الباحث القرآني

ولَمّا بَيَّنَ فِيما مَضى أنَّ مُوجِبَ الإخْراجِ مِنَ الجَنَّةِ هو ما أوْجَبَ كَشْفَ السَّوْءَةِ مِنَ المُخالَفَةِ وفَرَّغَ مِمّا اسْتَتْبَعَهُ حَتّى أخْبَرَهُ بِأنَّهُ حَكَمَ بِإسْكانِنا هَذِهِ الدّارَ بَعْدَ تِلْكَ الدّارِ، شَرَعَ يُحَذِّرُنا مِن عَدُوِّنا كَما حَذَّرَ أبانا - عَلَيْهِ السَّلامُ - وبَدَأ بِقَوْلِهِ بَيانًا لِأنَّهُ أنْعَمَ عَلَيْنا فِيها بِكُلِّ ما يُحْتاجُ إلَيْهِ في الدِّينِ والدُّنْيا وإيذانًا بِما في كَشْفِ العَوْرَةِ مِنَ الفَضِيحَةِ والإبْعادِ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ وإشْعارًا بِأنَّ التَّسَتُّرَ بابٌ عَظِيمٌ مِن أبْوابِ التَّقْوى ﴿يا بَنِي آدَمَ﴾ . ولَمّا كانَ الكَلامُ في كَشْفِ العَوْرَةِ، وأنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أعْوَزَهُ السّاتِرُ حَتّى فَزِعَ إلى الوَرَقِ، كانَ مَوْضِعَ أنْ يُتَوَقَّعَ ما يَكُونُ في ذَلِكَ فَقالَ مُفْتَتِحًا بِحَرْفِ التَّوَقُّعِ: ﴿قَدْ أنْـزَلْنا﴾ أيْ: بِعَظَمَتِنا ﴿عَلَيْكُمْ﴾ مِن آثارِ بَرَكاتِ السَّماءِ، إمّا ابْتِداءً بِخَلْقِهِ وإمّا بِإنْزالِ أسْبابِهِ لِمَطَرٍ ونَحْوِهِ ﴿لِباسًا﴾ أيْ: لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أبُوكم في الجَنَّةِ ﴿يُوارِي سَوْآتِكُمْ﴾ إرْشادًا إلى دَواءِ ذَلِكَ الدّاءِ وإعْلامًا بِأنَّ نَفْسَ الكَشْفِ نَقْصٌ لا يَصْلُحُ لِحَضَراتِ الكَمالِ، وقالَ: ﴿ورِيشًا﴾ إشارَةً إلى أنَّهُ - سُبْحانَهُ - زادَنا عَلى السّاتِرِ ما بِهِ (p-٣٧٩)الزِّينَةُ والجِمالُ اسْتِعارَةً مِن رِيشِ الطّائِرِ، مُحَبِّبًا فِيما يُبْعِدُ مِنَ الذَّنْبِ ويُقَرِّبُ إلى حَضْرَةِ الرَّبِّ. ولَمّا ذَكَرَ اللِّباسَ الحِسِّيَّ، وقَسَّمَهُ عَلى ساتِرٍ ومُزَيِّنٍ، أتْبَعَهُ المَعْنَوِيَّ فَقالَ مُشِيرًا - بِقَطْعِهِ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ عَمّا قَبِلَهُ - إلى كَمالِ تَعْظِيمِهِ حَثًّا عَلَيْهِ ونَدْبًا إلَيْهِ: ﴿ولِباسُ التَّقْوى﴾ فَعُلِمَ أنَّ ساتِرَ العَوْراتِ حِسِّيٌّ ومَعْنَوِيٌّ، فالحِسِّيُّ لِباسُ الثِّيابِ، والمَعْنَوِيُّ التَّحَلِّي بِما يَبْعَثُ عَلى المَنابِ؛ ثُمَّ زادَ في تَعْظِيمِ المَعْنَوِيِّ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ أيْ: ولِباسُ التَّقْوى هو خَيْرٌ مِن لِباسِ الثِّيابِ، ولَكِنَّهُ فَصَلَ بِاسْمِ الإشارَةِ المُقْتَرِنِ بِأداةِ البُعْدِ إيماءً إلى عُلُوِّ رُتْبَتِهِ وحُسْنِ عاقِبَتِهِ لِكَوْنِهِ أهَمَّ اللِّباسَيْنِ لِأنَّ نَزْعَهُ يَكُونُ بِكَشْفِ العَوْرَةِ الحِسِّيَّةِ والمَعْنَوِيَّةِ، فَلَوْ تَجَمَّلَ الإنْسانُ بِأحْسَنِ المَلابِسِ وهو غَيْرُ مُتَّقٍ كانَ كُلُّهُ سَوْءاتٍ، ولَوْ كانَ مُتَّقِيًا ولَيْسَ عَلَيْهِ إلّا خُرَيْقَةٌ تُوارِي عَوْرَتَهُ كانَ في غايَةِ الجَمالِ والسِّتْرِ والكَمالِ، بَلْ ولَوْ كانَ مَكْشُوفَ العَوْرَةِ في بَعْضِ الأحْوالِ كَما قالَ ﷺ «( سَتْرُ ما بَيْنَ عَوْراتِكم وأعْيُنِ الجِنِّ أنْ يَقُولَ أحَدُكم إذا دَخَلَ الخَلاءَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ! إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ والخَبائِثِ)» رَواهُ التِّرْمِذِيُّ وابْنُ ماجَهْ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - [والَّذِي يَكادُ يُقْطَعُ بِهِ أنَّ المَعاصِيَ سَبَبُ إحْلالِ السَّوْءَةِ الَّذِي مِنهُ ضَعْفُ البَدَنِ وقِصَرُ العُمْرِ حِسًّا أوْ مَعْنًى بِمَحْقِ البَرَكَةِ مِنهُ لِما يُفْهِمُهُ ما تَقَدَّمَ في البَقَرَةِ في بَدْءِ الخَلْقِ عَنِ التَّوْراةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ لِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: كُلْ مِن جَمِيعِ أشْجارِ (p-٣٨٠)الفِرْدَوْسِ، فَأمّا شَجَرَةُ عِلْمِ الخَيْرِ والشَّرِّ فَلا تَأْكُلْ مِنها لِأنَّكَ في اليَوْمِ الَّذِي تَأْكُلُ مِنها تَمُوتُ مَوْتًا تَتَهَيَّأُ لِلْمَوْتِ حِسًّا، ويُقْضى عَلَيْكَ بِالِاشْتِغالِ بِأسْبابِ المَعِيشَةِ فَيَقْصُرُ عُمْرُكَ مَعْنًى بِذَهابِ بَرَكَتِهِ، واللَّهُ أعْلَمُ] . ولَمّا كانَ في شَرْعِ اللِّباسِ تَمْيِيزُ الإنْسانِ عَنْ بَقِيَّةِ الحَيَوانِ وتَهْيِئَةُ أسْبابِهِ الَّتِي لَمْ يَجِدْها آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في الجَنَّةِ مِنَ الفَضْلِ والنِّعْمَةِ والدِّلالَةِ عَلى عَظَمَةِ المُنْعِمِ ورَحْمَتِهِ وقُدْرَتِهِ واخْتِيارِهِ ما هو مَعْلُومٌ - قالَ: ﴿ذَلِكَ﴾ أيْ: إنْزالُ اللِّباسِ ﴿مِن آياتِ اللَّهِ﴾ أيْ: الَّذِي حازَ صِفاتِ الكَمالَ الدّالَّةَ عَلى فَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ لِعِبادِهِ، ولَعَلَّ الِالتِفاتَ مِنَ الخِطابِ إلى الغَيْبَةِ ﴿لَعَلَّهم يَذَّكَّرُونَ﴾ - لَوْ عَلى أدْنى وُجُوهِ التَّذَكُّرِ بِما يُشِيرُ إلَيْهِ الإدْغامُ - لِئَلّا يَقُولَ المُتَعَنِّتُ: إنْ الحَثَّ عَلى التَّذَكُّرِ خاصٌّ بِالمُخاطَبِ ويَدَّعِي أنَّهُ المُسْلِمُونَ فَقَطْ، أيْ: أنْزَلْنا ذَلِكَ لِيَكُونَ حالُهم حالَ مَن يَتَذَكَّرُ فَيَعْرِفُ أنَّهُ يُسْتَقْبَحُ مِنهُ ما يُسْتَقْبَحُ مِن غَيْرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب