الباحث القرآني

* (لطيفة) وَكَما جَمَعَ بَيْنَ اللِّباسَيْنِ في قَوْلِهِ: ﴿يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكم لِباسًا يُوارِي سَوْآتِكم ورِيشًا ولِباسُ التَّقْوى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِن آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهم يَذَّكَّرُونَ﴾، فَذَكَرَ - سُبْحانَهُ - زِينَةَ ظَواهِرِهِمْ وبَواطِنِهِمْ ونَبَّهَهم بِالحِسِّيِّ عَلى المَعْنَوِيِّ؛ وفَهْمُ هَذا القَدْرِ زائِدٌ عَلى فَهْمِ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ ووَضْعِهِ في أصْلِ اللِّسانِ، واللَّهُ المُسْتَعانُ. فجمع بين الزينتين: زينة البدن باللباس، وزينة القلب بالتقوى، زينة الظاهر والباطن، وكمال الظاهر والباطن. * (فصل) قوله ﷺ في الحَدِيث "إن الله جميل يحب الجمال" يتَناوَل جمال الثِّياب المسؤول عَنهُ في نفس الحَدِيث، ويدخل فِيهِ بطرِيق العُمُوم الجمال من كل شَيْء كَما في الحَدِيث الآخر إن الله نظيف يحب النَّظافَة وفي الصَّحِيح إن الله طيب لا يقبل إلّا طيبا وفي السّنَن إن الله يحب أن يرى أثر نعْمَته على عَبده وفيها عَن أبي الأحْوَص الجُشَمِي قالَ رَآنِي النَّبِي وعليَّ أطمار فَقالَ هَل لَك من مال قلت نعم قالَ من أي المال قلت من كل ما أتى الله من الإبِل والشاه قالَ فلتر نعْمَته وكرامته عَلَيْك فَهو سُبْحانَهُ يحب ظُهُور أثر نعْمَته على عَبده فَإنَّهُ من الجمال الَّذِي يُحِبهُ وذَلِكَ من شكره على نعمه وهو جمال باطِن فيحب أن يرى على عَبده الجمال الظّاهِر بِالنعْمَةِ والجمال الباطِن بالشكر عَلَيْها ولمحبته سُبْحانَهُ للجمال أنزل على عباده لباسا وزينة تجمّل ظواهرهم وتقوى تجمّل بواطنهم فَقالَ ﴿يا بَنِي آدَمَ قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكم لِباسًا يُوارِي سَوْآتِكم ورِيشًا ولِباسُ التَّقْوى ذَلِك خير﴾ وَقالَ في أهل الجنَّة ﴿ولقاهم نضرة وسُرُورًا وجَزاهم بِما صَبَرُوا جَنَّةً وحَرِيرًا﴾ فجمل وُجُوههم بالنظرة وبواطنهم بالسرور وأبدانهم بالحرير وهو سُبْحانَهُ كَما يحب الجمال في الأقْوال والأفْعال واللباس والهيأة يبغض القَبِيح من الأقْوال والأفْعال والثياب والهيأة فيبغض القَبِيح وأهله ويُحب الجمال وأهله ولَكِن ضل في هَذا المَوْضُوع فريقان فريق قالُوا كل ما خلقه جميل فَهو يحب كل ما خلقه ونحن نحب جَمِيع ما خلقه فَلا نبغض مِنهُ شَيْئا قالُوا ومن رأى الكائنات مِنهُ رَآها كلها جميلَة وأنْشد منشدهم ؎وَإذا رَأيْت الكائنات بعينهم ∗∗∗ فَجَمِيع ما يحوي الوُجُود مليح واحْتَجُّوا بقوله تَعالى ﴿الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ وقَوله ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ وقَوله ﴿ما تَرى في خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفاوُتٍ﴾ والعارف عِنْدهم هو الَّذِي يُصَرح بِإطْلاق الجمال ولا يرى في الوُجُود قبيحا، وهَؤُلاء قد عدمت الغيرَة لله من قُلُوبهم والبغض في الله والمعاداة فِيهِ وإنكار المُنكر والجهاد في سَبيله وإقامَة حُدُوده ويرى جمال الصُّور من الذُّكُور والإناث من الجمال الَّذِي يُحِبهُ الله فيتعبدون بفسقهم ورُبما غلا بَعضهم حَتّى يزْعم أن معبوده يظْهر في تِلْكَ الصُّورَة ويحل فِيها وإن كانَ اتحاديا قالَ هي مظهر من مظاهر الحق ويسميها المظاهر الجمالية. * (فصل) وقابلهم في الفَرِيق الثّانِي فَقالُوا قد ذمّ الله سُبْحانَهُ جمال الصُّور وتَمام القامَة والخلقة فَقالَ عَن المنافقين ﴿وَإذا رَأيْتَهم تُعْجِبُكَ أجْسامُهُمْ﴾ وقالَ ﴿وَكَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهم مِن قَرْنٍ هم أحْسَنُ أثاثًا ورِئْيًا﴾ أي أمْوالًا ومناظر قالَ الحسن هو الصُّور وفي صَحِيح مُسلم عَنهُ إن الله لا ينظر إلى صوركم وأمْوالكم وإنَّما ينظر إلى قُلُوبكم وأعْمالكم قالُوا ومَعْلُوم أنه لم ينف نظر الإدْراك وإنَّما نفى نظر المحبَّة قالُوا وقد حرّم علينا لِباس الحَرِير والذَّهَب وآنية والذَّهَب الفضة وذَلِكَ من أعظم جمال الدُّنْيا وقالَ ولا تَمُدَّن عَيْنك إلى ما متّعنا بِهِ أزْواجًا مِنهُم زهرَة الحَياة الدُّنْيا لنفتنهم فِيهِ وفي الحَدِيث البذاذة من الإيمان وقد ذمّ الله المسرفين والسرف كَما يكون في الطَّعام والشراب يكون في اللباس. وَفصل النزاع أن يُقال الجمال في الصُّورَة واللباس والهيأة ثَلاثَة أنْواع مِنهُ ما يحمد ومِنه ما يذم ومِنه ما لا يتَعَلَّق بِهِ مدح ولا ذمّ فالمحمود مِنهُ ما كانَ لله وأعان على طاعَة الله وتنفيذ أوامره والاستجابة لَهُ كَما كانَ النَّبِي يتجمّل للوفود وهو نَظِير لِباس آلَة الحَرْب لِلْقِتالِ ولباس الحَرِير في الحَرْب والخُيَلاء فِيهِ فَإن ذَلِك مَحْمُود إذا تضمّن إعلاء كلمة الله ونصر دينه وغيظ عدوّه والمذموم مِنهُ ما كانَ للدنيا والرياسة والفَخْر والخُيَلاء والتوسل إلى الشَّهَوات وأن يكون هو غايَة العَبْد وأقصى مطلبه فَإن كثيرا من النُّفُوس لَيْسَ لَها همّة في سوى ذَلِك وأما ما لا يحمد ولا يذم هو ما خلا عَن هذَيْن القصدين وتجرّد عَن الوصفين والمَقْصُود أن هَذا الحَدِيث الشريف مُشْتَمل على أصلين عظيمين فأوله معرفَة وآخره سلوك فَيعرف الله سُبْحانَهُ بالجمال الَّذِي لا يماثله فِيهِ شَيْء ويعبد بالجمال الَّذِي يُحِبهُ من الأقْوال والأعمال والأخلاق فيحب من عَبده أن يجمل لِسانه بِالصّدقِ وقَلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل وجوارحه بِالطّاعَةِ وبدنه بِإظْهار نعمه عَلَيْهِ في لِباسه وتطهيره لَهُ من الأنجاس والأحداث والأوساخ والشعور والمكروهة والختان وتقليم الأظْفار فيعرفه بِصِفات بالجمال ويتعرف إلَيْهِ بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة فيعرفه بالجمال الَّذِي هو وصفه ويعبده بالجمال الَّذِي هو شَرعه ودينه فَجمع الحَدِيث قاعدتين المعرفَة والسلوك.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب