﴿وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦۤ أَتَأۡتُونَ ٱلۡفَـٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنۡ أَحَدࣲ مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الأعراف ٨٠]
* [فَصْلٌ: عُقُوبَةُ اللِّواطِ]
وَلَمّا كانَتْ مَفْسَدَةُ اللِّواطِ مِن أعْظَمِ المَفاسِدِ؛ كانَتْ عُقُوبَتُهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ مِن أعْظَمِ العُقُوباتِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النّاسُ: هَلْ هو أغْلَظُ عُقُوبَةً مِنَ الزِّنا، أوِ الزِّنا أغْلَظُ عُقُوبَةً مِنهُ، أوْ عُقُوبَتُهُما سَواءٌ؟ عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ:
فَذَهَبَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وخالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبّاسٍ، وخالِدُ بْنُ زَيْدٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ، والزُّهْرِيُّ، ورَبِيعَةُ بْنُ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ومالِكٌ، وإسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ، والإمامُ أحْمَدُ - في أصَحِّ الرِّوايَتَيْنِ عَنْهُ - والشّافِعِيُّ - في أحَدِ قَوْلَيْهِ - إلى أنَّ عُقُوبَتَهُ أغْلَظُ مِن عُقُوبَةِ الزِّنا، وعُقُوبَتُهُ القَتْلُ عَلى كُلِّ حالٍ، مُحْصَنًا كانَ أوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ.
وَذَهَبَ عَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ، والحَسَنُ البَصْرِيُّ، وسَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، وإبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ، وقَتادَةُ، والأوْزاعِيُّ، والشّافِعِيُّ - في ظاهِرِ مَذْهَبِهِ -، والإمامُ أحْمَدُ - في الرِّوايَةِ الثّانِيَةِ عَنْهُ -، وأبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ: إلى أنَّ عُقُوبَتَهُ وعُقُوبَةَ الزّانِي سَواءٌ.
وَذَهَبَ الحاكِمُ وأبُو حَنِيفَةَ إلى أنَّ عُقُوبَتَهُ دُونَ عُقُوبَةِ الزّانِي، وهي التَّعْزِيرُ.
قالُوا: لِأنَّهُ مَعْصِيَةٌ مِنَ المَعاصِي لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ ولا رَسُولُهُ ﷺ فِيهِ حَدًّا مُقَدَّرًا، فَكانَ فِيهِ التَّعْزِيرُ، كَأكْلِ المَيْتَةِ والدَّمِ ولَحْمِ الخِنْزِيرِ.
قالُوا: ولِأنَّهُ وطْءٌ في مَحَلٍّ لا تَشْتَهِيهِ الطِّباعُ، بَلْ رَكَّبَها اللَّهُ تَعالى عَلى النَّفْرَةِ مِنهُ حَتّى الحَيَوانُ البَهِيمُ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدٌّ كَوَطْءِ الأتانِ وغَيْرِها.
قالُوا: ولِأنَّهُ لا يُسَمّى زانِيًا لُغَةً ولا شَرْعًا ولا عُرْفًا، فَلا يَدْخُلُ في النُّصُوصِ الدّالَّةِ عَلى حَدِّ الزّانِينَ.
قالُوا: وقَدْ رَأيْنا قَواعِدَ الشَّرِيعَةِ، أنَّ المَعْصِيَةَ إذا كانَ الوازِعُ عَنْها طَبِيعِيًّا اكْتُفِيَ بِذَلِكَ الوازِعِ مِنَ الحَدِّ، وإذا كانَ في الطِّباعِ تَقاضِيها، جُعِلَ في الحَدِّ بِحَسَبِ اقْتِضاءِ الطِّباعِ لَها، ولِهَذا جُعِلَ الحَدُّ في الزِّنا والسَّرِقَةِ وشُرْبِ المُسْكِرِ دُونَ أكْلِ المَيْتَةِ والدَّمِ ولَحْمِ الخِنْزِيرِ.
قالُوا: وطَرْدُ هَذا، أنَّهُ لا حَدَّ في وطْءِ البَهِيمَةِ ولا المَيِّتَةِ، وقَدْ جَبَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ الطِّباعَ عَلى النَّفْرَةِ مِن وطْءِ الرَّجُلِ رَجُلًا مِثْلَهُ أشَدَّ نَفْرَةٍ، كَما جَبَلَها عَلى النَّفْرَةِ مِنَ اسْتِدْعاءِ الرَّجُلِ مَن يَطَؤُهُ بِخِلافِ الزِّنا، فَإنَّ الدّاعِيَ فِيهِ مِنَ الجانِبَيْنِ.
قالُوا: ولِأنَّ أحَدَ النَّوْعَيْنِ إذا اسْتَمْتَعَ بِشَكْلِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الحَدُّ، كَما تَساحَقَتِ المَرْأتانِ واسْتَمْتَعَتْ كُلُّ واحِدَةٍ مِنهُما بِالأُخْرى.
قالَ أصْحابُ القَوْلِ الأوَّلِ: وهو جُمْهُورُ الأُمَّةِ، وحَكاهُ غَيْرُ واحِدٍ إجْماعًا لِلصَّحابَةِ، لَيْسَ في المَعاصِي أعْظَمُ مَفْسَدَةً مِن هَذِهِ المَفْسَدَةِ، وهي تَلِي مَفْسَدَةَ الكُفْرِ، ورُبَّما كانَتْ أعْظَمَ مِن مَفْسَدَةِ القَتْلِ، كَما سَنُبَيِّنُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
قالُوا: ولَمْ يَبْتَلِ اللَّهُ تَعالى بِهَذِهِ الكَبِيرَةِ قَبْلَ قَوْمِ لُوطٍ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ، وعاقَبَهم عُقُوبَةً لَمْ يُعاقِبْ بِها أحَدًا غَيْرَهُمْ، وجَمَعَ عَلَيْهِمْ مِن أنْواعِ العُقُوباتِ بَيْنَ الإهْلاكِ، وقَلْبِ دِيارِهِمْ عَلَيْهِمْ، والخَسْفِ بِهِمْ، ورَجْمِهِمْ بِالحِجارَةِ مِنَ السَّماءِ، فَنَكَّلَ بِهِمْ نَكالًا لَمْ يُنَكِّلْهُ أُمَّةً سِواهُمْ، وذَلِكَ لِعِظَمِ مَفْسَدَةِ هَذِهِ الجَرِيمَةِ الَّتِي تَكادُ الأرْضُ تَمِيدُ مِن جَوانِبِها إذا عُمِلَتْ عَلَيْها، وتَهْرُبُ المَلائِكَةُ إلى أقْطارِ السَّماواتِ والأرْضِ إذا شاهَدُوها، خَشْيَةَ نُزُولِ العَذابِ عَلى أهْلِها، فَيُصِيبُهم مَعَهُمْ، وتَعِجُّ الأرْضُ إلى رَبِّها تَبارَكَ وتَعالى، وتَكادُ الجِبالُ تَزُولُ عَنْ أماكِنِها، وقَتْلُ المَفْعُولِ بِهِ خَيْرٌ لَهُ مِن وطْئِهِ، فَإنَّهُ إذا وطِئَهُ قَتَلَهُ قَتْلًا لا تُرْجى الحَياةُ مَعَهُ بِخِلافِ قَتْلِهِ فَإنَّهُ مَظْلُومٌ شَهِيدٌ، ورُبَّما يَنْتَفِعُ بِهِ في آخِرَتِهِ.
قالُوا: والدَّلِيلُ عَلى هَذا: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ جَعَلَ حَدَّ القاتِلِ إلى خِيَرَةِ الوَلِيِّ، إنْ شاءَ قَتَلَ وإنْ شاءَ عَفا، وحَتَّمَ قَتْلَ اللُّوطِيِّ حَدًّا، كَما أجْمَعَ عَلَيْهِ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ودَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الصَّرِيحَةُ الَّتِي لا مُعارِضَ لَها، بَلْ عَلَيْها عَمَلُ أصْحابِهِ وخُلَفائِهِ الرّاشِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجْمَعِينَ -.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ خالِدِ بْنِ الوَلِيدِ: أنَّهُ وجَدَ في بَعْضِ ضَواحِي العَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَما تُنْكَحُ المَرْأةُ، فَكَتَبَ إلى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فاسْتَشارَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الصَّحابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - فَكانَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ أشَدَّهم قَوْلًا فِيهِ، فَقالَ: ما فَعَلَ هَذا إلّا أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ واحِدَةٌ، وقَدْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلَ اللَّهُ بِها، أرى أنْ يُحَرَّقَ بِالنّارِ، فَكَتَبَ أبُو بَكْرٍ إلى خالِدٍ فَحَرَّقَهُ.
وَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبّاسٍ: يُنْظَرُ أعْلى بِناءٍ في القَرْيَةِ، فَيُرْمى اللُّوطِيُّ مِنها مُنْكَبًّا، ثُمَّ يُتْبَعُ بِالحِجارَةِ.
وَأخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبّاسٍ هَذا الحَدَّ مِن عُقُوبَةِ اللَّهِ قَوْمَ لُوطٍ، وابْنُ عَبّاسٍ هو الَّذِي رَوى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ:
«مَن وجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فاقْتُلُوا الفاعِلَ والمَفْعُولَ بِهِ».
رَواهُ أهْلُ السُّنَنِ وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبّانَ وغَيْرُهُ، واحْتَجَّ الإمامُ أحْمَدُ بِهَذا الحَدِيثِ، وإسْنادُهُ عَلى شَرْطِ البُخارِيِّ.
قالُوا: وثَبَتَ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ:
«لَعَنَ اللَّهُ مَن عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، لَعَنَ اللَّهُ مَن عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، لَعَنَ اللَّهُ مَن عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ» ولَمْ يَجِئْ عَنْهُ لَعْنَةُ الزّانِي ثَلاثَ مَرّاتٍ في حَدِيثٍ واحِدٍ، وقَدْ لَعَنَ جَماعَةً مِن أهْلِ الكَبائِرِ، فَلَمْ يَتَجاوَزْ بِهِمْ في اللَّعْنِ مَرَّةً واحِدَةً، وكَرَّرَ لَعْنَ اللُّوطِيَّةِ، وأكَّدَهُ ثَلاثَ مَرّاتٍ، وأطْبَقَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلى قَتْلِهِ، لَمْ يَخْتَلِفْ مِنهم فِيهِ رَجُلانِ، وإنَّما اخْتَلَفَتْ أقْوالُهم في صِفَةِ قَتْلِهِ، فَظَنَّ النّاسُ أنَّ ذَلِكَ اخْتِلافًا مِنهم في قَتْلِهِ، فَحَكاها مَسْألَةَ نِزاعٍ بَيْنَ الصَّحابَةِ، وهي بَيْنَهم مَسْألَةُ إجْماعٍ لا مَسْألَةُ نِزاعٍ.
قالُوا: ومَن تَأمَّلَ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ:
﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنا إنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٣٢].
وَقَوْلَهُ في اللِّواطِ:
﴿أتَأْتُونَ الفاحِشَةَ ما سَبَقَكم بِها مِن أحَدٍ مِنَ العالَمِينَ﴾ [الأعراف: ٨٠].
تَبَيَّنَ لَهُ تَفاوُتُ ما بَيْنَهُما، وأنَّهُ سُبْحانَهُ نَكَّرَ الفاحِشَةَ في الزِّنا، أيْ هو فاحِشَةٌ مِنَ الفَواحِشِ، وعَرَّفَها في اللِّواطِ، وذَلِكَ يُفِيدُ أنَّهُ جامِعٌ لِمَعانِي اسْمِ الفاحِشَةِ، كَما تَقُولُ: زَيْدٌ الرَّجُلُ، ونِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، أيْ أتَأْتُونَ الخَصْلَةَ الَّتِي اسْتَقَرَّ فُحْشُها عِنْدَ كُلِّ أحَدٍ، فَهي لِظُهُورِ فُحْشِها وكَمالِهِ غَنِيَّةٌ عَنْ ذِكْرِها، بِحَيْثُ لا يَنْصَرِفُ الِاسْمُ إلى غَيْرِها، وهَذا نَظِيرُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ لِمُوسى:
﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ﴾ [الشعراء: ١٩].
أيِ الفَعْلَةَ الشَّنْعاءَ الظّاهِرَةَ المَعْلُومَةَ لِكُلِّ أحَدٍ.
ثُمَّ أكَّدَ سُبْحانَهُ شَأْنَ فُحْشِها بِأنَّها لَمْ يَعْمَلْها أحَدٌ مِنَ العالَمِينَ قَبْلَهُمْ، فَقالَ:
﴿ما سَبَقَكم بِها مِن أحَدٍ مِنَ العالَمِينَ﴾، ثُمَّ زادَ في التَّأْكِيدِ بِأنْ صَرَّحَ بِما تَشْمَئِزُّ مِنهُ القُلُوبُ، وتَنْبُو عَنْهُ الأسْماعُ، وتَنْفِرُ مِنهُ الطِّباعُ أشَدَّ نَفْرَةٍ، وهو إتْيانُ الرَّجُلِ رَجُلًا مِثْلَهُ يَنْكِحُهُ كَما يَنْكِحُ الأُنْثى، فَقالَ:
﴿إنَّكم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ﴾ [الأعراف: ٨١].
ثُمَّ نَبَّهَ عَلى اسْتِغْنائِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وأنَّ الحامِلَ لَهم عَلَيْهِ لَيْسَ إلّا مُجَرَّدَ الشَّهْوَةِ لا الحاجَةَ الَّتِي لِأجْلِها مالَ الذَّكَرُ إلى الأُنْثى، ومِن قَضاءِ الوَطَرِ ولَذَّةِ الِاسْتِمْتاعِ، وحُصُولِ المَوَدَّةِ والرَّحْمَةِ الَّتِي تَنْسى المَرْأةُ لَها أبَوَيْها، وتَذْكُرُ بَعْلَها، وحُصُولِ النَّسْلِ الَّذِي هو حِفْظُ هَذا النَّوْعِ الَّذِي هو أشْرَفُ المَخْلُوقاتِ، وتَحْصِينِ المَرْأةِ وقَضاءِ وطَرِها، وحُصُولِ عَلاقَةِ المُصاهَرَةِ الَّتِي هي أُخْتُ النَّسَبِ، وقِيامِ الرِّجالِ عَلى النِّساءِ، وخُرُوجِ أحَبِّ الخَلْقِ إلى اللَّهِ مِن جِماعِهِنَّ كالأنْبِياءِ والأوْلِياءِ والمُؤْمِنِينَ، ومُكاثَرَةِ النَّبِيِّ ﷺ الأنْبِياءَ بِأُمَّتِهِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن مَصالِحِ النِّكاحِ، والمَفْسَدَةُ الَّتِي في اللِّواطِ تُقاوِمُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وتُرْبِي عَلَيْهِ بِما لا يُمْكِنُ حَصْرُ فَسادِهِ، ولا يَعْلَمُ تَفْصِيلَهُ إلّا اللَّهُ.
ثُمَّ أكَّدَ قُبْحَ ذَلِكَ بِأنَّ اللُّوطِيَّةَ عَكَسُوا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْها الرِّجالَ، وقَلَبُوا الطَّبِيعَةَ الَّتِي رَكَّبَها اللَّهُ في الذُّكُورِ، وهي شَهْوَةُ النِّساءِ دُونَ الذُّكُورِ، فَقَلَبُوا الأمْرَ، وعَكَسُوا الفِطْرَةَ والطَّبِيعَةَ فَأتَوُا الرِّجالَ شَهْوَةً مِن دُونِ النِّساءِ، ولِهَذا قَلَبَ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَلَيْهِمْ دِيارَهُمْ، فَجَعَلَ عالِيَها سافِلَها، وكَذَلِكَ قُلِبُوا هُمْ، ونُكِّسُوا في العَذابِ عَلى رُؤُوسِهِمْ.
ثُمَّ أكَّدَ سُبْحانَهُ قُبْحَ ذَلِكَ بِأنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالإسْرافِ وهو مُجاوَزَةُ الحَدِّ، فَقالَ:
﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ [الأعراف: ٨١].
فَتَأمَّلْ هَلْ جاءَ مِثْلُ ذَلِكَ أوْ قَرِيبٌ مِنهُ في الزِّنا؟
وَأكَّدَ سُبْحانَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:
﴿وَنَجَّيْناهُ مِنَ القَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الخَبائِثَ﴾ [الأنبياء: ٧٤].
ثُمَّ أكَّدَ سُبْحانَهُ عَلَيْهِمُ الذَّمَّ بِوَصْفَيْنِ في غايَةِ القُبْحِ فَقالَ:
﴿إنَّهم كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٤].
وَسَمّاهم مُفْسِدِينَ في قَوْلِ نَبِيِّهِمْ:
﴿رَبِّ انْصُرْنِي عَلى القَوْمِ المُفْسِدِينَ﴾ [العنكبوت: ٣٠].
وَسَمّاهم ظالِمِينَ في قَوْلِ المَلائِكَةِ لِإبْراهِيمَ:
﴿إنّا مُهْلِكُو أهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ إنَّ أهْلَها كانُوا ظالِمِينَ﴾ [العنكبوت: ٣١].
فَتَأمَّلْ مَن عُوقِبَ بِمِثْلِ هَذِهِ العُقُوباتِ، ومَن ذَمَّهُ اللَّهُ بِمِثْلِ هَذِهِ المَذَمّاتِ، ولَمّا جادَلَ فِيهِمْ خَلِيلُهُ إبْراهِيمُ المَلائِكَةَ، وقَدْ أخْبَرُوهُ بِإهْلاكِهِمْ قِيلَ لَهُ:
﴿ياإبْراهِيمُ أعْرِضْ عَنْ هَذا إنَّهُ قَدْ جاءَ أمْرُ رَبِّكَ وإنَّهم آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ [هود: ٧٦].
وَتَأمَّلْ خُبْثَ اللُّوطِيَّةِ وفَرْطَ تَمَرُّدِهِمْ عَلى اللَّهِ حَيْثُ جاءُوا نَبِيَّهم لُوطًا لَمّا سَمِعُوا بِأنَّهُ قَدْ طَرَقَهُ أضْيافٌ هم مِن أحْسَنِ البَشَرِ صُوَرًا، فَأقْبَلَ اللُّوطِيَّةُ إلَيْهِمْ يُهَرْوِلُونَ، فَلَمّا رَآهم قالَ لَهُمْ:
﴿ياقَوْمِ هَؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أطْهَرُ لَكُمْ﴾ [هود: ٧٨].
فَفَدى أضْيافَهُ بِبَناتِهِ يُزَوِّجُهم بِهِمْ خَوْفًا عَلى نَفْسِهِ وأضْيافِهِ مِنَ العارِ الشَّدِيدِ، فَقالَ:
﴿ياقَوْمِ هَؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أطْهَرُ لَكم فاتَّقُوا اللَّهَ ولا تُخْزُونِي في ضَيْفِي ألَيْسَ مِنكم رَجُلٌ رَشِيدٌ﴾، فَرَدُّوا عَلَيْهِ، ولَكِنْ رَدَّ جَبّارٍ عَنِيدٍ:
﴿لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا في بَناتِكَ مِن حَقٍّ وإنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ﴾ [هود: ٧٩].
فَنَفَثَ نَبِيُّ اللَّهِ مِنهُ نَفْثَةَ مَصْدُورٍ خَرَجَتْ مِن قَلْبٍ مَكْرُوبٍ، فَقالَ:
﴿لَوْ أنَّ لِي بِكم قُوَّةً أوْ آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ فَنَفَّسَ لَهُ رُسُلُ اللَّهِ عَنْ حَقِيقَةِ الحالِ، وأعْلَمُوهُ أنَّهم مِمَّنْ لَيْسُوا يُوصَلُ إلَيْهِمْ، ولا إلَيْهِ بِسَبَبِهِمْ، فَلا تَخَفْ مِنهُمْ، ولا تَعْبَأْ بِهِمْ، وهَوِّنْ عَلَيْكَ، فَقالُوا:
﴿يالُوطُ إنّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ﴾ وبَشَّرُوهُ بِما جاءُوا بِهِ مِنَ الوَعْدِ لَهُ ولِقَوْمِهِ مِنَ الوَعِيدِ المُصِيبِ فَقالُوا:
﴿فَأسْرِ بِأهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ولا يَلْتَفِتْ مِنكم أحَدٌ إلّا امْرَأتَكَ إنَّهُ مُصِيبُها ما أصابَهم إنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ألَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾ [هود: ٨١].
فاسْتَبْطَأ نَبِيُّ اللَّهِ مَوْعِدَ هَلاكِهِمْ، وقالَ: أُرِيدُ أعْجَلَ مِن هَذا، فَقالَتِ المَلائِكَةُ:
﴿ألَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾ فَواللَّهِ ما كانَ بَيْنَ إهْلاكِ أعْداءِ اللَّهِ ونَجاةِ نَبِيِّهِ وأوْلِيائِهِ إلّا ما بَيْنَ السَّحَرِ وطُلُوعِ الفَجْرِ، وإذا بِدِيارِهِمْ قَدِ اقْتُلِعَتْ مِن أصْلِها، ورُفِعَتْ نَحْوَ السَّماءِ حَتّى سَمِعَتِ المَلائِكَةُ نُباحَ الكِلابِ ونَهِيقَ الحَمِيرِ، فَبَرَزَ المَرْسُومُ الَّذِي لا يُرَدُّ مِن عِنْدِ الرَّبِّ الجَلِيلِ، إلى عَبْدِهِ ورَسُولِهِ جِبْرائِيلَ، بِأنْ قَلَبَها عَلَيْهِمْ كَما أخْبَرَ بِهِ في مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ، فَقالَ عَزَّ مِن قائِلٍ:
﴿فَلَمّا جاءَ أمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وأمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِن سِجِّيلٍ مَنضُودٍ﴾ [هود: ٨٢]فَجَعَلَهم آيَةً لِلْعالَمِينَ ومَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ، ونَكالًا وسَلَفًا لِمَن شارَكَهم في أعْمالِهِمْ مِنَ المُجْرِمِينَ، وجَعَلَ دِيارَهم بِطَرِيقِ السّالِكِينَ،
﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ - وإنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ - إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر: ٧٥-٧٧].
أخَذَهم عَلى غِرَّةٍ وهم نائِمُونَ، وجاءَهم بَأْسُهُ وهم في سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ، فَما أغْنى عَنْهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ، فَقُلِبَتْ تِلْكَ اللَّذَّةُ آلامًا، فَأصْبَحُوا بِها يُعَذَّبُونَ.
مَآرِبُ كانَتْ في الحَياةِ لِأهْلِها ∗∗∗ عَذابًا فَصارَتْ في المَماتِ عَذابًا
ذَهَبَتِ اللَّذّاتُ وأعْقَبَتِ الحَسَراتِ، وانْقَضَتِ الشَّهَواتُ، وأوْرَثَتِ الشِّقْواتِ، وتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، وعُذِّبُوا طَوِيلًا، رَتَعُوا مَرْتَعًا وخِيمًا فَأعْقَبَهم عَذابًا ألِيمًا، أسْكَرَتْهم خَمْرَةُ تِلْكَ الشَّهَواتِ، فَما اسْتَفاقُوا مِنها إلّا في دِيارِ المُعَذَّبِينَ، وأرْقَدَتْهم تِلْكَ الغَفْلَةُ، فَما اسْتَيْقَظُوا مِنها إلّا وهم في مَنازِلِ الهالِكِينَ، فَنَدِمُوا واللَّهِ أشَدَّ النَّدامَةِ حِينَ لا يَنْفَعُ النَّدَمُ، وبَكَوْا عَلى ما أسْلَفُوهُ بَدَلَ الدُّمُوعِ بِالدَّمِ، فَلَوْ رَأيْتَ الأعْلى والأسْفَلَ مِن هَذِهِ الطّائِفَةِ، والنّارُ تَخْرُجُ مِن مَنافِذِ وُجُوهِهِمْ وأبْدانِهِمْ وهم بَيْنَ أطْباقِ الجَحِيمِ، وهم يَشْرَبُونَ بَدَلَ لَذِيذِ الشَّرابِ كُئُوسَ الحَمِيمِ، ويُقالُ لَهم وهم عَلى وُجُوهِهِمْ يُسْحَبُونَ:
﴿ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ - اصْلَوْها فاصْبِرُوا أوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكم إنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الطور: ١٦].
وَقَدْ قَرَّبَ اللَّهُ سُبْحانَهُ مَسافَةَ العَذابِ بَيْنَ هَذِهِ الأُمَّةِ وبَيْنَ إخْوانِهِمْ في العَمَلِ، فَقالَ مُخَوِّفًا لَهم أنْ يَقَعَ الوَعِيدُ:
﴿وَما هي مِنَ الظّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾ [هود: ٨٣].
فَيا ناكِحِي الذُّكْرانِ يَهْنِيكُمُ البُشْرى ∗∗∗ فَيَوْمَ مَعادِ النّاسِ إنَّ لَكم أجْرًا
كُلُوا واشْرَبُوا وازْنُوا ولُوطُوا وأبْشِرُوا ∗∗∗ فَإنَّ لَكم زَفَرًا إلى الجَنَّةِ الحَمْرا
فَإخْوانُكم قَدْ مَهَّدُوا الدّارَ قَبْلَكُمُ ∗∗∗ وقالُوا إلَيْنا عَجِّلُوا لَكُمُ البُشْرى
وَها نَحْنُ أسْلافٌ لَكم في انْتِظارِكُمُ
سَيَجْمَعُنا الجَبّارُ في نارِهِ الكُبْرى ∗∗∗ ولا تَحْسَبُوا أنَّ الَّذِينَ نَكَحْتُمُو
يَغِيبُونَ عَنْكم بَلْ تَرَوْنَهم جَهْرًا ∗∗∗ ويَلْعَنُ كُلًّا مِنكُما بِخَلِيلِهِ
وَيَشْقى بِهِ المَحْزُونُ في الكَرَّةِ الأُخْرى ∗∗∗ يُعَذِّبُ كُلًّا مِنهُما بِشَرِيكِهِ
كَما اشْتَرَكا في لَذَّةٍ تُوجِبُ الوِزْرا
* [فَصْلُ: دَواءِ اللِّواطِ]
فَإنْ قِيلَ: فَهَلْ مَعَ هَذا كُلِّهِ دَواءٌ لِهَذا الدّاءِ العُضالِ؟ ورُقْيَةٌ لِهَذا السِّحْرِ القَتّالِ؟ وما الِاحْتِيالُ لِدَفْعِ هَذا الخَبالِ؟ وهَلْ مِن طَرِيقٍ قاصِدٍ إلى التَّوْفِيقِ؟ وهَلْ يُمْكِنُ السَّكْرانَ بِخَمْرِ الهَوى أنْ يُفِيقَ؟ وهَلْ يَمْلِكُ العاشِقُ قَلْبَهُ والعِشْقُ قَدْ وصَلَ إلى سُوَيْدائِهِ؟ وهَلْ لِلطَّبِيبِ بَعْدَ ذَلِكَ حِيلَةٌ في بُرْئِهِ مِن سُوَيْدائِهِ؟ وإنْ لامَهُ لائِمٌ التَذَّ بِمَلامِهِ ذِكْرًا لِمَحْبُوبِهِ، وإنْ عَذَلَهُ عاذِلٌ أغْراهُ عَذْلُهُ، وسارَ بِهِ في طَرِيقِ مَطْلُوبِهِ، يُنادِي عَلَيْهِ شاهِدُ حالِهِ بِلِسانِ مَقالِهِ:
وَقَفَ الهَوى بِي حَيْثُ أنْتِ فَلَيْسَ ∗∗∗ لِي مُتَأخَّرٌ عَنْهُ ولا مُتَقَدَّمُ
وَأهَنْتِنِي فَأهَنْتُ نَفْسِي جاهِدًا ∗∗∗ ما مَن يَهُونُ عَلَيْكِ مِمَّنْ يُكْرَمُ
أشْبَهْتِ أعْدائِي فَصِرْتُ أُحِبُّهم ∗∗∗ إذْ كانَ حَظِّي مِنكِ حَظِّي مِنهُمْ
أجِدُ المَلامَةَ في هَواكِ لَذِيذَةً ∗∗∗ حُبًّا لِذِكْرِكِ فَلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ
وَلَعَلَّ هَذا هو المَقْصُودُ بِالسُّؤالِ الأوَّلِ الَّذِي وقَعَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْتاءُ، والدّاءُ الَّذِي طَلَبَ لَهُ الدَّواءَ.
قِيلَ: نَعَمْ، الجَوابُ مِن رَأْسٍ: "
«ما أنْزَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ مِن داءٍ إلّا جَعَلَ لَهُ دَواءً،» عَلِمَهُ مَن عَلِمَهُ وجَهِلَهُ مَن جَهِلَهُ ".
والكَلامُ في دَواءِ داءِ تَعَلُّقِ القَلْبِ بِالمَحَبَّةِ الهَوائِيَّةِ مِن طَرِيقَيْنِ:
أحَدُهُما: حَسْمُ مادَّتِهِ قَبْلَ حُصُولِها.
والثّانِي: قَلْعُها بَعْدَ نُزُولِهِ، وكِلاهُما يَسِيرٌ عَلى مَن يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، ومُتَعَذِّرٌ عَلى مَن لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ، فَإنَّ أزِمَّةَ الأُمُورِ بِيَدَيْهِ.
فَأمّا الطَّرِيقُ المانِعُ مِن حُصُولِ هَذا الدّاءِ، فَأمْرانِ:
غَضُّ البَصَرِ كَما تَقَدَّمَ، فَإنَّ النَّظْرَةَ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِن سِهامِ إبْلِيسَ، ومَن أطْلَقَ لَحَظاتِهِ دامَتْ حَسَراتُهُ.
الطَّرِيقُ الثّانِي المانِعُ مِن حُصُولِ تَعَلُّقِ القَلْبِ: اشْتِغالُ القَلْبِ بِما يَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ، ويَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الوُقُوعِ فِيهِ، وهو إمّا خَوْفٌ مُقْلِقٌ أوْ حُبٌّ مُزْعِجٌ، فَمَتى خَلا القَلْبُ مِن خَوْفِ ما فَواتُهُ أضَرُّ عَلَيْهِ مِن حُصُولِ هَذا المَحْبُوبِ، أوْ خَوْفِ ما حُصُولُهُ أضَرُّ عَلَيْهِ مِن فَواتِ هَذا المَحْبُوبِ، أوْ مَحَبَّتِهِ ما هو أنْفَعُ لَهُ وخَيْرٌ لَهُ مِن هَذا المَحْبُوبِ، وفَواتُهُ أضَرُّ عَلَيْهِ مِن فَواتِ هَذا المَحْبُوبِ، لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِن عِشْقِ الصُّوَرِ.
وَشَرْحُ هَذا: أنَّ النَّفْسَ لا تَتْرُكُ مَحْبُوبًا إلّا لِمَحْبُوبٍ أعْلى مِنهُ، أوْ خَشْيَةَ مَكْرُوهٍ حُصُولُهُ أضَرُّ عَلَيْهِ مِن فَواتِ هَذا المَحْبُوبِ، وهَذا يَحْتاجُ صاحِبُهُ إلى أمْرَيْنِ إنْ فَقَدَهُما أوْ أحَدَهُما لَمْ يَنْتَفِعْ بِنَفْسِهِ.
أحَدُهُما: بَصِيرَةٌ صَحِيحَةٌ يُفَرِّقُ بِها بَيْنَ دَرَجاتِ المَحْبُوبِ والمَكْرُوهِ، فَيُؤْثِرُ أعْلى المَحْبُوبَيْنِ عَلى أدْناهُما، ويَحْتَمِلُ أدْنى المَكْرُوهَيْنِ لِيَخْلُصَ مِن أعْلاهُما، وهَذا خاصَّةُ العَقْلِ، ولا يُعَدُّ عاقِلًا مَن كانَ بِضِدِّ ذَلِكَ، بَلْ قَدْ تَكُونُ البَهائِمُ أحْسَنَ حالًا مِنهُ.
الثّانِي: قُوَّةُ عَزْمٍ وصَبْرٍ يَتَمَكَّنُ بِهِ مِن هَذا الفِعْلِ والتَّرْكِ، فَكَثِيرًا ما يَعْرِفُ الرَّجُلُ قَدْرَ التَّفاوُتِ، ولَكِنْ يَأْبى لَهُ ضَعْفُ نَفْسِهِ وهَمَّتِهِ وعَزِيمَتِهِ عَلى أشْياءَ لا تَنْفَعُ مِن خِسَّتِهِ وحِرْصِهِ ووَضاعَةِ نَفْسِهِ وخِسَّةِ هِمَّتِهِ، ومِثْلُ هَذا لا يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ، ولا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ، وقَدْ مَنَعَ اللَّهُ سُبْحانَهُ إمامَةَ الدِّينِ إلّا مِن أهْلِ الصَّبْرِ واليَقِينِ، فَقالَ تَعالى، وبِقَوْلِهِ يَهْتَدِي المُهْتَدُونَ مِنهُمْ:
﴿وَجَعَلْنا مِنهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ٢٤].
وَهَذا هو الَّذِي يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ، ويَنْتَفِعُ بِهِ النّاسُ، وضِدُّهُ لا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ، ومِنَ النّاسِ مَن يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ في نَفْسِهِ ولا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ، فالأوَّلُ يَمْشِي في نُورِهِ ويَمْشِي النّاسُ في نُورِهِ، والثّانِي قَدْ طُفِئَ نُورُهُ، فَهو يَمْشِي في الظُّلُماتِ ومَن تَبِعَهُ في ظُلْمَتِهِ، والثّالِثُ يَمْشِي في نُورِهِ وحْدَهُ.
* (فائدة)
قال أصحاب أحمد: "إذا رأى الإمام تحريق اللوطي بالنار فله ذلك إذا رأى، لأن خالد ابن الوليد كتب إلى أبي بكر أنه وجد في بعض ضواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة فاستشار أصحاب النبي ﷺ علي بن أبي طالب وكان أشدهم قولا فقال: "إن هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا واحدة فصنع الله بهم ما قد علمتهم أرى أن يحرقوا بالنار"
فأجمع رأي أصحاب رسول الله ﷺ على أن يحرقوا بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقوا ثم حرقهم ابن الزبير، ثم حرقهم هشام بن عبد الملك.
ونص أحمد فيمن طعن في الصحابة على أنه قد وجب على السلطان عقوبته، وليس للسلطان أن يعفوا عنه بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب وإلا أعاد عليه العقوبة.