الباحث القرآني
* [فصل: الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق]
والفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق أن خشوع الإيمان هو خشوع القلب للّه بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء فينكسر القلب للّه كسرة ملتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء وشهود نعم اللّه وجناياته هو فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح وأما خشوع النفاق فيبدو على الجوارح تصنعا وتكلفا والقلب غير خاشع، وكان بعض الصحابة يقول أعوذ باللّه من خشوع النفاق، قيل له وما خشوع النفاق؟ قال أن يرى الجسد خاشعا والقلب غير خاشع. فالخاشع للّه عبد قد خمدت نيران شهوته وسكن دخانها عن صدره فانجلى الصدر وأشرق فيه نور العظمة فماتت شهوات النفس للخوف والوقار الذي خشي به وخمدت الجوارح وتوقر القلب واطمأن إلى اللّه وذكره بالسكينة التي نزلت عليه من ربه فصار مخبتا له والمخبت المطمئن فإن الخبت من الأرض ما اطمأن فاستنقع فيه الماء، فكذلك القلب المخبت قد خشع واطمأن كالبقعة المطمئنة من الأرض التي يجري إليها الماء فيستقر فيها، علامته أن يسجد بين يدي ربه إجلالا له وذلا وانكسارا بين يديه سجدة لا يرفع رأسه عنها حتى يلقاه. وأما القلب المتكبر فإنه قد اهتز بتكبره عربا فهو كبقعة رابية من الأرض لا يستقر عليه الماء فهذا خشوع الإيمان.
وأما التماوت وخشوع النفاق فهو حال عند تكلف إسكان الجوارح تصنعا ومراءاة ونفسه في الباطن شابة طرية ذات شهوات وإرادات فهو يتخشع في الظاهر وحية الوادي وأسد الغابة رابض بين جنبيه ينتظر الفريسة.
* (فصل)
قال تعالى: ﴿وَأقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ فأمرنا بإقامتها وهو الإتيان بها قائمة تامة القيام والركوع والسجود والأذكار وقد علق الله سبحانه الفلاح بخشوع المصلي في صلاته، فمن فاته خشوع الصلاة لم يكن من أهل الفلاح، ويستحيل حصول الخشوع مع العجلة والنقر قطعا. بل لا يحصل الخشوع قط إلا مع الطمأنينة وكلما زاد طمأنينة ازداد خشوعا، وكلما قل خشوعة اشتدت عجلته حتى تصير حركة يديه بمنزلة العبث الذي لا يصحبه خشوع ولا اقبال على العبودية، ولا معرفة حقيقة العبودية والله سبحانه قد قال: ﴿وَأقِيمُوا الصَّلاةَ﴾، وقال: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾. وقال: ﴿وَأقِمِ الصَّلاةَ﴾. وقال: ﴿فَإذا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ وقال: ﴿والمُقِيمِي الصَّلاةِ﴾ وقال إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ﴾، وقال لموسى ﴿فاعْبُدْنِي وأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ فلن تكاد تجد ذكر الصلاة في موضع من التنزيل إلا مقرونا بإقامتها فالمصلون في الناس قليل ومقيم الصلاة منهم أقل القليل.
كما قال عمر رضي الله عنه: "الحاج قليل والركب كثير"
فالعاملون يعملون الأعمال المأمور بها على الترويج تحلة القسم، ويقولون يكفينا أدنى ما يقع عليه الاسم وليتنا نأتي به ولو علم هؤلاء أن الملائكة تصعد بصلاتهم فتعرضها على الله جل جلاله بمنزلة الهدايا التي يتقرب بها الناس إلى ملوكهم وكبرائهم فليس من عمد إلى أفضل ما يقدر عليه فيزينه ويحسنه ما استطاع ثم يتقرب به إلى من يرجوه ويخافه كمن يعمد إلى أسقط ما عنده وأهونه عليه فيستريح منه ويبعثه إلى من لا يقع عنده بموقع وليس من كانت الصلاة ربيعا لقلبه وحياة له وراحة وقرة لعينه وجلاء لحزنه وذهابا لهمه وغمه ومفزعا له إليه في نوائبه ونوازله كمن هي سحت لجوارحه، وتكليف له وثقل عليه فهي كبيرة على هذا وقرة عين وراحة لذلك.
وقال تعالى: ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ وإنَّها لَكَبِيرَةٌ إلّا عَلى الخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهم مُلاقُو رَبِّهِمْ وأنَّهم إلَيْهِ راجِعُونَ﴾ فإنما كبرت على غير هؤلاء لخلو قلوبهم من محبة الله تعالى وتكبيره وتعظيمه والخشوع له وقلة رغبتهم فيه فإن حضور العبد في الصلاة وخشوعه فيها وتكميله لها واستفراغه وسعة في إقامتها وإتمامها على قدر رغبته في الله تعالى.
قال الإمام أحمد في رواية مهنا بن يحيى: إنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من الصلاة ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة فاعرف نفسك يا عبد الله واحذر أن تلقى الله عز وجل ولا قدر للإسلام عندك. فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك. وليس حظ القلب العامر بمحبة الله وخشيته والرغبة فيه وإجلاله وتعظيمه من الصلاة كحظ القلب الخالي الخراب من ذلك فإذا وقف الاثنان بين يدي الله في الصلاة وقف هذا بقلب مخبت خاشع له قريب منه سليم من معارضات السوء قد امتلأت أرجاؤه بالهيبة وسطع فيه نور الإيمان وكشف عنه حجاب النفس ودخان الشهوات فيرتع في رياض معاني القرآن، وخالط قلبه بشاشة الإيمان بحقائق الأسماء والصفات وعلوها وجمالها وكمالها الأعظم وتفرد الرب سبحانه بنعوت جلاله وصفات كماله فاجتمع همه على الله وقرت عينه به وأحسن بقربه من الله قربا لا نظير له ففرغ قلبه له وأقبل عليه بكليته، وهذا الإقبال منه بين اقبالين من ربه فإنه سبحانه أقبل عليه أولا، فانجذب قلبه إليه بإقباله؛ فلما أقبل على ربه حظي منه بإقبال آخر أتم من الأول. وها هنا عجيبة من عجائب الأسماء والصفات تحصل لمن تفقه قلبه في معاني القرآن وخالط بشاشة الإيمان بها قلبه بحيث يرى لكل اسم وصفة موضعا من صلاته ومحلا منها فإنه إذا انتصب قائما بين يدي الرب تبارك وتعالى شاهد بقلبه قيوميته، وإذا قال الله أكبر شاهد كبرياءه وإذا قال: سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك شاهد بقلبه ربا منزها عن كل عيب سالما من كل نقص محمودا بكل حمد فحمده يتضمن وصفه بكل كمال وذلك يستلزم براءته من كل نقص تبارك اسمه، فلا يذكر على قليل إلا كثرة ولا على خير إلا أنماه وبارك فيه ولا على آفة إلا أذهبها ولا على شيطان إلا رده خاسئا داحرا وكمال الاسم من كمال مسماه، فإذا كان شأن اسمه الذي لا يضر معه شيء في الأرض ولا في السماء فشأن المسمى أعلى وأجل.
(وتعالى جده) أي ارتفعت عظمته وجلت فوق كل عظمة، وعلا شأنه على كل شأن وقهر سلطانه على كل سلطان فتعالى جده أن يكون معه شريك في ملكه وربوبيته أو في الهيته أو في أفعاله أو في صفاته كما قال مؤمن الجن: ﴿وَأنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ما اتَّخَذَ صاحِبَةً ولا ولَدًا﴾، فكم في هذه الكلمات من تجل لحقائق الأسماء والصفات على قلب العارف بها غير المعطل لحقائقها، وإذا قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقد آوى إلى ركنه الشديد واعتصم بحوله وقوته من عدوه الذي يريد أن يقطعه عن ربه ويبعده عن قربه ليكون أسوأ حالا.
"فإذا قال: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ وقف هنيهة يسيرة ينتظر جواب ربه له بقوله: "حمدني عبدي".
فإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، انتظر الجواب بقوله: "أثنى علي عبدي"، فإذا قال: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ انتظر جوابه: بـ "مجدني عبدي"، فيا لذة قلبه وقرة عينه وسرور نفسه بقول ربه: عبدي ثلاث مرات فوالله لولا ما على القلوب من دخان الشهوات وغيم النفوس لاستطيرت فرحا وسرورا بقول ربها وفاطرها ومعبودها: "حمدني عبدني وأثنى علي عبدي ومجدني عبدي"، ثم يكون لقلبه مجال من شهود هذه الأسماء الثلاثة التي هي أصول الأسماء الحسنى وهي: الله والرب الرحمن، فشاهد قلبه من ذكر اسم الله تبارك وتعالى إلها معبودا موجودا مخوفا لا يستحق العبادة غيره ولا تنبغي إلا له، قد عنت له الوجوه وخضعت له الموجودات وخشعت له الأصوات ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ والأرْضُ ومَن فِيهِنَّ وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾، ﴿وَلَهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ﴾.
وكذلك خلق السماوات والأرض وما بينهما وخلق الجن والإنس والطير والوحش والجنة والنار، وكذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب وشرع الشرائع وألزم العباد الأمر والنهي وشاهد من ذكر اسمه رب العالمين قيوما. قام بنفسه وقام به كل شيء فهو قائم على كل نفس بخيرها وشرها. قد استوى على عرشه وتفرد بتدبير ملكه.
فالتدبير كله بيديه ومصير الامور كلها إليه، فمراسيم التدبيرات نازلة من عنده على أيدي ملائكته بالعطاء والمنع والخفض والرفع والإحياء والإماتة والتوبة والعزل والقبض والبسط وكشف الكروب وإغاثة الملهوفين وإجابة المضطرين ﴿يَسْألُهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هو في شَأْنٍ﴾، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا معقب لحكمه ولا راد لأمره ولا مبدل لكلماته تعرج الملائكة والروح إليه وتعرض الأعمال أول النهار وآخره عليه فيقدر المقادير ويوقت المواقيت ثم يسوق المقادير إلى مواقيتها قائما بتدبير ذلك كله وحفظه ومصالحه.
ثم يشهد عند ذكر اسم الرحمن جل جلاله ربا محسنا إلى خلقه بأنواع الإحسان متحببا إليهم بصنوف النعم، وسع كل شيء رحمة وعلما، وأوسع كل مخلوق نعمة وفضلا فوسعت رحمته كل شيء ووسعت نعمته كل حي فبلغت رحمته حيث بلغ علمه، فاستوى على عرشه برحمته وخلق خلقه برحمته وأنزل كتبه برحمته وأرسل رسله برحمته وشرع شرائعه برحمته وخلق الجنة برحمته والنار أيضا برحمته فإنها سوطه الذي يسوق به عباده المؤمنين إلى جنته ويطهر بها أدران الموحدين من أهل معصيته، وسجنه الذي يسجن فيه من خليقته.
فتأمل ما في أمره ونهيه ووصاياه ومواعيظه من الرحمة البالغة والنعمة السابغة وما في حشوها من الرحمة والنعمة فالرحمة هي السبب المتصل منه بعباده كما أن العبودية هي السبب المتصل منهم به فمنهم إليه العبودية ومنه إليهم الرحمة، ومن أخص مشاهد هذا الاسم شهود المصلي نصيبه من الرحمة الذي أقامه بها بين يدي ربه، وأهله لعبوديته ومناجاته وأعطاه ومنع غيره وأقبل بقلبه وأعرض بقلب غيره وذلك من رحمته به.
فإذا قال: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، فهنا شهد المجد الذي لا يليق بسوى الملك الحق المبين فيشهد ملكا قاهرا قد دانت له الخليقة وعنت له الوجوه وذلت لعظمته الجبابرة وخضع لعزته كل عزيز فيشهد بقلبه ملكا على عرش السماء مهيمنا لعزته تعنو الوجوه وتسجد، وإذا لم تعطل حقيقة صفة الملك أطلعته على شهود حقائق الأسماء والصفات التي تعطيلها تعطيل لملكه وجحد له فإن الملك الحق التام الملك لا يكون إلا حيا قيوما سميعا بصيرا مدبرا قادرا متكلما آمرا ناهيا مستويا على سرير مملكته، يرسل رسله إلى أقاصي مملكته بأوامره، فيرضى على من يستحق الرضا، ويثيبه ويكرمه ويدنيه، ويغضب على من يستحق الغضب ويعاقبه ويهينه ويقصيه، فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء ويعطي من يشاء ويقرب من يشاء ويقصي من يشاء، له دار عذاب وهي النار، وله دار سعادة عظيمة وهي الجنة.
فمن أبطل شيئا من ذلك أو جحده وأنكر حقيقته فقد قدح في ملكه سبحانه وتعالى ونفى عنه كماله وتمامه.
وكذلك من أنكر عموم قضائه وقدره فقد أنكر عموم ملكه وكماله فيشهد المصلي مجد الرب تعالى في قوله: ﴿مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ فإذا قال: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ففيها سر الخلق والأمر والدنيا والآخرة وهي متضمنة لأجل الغايات وأفضل الوسائل، فأجل الغايات عبوديته وأفضل الوسائل إعانته فلا معبود يستحق العبادة إلا هو ولا معين على عبادته غيره، فعبادته أعلى الغايات وإعانته أجل الوسائل، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى مئة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في أربعة: وهي التوراة والإنجيل والقرآن والزبور، وجمع معانيها في القرآن وجمع معانيه في المفصل وجمع معانيه في الفاتحة وجمع معانيها في: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. وقد اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد: وهما توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، وتضمنت التعبد باسم الرب واسم الله فهو يعبد بألوهيته ويستعان بربوبيته ويهدي إلى الصراط المستقيم برحمته فكان أول السورة ذكر اسمه: الله والرب والرحمن تطابقا لأجل الطالب من عبادته وإعانته وهدايته. وهو المنفرد بإعطاء ذلك كله. لا يعين على عبادته سواه ولا يهدي سواه.
ثم يشهد الداعي بقوله: ﴿اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ﴾ شدة فاقته وضرورته إلى هذه المسألة التي ليس هو إلى شيء أشد فاقة وحاجة منه إليها ألبتة فإنه محتاج إليه في كل نفس وطرفة عين.
وهذا المطلوب من هذا الدعاء لا يتم إلا بالهداية إلى الطريق الموصل إليه سبحانه، والهداية فيه وهي هداية التفصيل وخلق القدرة على الفعل وإرادته وتكوينه وتوفيقه لإيقاعه له على الوجه المرضي المحبوب للرب سبحانه وتعالى. وحفظه عليه من مفسداته حال فعله وبعد فعله، ولما كان العبد مفتقرا في كل حال إلى هذه الهداية في جميع ما يأتيه ويذره من أمور قد أتاها على غير الهداية، فهو يحتاج إلى التوبة منها، وأمور هدى إلى أصلها دون تفصيلها أو هدى إليها من وجه دون وجه، فهو يحتاج إلى إتمام الهداية فيها ليزداد هدى، وأمور هو يحتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها بالمستقبل مثل ما حصل له في الماضي، وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو يحتاج إلى الهداية فيها، وأمور لم يفعلها فهو يحتاج إلى فعلها على وجه الهداية، وأمور قد هدي إلى الاعتقاد الحق والعمل الصواب فيها فهو محتاج إلى الثبات عليها.
إلى غير ذلك من أنواع الهدايات - فرض الله سبحانه عليه أن يسأله هذه الهداية في أفضل أحواله مرات متعددة في اليوم والليلة، ثم بين أن أهل هذه الهداية هم المختصون بنعمته، دون المغضوب عليهم وهم الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه، ودون الضالين وهم الذين عبدوا الله بغير علم. فالطائفتان اشتركتا في القول في خلقه وأمره وأسمائه وصفاته بغير علم. فسبيل المنعم عليه مغايرة لسبيل أهل الباطل كلها علما وعملا.
فلما فرغ من هذا الثناء والدعاء والتوحيد شرع له أن يطبع على ذلك بطابع من التأمين يكون كالخاتم له وافق فيه ملائكة السماء وهذا التأمين من زينة الصلاة كرفع اليدين الذي هو زينة الصلاة واتباع للسنة وتعظيم أمر الله وعبودية اليدين وشعار الانتقال من ركن إلى ركن. ثم يأخذ في مناجاة ربه بكلامه واستماعه من الإمام بالإنصات وحضور القلب وشهوده.
وأفضل أذكار الصلاة ذكر القيام وأحسن هيئة المصلي هيئة القيام، فخصت بالحمد والثناء والمجد وتلاوة كلام الرب جل جلاله، ولهذا نهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود؛ لأنهما حالتا ذل وخضوع وتضامن وانخفاض، ولهذا شرع فيهما من الذكر ما يناسب هيئتهما فشرع للراكع أن يذكر عظمة ربه في حال انخفاضه هو وتطامنه وخضوعه، وأنه سبحانه يوصف بوصف عظمته عما يضاد كبرياءه وجلاله وعظمته فأفضل ما يقول الراكع على الإطلاق: سبحان ربي العظيم، فإن الله سبحانه أمر العباد بذلك وعين المبلغ عنه السفير بينه وبين عباده هذا المحل لهذا الذكر لما نزلت: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ﴾، قال: "اجعلوها في ركوعكم".
وأبطل كثير من أهل العلم صلاة من تركها عمدا، وأوجب سجود السهو على من سها عنها، وهذا مذهب الإمام أحمد ومن وافقه من أئمة الحديث والسنة، والأمر بذلك لا يقصر عن الأمر بالصلاة عليه ﷺ في التشهد الأخير ووجوبه لا يقصر عن وجوب مباشرة المصلي بالجبهة واليدين الركوع تعظيم الرب جل جلاله بالقلب والقالب والقول، ولهذا قال النبي ﷺ: "أما الركوع فعظموا فيه الرب".
* (فصل)
ثم يرفع رأسه عائدا إلى أكمل حديثه، وجعل شعار هذا الركن حمد الله والثناء عليه وتحميده، فافتتح هذا الشعار بقول المصلي: "سمع الله لمن حمده" أي: سمع سمع قبول وإجابة، ثم شفع بقوله: "ربنا ولك الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء" ولا يهمل أمر هذه الواو في قوله: "ربنا ولك الحمد"؛ فإنه قد ندب الأمر بها في الصحيحين، وهي تجعل الكلام في تقدير جملتين قائمتين بأنفسهما، فإن قوله: "ربنا" متضمن في المعنى أنت الرب والملك القيوم الذي بيديه أزمة الأمور وإليه مرجعها فعطف على هذا المعنى المفهوم من قوله: "ربنا". قوله: "ولك الحمد" فتضمن ذلك معنى قول الموحد: له الملك وله الحمد. ثم أخبر عن شأن هذا الحمد وعظمته قدرا وصفة فقال: "ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء" أي: قدر ملء العالم العلوي والسفلي والفضاء الذي بينهما، فهذا الحمد قد ملأ الخلق الموجود وهو يملأ ما يخلقه الرب تبارك وتعالى بعد ذلك ما يشاؤه فحمده قد ملأ كل موجود وملأ ما سيوجد فهذا أحسن التقديرين. وقيل: ما شئت من شيء وراء العالم فيكون قوله بعد: للزمان على الأول، والمكان: على الثاني. ثم أتبع ذلك بقوله: "أهل الثناء والمجد" فعاد الأمر بعد الركعة إلى ما افتتح به الصلاة قبل الركعة: من الحمد والثناء والمجد، ثم أتبع ذلك بقوله: "أحق ما قال العبد" تقريرا لحمده وتمجيده والثناء عليه، وأن ذلك أحق ما نطق به العبد، ثم أتبع ذلك بالاعتراف بالعبودية وأن ذلك حكم عام لجميع العبيد ثم عقب ذلك بقوله: "لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد".
وكان يقول ذلك بعد انقضاء الصلاة أيضا، فيقوله في هذين الموضعين اعترافا بتوحيده وأن النعم كلها منه، وهذا يتضمن أمورا أحدها أنه المنفرد بالعطاء والمنع. الثاني: أنه إذا أعطى لم يطق أحد منع من أعطاه وإذا منع لم يطق أحد إعطاء من منعه.
الثالث: أنه لا ينفع عنده ولا يخلص من عذابه ولا يدني من كرامته جدود بني آدم وحظوظهم من الملك والرئاسة والغنى وطيب العيش وغير ذلك، إنما ينفعهم عنده التقرب إليه بطاعته وإيثار مرضاته.
ثم ختم ذلك بقوله: "اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد"، كما افتتح به الركعة في أول الاستفتاح كما كان يختم الصلاة بالاستغفار وكان الاستغفار في أول الصلاة ووسطها وآخرها، فاشتمل هذا الركن على أفضل الأذكار وأنفع الدعاء من حمده وتمجيده والثناء عليه والاعتراف له بالعبودية والتوحيد والتنصل إليه من الذنوب والخطايا فهو ذكر مقصود في ركن مقصود ليس بدون الركوع والسجود.
* (فصل)
ثم يكبر ويخر لله غير رافع يديه؛ لأن اليدين تنحطان للسجود كما ينحط الوجه فهما ينحطان لعبوديتهما فأغنى ذلك عن رفعهما، ولذلك لم يشرع رفعهما ثم رفع الرأس من السجود؛ لأنهما يرفعان معه كما يوضعان معه، وشرع السجود على أكمل الهيئة ومنعتها في العبودية وأعمها لسائر الأعضاء بحيث يأخذ كل جزء من البدن بحظه من العبودية، والسجود سر الصلاة وركنها الأعظم وخاتمة الركعة وما قبله من الأركان كالمقدمات له فهو شبه طواف الزيارة في الحج فإنه مقصود الحج ومحل الدخول على الله وزيارته وما قبله كالمقدمات له، ولهذا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وأفضل الأحوال له حال يكون فيها أقرب إلى الله، ولهذا كان الدعاء في هذا المحل أقرب إلى الإجابة. ولما خلق الله سبحانه العبد من الأرض، كان جديرا بأن لا يخرج عن أصله، بل يرجع إليه إذا تقاضاه الطبع والنفس بالخروج عنه، فإن العبد لو ترك لطبعه ودواعي نفسه لتكبر وأشر وخرج عن أصله الذي خلق منه ولوثب على حق ربه من الكبرياء والعظمة فنازعه إياهما، وأمر بالسجود خضوعا لعظمة ربه وخشوعا له وتذللا بين يديه وانكسارا له فيكون هذا الخشوع والخضوع والتذلل ردا له إلى حكم العبودية ويتدارك ما حصل له من الهفوة والغفلة والإعراض الذي خرج به عن أصله فتمثل له حقيقة التراب الذي خلق منه وهو يضع أشرف شيء منه وأعلاه وهو الوجه، وقد صار أعلاه أسفله خضوعا بين يدي ربه الأعلى وخشوعا له وتذللا لعظمته واستكانة لعزته وهذا غاية خشوع الظاهر فإن الله سبحانه خلقه من الأرض التي هي مذللة للوطء بالأقدم واستعمله فيها ورده إليها ووعده بالإخراج منها فهي أمه وأبوه وأصله وفصله، فضمته حيا على ظهرها وميتا وجعلت له طهرا ومسجدا فأمر بالسجود إذ هو غاية خشوع الظاهر وأجمع العبودية لسائر الأعضاء فيعفر وجهه في التراب استكانة وتواضعا وخضوعا وإلقاء باليدين.
وقال مسروق لسعيد بن جبير ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب له، وكان النبي ﷺ لا يتقي الأرض بوجهه قصدا بل إذا اتفق له ذلك فعله. ولذلك سجد في الماء والطين، ولهذا كان من كمال السجود الواجب أنه يسجد على الأعضاء السبعة الوجه واليدين والركبتين وأطراف القدمين. فهذا فرض أمر الله به رسول وبلغه الرسول لأمته.
ومن كماله الواجب أو المستحب مباشرة مصلاه بأديم وجهه واعتماده على الأرض بحيث ينالها ثقل رأسه وارتفاع أسافله على أعاليه، فهذا من تمام السجود ومن كماله أن يكون على هيئة يأخذ فيها كل عضو من البدن بحظه من الخضوع فيقل بطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه، ويجافي عضديه عن جنبيه ولا يفرشهما على الأرض ليستقل كل عضو منه بالعبودية.
ولذلك إذا رأى الشيطان ابن آدم ساجدا لله اعتزل ناحية يبكي ويقول: يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار.
ولذلك أثنى الله سبحانه على الذين يخرون ثم سماع كلامه، وذم من لا يقع ساجدا عنده ولذلك كان قول من أوجبه قويا في الدليل، ولما علمت السحرة صدق موسى وكذب فرعون خروا سجدا لربهم فكانت تلك السجدة أول سعادتهم وغفران ما أفنوا فيه أعمارهم من السحر.
ولذلك أخبر سبحانه عن سجود جميع المخلوقات له فقال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ مِن دابَّةٍ والمَلائِكَةُ وهم لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾، فأخبر عن إيمانهم بعلوه وفوقيته وخضوعهم له بالسجود تعظيما وإجلالا، وقال تعالى: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ والشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُومُ والجِبالُ والشَّجَرُ والدَّوُابُّ وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ وكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذابُ ومَن يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن مُكْرِمٍ إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ﴾.
فالذي حق عليه العذاب هو الذي لا يسجد له سبحانه وهو الذي أهانه بترك السجود له، وأخبر أنه لا مكرم له، وقد هان على ربه حيث لم يسجد له، وقال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا وظِلالُهم بِالغُدُوِّ والآصالِ﴾.
ولما كانت العبودية غاية كمال الإنسان وقربه من الله بحسب نصيبه من عبوديته وكانت الصلاة جامعة لمتفرق العبودية متضمنة لأقسامها كانت أفضل أعمال العبد ومنزلتها من الإسلام بمنزلة عمود الفسطاط منه.
وكان السجود أفضل أركانها الفعلية وسرها الذي شرعت لأجله وكان تكرره في الصلاة أكثر من تكرر سائر الأركان وجعله خاتمة الركعة وغايتها وشرع فعله بعد الركوع، فإن الركوع توطئة له ومقدمة بين يديه، وشرع فيه من الثناء على الله ما يناسبه وهو قول: العبد " سبحان ربي الأعلى". فهذا أفضل ما يقال فيه، ولم يرد عن النبي ﷺ أمره في السجود بغيره حيث قال: "اجعلوها في سجودكم"، ومن تركه عمدا فصلاته باطلة عند كثير من العلماء منهم الإمام أحمد وغيره؛ لأنه لم يفعل ما أمر به وكان وصف الرب بالعلو في هذه الحال في غاية المناسبة لحال الساجد الذي قد انحط إلى السفل على وجهه فذكر علو ربه في حال سقوطه وهو كما ذكر عظمته في حال خضوعه في ركوعه ونزه ربه عما لايليق به مما يضاد عظمته وعلوه.
ثم لما شرع السجود بوصف التكرار لم يكن بد من الفصل بين السجدتين ففصل بينهما بركن مقصود شرع فيه من الدعاء ما يليق به ويناسبه وهو سؤال العبد المغفرة والرحمة والهداية والعافية والرزق، فإن هذه تتضمن جلب خير الدنيا والآخرة ودفع شر الدنيا والآخرة.
فالرحمة تحصل الخير، والمغفرة تقي الشر، والهداية توصل إلى هذا وهذا، والرزق إعطاء ما به قوام البدن من الطعام والشراب وما به قوام الروح والقلب من العلم والإيمان، وجعل جلوس الفصل محلا لهذا الدعاء لما تقدمه من رحمة الله والثناء عليه والخضوع له فكان هذا وسيلة للداعي ومقدمة بين يدي حاجته فهذا الركن مقصود الدعاء فيه فهو ركن وضع للرغبة وطلب العفو والمغفرة والرحمة؛ فإن العبد لما أتى بالقيام والحمد والثناء والمجد ثم أتى بالخضوع وتنزيه الرب وتعظيمه ثم عاد إلى الحمد والثناء ثم كمل ذلك بغاية التذلل والخضوع والاستكانة بقي سؤال حاجته واعتذاره وتنصله؛ فشرع له أن يتمثل في الخدمة فيقعد فعل العبد الذليل جاثيا على ركبتيه كهيئة الملقي نفسه بين يدي سيده راغبا راهبا معتذرا إليه مستعديا إليه على نفسه الأمارة بالسوء.
ثم شرع له تكرير هذه العبودية مرة بعد مرة إلى إتمام الأربع، كما شرع له تكرير الذكر مرة بعد مرة لأنه أبلغ في حصول المقصود وأدعى إلى الاستكانة والخضوع، فلما أكمل ركوع الصلاة وسجودها وقراءتها وتسبيحها فالتابعون شرع له أن يجلس في آخر صلاته جلسة المتخشع المتذلل المستكين جاثيا على ركبتيه ويأتي في هذه الجلسة بأكمل التحيات وأفضلها عوضا عن تحية المخلوق للمخلوق إذا واجهه أو دخل عليه فإن الناس يحيون ملوكهم وأكابرهم بأنواع التحيات التي يحيون بها قلوبهم، فبعضهم يقول: أنعم صباحا، وبعضهم يقول: لك البقاء والنعمة، وبعضهم يقول: أطال الله بقاءك. وبعضهم يقول: تعيش ألف عام، وبعضهم يسجد للملوك وبعضهم يسلم، فتحياتهم بينهم تتضمن ما بحبه المحيى من الأقوال والأفعال والمشركون يحيون أصنامهم.
قال الحسن: كان أهل الجاهلية يتمسحون بأصنامهم ويقولون: لك الحياة الدائمة، فلما جاء الإسلام أمروا أن يجعلوا أطيب تلك التحيات وأزكاها وأفضلها لله فالتحية هي تحية من العبد للحي الذي لا يموت وهو سبحانه أولى بتلك التحيات من كل ما سواه؛ فإنها تتضمن الحياة والبقاء والدوام ولا يستحق أحد هذه التحيات إلا الحي الباقي الذي لا يموت ولا يزول ملكه، وكذلك قوله والصلوات فإنه لا يستحق أحد الصلاة إلا الله عز وجل، والصلاة لغيره من أعظم الكفر والشرك به، وكذلك قوله والطيبات هي صفة الموصوف المحذوف أي الطيبات من الكلمات والأفعال والصفات والأسماء لله وحده فهو طيب وأفعاله طيبة وصفاته أطيب شيء وأسماؤه أطيب الأسماء واسمه الطيب ولا يصدر عنه إلا طيب ولا يصعد إليه إلا طيب ولا يقرب منه إلا طيب وإليه يصعد الكلم الطيب، وفعله طيب والعمل الطيب يعرج إليه فالطيبات كلها له ومضافة إليه وصادرة عنه ومنتهية إليه. قال النبي ﷺ: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا"، وفي حديث رقية المريض الذي رواه أبو داود رقم وغيره: "أنت رب الطيبين ولا يجاوره من عباده إلا الطيبون"، كما يقال: لأهل الجنة: ﴿سَلامٌ عَلَيْكم طِبْتُمْ فادْخُلُوها خالِدِينَ﴾. وقد حكم سبحانه في شرعه وقدره أن: الطيبات للطيبين، فإذا كان هو سبحانه الطيب على الإطلاق فالكلمات الطيبات والأفعال الطيبات والصفات الطيبات والأسماء الطيبات كلها له سبحانه لا يستحقها أحد سواه، بل ما طاب شيء قط إلا بطيبته سبحانه، فطيب كل ما سواه من آثار طيبته، ولا تصلح هذه التحية الطيبة إلا له، ولما كان السلام من أنواع التحية وكان المسلم داعيا لمن يحييه وكان الله سبحانه هو الذي يطلب منه السلام لعباده الذين اختصهم بعبوديته وارتضاهم لنفسه وشرع أن يبدأ بأكرمهم عليه وأحبهم إليه وأقربهم منه منزلة في هذه التحية بالشهادتين اللتين هما مفتاح الإسلام فشرع أن يكون خاتمة الصلاة فدخل فيها بالتكبير والحمد والثناء والتمجيد وتوحيد الربوبية والإلهية وختمها بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.
وشرعت هذه التحية في وسط الصلاة، إذا زادت على ركعتين تشبيها لها بجلسة الفصل بين السجدتين وفيها مع الفصل راحة للمصلي لاستقباله الركعتين الآخرتين بنشاط وقوة، بخلاف ما إذا والى بين الركعات، ولهذا كان الأفضل في النفل مثنى مثنى وإن تطوع بأربع جلس في وسطهن.
* (فصل)
وجعلت كلمات التحيات في آخر الصلاة بمنزلة خطبة الحاجة أمامها فإن المصلي إذا فرغ من صلاته جلس جلسة الراغب الراهب يستعطي من ربه ما لا غنى به عنه، فشرع له أمام استعطائه كلمات التحيات مقدمة بين يدي سؤاله، ثم يتبعها بالصلاة على من نالت أمته هذه النعمة على يده وسعادته، فكأن المصلي توسل إلى الله سبحانه بعبودتيه، ثم بالثناء عليه والشهادة له بالوحدانية ولرسوله بالرسالة ثم الصلاة على رسوله ثم قيل له تخير من الدعاء أحبه إليك فذاك الحق الذي عليك وهذا الحق الذي لك، وشرعت الصلاة على آله مع الصلاة عليه تكميلا لقرة عينه بإكرام آله والصلاة عليهم، وأن يصلي عليه وعلى آله كما صلى على أبيه إبراهيم وآله والأنبياء كلهم بعد إبراهيم من آله، ولذلك كان المطلوب لرسول الله ﷺ صلاة مثل الصلاة على إبراهيم وعلى جميع الأنبياء بعده وآله المؤمنين، فلهذا كانت هذه الصلاة أكمل ما يصلي على رسول الله ﷺ بها وأفضل، فإذا أتى بها المصلي أمر أن يستعيذ بالله من مجامع الشر كله فإن الشر إما عذاب الآخرة وإما سببه فليس الشر إلا العذاب وأسبابه، والعذاب نوعان: عذاب في البرزخ وعذاب في الآخرة، وأسبابه الفتنة وهي نوعان: كبرى وصغرى، فالكبرى فتنة الدجال وفتنة الممات، والصغرى فتنة الحياة التي يمكن تداركها بالتوبة بخلاف فتنة الممات وفتنة الدجال، فإن المفتون فيهما لا يتداركها.
ثم شرع له من الدعاء ما يختاره من مصالح دنياه وآخرته والدعاء في هذا المحل قبل السلام أفضل من الدعاء بعد السلام وأنفع للداعي، وهكذا كانت عامة أدعية النبي ﷺ كلها كانت في الصلاة من أولها إلى آخرها، فكان يدعو في الاستفتاح أنواعا من الدعاء وبعد الركوع وبعد رفع رأسه منه وفي السجود وبين السجدتين وفي التشهد قبل التسليم، وعلم الصديق دعاء يدعوا به في صلاته، وعلم الحسن بن علي دعاء يدعو به في قنوت الوتر.
وكان إذا دعا لقوم أو على قوم جعله في الصلاة بعد الركوع ومن ذلك أن المصلي قبل سلامه في محل المناجاة والقربة بين يدي ربه، فسؤاله في هذا الحال أقرب إلى الإجابة من سؤاله بعد انصرافه من بين يديه وقد سئل النبي ﷺ أي الدعاء أسمع فقال: "جوف الليل وأدبار الصلوات المكتوبة". ودبر الصلاة جزؤها الأخير كدبر الحيوان ودبر الحائط وقد يراد بدبرها ما بعد انقضائها بقرينة تدل عليه كقوله: "تسبحون الله وتحمدونه وتكبرونه دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين"، فهنا دبرها الفراغ منها، وهذا نظير انقضاء الأجل، فإنه يراد له آخرالمدة ولما يفرغ ويراد به فراغها وانتهاؤها.
* (فصل)
ثم ختمت بالتسليم وجعل تحليلا لها يخرج به المصلي منها كما يخرج بتحليل الحج منه، وجعل هذا التحليل دعاء الإمام لمن وراءه بالسلامة التي هي أصل الخير وأساسه فشرع لمن وراءه أن يتحلل بمثل ما تحلل به الإمام وفي ذلك دعاء له وللمصلين معه بالسلام، ثم شرع ذلك لكل مصل وإن كان منفردا فلا أحسن من هذا التحليل للصلاة، وكما أنه لا أحسن من كون التكبير تحريما لها فتحريمها تكبير الرب تعالى، والجامع لإثبات كل كمال له وتنزيه عن كل نقص وعيب وإفراده وتخصيصه بذلك وتعظيمه وإجلاله، فالتكبير يتضمن تفاصيل أفعال الصلاة وأقوالها وهيآتها، فالصلاة من أولها إلى آخرها تفصيل لمضمون الله أكبر وأي تحريم أحسن من هذا التحريم المتضمن للإخلاص والتوحيد، وهذا التحليل المتضمن الإحسان إلى إخوانه المؤمنين فافتتحت بالاخلاص وختمت بالإحسان.
وقال في كتاب (الكلام على مسألة السماع)
ثمَّ شرع لهم رفع اليدين عند الركوع تعظيمًا لأمر الله، وزينةً للصلاة، وعبودية خاصة لليدين كعبودية باقي الجوارح، واتباعًا لسنة رسول الله ﷺ، فهو حلية الصلاة، وزينتها، وتعظيم لشعائرها.
ثمّ شرع له التكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من ركن إلى ركن، كالتلبية في انتقالات الحاج من مشعر إلى مشعر، فهو شعار الصلاة، كما أنّ التلبية شعار الحج، ليعلم العبد أنّ سرّ الصلاة هو تعظيم الرب تعالى وتكبيره بعبادته وحده.
ثمّ شرع له بأن يخضع للمعبود سبحانه بالركوع خضوعًا لعظمته واستكانةً لهيبته وتذللًا لعزته، فثنى العبد له صلبه، ووضع له قامتَه، ونكَّس له رأسه، وحنى له ظهره، معظمًا له ناطقًا بتسبيحه المقترن بتعظيمه، فاجتمع له خضوع القلب وخضوع الجوارح وخضوع القول، على أتم الأحوال، وجمع له في هذا الذكر بين الخضوع والتعظيم لربه والتنزيه له عن خضوع العبيد، وأن الخضوع وصف العبد، والعظمة وصف الرب.
وتمام عبودية الركوع أن يتصاغر العبد ويتضاءل بحيث يمحو تصاغُره كلَّ تعظيم منه لنفسه، ويُثبِت مكانه تعظيمَه لربه، وكلما استولى على قلبه تعظيمُ الرب ازداد تصاغره هو عند نفسه، فالركوع للقلب بالذات والقصد، وللجوارح بالتبع والتكملة.
ثمّ شرع له أن يحمد ربه ويثني عليه بآلائه عند اعتداله وانتصابه، ورجوعه إلى أحسن هيأته منتصبَ القامة معتدلها، فيحمد ربه ويثني عليه بأن وفَّقه لذلك الخضوع، ثمّ نقله منه إلى مقام الاعتدال والاستواء بين يديه، واقفًا في خدمته، كما كان في حال القراءة من ذلك الاعتدال ذوق خاص وحال يحصل للقلب سوى ذوق الركوع وحاله، وهو ركن مقصود لذاته، كركن الركوع والسجود سواء، ولهذا كان رسول الله ﷺ يُطيله كما يُطيل الركوع والسجود، ويكثر فيه من الثناء والحمد والتمجيد كما ذكرناه في هديه ﷺ، وكان في قيام الليل يُكثِر فيه من قول: "لربيّ الحمد، لربيّ الحمد"، يكررها.
ثمّ شرع له أن يكبّر ويَخِرَّ ساجدًا، ويُعطي في سجوده كل عضو من أعضائه حظه من العبودية، فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه مسندةً، راغمًا له أنفه خاضعًا له قلبه، ويضع أشرفَ ما فيه وهو وجهه بالأرض ولاسيما على التراب، مُعفِّرًا له بين يدي سيده، راغمًا له أنفه، خاضغا له قلبه وجوارحه، متذللًا لعظمته، خاضعًا لعزته، مستكينًا بين يديه، أذلَّ شيء وأكسرَه لربه تعالى، مسبِّحًا له بعلوِّه في أعظم سفوله، قد صارت أعاليه ملويَّة لأسافله ذلًّا وخضوعًا وانكسارًا، وقد طابق قلبه حال جسمه، فسجد القلب كما سجد الوجه، وقد سجد معه أنفه ويداه وركبتاه ورجلاه، وشرع له أن يُقِلَّ فخذيه عن ساقيه، وبطنَه عن فخذيه، وعضديه عن جنبيه، ليأخذ كل جزء منه حظَّه من الخضوع، ولا يحمل بعضه بعضًا، فأحْرِ به في هذه الحال أن يكون أقربَ إلى ربه منه في غيرها من الأحوال، كما قال النبي ﷺ: "أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد". ولما كان سجود القلب خضوعه التام لربه أمكنه استدامة هذا السجود إلى يوم لقائه. كما قيل لبعض السلف: هل يسجد القلب؟ قال: إي والله! سجدة لا يرفع رأسه منها حتى يلقى الله.
ولما بنيت الصلاة على خمس: القراءة والقيام والركوع والسجود والذكر، سُمِّيت باسم كل واحد من هذه الخمس، فسميت قيامًا كقوله تعالى: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إلّا قَلِيلًا﴾ [المزمل: ٢]، وقوله: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨)﴾ [البقرة: ٢٣٨]. وقراءة كقوله: ﴿وَقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: ٧٨]، وركوعًا كقوله تعالى: ﴿وارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ [البقرة: ٤٣]، وقوله: ﴿وَإذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ﴾ [المرسلات: ٤٨]، وسجودًا كقوله: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ﴾ [الحجر: ٩٨]، وقوله: ﴿كَلّا لا تُطِعْهُ واسْجُدْ واقْتَرِبْ﴾ [العلق: ١٩]، وذكرًا كقوله: ﴿إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة: ٩]، وقوله: ﴿لا تُلْهِكم أمْوالُكم ولا أوْلادُكم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [المنافقون: ٩]. وأشرف أفعالها السجود، وأشرف أذكارها القراءة، وأول سورة أنزلت على النبي ﷺ افتتحت بالقراءة وختمت بالسجود، ووضعت الركعة على ذلك، أولها قراءة وآخرها سجود.
ثمّ شرع له أن يرفع رأسه ويعتدل جالسًا، ولما كان هذا الاعتدال محفوفًا بسجودين: سجود قبله وسجود بعده، فينتقل من السجود إليه ثمّ منه إلى السجود، كان له شأن.
فكان رسول الله ﷺ يُطيله بقدر السجود، ويتضرع فيه إلى ربه ويستغفره، ويسأله رحمته وهدايته ورزقه وعافيته، وله ذوق خاص وحال للقلب غير ذوق السجود وحاله، فالعبد في هذا القعود قد تمثَّل جاثيًا بين يدي ربه، مُلقيًا نفسه بين يديه، معتذرًا إليه مما جناه، راغبًا إليه أن يغفر له ويرحمه مستعديًا على نفسه الأمّارة بالسوء. وكان النبي ﷺ يكرر الاستغفار، في هذه القعدة، ويكثر رغبته إلى الله فيها.
فمثِّلْ نفسَك بمنزلة غريمِ عليه حق الله وأنت كفيل به، والغريم مماطلٌ مخادع، وأنت مطلوب بالكفالة، والغريم مطلوب بالحق، فأنت تستعدي عليه حتى تستخرج ما عليه من الحق لتتخلص من المطالبة. والقلب شريك النفس في الخير والشر والثواب والعقاب والحمد والذم، والنفس من شأنها الإباق والخروج من رِقّ العبودية، وتضييع حقوق الله التي قبلها، والقلب شريكها إن قوي سلطانها وأسيرها، وهي شريكه وأسيره إن قوي سلطانه.
فشرع للعبد إذا رفع رأسه من السجود أن يجثو بين يدي الله مستعديًا على نفسه، معتذرًا إلى ربه مما كان منها، راغبًا إليه أن يرحمه ويغفر له ويهديه ويرزقه ويعافيه. وهذه الخمس هي جماع خير الدنيا والآخرة، فإنّ العبد محتاج بل مضطرٌّ إلى تحصيل مصالحه في الدنيا وفي الآخرة، ودفع المضارِّ عنه في الدنيا والآخرة، وقد تضمنها هذا الدعاء، فإنّ الرزق يَجلِبُ له مصالحَ دنياه، والعافية تدفع مضارَّها، والهداية تَجلِب له مصالحَ أخراه، والمغفرة تدفع عنه مضارَّها، والرحمة تجمع ذلك كله.
وشرع له أن يعود ساجدًا كما كان، ولا يكتفي منه بسجدة واحدة في الركعة كما اكتفى منه بركوع واحد، لفضل السجود وشرفه وموقعه من الله، حتى إنّه أقرب ما يكون إلى عبده وهو ساجد، وهو أدخل في العبودية وأعرقُ فيها من غيره، ولهذا جُعِل خاتمة الركعة، وما قبله كالمقدمة بين يديه، فمحلُّه من الصلاة محل طواف الزيارة، وما قبله من التعريف وتوابعه مقدمات بين يديه، وكما أنّه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فكذلك أقرب ما يكون منه في المناسك وهو طائف. ولهذا قال بعض الصحابة لمن كلمه في طوافه بأمر من الدنيا: "أتقول هذا ونحن نتراءى لله في طوافنا؟ ". ولهذا والله أعلم جعل الركوع قبل السجود تدريجًا وانتقالًا من الشيء إلى ما هو أعلى منه.
وشرع له تكرير هذه الأفعال والأقوال، إذ هي غذاء القلب والروح التي لا قِوامَ لهما إلّا بها، فكان تكريرها بمنزلة تكرير الأكل حتى يُشبع، والشرب حتى يُروِي، فلو تناول الجائع لقمة واحدة وأقلع عن الطعام، ماذا كانت تُغني عنه؟
ولهذا قال بعض السلف: "مثل الذي يصلي ولا يطمئن في صلاته كمثل الجائع، إذا قُدِّم إليه طعام فتناول منه لقمة أو لقمتين، ماذا تُغنِي عنه؟ ".
هذا، وفي إعادة كل قول أو فعل من العبودية والقرب، وتنزيل الثانية منزلة الشكر على الأولى، وحصول مزيدٍ منها ومعرفةٍ وإقبالٍ وقوة قلب وانشراح صدر وزوال دَرَنٍ ووسخٍ عن القلب، بمنزلة غسل الثوب مرة بعد مرة، فهذه حكمة الله التي بهرت العقول في خلقه وأمره، ودلَّت على كمال رحمته ولطفه.
فلما قضى صلاته وأكملها ولم يبقَ إلا الانصراف منها، شرع له الجلوس بين يدي ربه، مُثنيًا عليه بأفضل التحيات التي لا تصلح إلا له، ولا تليق بغيره.
ولما كان عادة الملوك أن يُحيَّوا بأنواع التحيات من الأفعال والأقوال المتضمنة للخضوع والثناء وطلب البقاء ودوام الملك، فمنهم من يُحيّى بالسجود، ومنهم من يُحيّى بالثناء عليه، ومنهم من يُحيّى بطلب البقاء والدوام له، ومنهم من يُجمع له ذلك كله، فكان الملك الحق سبحانه أولى بالتحيات كلها من جميع خلقه، وهي له بالحقيقة، ولهذا فُسِّرت التحيات بالملك، وفسرت بالبقاء والدوام، وحقيقتها ما ذكرته، وهي تحيات الملك، فالملك الحق المبين أولى بها.
فكل تحية يُحيّى بها ملِكٌ من سجود أو ثناء أو بقاء ودوام فهي لله - عز وجل -، ولهذا أتى بها مجموعةً معرَّفةً باللام أداة العموم، وهي جمع تحية، وهي تفعلة من الحياة، وأصلها تَحيِيَة بوزن تكرِمة، ثمّ أُدغِم أحد المثلين في الآخر فصارت تحيَّة، وإذا كان أصلها من الحياة فالمطلوب بها لمن يُحيّا بها دوام الحياة.
وكانوا يقولون لملوكهم: لك الحياة الباقية، ولك الحياة الدائمة، وبعضهم يقول: عشرة آلاف سنة، واشتقَّ منها: أدام الله أيامك، وأطال الله بقاءك، ونحو ذلك مما يراد به دوام الحياة والملك، وذلك لا ينبغي إلا للحي الذي لا يموت، وللملك الذي كل مُلكٍ زائل غير ملكه.
ثمّ عطف عليها "الصلوات" بلفظ الجمع والتعريف، ليشمَل كلَّ ما أطلق عليه لفظ الصلاة خصوصًا وعمومًا، فكلها لله، لا تنبغي إلا له، فالتحيات له ملكًا، والصلوات له عبوديةً واستحقاقًا، فالتحيات لا تكون إلا له، والصلوات لا تنبغي إلا له.
ثمّ عطف عليها "الطيبات" كذلك، وهذا يتناول أمرين: الوصف والملك.
فأما الوصف فإنّه سبحانه طيب، وكلامه طيب، وفعله كله طيب، ولا يصدر منه إلا الطيب، ولا يضاف إليه إلا الطيب، ولا يصعد إليه إلا الطيب، فالطيبات له وصفًا وفعلًا وقولًا ونسبةً، وكل طيب مضاف إليه، وكل مضاف إليه طيب، فله الكلمات الطيبات والأفعال الطيبات، وكل مضاف إليه كبيته وعبده وروحه وناقته وجنته فهي طيبات.
وأيضًا فمعاني الكلمات الطيّبات لله وحده، فإن الكلمات الطيبات تتضمن تسبيحه وتحميده وتكبيره وتمجيده والثناء عليه بآلائه وأوصافه، فهذه الكلمات الطيبات التي يُثنى عليه بها ومعانيها له وحده لا يَشرَكُه فيها غيره، كسبحانك اللهمَّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، ونحو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ونحو سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
فكل طيب فله وعنده ومنه وإليه، وهو طيب لا يقبل إلا طيبًا، وهو إله الطيبين، وجيرانُه في دار كرامته هم الطيبون.
فتأملْ أطيبَ الكلمات بعد القرآن كيف لا تنبغي إلا لله، وهي: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله". فإن "سبحان الله" تتضمن تنزيهه عن كل نقص وعيب وسوء، وعن خصائص المخلوقين وشبههم. و"الحمد لله" تتضمن إثبات كل كمال له قولًا وفعلًا ووصفًا، على أتمِّ الوجوه وأكملها أزلًا وأبدًا. و"لا إله إلا الله" تتضمن انفراده بالإلهية، وأن كل معبود سواه فباطل، وأنه وحده الإله الحق، وأنه من تألَّه غيرَه فهو بمنزلة من اتخذ بيتًا من بيوت العنكبوت يأوي إليه ويسكنه. و"الله أكبر" تتضمن أنه أكبر من كل شيء وأجلُّ وأعظم وأعز وأقوى وأقدر وأعلم وأحكم. فهذه الكلمات الطيبات لا تصلح هي ومعانيها إلا لله وحده.
ثم شرع له أن يُسلِّم على عباد الله الذين اصطفى بعد تقدّم الحمد والثناء عليه بما هو أهله، فطابق ذلك قوله: ﴿قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى﴾ [النمل: ٥٩]، وكأنه امتثال له. وأيضًا فإن هذا تحية المخلوق، فشُرعت بعد تحية الخالق، وقدّم في هذه التحية أولى الخلق بها، وهو النبي ﷺ الذي نالت أمته على يده كلَّ خير، وعلى نفسه بعده، وعلى سائر عباد الله الصالحين، وأخصهم بهذه التحية الأنبياء، ثم أصحاب رسول الله ﷺ، مع عمومها لكل عبدٍ لله صالحٍ في الأرض والسماء.
ثم شرع له بعد ذكر هذه التحية والتسليم على مَن يستحق التسليم خصوصًا وعمومًا أن يشهد شهادة الحق التي بُنِيت عليها الصلاة، وهي حق من حقوقها، ولا تنفعه إلا بقرينتها وهي شهادة لرسول الله بالرسالة، وختمت بها الصلاة، كما قال عبد الله بن مسعود: "فإذا قلتَ ذلك فقضيتَ صلاتك، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد".
وهذا إمّا أن يُحمل على قضاء الصلاة حقيقةً كما يقوله الكوفيون، أو على مقاربة انقضائها ومشارفته كما يقوله أهل الحجاز وغيرهم، وعلى التقديرين فجُعلت شهادةُ الحق خاتمةَ الصلاة كما شرع أن تكون خاتمة الحياة، فمَن كان آخر كلامه "لا إله إلا الله" دخل الجنة، وكذلك شرع للمتوضئ أن يختم وضوءه بالشهادتين.
ثم لما قضى صلاته أذن له أن يسأل حاجته، وشرع له أن يتوسل قبلها بالصلاة على النبي ﷺ، فإنها من أعظم الوسائل بين يدي الدعاء، كما في السنن عن فضالة بن عبيد أن رسول الله ﷺ قال: "إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، وليصلِّ على رسوله، ثم ليسلْ حاجته".
فجاءت التحيات على ذلك، أولها حمدُ الله والثناء عليه، ثمّ الصلاة على رسوله، ثم الدعاء آخر الصلاة، وأذن النبي ﷺ للمصلي بعد الصلاة عليه أن يتخير من الدعاء أعجبَه إليه، ونظير هذا ما شرع لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول، وأن يقول: "رضيتُ بالله ربّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ ﷺ رسولًا، وأن يسألَ الله لرسوله الوسيلةَ والفضيلةَ، وأن يبعثَه المقامَ المحمود، ثم يصليّ عليه، ثم يسألَ حاجته. فهذه خمسُ سننٍ في إجابة المؤذن، لا ينبغي الغفلةُ عنها.
* (فصل)
وسرُّ الصلاة وروحُها ولبُّها هو إقبالُ العبد على الله بكلّيته، فكما أنه لا ينبغي له أن يَصرِفَ وجهه عن قبلة الله يمينًا وشمالًا، فكذلك لا ينبغي له أن يَصرِفَ قلبه عن ربه إلى غيره؛ فالكعبة التي هي بيت الله قبلةُ
وجهه وبدنه، ورب البيت تبارك وتعالى هو قبلة قلبه وروحه، وعلى حسب إقبال العبد على الله في صلاته يكون إقبال الله عليه، وإذا أعرض أعرض الله عنه.
وللإقبالِ في الصلاة ثلاثُ منازلَ: إقبالٌ على قلبه، فيحفظه من الوساوس والخطراتِ المبطلةِ لثواب صلاته أو المُنقِصَة له، وإقبالٌ على الله بمراقبتِه حتى كأنه يراه، وإقبالٌ على معاني كلامه وتفاصيل عبوديةِ الصلاة ليُعطِيها حقَّها، فباستكمالِ هذه المراتب الثلاث تكون إقامةُ الصلاة حقًّا، ويكون إقبالُ الله على عبده بحسب ذلك.
فإذا انتصب العبد قائمًا بين يديه فإقباله على قيوميته وعظمته، وإذا كبَّر فإقباله على كبريائه، فإذا سبَّحه وأثنى عليه فإقباله على سُبُحاتِ وجهه، وتنزيهِه عما لا يليق به، والثناءِ عليه بأوصاف جماله، فإذا استعاذ به فإقباله على ركنِه الشديد وانتصارِه لعبده ومَنعِه له وحفظِه من عدوه، فإذا تلا كلامه فإقباله على معرفته من كلامه، حتى كأنه يراه ويشاهده في كلامه، فهو كما قال بعض السلف: "لقد تجلّى الله لعباده في كلامه". فهو في هذه الحال مُقبِلٌ على ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه.
فإذا ركع فإقباله على عظمته وجلاله وعزِّه، ولهذا شرع له أن يقول: سبحان ربي العظيم. فإذا رفع رأسه من الركوع فإقباله على حمده والثناءِ عليه وتمجيدِه وعبوديته له وتفردِه بالعطاء والمنع. فإذا سجدَ فإقبالُه على قربه والدنوِّ منه والخضوع له والتذلُّلِ بين يديه والانكسار والتملُّق. فإذا رفع رأسه وجَثا على ركبتيه فإقباله على غناه وجوده وكرمِه، وشدّة حاجته إليه، وتضرعه بين يديه والانكسار، أن يغفر له ويرحمه ويعافيه ويهديه ويرزقه.
فإذا جلس في التشهد فله حال آخر وإقبال آخر، شِبْه حالِ الحاجِّ في طواف الوداع، وقد استشعر قلبُه الانصرافَ من بين يدي ربه، وموافاةَ العلائقِ والشواغلِ التي قطعَها الوقوفُ بين يديه، وقد ذاق تألم قلبه وعذابه بها، وباشرَ رَوْحَ القربِ ونعيمَ الإقبالِ على الله وعاقبَته، وانقطاعَها عنه مدةَ الصلاة، ثم استشعر قلبُه عودَها إليه بخروجه من حِمى الصلاة، فهو يحملُ همَّ انقضاءِ الصلاة وفراغها، ويقول ليتَها اتصلتْ بيوم اللقاء، ويعلم أنه ينصرف من مناجاةِ مَن كلُّ السعادةِ في مناجاته، إلى مناجاةِ مَن الأذى والهمُّ والغمُّ والنَّكدُ في مناجاته، ولا يشعر بهذا وهذا إلا قلبٌ حيٌّ معمور بذكر الله ومحبته والأنسِ به.
ولما كان العبد بين أمرين من ربه - عزّ وجل -:
أحدهما: حكمٌ عليه في أحواله كلِّها ظاهرًا وباطنًا، واقتضاؤه منه القيامَ بعبوديةِ حكمِه، فإن لكل حكمٍ عبوديةً تخصُّه، أعني الحكم الكوني القدري.
والثاني: فعلٌ يفعله العبد عبوديةً لربه، وهو مُوجَبُ حكمِه الديني الأمري.
وكلا الأمرين يُوجِبان تسليمَ النفس إليه تعالى، ولهذا اشتُقَّ له اسمُ الإسلام من التسليم، فإنه لما أسلم نفسَه لحكم ربه الديني الأمري، ولحكمه الكوني القدري، بقيامه بعبوديته فيه لا باسترساله معه، استحقَّ اسمَ الإسلام، فقيل له مسلم. ولما اطمأنّ قلبه بذكره وكلامه ومحبته وعبوديته، سكن إليه وقَرّتْ عينُه به، فنال الأمانَ بإيمانه.
= كان قيامُه بهذين الأمرين أمرًا ضروريًا له، لا حياةَ له ولا فلاحَ ولا سعادةَ إلا بهما.
ولمّا كان ما بُلِيَ به من النفسِ الأمّارة والهوى المقتضِي والطباع المطالِبة والشيطان المُغوِي، يقتضي منه إضاعةَ حظِّه من ذلك أو نقصانَه، اقتضتْ رحمةُ العزيز الرحيم أن شرَعَ له الصلاة مُخلِفَة عليه ما ضاعَ منه، رادّةً عليه ما ذهب، مجدِّدة له ما أخلقَ من إيمانه، وجُعِلتْ صورتهُا على صورة أفعاله خشوعًا وخضوعًا وانقيادًا وتسليمًا، وأعطى كلَّ جارحة من الجوارح حظَّها من العبودية، وجعلَ ثمرتها وروحَها إقبالَه على ربه فيها بكليته، وجعل ثوابها وجزاءها القربَ منه ونيلَ كرامته في الدنيا والآخرة، وجعلَ منزلتَها ومحلَّها الدخولَ على الله تبارك وتعالى والتزينَ للعرض عليه، تذكيرًا بالعرضِ الأكبر عليه يومَ اللقاء.
وكما أن الصوم ثمرته تطهيرُ النفس، وثمرة الزكاة تطهير المال، وثمرة الحج وجوب المغفرة، وثمرة الجهاد تسليم النفس التي اشتراها سبحانه من العباد وجعلَ الجنة ثمنَها، فالصلاة ثمرتها الإقبال على الله، وإقبال الله سبحانه على العبد، وفي الإقبال جميع ما ذُكِرَ من ثمراتِ الأعمال. ولذلك لم يقل النبي ﷺ: جُعِلت قرةُ عيني في الصوم ولا في الحج والعمرة، وإنما قال: "وجُعِلتْ قرةُ عيني في الصلاة".
وتأمَّلْ قولَه: "جُعِلتْ قرةُ عيني في الصلاة"، ولم يقل "بالصلاة" إعلامًا بأن عينَه إنما تَقَرُّ بدخوله فيها، كما تَقَرُّ عينُ المحب بملابسته لمحبوبه، وتَقَرُّ عينُ الخائفِ بدخوله في محل أمنِه، فقرةُ العين بالدخول في الشيء أكملُ وأتمُّ من قرة العين به قبل الدخول. ولما جاء إلى راحة القلب من تعبِه ونَصَبِه قال: "يا بلالُ أرِحْنا بالصلاة" أي أقِمْها لنستريحَ بها من مقاساة الشواغل، كما يستريح التعبان إذا وصل إلى نُزلِه وقرّ فيه وسكن.
وتأمَّلْ كيف قال: أرِحْنا بها، ولم يقل: أرِحْنا منها، كما يقوله المتكلف بها الذي يفعلها تكلفًا وغُرمًا، فهو لما امتلأ قلبه بغيرها وجاءت قاطعةً عن أشغاله ومحبوباته، وعلم أنه لابدّ له منها، فهو قائل بلسان حاله وقالِه: نصليِّ ونستريح من الصلاة، لا بها، فهذا لونٌ وذاك لون آخر، فالفرق بين مَن كانت الصلاة لحوائجه قيدًا ولقلبه سجنًا ولنفسه عائقًا، وبين مَن كانت الصلاة لقلبه نعيمًا، ولعينه قرة، ولحوائجه راحة، ولنفسه بستانًا ولذة.
فالأول الصلاة سجنٌ لنفسه وتقييدٌ لها عن التورط في مساقط الهلكات، وقد ينالون بها التكفير والثواب، وينالهم من الرحمة بحسب عبوديتهم لله فيها، والقسم الآخر الصلاةُ بستان قلوبهم، وقرة عيونهم، ولذة نفوسهم، ورياض جوارحهم، فهم فيها يتقلَّبون في النعيم. فصلاةُ هؤلاء تُوجِب لهم القربَ والمنزلةَ من الله، ويُشاركون الأولين في ثوابهم، ويختصُّون بأعلاه ومزيد المنزلة والقربة، وهي قدر زائد على مجرد الثواب، ولهذا يَعِدُ الملوك من أرضاهم بالأجر والتقريب، كما قال السحرة لفرعون: ﴿أئِنَّ لَنا لَأجْرًا إنْ كُنّا نَحْنُ الغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وإنَّكم إذًا لَمِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ [الشعراء: ٤١-٤٢].
فالأول عبدٌ قد دخل الدارَ والسترُ حاجبٌ بينه وبين رب الدار، فهو من وراء الستر، فلذلك لم تَقَرَّ عينُه، لأنه في حُجُب الشهوات، وغُيوم الهوى، ودخان النفس، وبخار الأماني، فالقلب عليل، والنفس مُكِبَّة على ما تهواه، طالبةٌ لحظِّها العاجل، والآخر قد دخل دارَ الملك، ورُفِع الستر بينه وبينه، فقرَّتْ عينُه واطمأنّتْ نفسه، وخَشَع قلبُه وجوارحه، وعَبَدَ الله كأنه يراه، وتجلّى له في كلامه.
فهذه إشارةٌ ما ونبذة يسيرة جدًّا في ذوق الصلاة.
* (فصل)
وما أحسن ما قال أبو الفرج بن الجوزي في بعض وعظه: حضور القلب أول منزل من منازل الصلاة
فإذا نزلته انتقلت إلى بادية المعنى فإذا رحلت عنها أنخت بباب المناجاة فكان أول قرى الضيف اليقظة وكشف الحجاب لعين القلب فكيف يطمع في دخول مكة من لا خرج إلى البادية وقد تبعث قلبك في كل واد فربما تفجأك الصلاة وليس قلبك عندك فتبعث الرسول وراءه فلا يصادفه فتدخل في الصلاة بغير قلب والمقصود أنه قبيح بالعبد أن يقول بلسانه الله أكبر وقد امتلأ قلبه بغير الله فهو قبلة قلبه في الصلاة ولعله لا يحضر بين يدي ربه في شيء منها فلو قضى حق الله أكبر وأتى البيت من بابه لدخل وانصرف بأنواع التحف والخيرات فهذا الباب الذي يدخل منه المصلى وهو التحريم وأما الباب الذي يخرج منه فهو باب السلام المتضمن أحد الأسماءا الحسنى فيكون مفتتحا لصلاته باسمه تبارك وتعالى ومختتما لها باسمه فيكون ذاكرا لاسم ربه أول الصلاة وآخرها فأولها باسمه وآخرها باسمه فدخل فيها باسمه وخرج منها باسمه مع ما في اسم السلام من الخاصية والحكمة المناسبة لانصراف المصلي من بين يدي الله تعالى فإن المصلي ما دام في صلاته بين يدي ربه فهو في حماه الذي لا يستطيع أحد أن يخفره بل هو في حمى من جميع الآفات والشرور فإذا انصرف من بين يديه تبارك وتعالى ابتدرته الآفات والبلايا والمحن وتعرضت له من كل جانب وجاءه الشيطان بمصائده وجنده فهو متعرض لأنواع البلايا والمحن فإذا انصرف من بين يدي الله مصحوبا بالسلام لم يزل عليه حافظ من الله إلى وقت الصلاة الأخرى وكان من تمام النعمة عليه أن يكون انصرافه من بين يدي ربه بسلام يستصحبه ويدوم له ويبقى معه.
فتدبر هذا السر الذي لو لم يكن في هذا التعليق غيره لكان كافيا، فكيف وفيه من الأسرار والفوائد ما لا يوجد عند أبناء الزمان والحمد في ذلك لله وحده.
* (فصل: الالتفات في الصلاة)
وقوله في الحديث «وأمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت» الالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان.
(أحدهما) التفات القلب عن الله عز وجل إلى غير الله تعالى (الثاني) التفات البصر وكلاهما منهي عنه.
ولا يزال الله مقبلًا على عبده ما دام العبد مقبلًا على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره أعرض الله تعالى عنه.
وقد سئل رسول الله ﷺ عن التفات الرجل في صلاته فقال
«اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد»
وفي أثر يقول الله تعالى: (إلى خير مني، إلى خير مني؟)
ومثل من يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه أو مثل رجل قد استدعاه السلطان فأوقفه بين يديه وأقبل يناديه ويخاطبه، وهو في خلال ذلك يلتفت عن السلطان يمينًا وشمالًا وقد انصرف قلبه عن السلطان فلا يفهم ما يخاطبه به، لأن قلبه ليس حاضرًا معه، فما ظن هذا الرجل أن يفعل به السلطان؟ أفليس أقل المراتب في حقه أن ينصرف من بين يديه ممقوتًا مبعدًا قد سقط من عينيه؟
فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب المقبل على الله تعالى في صلاته الذي قد أشعر قلبه عظمة من هو واقف بين يديه فامتلأ قلبه من هيبته، وذلت عنقه له، واستحى من ربه تعالى أن يقبل على غيره أو يلتفت عنه.
وبين صلاتيهما كما قال حسان عطية: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة وأن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مقبل على الله عز وجل والآخر ساهٍ غافل.
فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله وبينه حجاب لم يكن إقبالًا ولا تقريبًا، فما الظن بالخالق عز وجل؟
وإذا أقبل على الخالق عز وجل وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس والنفس مشغوفة بها ملأى منها فكيف يكون ذلك إقبالًا وقد ألهته الوساوس والأفكار وذهبت به كل مذهب؟ والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه، فإنه قد قام في أعظم مقام وأقربه وأغيظه للشيطان وأشده عليه، فهو يحرص ويجتهد أن لا يقيمه فيه، بل لا يزال به يعده ويمنيه وينسيه ويجلب عليه بخيله ورجله حتى يهون عليه شأن الصلاة فيتهاون بها فيتركها.
فإن عجز عن ذلك منه وعصاه العبد وقام في ذلك المقام أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه، فيذكره في الصلاة ما لم يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي شيء والحاجة وأيس منها فيذكره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها ويأخذه عن الله عز وجل، فيقوم فيها بلا قلب، فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجل الحاضر بقلبه في صلاته، فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله لم تخف عنه بالصلاة، فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقابله.
فهذا إذا انصرف منها وجد خفة من نفسه، وأحس بأثقال قد وضعت عنه.
فوجد نشاطًا وراحة وروحًا، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها، لأنها قرة عينيه ونعيم روحه وجنة قلبه ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها فيستريح بها لا منها.
فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم ﷺ
"يا بلال أرحنا بالصلاة"
ولم يقل أرحنا منها.
وقال ﷺ «جعلت قرة عيني في الصلاة»
فمن جعلت قرة عينه في الصلاة كيف تقر عينه ﷺ بدونها، وكيف يطيق الصبر عنها؟ فصلاة هذا الحاضر بقلبه الذي قرة عينه في الصلاة هي التي تصعد ولها نور وبرهان، حتى يستقبل بها الرحمن عز وجل فتقولحفظك الله تعالى كما حفظتني، وأما صلاة المفرط المضيع لحقوقها وحدودها وخشوعها، فإنها تلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها وتقول ضيعك الله كما ضيعتني.
وقد روي في حديث مرفوع رواه بكر بن بشر عن سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يرفعه أنه قال:
«ما من مؤمن يتم الوضوء إلى أمكانه ثم يقوم إلى الصلاة في وقتها فيؤديها لله عز وجل لم ينقص من وقتها وركوعها وسجودها ومعالمها شيئًا إلا رفعت له إلى الله عز وجل بيضاء مسفرة يستضيء بنورها ما بين الخافقين حتى ينتهي بها إلى الرحمن عز وجل، ومن قام إلى الصلاة فلم يكمل وضوءها واخرها عن وقتها واسترق ركوعها وسجودها ومعالمها رفعت عنه سوداء مظلمة ثم لا تجاوز شعر رأسه تقول: ضيعك الله كما ضيعتني، ضيعك كما ضيعتني».
فالصلاة المقبولة والعمل المقبول أن يصلي العبد صلاة تليق بربه عز وجل.
فإذا كانت صلاة تصلح لربه تبارك وتعالى وتليق به كانت مقبولة.
* (فصل)
اعلمْ أن اللذة التّامَّة والفرح والسُّرُور وطيب العَيْش والنَّعِيم إنَّما هو في معرفَة الله وتوحيده والأنس بِهِ والشوق إلى لِقائِه واجتماع القلب والهم عَلَيْهِ فَإن أنكد العَيْش عَيْش من قلبه مشتت وهمه مفرق فَلَيْسَ لِقَلْبِهِ مُسْتَقر يسْتَقرّ عِنْده ولا حبيب يأوي إلَيْهِ ويسكن إلَيْهِ كَما أفْصح القائِل عَن ذَلِك بقوله
؎(وَما ذاق طعم العَيْش من لم يكن لَهُ ∗∗∗ حبيب إلَيْهِ يطمئن ويسكن)
فالعيش الطّيب والحياة النافعة وقرة العين في السّكُون والطمأنينة إلى الحبيب الأول ولَو تنقل القلب في المحبوبات كلها لم يسكن ولم يطمئن إلى شَيْء مِنها ولم تقر بِهِ عينه حَتّى يطمئن إلى إلهه وربه ووليه الَّذِي لَيْسَ لَهُ من دونه ولي ولا شَفِيع ولا غنى لَهُ عَنهُ طرفَة عين كَما قالَ القائِل
؎(نقل فُؤادك حَيْثُ. . شِئْت من الهوى ∗∗∗ ما الحبّ إلّا للحبيب الأول)
؎(كم منزل في الأرْض يألفه الفَتى ∗∗∗ وحنينه أبدا لأوّل منزل)
فاحرص أن يكون همك واحِدًا وأن يكون هو الله وحده فَهَذا غايَة سَعادَة العَبْد وصاحب هَذِه الحال في جنَّة مُعجلَة قبل جنَّة الآخِرَة وفي نعيم عاجل كَما قالَ بعض الواجدين: إنَّه ليمر بِالقَلْبِ أوْقات أقُول إن كانَ أهل الجنَّة في مثل هَذا إنَّهُم لفي عَيْش طيب.
وَقالَ آخر: إنَّه ليمر بِالقَلْبِ أوْقات يرقص فِيها طَربا وقالَ آخر مَساكِين أهل الدُّنْيا خَرجُوا مِنها وما ذاقوا أطيب ... ما فِيها قيل لَهُ وما أطيب ما فِيها قالَ معرفَة الله ومحبته والأنس بِقُرْبِهِ والشوق إلى لِقائِه، ولَيْسَ في الدُّنْيا نعيم يشبه نعيم أهل الجنَّة إلّا هَذا ولِهَذا قالَ النَّبِي ﷺ حبب إلَيّ من دنياكم النِّساء والطّيب وجعلت قُرَّة عَيْني في الصَّلاة فَأخْبر أنه حبب إلَيْهِ من الدُّنْيا شَيْئانِ النِّساء والطّيب ثمَّ قالَ وجعلت قُرَّة عَيْني في الصَّلاة
وقرة العين فَوق المحبَّة فَإنَّهُ لَيْسَ كل مَحْبُوب تقر بِهِ العين وإنَّما تقر العين بِأعْلى المحبوبات الَّذِي يحب لذاته ولَيْسَ ذَلِك إلّا الله الَّذِي لا إلَه إلّا هو وكل ما سواهُ فَإنَّما يحب تبعا لمحبته فيحب لأجله ولا يحب مَعَه فَإن الحبّ مَعَه شرك والحب لأجله تَوْحِيد فالمشرك يتَّخذ ... من دون الله أندادا يُحِبهم كحب الله والموحد إنَّما يحب من يُحِبهُ لله ويبغض من يبغضه في الله ويفْعل ما يَفْعَله لله ويتْرك ما يتْركهُ لله ومدار الدّين على هَذِه القَواعِد الأرْبَعَة وهِي الحبّ والبغض ويَتَرَتَّب عَلَيْهِما الفِعْل والتّرْك والعطاء والمَنع فَمن اسْتكْمل أن يكون هَذا كُله لله اسْتكْمل الإيمان وما نقص مِنها أن يكون لله عاد ينقص إيمان العَبْد.
والمَقْصُود أن ما تقر بِهِ العين أعلى من مُجَرّد ما يُحِبهُ فالصَّلاة قُرَّة عُيُون المحبين في هَذِه الدُّنْيا لما فِيها من مُناجاة من لا تقر العُيُون ولا تطمئِن القُلُوب ولا تسكن النُّفُوس إلّا إلَيْهِ والتنعم بِذكرِهِ والتذلل والخضوع لَهُ والقرب مِنهُ ولا سِيما في حال السُّجُود وتلك الحال أقرب ما يكون العَبْد من ربه فِيها ومن هَذا قَول النَّبِي ﷺ يا بِلال أرحْنا بِالصَّلاةِ فَأعْلم بذلك أن راحَته ﷺ في الصَّلاة كَما أخبر أن قُرَّة عينه فِيها فَأيْنَ هَذا من قَول القائِل نصلي ونستريح من الصَّلاة
فالمحب راحَته وقرة عينه في الصَّلاة والغافل المعرض لَيْسَ لَهُ نصيب من ذَلِك بل الصَّلاة كَبِيرَة شاقة عَلَيْهِ إذا قامَ فِيها كَأنَّهُ على الجَمْر حَتّى يتَخَلَّص مِنها وأحب الصَّلاة إلَيْهِ أعجلها وأسرعها فَإنَّهُ لَيْسَ لَهُ قُرَّة عين فِيها ولا لِقَلْبِهِ راحَة بها والعَبْد إذا قرت عينه بِشَيْء واستراح قلبه بِهِ فأشق ما عَلَيْهِ مُفارقَته والمتكلف الفارغ القلب من الله والدّار الآخِرَة المُبْتَلى بمحبة الدُّنْيا أشق ما عَلَيْهِ الصَّلاة وأكره ما إلَيْهِ طولها مَعَ تفرغه وصِحَّته وعدم اشْتِغاله
وَمِمّا يَنْبَغِي أن يعلم أن الصَّلاة الَّتِي تقر بها العين ويستريح بها القلب هي الَّتِي تجمع سِتَّة مشاهد
المشهد الأول الإخْلاص وهو أن يكون الحامِل عَلَيْها والداعي إلَيْها رَغْبَة العَبْد في الله ومحبته لَهُ وطلب مرضاته والقرب مِنهُ والتودد إلَيْهِ وامتثال أمره بِحَيْثُ لا يكون الباعِث لَهُ عَلَيْها حظا من حظوظ الدُّنْيا ألْبَتَّة بل يَأْتِي بها ابْتِغاء وجه ربه الأعْلى محبَّة لَهُ وخوفا من عَذابه ورجاء لمغفرته وثوابه.
المشهد الثّانِي مشْهد الصدْق والنصح وهو أن يفرغ قلبه لله فِيها ويستفرغ جهده في إقباله فِيها على الله وجمع قلبه عَلَيْها وإيقاعها على أحسن الوُجُوه وأكملها ظاهرا وباطنا فَإن الصَّلاة لَها ظاهر وباطن.
فظاهرها الأفْعال المُشاهدَة والأقوال المسموعة وباطنها الخُشُوع والمراقبة وتفريغ القلب لله والإقبال بكليته على الله فِيها بِحَيْثُ لا يلْتَفت قلبه عَنهُ إلى غَيره فَهَذا بِمَنزِلَة الرّوح لَها والأفْعال بِمَنزِلَة البدن فَإذا خلت من الرّوح كانَت كبدن لا روح فِيهِ أفلا يستحي العَبْد أن يواجه سَيّده بِمثل ذَلِك ولِهَذا تلف كَما يلف الثَّوْب الخلق ويضْرب بها وجه صاحبها وتقول ضيعك الله كَما ضيعتني.
والصَّلاة الَّتِي كمل ظاهرها وباطنها تصعد ولها نور وبرهان كنور الشَّمْس حَتّى تعرض على الله فيرضاها ويقبلها وتقول حفظك الله كَما حفظتني.
* (فصل)
المشهد الثّالِث مشْهد المُتابَعَة والاقتداء وهو أن يحرص كل الحِرْص على الِاقْتِداء في صلاته بِالنَّبِيِّ ﷺ ويُصلي كَما كانَ يُصَلِّي ويعرض عَمّا أحدث النّاس في الصَّلاة من الزِّيادَة والنُّقْصان والأوضاع الَّتِي لم ينْقل عَن رَسُول الله ﷺ شَيْء مِنها ولا عَن أحد من أصحابة ولا يقف عند أقْوال المرخصين الَّذين يقفون مَعَ أقل ما يَعْتَقِدُونَ وُجُوبه ويكون غَيرهم قد نازعهم في ذَلِك وأوجب ما أسقطوه ولَعَلَّ الأحادِيث الثّابِتَة والسّنة النَّبَوِيَّة من جانِبه ولا يلتفتون إلى ذَلِك ويَقُولُونَ نَحن مقلدون لمَذْهَب فلان وهَذا لا يخلص عند الله ولا يكون عذرا لمن تخلف عَمّا علمه من السّنة عِنْده فَإن الله سُبْحانَهُ إنَّما أمر بِطاعَة رَسُوله واتباعه وحده ولم يَأْمر بِاتِّباع غَيره وإنَّما يطاع غَيره إذا أمر بِما أمر بِهِ الرَّسُول وكل أحد سوى الرَّسُول ﷺ فمأخوذ من قَوْله ومتروك
وَقد أقسم الله سُبْحانَهُ بِنَفسِهِ الكَرِيمَة أنا لا نؤمن حَتّى نحكم الرَّسُول فِيما شجر بَيْننا وننقاد لحكمه ونسلم تَسْلِيمًا فَلا ينفعنا تحكيم غَيره والانقياد لَهُ ولا ينجينا من عَذاب الله ولا يقبل منا هَذا الجَواب إذا سمعنا نداءه سُبْحانَهُ يَوْم القِيامَة ﴿ماذا أجبتم المُرْسلين﴾ فَإنَّهُ لا بُد أن يسألنا عَن ذَلِك ويطالبنا بِالجَوابِ قالَ تَعالى ﴿فلنسألن الَّذين أرسل إلَيْهِم ولنسألن المُرْسلين﴾
وَقالَ النَّبِي ﷺ أُوحِي إلَيّ أنكم بِي تفتنون وعني تسْألُون يَعْنِي المَسْألَة في القَبْر فَمن انْتَهَت إلَيْهِ سنة رَسُول الله ﷺ وتركها لقَوْل أحد من النّاس فسيرد يَوْم القِيامَة ويعلم.
* (فصل)
المشهد الرّابِع مشْهد الإحْسان وهو مشْهد المراقبة وهو أن يعبد الله كَأنَّهُ يراهُ وهَذا المشهد إنَّما ينشأ من كَمال الإيمان بِالله وأسمائه وصِفاته حَتّى كَأنَّهُ يرى الله سُبْحانَهُ فَوق سمواته مستويا على عَرْشه يتَكَلَّم بأمْره ونَهْيه ويُدبر أمر الخليقة فَينزل الأمر من عِنْده ويصعد إلَيْهِ وتعرض أعمال العباد وأرواحهم عند الموافاة عَلَيْهِ فَيشْهد ذَلِك كُله بِقَلْبِه ويشْهد أسماءه وصِفاته ويشْهد قيوما حَيا سميعا بَصيرًا عَزِيزًا حكيما آمرا ناهيا يحب ويبغض ويرضى ويغضب ويفْعل ما يَشاء ويحكم ما يُرِيد وهو فَوق عَرْشه لا يخفى عَلَيْهِ شَيْء من أعمال العباد ولا أقْوالهم ولا بواطنهم بل يعلم خائِنَة الأعْين وما تخفي الصُّدُور
ومشهد الإحْسان أصل أعمال القُلُوب كلها فَإنَّهُ يُوجب الحياء والإجلال والتعظيم والخشية والمحبة والإنابة والتوكل والخضوع لله سُبْحانَهُ والذل لَهُ
؎وَيقطع الوسواس وحَدِيث ∗∗∗ النَّفس ويجمع القلب والهم على الله
فحظ العَبْد من القرب من الله على قدر حَظه من مقام الإحْسان وبحسبه تَتَفاوَت الصَّلاة حَتّى يكون بَين صَلاة الرجلَيْن من الفضل كَما بَين السَّماء والأرْض وقيامهما وركوعهما وسجودهما واحِد.
* (فصل)
المشهد الخامِس مشْهد المِنَّة وهو أن يشْهد أن المِنَّة لله سُبْحانَهُ كَونه أقامَهُ في هَذا المقام وأهله لَهُ ووفقه لقِيام قلبه وبدنه في خدمته فلولا الله سُبْحانَهُ لم يكن شَيْء من ذَلِك كَما كانَ الصَّحابَة يحدون بَين يَدي النَّبِي ﷺ فَيَقُولُونَ
؎(والله لَوْلا الله ما اهتدينا ∗∗∗ ولا تصدقنا ولا صلينا)
قالَ الله تَعالى ﴿يمنون عَلَيْك أن أسْلمُوا قل لا تمنوا عَليّ إسلامكم بل الله يمن عَلَيْكُم أن هداكم للْإيمان إن كُنْتُم صادِقين﴾
فالله سُبْحانَهُ هو الَّذِي جعل المُسلم مُسلما والمُصَلي مُصَليا كَما قالَ الخَلِيل ﷺ ﴿رَبنا واجعلنا مُسلمين لَك ومن ذريتنا أمة مسلمة لَك﴾ وقالَ ﴿رب اجْعَلنِي مُقيم الصَّلاة ومن ذريتي﴾
فالمنة لله وحده في أن جعل عَبده قائِما بِطاعَتِهِ وكانَ هَذا من أعظم نعمه عَلَيْهِ
وَقالَ تَعالى ﴿وَما بكم من نعْمَة فَمن الله﴾ وقالَ ﴿وَلَكِن الله حبب إلَيْكُم الإيمان وزينه في قُلُوبكم وكره إلَيْكُم الكفْر والفسوق والعصيان أُولَئِكَ هم الراشدون﴾
وَهَذا المشهد من أعظم المشاهد وأنفعها للْعَبد وكلما كانَ العَبْد أعظم توحيدا كانَ حَظه من هَذا المشهد أتم، وفِيه من الفَوائِد أنه يحول بَين القلب وبَين العجب بِالعَمَلِ ورؤيته فَإنَّهُ إذا شهد أن الله سُبْحانَهُ هو المان بِهِ المُوفق لَهُ الهادِي إلَيْهِ شغله شُهُود ذَلِك عَن رُؤْيَته والإعجاب بِهِ وأن يصول بِهِ على النّاس فيرفع من قلبه فَلا يعجب بِهِ ومن لِسانه فَلا يمن بِهِ ولا يتكثر بِهِ وهَذا شَأْن العَمَل المَرْفُوع ومن فَوائده أنه يضيف الحَمد إلى وليه ومستحقه فَلا يشْهد لنَفسِهِ حمدا بل يشهده كُله لله كَما يشْهد النِّعْمَة كلها مِنهُ والفضل كُله لَهُ والخَيْر كُله في يَدَيْهِ وهَذا من تَمام التَّوْحِيد فَلا يسْتَقرّ قدمه في مقام التَّوْحِيد إلّا بِعلم ذَلِك وشهوده فَإذا علمه ورسخ فِيهِ صار لَهُ مشهدا وإذا صار لِقَلْبِهِ مشهدا أثمر لَهُ من المحبَّة والأنس بِالله والشوق إلى لِقائِه والتنعم بِذكرِهِ وطاعته ما لا نِسْبَة بَينه وبَين أعلى نعيم الدُّنْيا ألْبَتَّة
وَما للمرء خير في حَياته إذا كانَ قلبه عَن هَذا مصدودا وطَرِيق الوُصُول إلَيْهِ عَنهُ مسدودا بل هو كَما قالَ تَعالى ﴿ذرهم يَأْكُلُوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فَسَوف يعلمُونَ﴾
* (فصل)
المشهد السّادِس مشْهد التَّقْصِير وأن العَبْد لَو اجْتهد في القيام بِالأمر غايَة الِاجْتِهاد وبذل وسعه فَهو مقصر وحقّ الله سُبْحانَهُ عَلَيْهِ أعظم والَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أن يُقابل بِهِ من الطّاعَة والعبودية والخدمة فَوق ذَلِك بِكَثِير وأن عَظمته وجلاله سُبْحانَهُ يَقْتَضِي من العُبُودِيَّة ما يَلِيق بها.
وَإذا كانَ خدم المُلُوك وعبيدهم يعاملونهم في خدمتهم بالإجلال لَهُم والتعظيم والاحترام والتوقير والحياء والمهابة والخشية والنصح بِحَيْثُ يفرغون قُلُوبهم وجوارحهم لَهُم فمالك المُلُوك ورب السَّمَوات والأرْض أولى أن يُعامل بذلك بل بأضعاف ذَلِك
وَإذا شهد العَبْد من نَفسه أنه لم يوف ربه في عبوديته حَقه ولا قَرِيبا من حَقه علم تَقْصِيره ولم يَسعهُ مَعَ ذَلِك غير الاسْتِغْفار والاعتذار من تَقْصِيره وتفريطه وعدم القيام بِما يَنْبَغِي لَهُ من حَقه وأنه إلى أن يغْفر لَهُ العُبُودِيَّة ويَعْفُو عَنهُ فِيها أحْوج مِنهُ إلى أن يطْلب مِنهُ عَلَيْها ثَوابًا وهو لَو وفاها حَقّها كَما يَنْبَغِي لكانَتْ مُسْتَحقَّة عَلَيْهِ بِمُقْتَضى العُبُودِيَّة فَإن عمل العَبْد وخدمته لسَيِّده مُسْتَحقّ عَلَيْهِ بِحكم كَونه عَبده ومملوكه فَلَو طلب مِنهُ الأُجْرَة على عمله وخدمته لعده النّاس أحمَق وأخرق
هَذا ولَيْسَ هو عَبده ولا مَمْلُوكه على الحَقِيقَة وهو عبد الله ومملوكه على الحَقِيقَة من كل وجه لله سُبْحانَهُ
فعمله وخدمته مُسْتَحقّ عَلَيْهِ بِحكم كَونه عَبده فَإذا أثابه عَلَيْهِ كانَ ذَلِك مُجَرّد فضل ومنة وإحسان إلَيْهِ لا يسْتَحقّهُ العَبْد عَلَيْهِ
وَمن هاهُنا يفهم معنى قَول النَّبِي ﷺ
"لن يدْخل أحد مِنكُم الجنَّة بِعَمَلِهِ قالُوا ولا أنْت يا رَسُول الله قالَ ولا أنا إلّا أن يتغمدني الله برحمة مِنهُ وفضل" وقالَ أنس بن مالك رَضِي الله عَنهُ "يخرج للْعَبد يَوْم القِيامَة ثَلاثَة دواوين ديوان فِيهِ حَسَناته وديوان فِيهِ سيئاته وديوان النعم الَّتِي أنعم الله عَلَيْهِ بها فَيَقُول الرب تَعالى لنعمه خذي حَقك من حَسَنات عَبدِي فَيقوم أصغرها فتستنفذ حَسَناته ثمَّ تَقول وعزَّتك ما استوفيت حَقي بعد فَإذا أرادَ الله أن يرحم عَبده وهبه نعمه عَلَيْهِ وغفر لَهُ سيئاته وضاعف لَهُ حَسَناته"
وَهَذا ثابت عَن أنس وهو أدل شَيْء على كَمال علم الصَّحابَة برَبهمْ وحقوقه عَلَيْهِم كَما أنهم أعلم الأمة بِنَبِيِّهِمْ وسنته ودينه فَإن في هَذا الأثر من العلم والمعرفة ما لا يُدْرِكهُ إلّا أولو البصائر العارفون بِالله وأسمائه وصِفاته وحقه ومن هُنا يفهم قَول النَّبِي ﷺ في الحَدِيث الَّذِي رَواهُ أبُو داوُد والإمام أحْمد من حَدِيث زيد بن ثابت وحُذَيْفَة وغَيرهما
"إن الله لَو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالِم لَهُم ولَو رَحِمهم لكانَتْ رَحمته خيرا لَهُم من أعْمالهم".
* (فصل)
وملاك هَذا الشَّأْن أرْبَعَة أُمُور
نِيَّة صَحِيحَة وقُوَّة عالية يقارنهما رَغْبَة ورَهْبَة
فَهَذِهِ الأرْبَعَة هي قَواعِد هَذا الشَّأْن ومهما دخل على العَبْد من النَّقْص في إيمانه وأحواله وظاهره وباطنه فَهو من نُقْصان هَذِه الأرْبَعَة أو نُقْصان بَعْضها
فَلْيتَأمَّل اللبيب هَذِه الأرْبَعَة الأشْياء وليجعلها سيره وسلوكه ويَبْنِي عَلَيْها علومه وأعماله وأقواله وأحواله فَما نتج من نتج إلّا مِنها ولا تخلف من تخلف إلّا من فقدها.
والله أعلم والله المُسْتَعان وعَلِيهِ التكلان وإلَيْهِ الرَّغْبَة وهو المسؤول بِأن يوفقنا وسائِر إخْواننا من أهل السّنة لتحقيقها علما وعَملا إنَّه ولي ذَلِك والمان بِهِ وهو حَسبنا ونعم الوَكِيل.
* (فصل)
والمقبول من العمل قسمان
(أحدهما) أن يصلي العبد ويعمل سائر الطاعات وقلبه متعلق بالله عز وجل ذاكر لله عز وجل على الدوام، فأعمال هذا العبد تعرض على الله عز وجل حتى تقف قبالته فينظر الله عز وجل إليها، فإذا نظر إليها رآها خالصة لوجهه مرضية قد صدرت عن قلب سليم مخلص محب لله عز وجل متقرب إليه أحبها ورضيها وقبلها.
(والقسم الثاني): أن يعمل العبد الأعمال على العادة والغفلة وينوي بها الطاعة والتقرب إلى الله فأركانه مشغولة بالطاعة وقلبه لاهٍ عن ذكر الله، وكذلك سائر أعماله، فإذا رفعت أعمال هذا إلى الله عز وجل لم تقف تجاهه ولا يقع نظره عليها، ولكن توضع حيث توضع دواوين الأعمال حتى تعرض عليه يوم القيامه فتميز، فيثيبه على ما كان له منها، ويرد عليه ما لم يرد وجهه به منها.
فهذا قبوله لهذا العمل إثابته عليه بمخلوق من مخلوقاته من القصور والأكل والشرب والحور العين، وإثابة الأول رضا العمل لنفسه، ورضاه عن معاملة عاملة وتقريبه منه وإعلاء درجته ومنزلته، فهذا يعطيه بغير حساب، فهذا لون والأول لون.
* (فصل)
وَأمّا الصَّلاةُ، فَشَأْنُها في تَفْرِيحِ القَلْبِ وتَقْوِيتِهِ، وشَرْحِهِ وابْتِهاجِهِ ولَذَّتِهِ أكْبَرُ شَأْنٍ، وفِيها مِنَ اتِّصالِ القَلْبِ والرُّوحِ بِاللَّهِ، وقُرْبِهِ والتَّنَعُّمِ بِذِكْرِهِ، والِابْتِهاجِ بِمُناجاتِهِ، والوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ، واسْتِعْمالِ جَمِيعِ البَدَنِ وقُواهُ وآلاتِهِ في عُبُودِيَّتِهِ، وإعْطاءِ كُلِّ عُضْوٍ حَظَّهُ مِنها، واشْتِغالِهِ عَنِ التَّعَلُّقِ بِالخَلْقِ ومُلابَسَتِهِمْ ومُحاوَراتِهِمْ، وانْجِذابِ قُوى قَلْبِهِ وجَوارِحِهِ إلى رَبِّهِ وفاطِرِهِ، وراحَتِهِ مِن عَدُوِّهِ حالَةَ الصَّلاةِ ما صارَتْ بِهِ مِن أكْبَرِ الأدْوِيَةِ والمُفَرِّحاتِ والأغْذِيَةِ الَّتِي لا تُلائِمُ إلّا القُلُوبَ الصَّحِيحَةَ.
وَأمّا القُلُوبُ العَلِيلَةُ، فَهي كالأبْدانِ لا تُناسِبُها إلّا الأغْذِيَةُ الفاضِلَةُ.
فالصَّلاةُ مِن أكْبَرِ العَوْنِ عَلى تَحْصِيلِ مَصالِحِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، ودَفْعِ مَفاسِدِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، وهي مَنهاةٌ عَنِ الإثْمِ، ودافِعَةٌ لِأدْواءِ القُلُوبِ، ومَطْرَدَةٌ لِلدّاءِ عَنِ الجَسَدِ، ومُنَوِّرَةٌ لِلْقَلْبِ، ومُبَيِّضَةٌ لِلْوَجْهِ، ومُنَشِّطَةٌ لِلْجَوارِحِ والنَّفْسِ، وجالِبَةٌ لِلرِّزْقِ، ودافِعَةٌ لِلظُّلْمِ، وناصِرَةٌ لِلْمَظْلُومِ، وقامِعَةٌ لِأخْلاطِ الشَّهَواتِ، وحافِظَةٌ لِلنِّعْمَةِ، ودافِعَةٌ لِلنِّقْمَةِ، ومُنْزِلَةٌ لِلرَّحْمَةِ، وكاشِفَةٌ لِلْغُمَّةِ، ونافِعَةٌ مِن كَثِيرٍ مِن أوْجاعِ البَطْنِ.
وَقَدْ رَوى ابْنُ ماجَهْ في " سُنَنِهِ " مِن حَدِيثِ مجاهد عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأنا نائِمٌ أشْكُو مِن وجَعِ بَطْنِي فَقالَ لِي: " يا أبا هُرَيْرَةَ أشِكَمَتْ دَرْدْ؟ "
قالَ: قُلْتُ: نَعَمْ يا رَسُولَ اللَّهِ قالَ: " قُمْ فَصَلِّ فَإنَّ في الصَّلاةِ شِفاءً».
وَقَدْ رُوِيَ هَذا الحَدِيثُ مَوْقُوفًا عَلى أبِي هُرَيْرَةَ، وأنَّهُ هو الَّذِي قالَ ذَلِكَ لمجاهد، وهو أشْبَهُ. ومَعْنى هَذِهِ اللَّفْظَةِ بِالفارِسِيِّ: أيُوجِعُكَ بَطْنُكَ؟
فَإنْ لَمْ يَنْشَرِحْ صَدْرُ زِنْدِيقِ الأطِبّاءِ بِهَذا العِلاجِ، فَيُخاطَبَ بِصِناعَةِ الطِّبِّ، ويُقالَ لَهُ الصَّلاةُ رِياضَةُ النَّفْسِ والبَدَنِ جَمِيعًا، إذْ كانَتْ تَشْتَمِلُ عَلى حَرَكاتٍ وأوْضاعٍ مُخْتَلِفَةٍ: مِنَ الِانْتِصابِ، والرُّكُوعِ، والسُّجُودِ، والتَّوَرُّكِ، والِانْتِقالاتِ، وغَيْرِها، مِنَ الأوْضاعِ الَّتِي يَتَحَرَّكُ مَعَها أكْثَرُ المَفاصِلِ، ويَنْغَمِزُ مَعَها أكْثَرُ الأعْضاءِ الباطِنَةِ كالمَعِدَةِ والأمْعاءِ وسائِرِ آلاتِ النَّفْسِ والغِذاءِ فَما يُنْكِرُ أنْ يَكُونَ في هَذِهِ الحَرَكاتِ تَقْوِيَةٌ وتَحْلِيلٌ لِلْمَوادِّ ولا سِيَّما بِواسِطَةِ قُوَّةِ النَّفْسِ، وانْشِراحِها في الصَّلاةِ، فَتَقْوى الطَّبِيعَةُ، فَيَنْدَفِعُ الألَمُ، ولَكِنْ داءُ الزَّنْدَقَةِ والإعْراضِ عَمّا جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، والتَّعَوُّضِ عَنْهُ بِالإلْحادِ داءٌ لَيْسَ لَهُ دَواءٌ، إلّا نارٌ تَلَظّى لا يَصْلاها إلّا الأشْقى الَّذِي كَذَّبَ وتَوَلّى.
* (فَصْلٌ)
فَإنْ قِيلَ: ما تَقُولُونَ في صَلاةٍ مِن عَدَمِ خُشُوعٍ هَلْ يُعْتَدُّ بِها أمْ لا؟
قِيلَ: أمّا الِاعْتِدادُ بِها في الثَّوابِ فَلا يُعْتَدُّ لَهُ فِيها إلّا بِما عَقِلَ فِيهِ مِنها، وخَشَعَ فِيهِ لِرَبِّهِ.
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: لَيْسَ لَكَ مِن صَلاتِكَ إلّا ما عَقِلْتَ مِنها.
وَفِي المُسْنَدِ مَرْفُوعًا «إنَّ العَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلاةَ، ولَمْ يُكْتَبْ لَهُ إلّا نِصْفُها، أوْ ثُلُثُها، أوْ
رُبُعُها حَتّى بَلَغَ عُشْرَها».
وَقَدْ عَلَّقَ اللَّهُ فَلاحَ المُصَلِّينَ بِالخُشُوعِ في صَلاتِهِمْ، فَدَلَّ عَلى أنَّ مَن لَمْ يَخْشَعْ فَلَيْسَ مِن أهْلِ الفَلاحِ، ولَوِ اعْتَدَّ لَهُ بِها ثَوابًا لَكانَ مِنَ المُفْلِحِينَ.
وَأمّا الِاعْتِدادُ بِها في أحْكامِ الدُّنْيا، وسُقُوطِ القَضاءِ فَإنْ غَلَبَ عَلَيْها الخُشُوعُ وتَعَقَّلَها اعْتُدَّ بِها إجْماعًا، وكانَتِ السُّنَنُ، والأذْكارُ عَقِيبَها جَوابِرَ ومُكَمِّلاتٍ لِنَقْصِها.
وَإنْ غَلَبَ عَلَيْهِ عَدَمُ الخُشُوعِ فِيها، وعَدَمُ تَعَقُّلِها، فَقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في وُجُوبِ إعادَتِها، فَأوْجَبَها أبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حامِدٍ مِن أصْحابِ أحْمَدَ، وأبُو حامِدٍ الغَزالِيُّ في إحْيائِهِ، لا في وسِيطِهِ وبَسِيطِهِ.
واحْتَجُّوا بِأنَّها صَلاةٌ لا يُثابُ عَلَيْها، ولَمْ يُضْمَن لَهُ فِيها الفَلاحُ، فَلَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنها، ويَسْقُطُ القَضاءُ عَنْهُ كَصَلاةِ المُرائِي.
قالُوا: ولِأنَّ الخُشُوعَ والعَقْلَ رُوحُ الصَّلاةِ ومَقْصُودُها ولُبُّها، فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِصَلاةٍ فَقَدَتْ رُوحَها ولُبَّها، وبَقِيَتْ صُورَتُها وظاهِرُها؟
قالُوا: ولَوْ تَرَكَ العَبْدُ واجِبًا مِن واجِباتِها عَمْدًا لَأبْطَلَها تَرْكُهُ. وغايَتُهُ: أنْ يَكُونَ بَعْضًا مِن أبْعاضِها بِمَنزِلَةِ فَواتِ عُضْوٍ مِن أعْضاءِ العَبْدِ المُعْتَقِ في الكَفّارَةِ، فَكَيْفَ إذا عَدِمَتْ رُوحَها، ولُبَّها ومَقْصُودَها؟ وصارَتْ بِمَنزِلَةِ العَبْدِ المَيِّتِ، إذا لَمْ يُعْتَدَّ بِالعَبْدِ المَقْطُوعِ اليَدِ، يَعْتِقُهُ تَقَرُّبًا إلى اللَّهِ تَعالى في كَفّارَةٍ واجِبَةٍ، فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِالعَبْدِ المَيِّتِ.
وَقالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الصَّلاةُ كَجارِيَةٍ تُهْدى إلى مَلِكٍ مِنَ المُلُوكِ، فَما الظَّنُّ بِمَن يَهْدِي إلَيْهِ جارِيَةً شَلّاءَ، أوْ عَوْراءَ، أوْ عَمْياءَ، أوْ مَقْطُوعَةَ اليَدِ والرِّجْلِ، أوْ مَرِيضَةً، أوْ دَمِيمَةً، أوْ قَبِيحَةً، حَتّى يُهْدِيَ إلَيْهِ جارِيَةً مَيِّتَةً بِلا رُوحٍ وجارِيَةً قَبِيحَةً، فَكَيْفَ بِالصَّلاةِ الَّتِي يُهْدِيها العَبْدُ، ويَتَقَرَّبُ بِها إلى رَبِّهِ تَعالى؟ واللَّهُ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلّا طَيِّبًا، ولَيْسَ مِنَ العَمَلِ الطَّيِّبِ صَلاةٌ لا رُوحَ فِيها، كَما أنَّهُ لَيْسَ مِنَ العِتْقِ الطَّيِّبِ عِتْقُ عَبْدٍ لا رُوحَ فِيهِ.
قالُوا: وتَعْطِيلُ القَلْبِ عَنْ عُبُودِيَّةِ الحُضُورِ والخُشُوعِ: تَعْطِيلٌ لِمَلِكِ الأعْضاءِ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ، وعَزْلٌ لَهُ عَنْها، فَماذا تُغْنِي طاعَةُ الرَّعِيَّةِ وعُبُودِيَّتُها، وقَدْ عُزِلَ مِلْكُها وتَعَطَّلَ؟
قالُوا: والأعْضاءُ تابِعَةٌ لِلْقَلْبِ، تَصْلُحُ بِصَلاحِهِ، وتَفْسُدُ بِفَسادِهِ، فَإذا لَمْ يَكُنْ قائِمًا بِعُبُودِيَّتِهِ، فالأعْضاءُ أوْلى أنْ لا يُعْتَدَّ بِعُبُودِيَّتِها، وإذا فَسَدَتْ عُبُودِيَّتُهُ بِالغَفْلَةِ والوَسْواسِ فَأنّى تَصِحُّ عُبُودِيَّةُ رَعِيَّتِهِ وجُنْدِهِ ومادَّتُهم مِنهُ، وعَنْ أمْرِهِ يُصْدِرُونَ، وبِهِ يَأْتَمِرُونَ؟
قالُوا: وفي التِّرْمِذِيِّ وغَيْرِهِ، مَرْفُوعًا إلى النَّبِيِّ ﷺ «إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ الدُّعاءَ مِن قَلْبٍ غافِلٍ» وهَذا إمّا خاصٌّ بِدُعاءِ العِبادَةِ، وإمّا عامٌّ لَهُ ولِدُعاءِ المَسْألَةِ، وإمّا خاصٌّ
بِدُعاءِ المَسْألَةِ الَّذِي هو أبْعَدُ، فَهو تَنْبِيهٌ عَلى أنَّهُ لا يَقْبَلُ دُعاءَ العِبادَةِ الَّذِي هو خاصٌّ حَقُّهُ مِن قَلْبٍ غافِلٍ.
قالُوا: ولِأنَّ عُبُودِيَّةَ مَن غَلَبَتْ عَلَيْهِ الغَفْلَةُ والسَّهْوُ في الغالِبِ لا تَكُونُ مُصاحِبَةً لِلْإخْلاصِ، فَإنَّ الإخْلاصَ قَصْدُ المَعْبُودِ وحْدَهُ بِالتَّعَبُّدِ. والغافِلُ لا قَصْدَ لَهُ، فَلا عُبُودِيَّةَ لَهُ.
قالُوا: وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هم عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ﴾ [الماعون: ٤] ولَيْسَ السَّهْوُ عَنْها تَرْكَها، وإلّا لَمْ يَكُونُوا مُصَلِّينَ، وإنَّما هو السَّهْوُ عَنْ واجِبِها إمّا عَنِ الوَقْتِ كَما قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وغَيْرُهُ، وإمّا عَنِ الحُضُورِ والخُشُوعِ، والصَّوابُ أنَّهُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ أثْبَتَ لَهم صَلاةً، ووَصَفَهم بِالسَّهْوِ عَنْها فَهو السَّهْوُ عَنْ وقْتِها الواجِبِ، أوْ عَنْ إخْلاصِها وحُضُورِها الواجِبِ، ولِذَلِكَ وصَفَهم بِالرِّياءِ، ولَوْ كانَ السَّهْوُ سَهْوَ تَرْكٍ لَما كانَ هُناكَ رِياءٌ.
قالُوا: ولَوْ قَدَّرْنا أنَّهُ السَّهْوُ عَنْ واجِبٍ فَقَطْ، فَهو تَنْبِيهٌ عَلى التَّوَعُّدِ بِالوَيْلِ عَلى سَهْوِ الإخْلاصِ والحُضُورِ بِطَرِيقِ الأوْلى لِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ الوَقْتَ يَسْقُطُ في حالِ العُذْرِ، ويَنْتَقِلُ إلى بَدَلِهِ، والإخْلاصَ والحُضُورَ لا يَسْقُطُ بِحالٍ، ولا بَدَلَ لَهُ.
الثّانِي: أنَّ واجِبَ الوَقْتِ يَسْقُطُ لِتَكْمِيلِ مَصْلَحَةِ الحُضُورِ، فَيَجُوزُ الجَمْعُ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ لِلشُّغْلِ المانِعِ مِن فِعْلِ إحْداهُما في وقْتِها بِلا قَلْبٍ ولا حُضُورٍ، كالمُسافِرِ، والمَرِيضِ، وذِي الشُّغْلِ الَّذِي يَحْتاجُ مَعَهُ إلى الجَمْعِ، كَما نَصَّ عَلَيْهِ أحْمَدُ وغَيْرُهُ.
فَبِالجُمْلَةِ: مَصْلَحَةُ الإخْلاصِ والحُضُورِ، وجَمْعِيَّةُ القَلْبِ عَلى اللَّهِ في الصَّلاةِ أرْجَحُ في نَظَرِ الشّارِعِ مِن مَصْلَحَةِ سائِرِ واجِباتِها، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ أنَّهُ يُبْطِلُها بِتَرْكِ تَكْبِيرَةٍ واحِدَةٍ، أوِ اعْتِدالٍ في رُكْنٍ، أوْ تَرْكِ حَرْفٍ، أوْ شَدَّةٍ مِنَ القُرْآنِ، أوْ تَرْكِ تَسْبِيحَةٍ أوْ قَوْلِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ أوْ قَوْلِ رَبَّنا ولَكَ الحَمْدُ أوْ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالصَّلاةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَحِّحُها مَعَ فَوْتِ لُبِّها، ومَقْصُودِها الأعْظَمِ، ورُوحِها وسِرِّها.
فَهَذا ما احْتَجَّتْ بِهِ هَذِهِ الطّائِفَةُ، وهي حُجَجٌ كَما تَراها قُوَّةً وظُهُورًا.
قالَ أصْحابُ القَوْلِ الآخَرِ: قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في الصَّحِيحِ أنَّهُ قالَ «إذا أذَّنَ
المُؤَذِّنُ أدْبَرَ الشَّيْطانُ، ولَهُ ضُراطٌ حَتّى لا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإذا قُضِيَ التَّأْذِينُ أقْبَلَ، فَإذا ثُوِّبَ بِالصَّلاةِ أدْبَرَ، فَإذا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أقْبَلَ حَتّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وبَيْنَ نَفْسِهِ، فَيُذَكِّرُهُ ما لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، ويَقُولُ: اذْكُرْ كَذا، اذْكُرْ كَذا، لِما لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لا يَدْرِي كَمْ صَلّى، فَإذا وجَدَ ذَلِكَ أحَدُكم فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وهو جالِسٌ».
قالُوا: فَأمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ في هَذِهِ الصَّلاةِ الَّتِي قَدْ أغْفَلَهُ الشَّيْطانُ فِيها، حَتّى لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلّى بِأنْ يَسْجُدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، ولَمْ يَأْمُرْهُ بِإعادَتِها، ولَوْ كانَتْ باطِلَةً كَما زَعَمْتُمْ لَأمَرَهُ بِإعادَتِها.
قالُوا: وهَذا هو السِّرُّ في سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، تَرْغِيمًا لِلشَّيْطانِ في وسْوَسَتِهِ لِلْعَبْدِ، وكَوْنِهِ حالَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الحُضُورِ في الصَّلاةِ. ولِهَذا سَمّاهُما النَّبِيُّ ﷺ " المُرْغِمَتَيْنِ "، وأمَرَ مَن سَها بِهِما ولَمْ يُفَصِّلْ في سَهْوِهِ الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ مُوجِبَ السُّجُودِ بَيْنَ القَلِيلِ والكَثِيرِ، والغالِبِ والمَغْلُوبِ، وقالَ «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتانِ» ولَمْ يَسْتَثْنِ مِن ذَلِكَ السَّهْوِ الغالِبِ، مَعَ أنَّهُ الغالِبُ.
قالُوا: ولِأنَّ شَرائِعَ الإسْلامِ عَلى الأفْعالِ الظّاهِرَةِ، وأمّا حَقائِقُ الإيمانِ الباطِنَةُ فَتِلْكَ عَلَيْها شَرائِعُ الثَّوابِ والعِقابِ، فَلِلَّهِ تَعالى حُكْمانِ: حُكْمٌ في الدُّنْيا عَلى الشَّرائِعِ الظّاهِرَةِ وأعْمالِ الجَوارِحِ، وحُكْمٌ في الآخِرَةِ عَلى الظَّواهِرِ والبَواطِنِ، ولِهَذا كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْبَلُ عَلانِيَةَ المُنافِقِينَ، ويَكِلُ أسْرارَهم إلى اللَّهِ فَيُناكِحُونَ، ويَرِثُونَ ويُورَثُونَ، ويُعْتَدُّ بِصَلاتِهِمْ في أحْكامِ الدُّنْيا، فَلا يَكُونُ حُكْمُهم حُكْمَ تارِكِ الصَّلاةِ، إذْ قَدْ أتَوْا بِصُورَتِها الظّاهِرَةِ، وأحْكامُ الثَّوابِ والعِقابِ لَيْسَتْ إلى البَشَرِ، بَلْ إلى اللَّهِ، واللَّهُ يَتَوَلّاهُ في الدّارِ الآخِرَةِ.
نَعَمْ لا يَحْصُلُ مَقْصُودُ هَذِهِ الصَّلاةِ مِن ثَوابِ اللَّهِ عاجِلًا ولا آجِلًا، فَإنَّ لِلصَّلاةِ مَزِيدَ ثَوابٍ عاجِلٍ في القَلْبِ مِن قُوَّةِ إيمانِهِ، واسْتِنارَتِهِ، وانْشِراحِهِ وانْفِساحِهِ ووُجُودِ حَلاوَةِ العِبادَةِ، والفَرَحِ والسُّرُورِ، واللَّذَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ لِمَنِ اجْتَمَعَ هَمُّهُ وقَلْبُهُ عَلى اللَّهِ، وحَضَرَ قَلْبُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَما يَحْصُلُ لِمَن قَرَّبَهُ السُّلْطانُ مِنهُ، وخَصَّهُ بِمُناجاتِهِ والإقْبالِ عَلَيْهِ واللَّهُ أعْلى وأجَلُّ.
وَكَذَلِكَ ما يَحْصُلُ لِهَذا مِنَ الدَّرَجاتِ العُلى في الآخِرَةِ، ومُرافَقَةِ المُقَرَّبِينَ.
كُلُّ هَذا يَفُوتُهُ بِفَواتِ الحُضُورِ والخُضُوعِ، وإنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَكُونُ مُقامُهُما في الصَّفِّ واحِدًا، وبَيْنَ صَلاتَيْهِما كَما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، ولَيْسَ كَلامُنا في هَذا كُلِّهِ.
فَإنْ أرَدْتُمْ وُجُوبَ الإعادَةِ لَتَحْصُلَ هَذِهِ الثَّمَراتُ والفَوائِدُ فَذاكَ إلَيْهِ إنْ شاءَ أنْ يُحَصِّلَها وإنْ شاءَ أنْ يُفَوِّتَها عَلى نَفْسِهِ، وإنْ أرَدْتُمْ بِوُجُوبِها أنّا نُلْزِمُهُ بِها ونُعاقِبُهُ عَلى تَرْكِها، ونُرَتِّبُ عَلَيْهِ أحْكامَ تارِكِ الصَّلاةِ فَلا.
وَهَذا القَوْلُ الثّانِي أرْجَحُ القَوْلَيْنِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ","ٱلَّذِینَ هُمۡ فِی صَلَاتِهِمۡ خَـٰشِعُونَ"],"ayah":"ٱلَّذِینَ هُمۡ فِی صَلَاتِهِمۡ خَـٰشِعُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق