِ. الحُكْمُ: الفَصْلُ، ومِنهُ سُمِّيَ القاضِي الحاكِمَ؛ لِأنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ الخَصْمَيْنِ. الِاخْتِلافُ: ضِدُّ الِاتِّفاقِ. * * * ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾: هَذا أوَّلُ خِطابٍ خُوطِبَ بِهِ المُؤْمِنُونَ في هَذِهِ السُّورَةِ، بِالنِّداءِ الدّالِّ عَلى الإقْبالِ عَلَيْهِمْ، وذَلِكَ أنَّ أوَّلَ نِداءٍ جاءَ أتى عامًّا: ﴿ياأيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١]، وثانِيَ نِداءٍ أتى خاصًّا: ﴿يابَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا﴾ [البقرة: ١٢٢]، وهي الطّائِفَةُ العَظِيمَةُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلى المِلَّتَيْنِ: اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ، وثالِثَ نِداءٍ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ المُؤْمِنِينَ. فَكانَ أوَّلُ نِداءٍ عامًّا، أُمِرُوا فِيهِ بِأصْلِ الإسْلامِ، وهو عِبادَةُ اللَّهِ. وثانِيَ نِداءٍ ذُكِّرُوا فِيهِ بِالنِّعَمِ الجَزِيلَةِ، وتُعُبِّدُوا بِالتَّكالِيفِ الجَلِيلَةِ، وخُوِّفُوا مِن حُلُولِ النِّقَمِ الوَبِيلَةِ، وثالِثَ نِداءٍ: عُلِّمُوا فِيهِ أدَبًا مِن آدابِ الشَّرِيعَةِ مَعَ نَبِيِّهِمْ، إذْ قَدْ حَصَلَتْ لَهم عِبادَةُ اللَّهِ، والتَّذْكِيرُ بِالنِّعَمِ، والتَّخْوِيفُ مِنَ النِّقَمِ، والِاتِّعاظُ بِمَن سَبَقَ مِنَ الأُمَمِ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا ما أُمِرُوا بِهِ عَلى سَبِيلِ التَّكْمِيلِ، مِن تَعْظِيمِ مَن كانَتْ هِدايَتُهم عَلى يَدَيْهِ. والتَّبْجِيلُ والخِطابُ بِيا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا مُتَوَجِّهٌ إلى مَن بِالمَدِينَةِ مِنَ المُؤْمِنِينَ، قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إلى كُلِّ مُؤْمِنٍ في عَصْرِهِ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهُ حَيْثُ جاءَ هَذا الخِطابُ، فالمُرادُ بِهِ أهْلُ المَدِينَةِ، وحَيْثُ ورَدَ يا أيُّها النّاسُ، فالمُرادُ أهْلُ مَكَّةَ. ﴿لا تَقُولُوا راعِنا وقُولُوا انْظُرْنا﴾: بُدِئَ بِالنَّهْيِ؛ لِأنَّهُ مِن بابِ التُّرُوكِ، فَهو أسْهَلُ. ثُمَّ أُتِيَ بِالأمْرِ بَعْدَهُ الَّذِي هو أشَقُّ لِحُصُولِ الِاسْتِئْناسِ قَبْلَ النَّهْيِ. ثُمَّ لَمْ يَكُنْ نَهْيًا عَنْ شَيْءٍ سَبَقَ تَحْرِيمُهُ، ولَكِنْ لَمّا كانَتْ لَفْظَةُ المُفاعَلَةِ تَقْتَضِي الِاشْتِراكَ غالِبًا، فَصارَ المَعْنى: لِيَقَعْ مِنكَ رَعْيٌ لَنا ومِنّا رَعْيٌ لَكَ، وهَذا فِيهِ ما لا يَخْفى مَعَ مَن يُعَظَّمُ نُهُوا عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ لِهَذِهِ العِلَّةِ، وأُمِرُوا بِأنْ يَقُولُوا: انْظُرْنا، إذْ هو فِعْلٌ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ لا مُشارَكَةَ لَهم فِيهِ مَعَهُ. وقِراءَةُ الجُمْهُورِ: (راعِنا) . وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وقِراءَتِهِ، وقِراءَةِ أُبَيٍّ: راعُونا، عَلى إسْنادِ الفِعْلِ لِضَمِيرِ الجَمْعِ. وذُكِرَ أيْضًا أنَّ في مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: ارْعَوْنا. خاطَبُوهُ بِذَلِكَ إكْبارًا وتَعْظِيمًا، إذْ أقامُوهُ مُقامَ الجَمْعِ. وتَضَمَّنَ هَذا النَّهْيُ النَّهْيَ عَنْ كُلِّ ما يَكُونُ فِيهِ اسْتِواءٌ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وقَرَأ الحَسَنُ، وابْنُ أبِي لَيْلى، وأبُو حَيْوَةَ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ: راعِنًا بِالتَّنْوِينِ، جَعَلَهُ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ قَوْلًا راعِنًا، وهو عَلى طَرِيقِ النَّسَبِ كَلابِنٍ وتامِرٍ. لَمّا كانَ القَوْلُ سَبَبًا في السَّبِّ، اتَّصَفَ بِالرَّعْنِ، فَنُهُوا في هَذِهِ القِراءَةِ عَنْ أنْ يُخاطِبُوا الرَّسُولَ بِلَفْظٍ يَكُونُ فِيهِ أوْ يُوهِمُ شَيْئًا مِنَ الغَضِّ مِمّا يَسْتَحِقُّهُ ﷺ مِنَ التَّعْظِيمِ وتَلْطِيفِ القَوْلِ وأدَبِهِ. وقَدْ ذُكِرَ أنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ «أنَّ اليَهُودَ كانَتْ تَقْصِدُ بِذَلِكَ - إذْ خاطَبُوا رَسُولَ اللَّهِ (p-٣٣٩)ﷺ - الرُّعُونَةَ»، وكَذا قِيلَ في راعُونًا، إنَّهُ فاعُولًا مِنَ الرُّعُونَةِ، كَعاشُورًا. وقِيلَ: كانَتْ لِلْيَهُودِ كَلِمَةٌ عِبْرانِيَّةٌ، أوْ سِرْيانِيَّةٌ يَتَسابُّونَ بِها وهي: راعِينا، فَلَمّا سَمِعُوا بِقَوْلِ المُؤْمِنِينَ راعِنا، اقْتَرَضُوهُ وخاطَبُوا بِها رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وهم يَعْنُونَ تِلْكَ المَسَبَّةَ، فَنُهِيَ المُؤْمِنُونَ عَنْها، وأُمِرُوا بِما هو في مَعْناها. ومَن زَعَمَ أنْ ﴿راعِنا﴾ لُغَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِالأنْصارِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مَحْفُوظٌ في جَمِيعِ لُغَةِ العَرَبِ. وكَذَلِكَ قَوْلُ مَن قالَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ ناسِخَةٌ لِفِعْلٍ قَدْ كانَ مُباحًا؛ لِأنَّ الأوَّلَ لَمْ يَكُنْ شَرْعًا مُتَقَرَّرًا قَبْلُ. وقِيلَ في سَبَبِ نُزُولِها غَيْرُ ذَلِكَ. وبِالجُمْلَةِ، فَهي كَما قالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: كَلِمَةٌ كَرِهَها اللَّهُ أنْ يُخاطَبَ بِها نَبِيُّهُ، كَما قالَ ﷺ: «لا تَقُولُوا عَبْدِي وأمَتِي، وقُولُوا فَتايَ وفَتاتِي، ولا تُسَمُّوا العِنَبَ الكَرْمَ» . وذُكِرَ في النَّهْيِ وُجُوهٌ: أنَّ مَعْناها اسْمَعْ لا سَمِعْتَ، أوْ أنَّ أهْلَ الحِجازِ كانُوا يَقُولُونَها عِنْدَ المَفَرِّ، قالَهُ قُطْرُبٌ، أوْ أنَّ اليَهُودَ كانُوا يَقُولُونَ: راعِينا أيْ راعِي غَنَمِنا، أوْ أنَّهُ مُفاعَلَةٌ فَيُوهِمُ مُساواةً، أوْ مَعْناهُ راعِ كَلامَنا ولا تَغْفُلْ عَنْهُ، أوْ لِأنَّهُ يُتَوَهَّمُ أنَّهُ مِنَ الرُّعُونَةِ. وقَوْلُهُ: انْظُرْنا، قِراءَةُ الجُمْهُورِ، مَوْصُولُ الهَمْزَةِ، مَضْمُومُ الظّاءِ، مِنَ النَّظْرَةِ، وهي التَّأْخِيرُ، أيِ انْتَظِرْنا وتَأنَّ عَلَيْنا، نَحْوُ قَوْلِهِ: ؎فَإنَّكُما إنْ تُنْظِرانِيَ ساعَةً مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعْنِي لَدى أُمِّ جُنْدَبِ أوْ مِنَ النَّظَرِ، واتُّسِعَ في الفِعْلِ فَعُدِّيَ بِنَفْسِهِ، وأصْلُهُ أنْ يَتَعَدّى بِإلى، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎ظاهِراتُ الجَمالِ والحُسْنِ يَنْظُرْ ∗∗∗ نَ كَما يَنْظُرُ الأراكَ الظِّباءُ يُرِيدُ: إلى الأراكِ، ومَعْناهُ: تَفَقَّدْنا بِنَظَرِكَ. وقالَ مُجاهِدٌ: مَعْناهُ فَهِّمْنا وبَيِّنْ لَنا، فُسِّرَ بِاللّازِمِ في الأصْلِ، وهو انْظُرْ؛ لِأنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الرِّفْقِ والإمْهالِ عَلى السّائِلِ، والتَّأنِّي بِهِ أنْ يَفْهَمَ بِذَلِكَ. وقِيلَ: هو مِن نَظَرِ البَصِيرَةِ بِالتَّفَكُّرِ والتَّدَبُّرِ فِيما يَصْلُحُ لِلْمَنظُورِ فِيهِ، فاتُّسِعَ في الفِعْلِ أيْضًا، إذْ أصْلُهُ أنْ يَتَعَدّى بِفي، ويَكُونَ أيْضًا عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيِ انْظُرْ في أمْرِنا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذِهِ لَفْظَةٌ مُخْلَصَةٌ لِتَعْظِيمِ النَّبِيِّ ﷺ والظّاهِرُ عِنْدِي اسْتِدْعاءُ نَظَرِ العَيْنِ المُقْتَرِنِ بِتَدَبُّرِ الحالِ، وهَذا هو مَعْنى: راعِنا، فَبُدِّلَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ اللَّفْظَةُ، لِيَزُولَ تَعَلُّقُ اليَهُودِ. انْتَهى. وقَرَأ أُبَيٌّ والأعْمَشُ: أنْظِرْنا، بِقَطْعِ الهَمْزَةِ وكَسْرِ الظّاءِ، مِنَ الإنْظارِ، ومَعْناهُ: أخِّرْنا وأمْهِلْنا حَتّى نَتَلَقّى عَنْكَ. وهَذِهِ القِراءَةُ تَشْهَدُ لِلْقَوْلِ الأوَّلِ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ. ﴿واسْمَعُوا﴾: أيْ سَماعَ قَبُولٍ وطاعَةٍ. وقِيلَ: مَعْناهُ اقْبَلُوا. وقِيلَ: فَرِّغُوا أسْماعَكم حَتّى لا تَحْتاجُوا إلى الِاسْتِعادَةِ. وقِيلَ: اسْمَعُوا ما أُمِرْتُمْ بِهِ حَتّى لا تَرْجِعُوا تَعُودُونَ إلَيْهِ. أكَّدَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ تِلْكَ الكَلِمَةِ. ورُوِيَ أنَّ سَعْدَ بْنَ مُعاذٍ سَمِعَها مِنهم فَقالَ: يا أعْداءَ اللَّهِ، عَلَيْكم لَعْنَةُ اللَّهِ، فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ سَمِعْتُها مِن رَجُلٍ مِنكم يَقُولُها لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَأضْرِبَنَّ عُنُقَهُ. ﴿ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ ألِيمٌ﴾: ظاهِرُهُ العُمُومُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ اليَهُودُ. وقِيلَ: المُرادُ بِهِ اليَهُودُ، أيْ ولِلْيَهُودِ الَّذِينَ تَهاوَنُوا بِالرَّسُولِ وسَبُّوهُ. ولَمّا نَهى أوَّلًا، وأمَرَ ثانِيًا، وأمَرَ بِالسَّمْعِ وحَضَّ عَلَيْهِ، إذْ في ضِمْنِهِ الطّاعَةُ، أخَذَ يَذْكُرُ لِمَن خالَفَ أمْرَهُ وكَفَرَ، ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهم فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ [النور: ٦٣] . ﴿ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ ولا المُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: ١٠٥]: ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ أنَّ المُسْلِمِينَ قالُوا لِحُلَفائِهِمْ مِنَ اليَهُودِ: آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ فَقالُوا: ودِدْنا لَوْ كانَ خَيْرًا مِمّا نَحْنُ عَلَيْهِ فَنَتَّبِعَهُ، فَأكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ١٠٥]، فَعَلى هَذا يَكُونُ المُرادُ بِأهْلِ الكِتابِ: الَّذِينَ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ والظّاهِرُ، العُمُومُ في أهْلِ الكِتابِ، وهُمُ اليَهُودُ والنَّصارى، وفي المُشْرِكِينَ، وهم مُشْرِكُو العَرَبِ وغَيْرِهِمْ، ونَفى بِما، لِأنَّها لِنَفْيِ الحالِ، فَهم مُلْتَبِسُونَ بِالبُغْضِ والكَراهَةِ أنْ يَنْزِلَ عَلَيْكم. ومِن في قَوْلِهِ: مِن أهْلِ الكِتابِ، تَبْعِيضِيَّةٌ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، أيْ كائِنَيْنِ مِن أهْلِ الكِتابِ. ومَن أثْبَتَ (p-٣٤٠)أنَّ مِن تَكُونُ لِبَيانِ الجِنْسِ قالَ ذَلِكَ هُنا، وبِهِ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وأصْحابُنا لا يُثْبِتُونَ كَوْنَها لِلْبَيانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب