الباحث القرآني
قَوْلُهُ: راعِنا أيْ راقِبْنا واحْفَظْنا، وصِيغَةُ المُفاعَلَةِ تَدُلُّ عَلى أنَّ مَعْنى: راعِنا ارْعَنا ونَرْعاكَ واحْفَظْنا ونَحْفَظُكَ وارْقُبْنا ونَرْقُبُكَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن أرْعِنا سَمْعَكَ، أيْ فَرِّغْهُ لِكَلامِنا، ووَجْهُ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أنَّ هَذا اللَّفْظَ كانَ بِلِسانِ اليَهُودِ سَبًّا، قِيلَ: إنَّهُ في لُغَتِهِمْ بِمَعْنى اسْمَعْ لا سَمِعْتَ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، فَلَمّا سَمِعُوا المُسْلِمِينَ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: راعِنا، طَلَبًا مِنهُ أنْ يُراعِيَهم مِنَ المُراعاةِ، اغْتَنَمُوا الفُرْصَةَ، وكانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ ﷺ كَذَلِكَ مُظْهِرِينَ أنَّهم يُرِيدُونَ المَعْنى العَرَبِيَّ، مُبْطِنِينَ أنَّهم يَقْصِدُونَ السَّبَّ الَّذِي هو مَعْنى هَذا اللَّفْظِ في لُغَتِهِمْ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ يَنْبَغِي تَجَنُّبُ الألْفاظِ المُحْتَمِلَةِ لِلسَّبِّ والنَّقْصِ وإنْ لَمْ يَقْصِدِ المُتَكَلِّمُ بِها ذَلِكَ المَعْنى المُفِيدَ لِلشَّتْمِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ ودَفْعًا لِلْوَسِيلَةِ وقَطْعًا لِمادَّةِ المَفْسَدَةِ والتَّطَرُّقِ إلَيْهِ، ثُمَّ أمَرَهُمُ اللَّهُ بِأنْ يُخاطِبُوا النَّبِيَّ ﷺ بِما لا يَحْتَمِلُ النَّقْصَ ولا يَصْلُحُ لِلتَّعْرِيضِ فَقالَ: ﴿وقُولُوا انْظُرْنا﴾ أيْ أقْبِلْ عَلَيْنا وانْظُرْ إلَيْنا، فَهو مِن بابِ الحَذْفِ والإيصالِ، كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎ظاهِراتُ الجَمالِ والحُسْنِ يَنْظُرْ نَ كَما يَنْظُرُ الأراكَ الظِّباءُ
(p-٨٣)أيْ إلى الأراكِ وقِيلَ: مَعْناهُ انْتَظِرْنا وتَأنَّ بِنا، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎فَإنَّكُما إنْ تُنْظِرانِي ساعَةً ∗∗∗ مِنَ الدَّهْرِ تَنْفَعُنِي لَدى أُمِّ جُنْدَبِ
وقَرَأ الأعْمَشُ: " أنْظِرْنا " بِقَطْعِ الهَمْزَةِ وكَسْرِ الظّاءِ بِمَعْنى أخِّرْنا وأمْهِلْنا حَتّى نَفْهَمَ عَنْكَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎أبا هِنْدٍ فَلا تَعْجَلْ عَلَيْنا ∗∗∗ وأنْظِرْنا نُخَبِّرْكَ اليَقِينا
وقَرَأ الحَسَنُ: " راعِنًا " بِالتَّنْوِينِ، وقالَ: الرّاعِنُ مِنَ القَوْلِ السُّخْرِيُّ مِنهُ. انْتَهى.
وأمَرَهم بَعْدَ هَذا النَّهْيِ والأمْرِ بِأمْرٍ آخَرَ وهو قَوْلُهُ: واسْمَعُوا أيِ اسْمَعُوا ما أُمِرْتُمْ بِهِ ونُهِيتُمْ عَنْهُ، ومَعْناهُ: أطِيعُوا اللَّهَ في تَرْكِ خِطابِ النَّبِيِّ ﷺ بِذَلِكَ اللَّفْظِ وخاطِبُوهُ بِما أُمِرْتُمْ بِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: اسْمَعُوا ما يُخاطِبُكم بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الشَّرْعِ حَتّى يَحْصُلَ لَكُمُ المَطْلُوبُ بِدُونِ طَلَبٍ لِلْمُراعاةِ، ثُمَّ تَوَعَّداليَهُودَ بِقَوْلِهِ: ﴿ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ وعِيدًا شامِلًا لِجِنْسِ الكَفَرَةِ.
قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: والصَّوابُ مِنَ القَوْلِ عِنْدَنا في ذَلِكَ أنَّ اللَّهَ نَهى المُؤْمِنِينَ أنْ يَقُولُوا لِنَبِيِّهِ ﷺ: راعِنا لِأنَّها كَلِمَةٌ كَرِهَها اللَّهُ أنْ يَقُولُوها لِنَبِيِّهِ ﷺ، نَظِيرَ الَّذِي ذُكِرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «لا تَقُولُوا لِلْعِنَبِ الكَرْمَ ولَكِنْ قُولُوا الحُبْلَةَ، ولا تَقُولُوا عَبْدِي ولَكِنْ قُولُوا فَتايَ» وما أشْبَهَ ذَلِكَ.
وقَوْلُهُ: ﴿ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ﴾ الآيَةَ، فِيهِ بَيانُ شِدَّةِ عَداوَةِ الكُفّارِ لِلْمُسْلِمِينَ حَيْثُ لا يَوَدُّونَ إنْزالَ الخَيْرِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ، ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحانَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقالَ: ﴿واللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشاءُ﴾ الآيَةَ.
وقَوْلُهُ: أنْ يُنَزِّلَ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى المَفْعُولِيَّةِ، و" مِن " في قَوْلِهِ: مِن خَيْرٍ زائِدَةٌ، قالَهُ النَّحّاسُ، وفي الكَشّافِ أنَّ " مِن " في قَوْلِهِ: مِن أهْلِ الكِتابِ بَيانِيَّةٌ، وفي قَوْلِهِ: مِن خَيْرٍ مَزِيدَةٌ لِاسْتِغْراقِ الخَيْرِ، وفي قَوْلِهِ: مِن رَبِّكم لِابْتِداءِ الغايَةِ، وقَدْ قِيلَ بِأنَّ الخَيْرَ الوَحْيُ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، والظّاهِرُ أنَّهم لا يَوَدُّونَ أنْ يُنَزَّلَ عَلى المُسْلِمِينَ أيُّ خَيْرٍ كانَ، فَهو لا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ كَما يُفِيدُهُ وُقُوعُ هَذِهِ النَّكِرَةِ في سِياقِ النَّفْيِ وتَأْكِيدُ العُمُومِ بِدُخُولِ " مِن " المَزِيدَةِ عَلَيْها، وإنْ كانَ بَعْضُ أنْواعِ الخَيْرِ أعْظَمَ مِن بَعْضٍ فَذَلِكَ لا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ.
والرَّحْمَةُ قِيلَ: هي القُرْآنُ، وقِيلَ: النُّبُوَّةُ، وقِيلَ: جِنْسُ الرَّحْمَةِ مِن غَيْرِ تَعْيِينٍ كَما يُفِيدُ ذَلِكَ الإضافَةُ إلى ضَمِيرِهِ تَعالى: ﴿واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ أيْ صاحِبُ الفَضْلِ العَظِيمِ فَكَيْفَ لا تَوَدُّونَ أنْ يَخْتَصَّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ.
وقَدْ أخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ في سُنَنِهِ وأحْمَدُ في الزُّهْدِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أنَّ رَجُلًا أتاهُ فَقالَ: اعْهَدْ إلَيَّ. فَقالَ: إذا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فَأرْعِها سَمْعَكَ، فَإنَّهُ خَيْرٌ يَأْمُرُ بِهِ أوْ شَرٌّ يَنْهى عَنْهُ.
وأخْرَجَ أبُو نُعَيْمٍ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: راعِنا بِلِسانِ اليَهُودِ: السَّبُّ القَبِيحُ، وكانَ اليَهُودُ يَقُولُونَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ سِرًّا، فَلَمّا سَمِعُوا أصْحابَهُ يَقُولُونَ ذَلِكَ أعْلَنُوا عَنْها، فَكانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ ويَضْحَكُونَ فِيما بَيْنَهم، فَأنْزَلَ اللَّهُ الآيَةَ.
وأخْرَجَ أبُو نُعَيْمٍ في الدَّلائِلِ عَنْهُ - أنَّهُ قالَ المُؤْمِنُونَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: مَن سَمِعْتُمُوهُ يَقُولُها فاضْرِبُوا عُنُقَهُ، فانْتَهَتِ اليَهُودُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ قالَ: كانَ رَجُلانِ مِنَ اليَهُودِ: مالِكُ بْنُ الصَّيْفِ ورِفاعَةُ بْنُ زَيْدٍ إذا لَقِيا النَّبِيَّ ﷺ قالا لَهُ وهُما يُكَلِّمانِهِ: راعِنا سَمْعَكَ واسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، فَظَنَّ المُسْلِمُونَ أنَّ هَذا شَيْءٌ كانَ أهْلُ الكِتابِ يُعَظِّمُونَ بِهِ أنْبِياءَهم، فَقالُوهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَأنْزَلَ اللَّهُ الآيَةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ «عَنْ أبِي صَخْرٍ قالَ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذا أدْبَرَ ناداهُ مَن كانَتْ لَهُ حاجَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَقالُوا: أرْعِنا سَمْعَكَ، فَأعْظَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ أنْ يُقالَ لَهُ ذَلِكَ، وأمَرَهم أنْ يَقُولُوا: انْظُرْنا لِيُعَزِّرُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ويُوَقِّرُوهُ» .
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وأبُو نُعَيْمٍ عَنْ قَتادَةَ: أنَّ اليَهُودَ كانَتْ تَقُولُ ذَلِكَ اسْتِهْزاءً، فَكَرِهَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أنْ يَقُولُوا كَقَوْلِهِمْ، وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: الرَّحْمَةُ القُرْآنُ والإسْلامُ.
{"ayahs_start":104,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَقُولُوا۟ رَ ٰعِنَا وَقُولُوا۟ ٱنظُرۡنَا وَٱسۡمَعُوا۟ۗ وَلِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابٌ أَلِیمࣱ","مَّا یَوَدُّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَلَا ٱلۡمُشۡرِكِینَ أَن یُنَزَّلَ عَلَیۡكُم مِّنۡ خَیۡرࣲ مِّن رَّبِّكُمۡۚ وَٱللَّهُ یَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِیمِ"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَقُولُوا۟ رَ ٰعِنَا وَقُولُوا۟ ٱنظُرۡنَا وَٱسۡمَعُوا۟ۗ وَلِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابٌ أَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق