الباحث القرآني
فتحت هذا الخطاب: إني عاديت إبليس وطردته من سمائي وباعدته من قربي إذ لم يسجد لأبيكم آدم، ثم أنتم يا بنيه توالونه وذريته من دوني وهم أعداءٌ لكم.
فليتأمل اللبيب مواقع هذا الخطاب وشدة لصوقه بالقلوب والتباسه بالأرواح، وأكثر القرآن جاء على هذا النمط من خطابه لعباده بالتودد والتحنن واللطف والنصيحة البالغة، وأعلم سبحانه عباده أنه لا يرضى لهم إلا أكرم الوسائل وأفضل المنازل وأجل العلوم والمعارف.
قال تعالى: ﴿إن تَكْفُرُواْ فَإنّ اللهَ غَنِيّ عَنكم ولاَ يَرْضىَ لِعِبادِهِ الكُفْرَ وإن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: ٧]
وقال تعالى: ﴿اليَومَ أكْمَلْتُ لَكم دِيْنَكم وأتْمَمْتُ عَلَيْكم نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣]
وقال: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥]
وقال: ﴿يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيّنَ لَكم ويَهْدِيَكم سُنَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِكم ويَتُوبَ عَلَيْكم واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ واللهُ يُرِيدُ أن يَتُوبَ عَلَيْكم ويُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَواتِ أن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا يُرِيدُ اللهُ أن يُخَفّفَ عَنْكم وخُلِقَ الإنسانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: ٢٦-٢٨].
* (فصل)
فإن قيل: أي حكمة في خلق إبليس وجنوده؟
قلنا: في ذلك من الحكم ما لا يحيط بتفصيله إلا الله فمنها أن يكمل لأنبيائه وأوليائه مراتب العبودية بمجاهدة عدو الله وحزبه ومخالفته ومراغمته في الله وإغاظته وإغاظة أوليائه والاستعاذة به منه والإلجاء إليه أن يعيذهم من شره وكيده فيترتب لهم على ذلك من المصالح الدنيوية والأخروية ما لم يحصل بدونه وقدمنا أن الموقوف على الشيء لا يحصل بدونه ومنها خوف الملائكة والمؤمنين من ذنبهم بعد ما شاهدوا من حال إبليس ما شاهدوه وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المنزلة الإبليسية يكون أقوى وأتم ولا ريب أن الملائكة لما شاهدوا ذلك حصلت لهم عبودية أخرى للرب تعالى وخضوع آخر وخوف آخر كما هو المشاهد من حال عبيد الملك إذا رأوه قد أهان أحدهم الإهانة التي بلغت منه كل مبلغ وهم يشاهدونه، فلا ريب أن خوفهم وحذرهم يكون أشد.
ومنها أنه سبحانه جعله عبرة لمن خالف أمره وتكبر عن طاعته وأصر على معصيته كما جعل ذنب أبي البشر عبرة لمن ارتكب نهيه أو عصى أمره ثم تاب وندم ورجع إلى ربه، فابتلى أبوي الجن والإنس بالذنب، وجعل هذا الأب عبرة لمن أصر وأقام على ذنبه، وهذا الأب عبرة لمن تاب ورجع إلى ربه.
فلله كم في ضمن ذلك من الحكم الباهرة والآيات الظاهرة ومنها أنه محك امتحن الله به خلقه ليتبين به خبيثهم من طيبهم فإنه سبحانه خلق النوع الإنساني من الأرض، وفيها السهل والحزن والطيب والخبيث فلا بد أن يظهر فيهم ما كان في مادتهم كما في الحديث الذي رواه الترمذي مرفوعا
"إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على مثل ذلك منهم الطيب والخبيث والسهل والحزن"
وغير ذلك.
فما كان في المادة الأصلية فهو كائن في المخلوق منها فاقتضت الحكمة الإلهية إخراجه وظهوره فلا بد إذا من سبب يظهر ذلك وكان إبليس محكا يميز به الطيب من الخبيث كما جعل أنبيائه ورسله محكا لذلك التمييز قال تعالى: ﴿ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾
فأرسله إلى المكلفين وفيهم الطيب والخبيث فانضاف الطيب إلى الطيب والخبيث إلى الخبيث واقتضت حكمته البالغة أن خلطهم في دار الامتحان فإذا صاروا إلى دار القرار يميز بينهم وجعل لهؤلاء دارا على حدة ولهؤلاء دارا على حدة حكمة بالغة وقدرة قاهرة ومنها أن يظهر كمال قدرته في خلق مثل جبريل والملائكة وإبليس والشياطين وذلك من أعظم آيات قدرته ومشيئته وسلطانه فإنه خالق الأضداد كالسماء والأرض والضياء والظلام والجنة والنار والماء والنار والحر والبرد والطيب والخبيث.
ومنها أن خلق أحد الضدين من كمال حسن ضده فإن الضد إنما يظهر حسنه بضده فلولا القبيح لم تعرف فضيلة الجميل ولولا الفقر لم يعرف قدر الغنا كما تقدم بيانه ريبا ومنها أنه سبحانه يحب أن يشكر بحقيقة الشكر وأنواعه ولا ريب أن أولياءه نالوا بوجود عدو الله إبليس وجنوده وامتحانهم به من أنواع شكره ما لم يكن ليحصل لهم بدونه فكم بين شكر آدم وهو في الجنة قبل أن يخرج منها وبين شكره بعد أن ابتلي بعدوه ثم اجتباه ربه وتاب عليه وقبله ومنها أن المحبة والإنابة والتوكل والصبر والرضاء ونحوها أحب العبودية إلى الله سبحانه وهذه العبودية إنما تتحقق بالجهاد وبذل النفس لله وتقديم محبته على كل ما سواه فالجهاد ذروة سنام العبودية وأحبها إلى الرب سبحانه فكان في خلق إبليس وحزبه قيام سوق هذه العبودية وتوابعها التي لا يحصي حكمها وفوائدها وما فيها من المصالح إلا الله.
ومنها أن في خلق من يضاد رسله ويكذبهم ويعاديهم من تمام ظهور آياته وعجائب قدرته ولطائف صنعه ما وجوده أحب إليه وأنفع لأوليائه من عدمه كما تقدم من ظهور آية الطوفان والعصا واليد وفلق البحر وإلقاء الخليل في النار وأضعاف أضعاف ذلك من آياته وبراهين قدرته وعلمه وحكمته فلم يكن بد من وجود الأسباب التي يترتب عليها ذلك كما تقدم ومنها أن المادة النارية فيها الإحراق والعلو والفساد وفيها الإشراق والإضاءة والنور فأخرج منها سبحانه هذا وهذا كما أن المادة الترابية الأرضية فيها الطيب والخبيث والسهل والحزن والأحمر والأسود والأبيض فأخرج منها ذلك كله حكمة باهرة وقدرة قاهرة وآية دالة على أنه ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾.
ومنها أن من أسمائه الخافض الرافع المعز المذل الحكم العدل المنتقم وهذه الأسماء تستدعي متعلقات يظهر فيها إحكامها كأسماء الإحسان والرزق الرحمة ونحوها ولا بد من ظهور متعلقات هذه وهذه.
ومنها أنه سبحانه الملك التام الملك ومن تمام ملكه عموم تصرفه وتنوعه بالثواب والعقاب والإكرام والإهانة والعدل والفضل والإعزاز والإذلال فلا بد من وجود من يتعلق به أحد النوعين كما أوجد من يتعلق به النوع الآخر.
ومنها أن من أسمائه الحكيم والحكمة من صفاته سبحانه وحكمته تستلزم وضع كل شيء موضعه الذي لا يليق به سواه فاقتضت خلق المتضادات وتخصصي كل واحد منها لا يليق به غيره من الإحكام والصفات والخصائص وهل تتم الحكمة إلا بذلك فوجود هذا النوع من تمام الحكمة، كما أنه من كمال القدرة.
ومنها أن حمده سبحانه تام كامل من جميع الوجوه فهو محمود على عدله ومنعه وخفضه وانتقامه وإهانته كما هو محمود على فضله وعطائه ورفعه وإكرامه، فلله الحمد التام الكامل على هذا وهذا وهو يحمد نفسه على ذلك كله ويحمده عليه ملائكته ورسله وأوليائه ويحمده عليه أهل الموقف جميعهم وما كان من لوازم كمال حمده وتمامه فله في خلقه وإيجاده الحكمة التامة كما له عليه الحمد التام فلا يجوز تعطيل حمده كما لا يجوز تعطيل حكمته ومنها أنه سبحانه يحب أن يظهر لعباده حلمه وصبره وأناته وسعة رحمته وجوده فاقتضى ذلك خلق من يشرك به ويضاده في حكمه ويجتهد في مخالفته ويسعى في مساخطه بل يشبهه سبحانه وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيبات ويرزقه ويعاقبه ويمكن له من أسباب ما يلتذ به من أصناف النعم ويجيب دعاءه ويكشف عنه السوء ويعامله من بره وإحسانه بضد ما يعامله هو به من كفره وشركه وإساءته.
فلله كم في ذلك من حكمة وحمد ويتحبب إلى أوليائه ويتعرف بأنواع كمالاته كما في الصحيح عنه ﷺ أنه قال:
"لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له الولد وهو يرزقهم ويعاقبهم"
وفي الصحيح عنه ﷺ فيما يروي عن ربه:
"شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك أما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي له ألد ولم أولد ولم يكن لي كفؤا أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته" وهو سبحانه مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المكذب ويعاقبه ويدفع عنه ويدعوه إلى جنته ويقبل توبته إذا تاب إليه ويبدله بسيئاته حسنات ويلطف به في جميع أحواله ويؤهله لإرسال رسله ويأمرهم بأن يلينوا له القول ويرفقوا به
قال الفضيل بن عياض:
"ما من ليلة يختلط ظلامها إلا نادى الجليل جل جلاله: من أعظم مني جودا الخلائق لي عاصون وأنا أكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا أجود بالفضل على العاصي وأتفضل على المسيء من ذا الذي دعاني فلم ألبه ومن ذا الذي سألني فلم أعطه أنا الجواد ومني الجود أنا الكريم ومني الكرم ومن كرمي أني أعطي العبد ما سألني وأعطيه ما لم يسألني ومن كرمي أني أعطي التائب كأنه لم يعصني فأين عني يهرب الخلق وأين عن بابي يتنحى العاصون"
وفي أثر إلهي: "إني والإنس والجن في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي"
وفي أثر حسن: "ابن آدم ما أنصفتني خيري إليك نازل وشرك إلى صاعد كم أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك وكم تتبغض إلى بالمعاصي وأنت فقير إلي ولا يزال الملك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح"
وفي الحديث الصحيح: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم"
فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته اقتضى حمده وحكمته أن يخلق خلقا يظهر فيهم أحكامها وآثارها فالمحبة للعفو خلق من يحسن العفو عنه ولمحبته للمغفرة خلق من يغفر له ويحلم عنه ويصبر عليه، ولا يعاجله بل يكون يحب أمانه وإمهاله ولمحبته لعدله وحكمته خلق من يظهر فيهم عدله وحكمته ولمحبته للجود والإحسان والبر خلق من يعامله بالإساءة والعصيان وهو سبحانه يعامله بالمغفرة والإحسان فلولا خلق من يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات لفاتت هذه الحكم والمصالح وأضعافها وأضعاف أضعافها.
فتبارك الله رب العالمين وأحكم الحاكمين ذو الحكمة البالغة والنعم السابغة الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته وله في كل شيء حكمة باهرة كما أن له فيه قدرة قاهرة وهدايات إنما ذكرنا منه قطرة من بحر وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيط بكمال حكمته في شيء من خلقه فكم حصل بسبب هذا المخلوق البغيض للرب المسخوط له من محبوب له تبارك وتعالى يتصل في حبه ما حصل به من مكروهه والحكيم الباهر الحكمة هو الذي يحصل أحب الأمرين إليه باحتمال المكروه الذي يبغضه ويسخطه إذا كان طريقا إلى حصول ذلك المحبوب ووجود الملزوم بدون لازمه محال فإن يكن قد حصل بعدو الله إبليس من السرور والمعاصي ما حصل فكم حصل بسبب وجوده ووجود جنوده من طاعة هي أحب إلى الله وأرضى له من جهاد في سبيله ومخالفة هوى النفس وشهوتها له ويحتمل المشاق والمكاره في محبته ومرضاته وأحب شيء للحبيب أن يرى محبه يتحمل لأجله من الأذى والوصب ما يصدق محبته:
؎من أجلك قد جعلت خدي أرضا ∗∗∗ للشامت والحسود حتى ترضا
وفي أثر إلهي: "بغيتي ما يتحمل المتحملون من أجلي"
فلله ما أحب إليه احتمال محبيه إذا أعدائه لهم فيه وفي مرضاته وما أنفع ذلك الأذى لهم وما أحمدهم لعاقبته وماذا ينالون به من كرامة حبيبهم وقربه قرة عيونهم به ولكن حرام على منكري محبة الرب تعالى أن يشموا لذلك رائحة أو يدخلوا من هذا الباب أو يذوقوا من هذا الشراب:
؎فقل للعيون العمى للشمس أعين ∗∗∗ سواك يراها في مغيب ومطلع
؎وسامح يؤسا لم يؤهل لحبهم ∗∗∗ فما يحسن التخصيص في كل موضع
فإن أغضب هذا المخلوق ربه فقد أرضاه فيه أنبيائه ورسله وأوليائه وذلك الرضاء أعظم من ذلك الغضب وإن أسخطه ما يجري على يديه من المعاصي والمخالفات فإنه سبحانه أشد فرحا بتوبة عبده من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه إذا وجدها في المفاوز المهلكات وإن أغضبه ما جرى على أنبيائه ورسله من هذا العدو فقد سره وأرضاه ما جرى على أيديهم من حربه ومعصيته ومراغمته وكبته وغيظه وهذا الرضاء أعظم عنده وأبر لديه من فوات ذلك المكروه المستلزم لفوات هذا المرضي المحبوب وإن أسخطه أكل آدم من الشجرة فقد أرضاه توبته وإنابته وخضوعه وتذلله بين يديه وانكساره له وإن أغضبه إخراج أعدائه لرسوله من حرمه وبلدته ذلك لخروج فقط أرضاه أعظم الرضاء دخوله إليها ذلك الدخول وإن أسخطه قتلهم أوليائه وأحبائه وتمزيق لحومهم وإراقة دمائهم فقد أرضاه نيلهم الحياة التي لا أطيب منها ولا أنعم ولا ألذ في قربه وجواره وإن أسخطه معاصي عباده فقد أرضاه شهود ملائكته وأنبيائه ورسله وأوليائه سعة مغفرته وعفوه وبره وكرمه وجوده والثناء عليه بذلك وحمده وتمجديه بهذه الأوصاف التي حمده بها وأثنى عليه بها أحب إليه وأرضى له من فوات تلك المعاصي وفوات هذه المحبوبات.
واعلم أن الحمد هو الأصل الجامع لذلك كله فهو عقد نظام الخلق والأمر والرب تعالى له الحمد كله بجميع وجوهه واعتباراته وتصاريفه فما خلق شيئا ولا حكم بشيء إلا وله فيه الحمد فوصل حمده إلى حيث وصل خلقه، وأمره حمدا حقيقا يتضمن محبته والرضا به وعنه والثناء عليه والإقرار بحكمته البالغة في كل ما خلقه وأمر به، فتعطيل حكمته غير تعطيل حمده كما تقدم بيانه فكما أنه لا يكون إلا حميدا فلا يكون إلا حكيما، فحمده وحكمته كعلمه وقدرته وحياته من لوازم ذاته ولا يجوز تعطيل شيء من صفاته وأسمائه عن مقتضياتها وآثارها فإن ذلك يستلزم النقص الذي يناقض كماله وكبريائه وعظمته يوضحه.
الوجه الخامس والعشرون إنه كما أن من صفات الكمال وأفعال الحمد والثناء أنه يجود ويعطي ويمنح فمنها أن يعيذ وينصر ويغيث فكما يحب أن يلوذ به اللائذون يحب أن يعوذ به العائذون وكمال الملوك أن يلوذ بهم أولياؤهم ويعوذوا بهم كما قال أحمد بن حسين الكندي في ممدوحه:
؎يا من ألوذ به فيما أومله ∗∗∗ ومن أعوذ به مما أحاذره
؎لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ∗∗∗ ولا يهيضون عظما أنتن جابره
ولو قال ذلك في ربه وفاطره لكان أسعد به من مخلوق مثله والمقصود أن ملك الملوك يحب أن يلوذ به مماليكه وأن يعوذوا به كما أمر رسوله أن يستعيذ به من الشيطان الرجيم في غير موضع من كتابه وبذلك يظهر تمام نعمته على عدوه إذا أعاذه وأجاره من عدوه فلم يكن إعاذته وإجارته منه بأدنى النعمتين والله تعالى يحب أن يكمل نعمته على عباده المؤمنين ويريهم نصره لهم على عدوهم وحمايتهم منه وظفرهم بهم فيا لها من نعمة كمل بها سرورهم ونعيمهم وعدل أظهره في أعدائه وخصمائه:
؎وما منهما الإله فيه حكمة ∗∗∗ يقصر عن إدراكها كل باحث
* [فَصْلٌ: المَعاصِي تُوجِبُ القَطِيعَةَ بَيْنَ العَبْدِ والرَّبِّ]
وَمِن أعْظَمِ عُقُوباتِها: أنَّها تُوجِبُ القَطِيعَةَ بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ رَبِّهِ تَبارَكَ وتَعالى، وإذا وقَعَتِ القَطِيعَةُ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أسْبابُ الخَيْرِ واتَّصَلَتْ بِهِ أسْبابُ الشَّرِّ، فَأيُّ فَلاحٍ، وأيُّ رَجاءٍ، وأيُّ عَيْشٍ لِمَنِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أسْبابُ الخَيْرِ، وقَطَعَ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ ولِيِّهِ ومَوْلاهُ الَّذِي لا غِنى عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، ولا بَدَلَ لَهُ مِنهُ، ولا عِوَضَ لَهُ عَنْهُ، واتَّصَلَتْ بِهِ أسْبابُ الشَّرِّ، ووَصَلَ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ أعْدى عَدُوٍّ لَهُ: فَتَوَلّاهُ عَدُوُّهُ وتَخَلّى عَنْهُ ولِيُّهُ؟ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما في هَذا الِانْقِطاعِ والِاتِّصالِ مِن أنْواعِ الآلامِ وأنْواعِ العَذابِ.
قالَ بَعْضُ السَّلَفِ: رَأيْتُ العَبْدَ مُلْقًى بَيْنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وبَيْنَ الشَّيْطانِ، فَإنْ أعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ تَوَلّاهُ الشَّيْطانُ، وإنْ تَوَلّاهُ اللَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ الشَّيْطانُ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿وَإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلّا إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ أفَتَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أوْلِياءَ مِن دُونِي وهم لَكم عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلًا﴾.
يَقُولُ سُبْحانَهُ لِعِبادِهِ: أنا أكْرَمْتُ أباكُمْ، ورَفَعْتُ قَدْرَهُ، وفَضَّلْتُهُ عَلى غَيْرِهِ، فَأمَرْتُ مَلائِكَتِي كُلَّهم أنْ يَسْجُدُوا لَهُ، تَكْرِيمًا لَهُ وتَشْرِيفًا، فَأطاعُونِي، وأبى عَدُوِّي وعَدُوُّهُ، فَعَصى أمْرِي، وخَرَجَ عَنْ طاعَتِي، فَكَيْفَ يَحْسُنُ بِكم بَعْدَ هَذا أنْ تَتَّخِذُوهُ وذُرِّيَّتَهُ أوْلِياءَ مِن دُونِي، فَتُطِيعُونَهُ في مَعْصِيَتِي، وتُوالُونَهُ في خِلافِ مَرْضاتِي وهم أعْدى عَدُوٍّ لَكُمْ؟ فَوالَيْتُمْ عَدُوِّي وقَدْ أمَرْتُكم بِمُعاداتِهِ، ومَن والى أعْداءَ المَلِكِ، كانَ هو وأعْداؤُهُ عِنْدَهُ سَواءً، فَإنَّ المَحَبَّةَ والطّاعَةَ لا تَتِمُّ إلّا بِمُعاداةِ أعْداءِ المُطاعِ ومُوالاةِ أوْلِيائِهِ، وأمّا أنْ تُوالِيَ أعْداءَ المَلِكِ ثُمَّ تَدَّعِي أنَّكَ مُوالٍ لَهُ، فَهَذا مُحالٌ.
هَذا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَدُوُّ المَلِكِ عَدُوًّا لَكُمْ، فَكَيْفَ إذا كانَ عَدُوَّكم عَلى الحَقِيقَةِ، والعَداوَةُ الَّتِي بَيْنَكم وبَيْنَهُ أعْظَمُ مِنَ العَداوَةِ الَّتِي بَيْنَ الشّاةِ وبَيْنَ الذِّئْبِ؟ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالعاقِلِ أنْ يُوالِيَ عَدُوَّهُ عَدُوَّ ولِيِّهِ ومَوْلاهُ الَّذِي لا مَوْلى لَهُ سِواهُ، ونَبَّهَ سُبْحانَهُ عَلى قُبْحِ هَذِهِ المُوالاةِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَهم لَكم عَدُوٌّ﴾، كَما نَبَّهَ عَلى قُبْحِها بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ﴾، فَتَبَيَّنَ أنَّ عَداوَتَهُ لِرَبِّهِ وعَداوَتَهُ لَنا، كُلٌّ مِنهُما سَبَبٌ يَدْعُو إلى مُعاداتِهِ، فَما هَذِهِ المُوالاةُ؟ وما هَذا الِاسْتِبْدالُ؟ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلًا.
وَيُشْبِهُ أنْ يَكُونَ تَحْتَ هَذا الخِطابِ نَوْعٌ مِنَ العِتابِ لَطِيفٌ عَجِيبٌ وهو أنِّي عادَيْتُ إبْلِيسَ إذْ لَمْ يَسْجُدْ لِأبِيكم آدَمَ مَعَ مَلائِكَتِي فَكانَتْ مُعاداتُهُ لِأجْلِكُمْ، ثُمَّ كانَ عاقِبَةُ هَذِهِ المُعاداةِ أنْ عَقَدْتُمْ بَيْنَكم وبَيْنَهُ عَقْدَ المُصالَحَةِ.
* (موعظة)
يا من هو من أرباب الخبرة هل عرفت قيمة نفسك إنما خلقت الأكوان كلها لك
يا من غذي بلبان البر وقلب بأيدي الألطاف
كل الأشياء شجرة وأنت الثمرة
صورة وأنت المعنى
وصدف وأنت الدر
،ومخيض وأنت الزبد.
منشور اختيارنا لك واضح الخط ولكن استخراجك ضعيف.
متى رمت طلبي فاطلبني عندك.
ويحك لو عرفت قدر نفسك ما أهنتها بالمعاصي
إنما أبعدنا إبليس لأنه لم يسجد لك وأنت في صلب أبيك
فواعجبا كيف صالحته وتركتنا: ﴿وَإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ أفَتَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أوْلِياءَ مِن دُونِي وهم لَكم عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلًا﴾
لو كان في قلبك محبة لبانَ أثرها على جسدك.
{"ayah":"وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ ٱسۡجُدُوا۟ لِـَٔادَمَ فَسَجَدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِبۡلِیسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦۤۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّیَّتَهُۥۤ أَوۡلِیَاۤءَ مِن دُونِی وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّـٰلِمِینَ بَدَلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق