الباحث القرآني
ولَمّا أتَمَّ - سُبْحانَهُ - ما وفّى بِمَقْصِدِ هَذِهِ السُّورَةِ في هَذا السِّياقِ مِن قِصَّتِهِمْ، أتْبَعَهُ مَن بَعْدَهُ مِمَّنْ تَعْرِفُهُ العَرَبُ - كَما فَعَلَ فِيما قَبْلُ - فَقالَ: (p-٤٥٢)﴿ولُوطًا إذْ قالَ﴾ ولَمّا كانَتْ رِسالَتُهُ إلى مُدُنٍ شَتّى، وكَأنَّهم كانُوا قَبائِلَ شَتّى، قِيلَ: كانُوا خَمْسَةً وهي المُؤْتَفِكاتُ، وقِيلَ: كانُوا أرْبَعَةَ آلافٍ بَيْنَ الشّامِ والمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ، قالَ: ﴿لِقَوْمِهِ﴾ وقَدْ جَوَّزُوا أنْ يَكُونَ العامِلُ فِيهِ ”أرْسَلْنا“ و”اذْكُرْ“ ولا يَلْزَمُ مِن تَقْدِيرِ ”أرْسَلْنا“ أنْ يَكُونَ إرْسالُهُ في وقْتِ تَفَوُّهِهِ لَهم بِهَذا القَوْلِ غَيْرَ سابِقٍ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ كَما أنَّ ذَلِكَ الزَّمَنَ - المُنْطَبِقَ عَلى أوَّلِ قَوْلِهِ وآخِرِهِ - وقْتٌ لَهُ فَكَذَلِكَ اليَوْمُ - الَّذِي وقَعَ فِيهِ هَذا القَوْلُ - وقْتٌ لَهُ، بَلْ وذَلِكَ الشَّهْرُ وتِلْكَ السَّنَةُ وذَلِكَ القَرْنُ، فَإنَّ مِن شَأْنِ العَرَبِ تَسْمِيَةَ الأيّامِ المُشْتَرِكَةِ في الفِعْلِ الواحِدِ يَوْمًا، قالُوا: يَوْمُ القادِسِيَّةِ، وهو أرْبَعَةُ أيّامٍ إنْ اعْتَبَرْنا مُدَّةَ القِتالِ فَقَطْ، وعِدَّةُ شُهُورٍ إنْ اعْتَبَرْنا بِالِاجْتِماعِ لَهُ، وكَذا يَوْمُ صِفِّينَ، وقالَ تَعالى في قِصَّةِ بَدْرٍ: ﴿وإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدى الطّائِفَتَيْنِ أنَّها لَكُمْ﴾ [الأنفال: ٧] إلى أنْ قالَ: ﴿إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٩] إلى أنْ قالَ: ﴿إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أمَنَةً مِنهُ﴾ [الأنفال: ١١] ﴿إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى المَلائِكَةِ﴾ [الأنفال: ١٢] وكُلُّها إبْدالٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿وإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدى الطّائِفَتَيْنِ﴾ [الأنفال: ٧] ولا رَيْبَ في أنَّ زَمانَ الكُلِّ لَمْ يَكُنْ مُتَّحِدًا إلّا بِتَأْوِيلِ جَمِيعِ الأيّامِ المُتَعَلِّقَةِ بِالوَقْعَةِ مِن سَيْرٍ وقِتالٍ وغَيْرِ ذَلِكَ - واللَّهُ أعْلَمُ، وعَبَّرَ في قِصَّةِ نُوحٍ [عَلَيْهِ السَّلامُ] بِـ ﴿أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ﴾ [الأعراف: ٥٩] ثُمَّ نَسَّقَ مَن بَعْدَهُ عَلَيْهِ فَقِيلَ: ﴿وإلى عادٍ أخاهم هُودًا﴾ [الأعراف: ٦٥] ﴿وإلى ثَمُودَ أخاهم صالِحًا﴾ [الأعراف: ٧٣] ﴿وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْبًا﴾ [الأعراف: ٨٥] وعَدَلَ عَنْ هَذا الأُسْلُوبِ في قِصَّةِ لُوطٍ [فَلَمْ يَقُلْ: (p-٤٥٣)وإلى أهْلِ أدُوما أخاهم لُوطًا]، أوْ إلى أهْلِ سَدُومَ لُوطًا أوْ وأرْسَلْنا لُوطًا إلى قَوْمِهِ ونَحْوِ ذَلِكَ كَما سَيَأْتِي في قِصَّةِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِأنَّ مِن أعْظَمِ المَقاصِدِ بِسِياقِ هَذِهِ القِصَصِ تَسْلِيَةُ النَّبِيِّ ﷺ في مُخالَفَةِ قَوْمِهِ لَهُ وعَدَمِ اسْتِجابَتِهِمْ وشِدَّةِ أذاهم وإنْذارِ قَوْمِهِ أنْ يَحِلَّ بِهِمْ ما حَلَّ بِهَذِهِ الأُمَمِ مِنَ العَذابِ، وقِصَصُ مَن عَدا قَوْمَ لُوطٍ مُشابَهَةٌ لِقِصَّةِ قُرَيْشٍ في الشِّرْكِ بِاللَّهِ والأذى لِعِبادِهِ المُؤْمِنِينَ، وأمّا قِصَّةُ قَوْمِ لُوطٍ فَزائِدَةٌ عَنْ ذَلِكَ بِأمْرٍ فَظِيعٍ عَظِيمِ الشَّناعَةِ شَدِيدِ العارِ والفُحْشِ فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ النَّسَقِ تَنْبِيهًا عَلَيْهِ تَهْوِيلًا لِلْأمْرِ وتَبْشِيعًا لَهُ، لِيَكُونَ في التَّسْلِيَةِ أشَدَّ، وفي اسْتِدْعاءِ الحَمْدِ والشُّكْرِ أتَمَّ، وحِينَئِذٍ يَتَرَجَّحُ أنْ يَكُونَ العامِلُ ”اذْكُرْ“ لا ”أرْسَلَنا“ أيْ: واذْكُرْ لُوطًا وما حَصَلَ عَلَيْهِ مِن قَوْمِهِ زِيادَةً عَلى شِرْكِهِمْ مِن رُؤْيَتِهِ فِيهِمْ هَذا الأمْرَ الَّذِي لَمْ يُبْقِ لِلشَّناعَةِ مَوْضِعًا، فالقِصَّةُ في الحَقِيقَةِ تَسْلِيَةٌ وتَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ مُعافاةِ العَرَبِ مِن مِثْلِ هَذا الحالِ وإنْذارٌ لَهم سُوءَ المَآلِ مَعَ ما شارَكَتْ فِيهِ أخَواتَها مِنَ الدِّلالَةِ عَلى سُوءِ جِبِلَّةِ هَؤُلاءِ القَوْمِ وشَرارَةِ جَوْهَرِهِمْ المُقْتَضِي لِتَفَرُّدِهِمْ عَنْ أهْلِ الأرْضِ بِذَلِكَ الأمْرِ الفاحِشِ، والدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ أشْنَعُ الشَّنَعِ بَعْدَ الشِّرْكِ - مَعَ ما جَعَلَ اللَّهُ تَعالى في كُلِّ طَبْعٍ سَلِيمٍ مِنَ النُّفْرَةِ عَنْهُ - اخْتِصاصُهُ بِمُشارَكَتِهِ لِلشِّرْكِ في أنَّهُ لَمْ يَحِلَّ في مِلَّةٍ مِنَ المِلَلِ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ ولا مَعَ (p-٤٥٤)وصْفٍ مِنَ الأوْصافِ، وبَقِيَّةُ المُحَرَّماتِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَأمّا قَتْلُ النُّفُوسِ فَقَدْ حَلَّ في القِصاصِ والجِهادِ وغَيْرِ ذَلِكَ، والوَطْءُ في القُبُلِ لَمْ يُحَرَّمْ إلّا بِقَيْدِ كَوْنِهِ زِنًى، ولَوْلا الوَصْفُ لَحَلَّ، وأكْلُ المالِ الأصْلُ فِيهِ الحِلُّ، وما حُرِّمَ إلّا بِقَيْدِ كَوْنِهِ بِالباطِلِ - وكَذا غَيْرُ ذَلِكَ. قالَ أبُو حَيّانَ: ولَمّا كانَ هَذا الفِعْلُ مَعْهُودًا قُبْحُهُ ومَرْكُوزًا في العُقُولِ فُحْشُهُ، أتى مُعَرَّفًا - أيْ: في قَوْلِهِ بَعْدَ إنْكارِهِ عَلَيْهِمْ وتَقْرِيعِهِ وتَوْبِيخِهِ لَهم: ﴿أتَأْتُونَ الفاحِشَةَ﴾ أيْ: أتَفْعَلُونَ السَّيِّئَةَ المُتَمادِيَةَ في القُبْحِ وإنْ كانَ بَيْنَكم وبَيْنَها مَسافَةٌ بَعِيدَةٌ - أوْ تَكُونُ (الـ) فِيهِ لِلْجِنْسِ عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ، كَأنَّهُ لِشِدَّةِ قُبْحِهِ جُعِلَ جَمِيعَ الفَواحِشِ ولِبُعْدِ العَرَبِ عَنْ ذَلِكَ البُعْدَ التّامَّ، وذَلِكَ بِخِلافِ الزِّنى فَإنَّهُ قالَ فِيهِ
﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنا إنَّهُ كانَ فاحِشَةً﴾ [الإسراء: ٣٢]
ولَمّا كانَ غَيْرَ مُسْتَبْعَدٍ عَلى صَفاقَةِ وُجُوهِهِمْ ووَقاحَتِهِمْ أنْ يَقُولُوا: لِمَ تَكُونُ فِعْلَتُنا مُنْكَرًا مُوَبَّخًا عَلَيْها؟ قالَ: ﴿ما سَبَقَكم بِها﴾ وأغْرَقَ في النَّفْيِ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن أحَدٍ﴾ وعَظَّمَ ذَلِكَ بِتَعْمِيمِهِ في قَوْلِهِ: ﴿مِنَ العالَمِينَ﴾ فَقَدْ اخْتَرَعْتُمْ شَيْئًا لا يَكُونُ مِثْلُ فُحْشِهِ لِتُذْكَرُوا بِهِ أسْوَأ ذِكْرٍ، كَما (p-٤٥٥)أنَّ ذَوِي الهِمَمِ العَوالِ والفَضْلِ والكَمالِ يَسْتَنْبِطُونَ مِنَ المَحاسِنِ والمَنافِعِ ما يَبْقى لَهم ذِكْرُهُ ويَنْفَعُهم أجْرُهُ، وفي ذَلِكَ أعْظَمُ إشارَةً إلى تَقْبِيحِ البِدَعِ والتَّشْنِيعِ عَلى فاعِلِيها؛ لِأنَّ العُقُولَ لا تَسْتَقِلُّ بِمَعْرِفَةِ المَحاسِنِ.
{"ayah":"وَلُوطًا إِذۡ قَالَ لِقَوۡمِهِۦۤ أَتَأۡتُونَ ٱلۡفَـٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنۡ أَحَدࣲ مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق