فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: " لَا تَقْفُ ": تَقُولُ الْعَرَبُ: قَفَوْته أَقْفُوهُ، وَقَفْته أَقُوفُهُ، وَقَفَّيْته: إذَا اتَّبَعْت أَثَرَهُ، وَقَافِيَةُ كُلِّ شَيْءٍ آخِرُهُ؛ وَمِنْهُ اسْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُقَفَّى؛ لِأَنَّهُ جَاءَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَخْيَرُهُمْ. وَمِنْهُ الْقَائِفُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّبِعُ أَثَرَ الشَّبَهِ، يُقَالُ قَافَ الْقَائِفُ يَقُوفُ، إذَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: وَلَا تَقُفْ، مِثْلَ تَقُلْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ: لِلنَّاسِ فِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: لَا تَسْمَعُ وَلَا تَرَ مَا لَا يَحِلُّ سَمَاعُهُ وَلَا رُؤْيَتُهُ. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَتَّبِعُ مَا لَا تَعْلَمُ وَلَا يَعْنِيَك. الثَّالِثُ: قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَقُلْ رَأَيْت مَا لَمْ أَرَ، وَلَا سَمِعْت مَا لَمْ أَسْمَعْ. الرَّابِعُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ شَهَادَةُ الزُّورِ. الْخَامِسُ: قِيلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ لَا تَقْفُ لَا تَقُلْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ؛ وَبَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُرْتَبِطَةً؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ مَا لَا يَحِلُّ، وَلَا يَقُولَ بَاطِلًا، فَكَيْفُ أَعْظَمُهُ وَهُوَ الزُّورُ.
وَيَرْجِعُ الْخَامِسُ إلَى الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَّبِعَهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ الْمُفْتِيَ بِالتَّقْلِيدِ إذَا خَالَفَ نَصَّ الرِّوَايَةِ فِي نَصِّ النَّازِلَةِ عَمَّنْ قَلَّدَهُ أَنَّهُ مَذْمُومٌ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقِيسُ وَيَجْتَهِدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا الِاجْتِهَادُ فِي قَوْلِ اللَّهِ وَقَوْلِ الرَّسُولِ، لَا فِي قَوْلِ بَشَرٍ بَعْدَهُمَا.
وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُقَلِّدِينَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَخْرُجُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ فِي مَوْضِعِ كَذَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتَ تَقُولُهَا وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَبْلَك. قُلْنَا: نَعَمْ؛ نَحْنُ نَقُولُ ذَلِكَ فِي تَفْرِيعِ مَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْتِزَامِ الْمَذْهَبِ بِالتَّخْرِيجِ، لَا عَلَى أَنَّهَا فَتْوَى نَازِلَةٌ تَعْمَلُ عَلَيْهَا الْمَسَائِلُ، حَتَّى إذَا جَاءَ سَائِلٌ عُرِضَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الدَّلِيلِ الْأَصْلِيِّ؛ لَا عَلَى التَّخْرِيجِ الْمَذْهَبِيِّ، وَحِينَئِذٍ يُقَالُ لَهُ الْجَوَابُ كَذَا فَاعْمَلْ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا قَوْلُ النَّاسِ: هَلْ الْحَوْضُ قَبْلَ الْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ أَوْ الْمِيزَانُ قَبْلَهُمَا أَمْ الْحَوْضُ؟ فَهَذَا قَفْوُ مَا لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُدْرَكُ بِنَظَرِ الْعَقْلِ، وَلَا بِنَظَرِ السَّمْعِ، وَلَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ صَحِيحٌ، فَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ. وَمِثْلُهُ: كَيْفَ كِفَّةُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ؟ كَيْفَ يُعْطَى كِتَابَهُ؟.
[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ} [الإسراء: 36]: يُسْأَلُ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَيُسْأَلُ الْفُؤَادُ عَمَّا افْتَكَرَ وَاعْتَقَدَ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ عَمَّا رَأَى مِنْ ذَلِكَ أَوْ سَمِعَ، فَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُنْكِرُ، فَتَنْطِقُ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ، فَإِذَا شَهِدَتْ اسْتَوْجَبَتْ الْخُلُودَ الدَّائِمَ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْعَاصِي فَلَمْ يَأْتِ فِيهِ أَمْرٌ صَحِيحٌ، فَهُوَ مِثَالٌ رَابِعٌ مِنْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي رِسَالَةِ تَقْوِيمِ الْفَتْوَى عَلَى أَهْلِ الدَّعْوَى.
{"ayah":"وَلَا تَقۡفُ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولࣰا"}