الباحث القرآني
فإذا كان العبد مسئولا ومحاسبا على كل شيء، حتى على سمعه وبصره وقلبه، كما قال تعالى: ﴿إنّ السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولا﴾ [الإسراء: ٣٦].
فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب.
وقد دل على وجوب محاسبة النفس قوله تعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ [الحشر: ١٨].
* (فصل: تقديم السمع على البصر)
السمع متقدم على البصر حيث وقع في القرآن الكريم مصدرا أو فعلا أو اسما فالأول كقوله تعالى: ﴿إنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾
والثاني كقوله تعالى: ﴿إنَّنِي مَعَكُما أسْمَعُ وأرى﴾
والثالث كقوله تعالى: ﴿سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾، ﴿إنَّهُ هو السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾، ﴿وَكانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾
فاحتج بهذا من يقول إن السمع أشرف من البصر وهذا قول الأكثرين وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي وحكوا هم وغيرهم عن أصحاب أبي حنيفة أنهم قالوا البصر أفضل ونصبوا معهم الخلاف وذكروا الحجاج من الطرفين ولا أدري ما يترتب على هذه المسألة من الأحكام حتى تذكر في كتب الفقه وكذلك القولان للمتكلمين والمفسرين
وحكى أبو المعالي عن ابن قتيبة: تفضيل البصر ورد عليه واحتج مفضلو السمع بأن الله تعالى يقدمه في القرآن حيث وقع وبالسمع تنال سعادة الدنيا والآخرة فإن السعادة بأجمعها في طاعة الرسل والإيمان بما جاءوا به وهذا إنما يدرك بالسمع ولهذا في الحديث الذي رواه أحمد وغيره من حديث الأسود بن سريع ثلاثة كلهم يدلي على الله بحجته يوم القيامة فذكر منهم رجلا أصم يقول يا رب لقد جاء الإسلام وأنا لا أسمع شيئا صحيح واحتجوا بأن العلوم الحاصلة من السمع أضعاف العلوم الحاصلة من البصر فإن البصر لا يدرك إلا بعض الموجودات المشاهدة بالبصر القريبة والسمع يدرك الموجودات والمعدومات والحاضر والغائب والقريب والبعيد والواجب والممكن والممتنع فلا نسبة لإدراك البصر إلى إدراكه واحتجوا بأن فقد السمع يوجب ثلم القلب واللسان ولهذا كان الأطرش خلقة لا ينطق في الغالب وأما فقد البصر فربما كان معينا على قوة إدراك البصيرة وشدة ذكائها فإن نور البصر ينعكس إلى البصيرة باطنا فيقوي إدراكها ويعظم ولهذا تجد كثيرا من العميان أو أكثرهم عندهم من الذكاء الوقاد والفطنة وضياء الحس الباطن ما لا تكاد تجده عند البصير، ولا ريب أن سفر البصر في الجهات والأقطار ومباشرته للمبصرات على اختلافها يوجب تفرق القلب وتشتيته، ولهذا كان الليل أجمع للقلب والخلوة أعون على إصابة الفكرة قالوا فليس نقص فاقد السمع كنقص فاقد البصر ولهذا كثير في العلماء والفضلاء وأئمة الإسلام من هو أعمى ولم يعرف فيهم واحد أطرش بل لا يعرف في الصحابة أطرش فهذا ونحوه من احتجاجهم على تفضيل البصر قال منازعوهم يفصل بيننا وبينكم أمران أحدهما أن مدرك البصر النظر إلى وجه الله تعالى في الدار الآخرة وهو أفضل نعيم أهل الجنة وأحبه إليهم ولا شيء أكمل من المنظور إليه سبحانه فلا حاسة في العبد أكمل من حاسة تراه بها الثاني أن هذا النعيم وهذا العطاء إنما نالوه بواسطة السمع فكان السمع كالوسيلة لهذا المطلوب الأعظم فتفضيله عليه كفضيلة الغايات على وسائلها.
وأما ما ذكرتم من سعة إدراكاته وعمومها فيعارضه كثرة الخيانة فيها ووقوع الغلط فإن الصواب فيما يدركه السمع بالإضافة إلى كثرة المسموعات قليل في كثير ويقابل كثير مدركاته صحة مدركات البصر وعدم الخيانة وأن ما يراه ويشاهده لا يعرض فيه من الكذب ما يعرض فيه فيما يسمعه وإذا تقابلت المرتبتان بقي الترجيح بما ذكرناه.
قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه:
"وفصل الخطاب أن إدراك السمع أعم وأشمل وإدراك البصر أتم وأكمل فهذا له التمام والكمال وذاك له العموم والشمول فقد ترجح كل منهما على الآخر بما اختص" به تم كلامه.
وقد ورد في الحديث المشهور أن النبي ﷺ قال لأبي بكر وعمر: " هذان السمع والبصر "
صحيح على الراجح وهذا يحتمل أربعة أوجه أحدها: أن يكون المراد أنهما مني بمنزلة السمع والبصر والثاني يريد أنهما من دين الإسلام بمنزلة السمع والبصر من الإنسان فيكون الرسول بمنزلة القلب والروح وهما بمنزلة السمع والبصر من الدين وعلى هذا فيحتمل وجهين أحدهما التوزيع فيكون أحدهما بمنزلة السمع والآخر بمنزلة البصر والثاني الشركة فيكون هذا التنزيل والتشبيه بالحاستين ثابتا لكل واحد منهما فكل منهما بمنزلة السمع والبصر فعلى احتمال التوزيع والتقسيم تكلم الناس أيهما هو السمع وأيهما هو البصر وبنوا ذلك على أي الصفتين أفضل فهي صفة الصديق والتحقيق أن صفة البصر للصديق وصفة السمع للفاروق ويظهر لك هذا من كون عمر محدثا كما قال النبي ﷺ: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في هذه الأمة أحد فعمر "
رواه مسلم.
والتحديث المذكور هو ما يلقى في القلب من الصواب والحق وهذا طريقه السمع الباطن وهو بمنزلة التحديث والإخبار في الأذن وأما الصديق فهو الذي كمل مقام الصديقية لكمال بصيرته حتى كأنه قد باشر بصره مما أخبر به الرسول ما باشر قلبه فلم يبق بينه وبين إدراك البصر إلا حجاب الغيب فهو كأنه ينظر إلى ما أخبر به من الغيب من وراء ستوره وهذا لكمال البصيرة وهذا أفضل مواهب العبد وأعظم كراماته التي يكرم بها وليس بعد درجة النبوة إلا هي ولهذا جعلها سبحانه بعدها فقال: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ﴾
وهذا هو الذي سبق به الصديق لا بكثرة صوم ولا بكثرة صلاة وصاحب هذا يمشي رويدا ويجيء في الأول ولقد تعناه من لم يكن سيره على هذا الطريق وتشميره إلى هذا العلم وقد سبق من شمر إليه وإن كان يزحف زحفا ويحبو حبوا ولا تستطل هذا الفصل فإنه أهم مما قصد بالكلام فليعد إليه.
فقيل تقديم السمع على البصر له سببان أحدهما أن يكون السياق يقتضيه بحيث يكون ذكرها بين الصفتين متضمنا للتهديد والوعيد كما جرت عادة القرآن بتهديد المخاطبين وتحذيرهم بما يذكره من صفاته التي تقتضي الحذر والاستقامة كقوله: ﴿فَإنْ زَلَلْتُمْ مِن بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ البَيِّناتُ فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
وقوله: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا والآخِرَةِ وكانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾
والقرآن الكريم مملوء من هذا وعلى هذا فيكون في ضمن ذلك أني أسمع ما يردون به عليك وما يقابلون به رسالاتي وأبصر ما يفعلون ولا ريب أن المخاطبين بالرسالة بالنسبة إلى الإجابة والطاعة نوعان أحدهما قابلوها بقولهم صدقت ثم عملوا بموجبها والثاني قابلوها بالتكذيب ثم عملوا بخلافها فكانت مرتبة المسموع منهم قبل مرتبة البصر فقدم ما يتعلق به على ما يتعلق بالمبصر، وتأمل هذا المعنى في قوله تعالى: لموسى ﴿إنَّنِي مَعَكُما أسْمَعُ وأرى﴾
هو يسمع ما يجيبهم به ويرى ما يصنعه وهذا لا يعم سائر المواضع بل يختص منها بما هذا شأنه والسبب الثاني أن إنكار الأوهام الفاسدة لسمع الكلام مع غاية البعد بين السامع والمسموع أشد من إنكارها لرؤيته مع بعده وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: "اجتمع عند البيت ثلاثة نفر ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول فقال: الآخر يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا فقال الثالث: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا " رواه البخاري ومسلم والترمذي ولم يقولوا أترون الله يرانا فكان تقديم السمع أهم والحاجة إلى العلم به أمس.
وسبب ثالث وهو أن حركة اللسان بالكلام أعظم حركات الجوارح وأشدها تأثيرا في الخير والشر والصلاح والفساد بل عامة ما يترتب في الوجود من الأفعال إنما ينشأ بعد حركة اللسان فكان تقديم الصفة المتعلقة به أهم وأولى وبهذا يعلم تقديمه على العليم حيث وقع.
* (فائدة)
جعل الله بِحِكْمَتِهِ كل جُزْء من أجزاء ابْن آدم ظاهِرَة وباطنة آلَة لشَيْء إذا اسْتعْمل فِيهِ فَهو كَماله فالعين آلَة للنَّظَر والأُذن آلَة للسماع والأنف آلَة للشم واللِّسان آلَة للنطق، والفرج للنِّكاح واليَد للبطش والرجل للمشي والقلب للتوحيد والمعرفة والروح للمحبة والعقل آلَة للتفكر والتدبر لعواقب الأُمُور الدِّينِيَّة والدنيوية وإيثار ما يَنْبَغِي إيثاره وإهمال ما يَنْبَغِي إهماله
أخسر النّاس صَفْقَة من اشْتغل عَن الله بِنَفسِهِ بل أخسر مِنهُ من اشْتغل عَن نَفسه بِالنّاسِ.
فِي السّنَن من حَدِيث أبي سعيد يرفعهُ إذا أصبح ابْن آدم فَإن الأعْضاء كلها تكفر اللِّسان تَقول اتَّقِ الله فَإنَّما نَحن بك فإن اسْتَقَمْت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا.
قَوْله تكفر اللِّسان قيل مَعْناهُ تخضع لَهُ وفي الحَدِيث أن الصَّحابَة لما دخلُوا على النَّجاشِيّ لم يكفروا لَهُ أي لم يسجدوا ولم يخضعوا ولذَلِك قالَ لَهُ عَمْرو بن العاصِ أيها الملك إنَّهُم لا يكفرون لَك وإنَّما خضعت للسان لِأنَّهُ بريد القلب وترجمانه والواسطة بَينه وبَين الأعْضاء وقَوْلها إنَّما نَحن بك أي نجاتنا بك وهلاكنا بك ولِهَذا قالَت فَإن اسْتَقَمْت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا.
{"ayah":"وَلَا تَقۡفُ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق