الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ .(p-١٦٦) فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا شَرَحَ الأوامِرَ الثَّلاثَةَ، عادَ بَعْدَهُ إلى ذِكْرِ النَّواهِي فَنَهى عَنْ ثَلاثَةِ أشْياءَ: أوَّلُها: قَوْلُهُ: ﴿ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿تَقْفُ﴾ مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِمْ: قَفَوْتُ أثَرَ فُلانٍ أقْفُو قَفْوًا وقُفُوًّا إذا اتَّبَعْتَ أثَرَهُ، وسُمِّيَتْ قافِيَةُ الشِّعْرِ قافِيَةً لِأنَّها تَقْفُو البَيْتَ، وسُمِّيَتِ القَبِيلَةُ المَشْهُورَةُ بِالقافَةِ، لِأنَّهم يَتْبَعُونَ آثارَ أقْدامِ النّاسِ ويَسْتَدِلُّونَ بِها عَلى أحْوالِ الإنْسانِ، وقالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا﴾ [الحديد: ٢٧] وسُمِّي القَفا قَفًا لِأنَّهُ مُؤَخَّرُ بَدَنِ الإنْسانِ كَأنَّهُ شَيْءٌ يَتْبَعُهُ ويَقْفُوهُ فَقَوْلُهُ: ﴿ولا تَقْفُ﴾ أيْ: ولا تَتْبَعْ ولا تَقْتَفِ ما لا عِلْمَ لَكَ بِهِ مِن قَوْلٍ أوْ فِعْلٍ، وحاصِلُهُ يَرْجِعُ إلى النَّهْيِ عَنِ الحُكْمِ بِما لا يَكُونُ مَعْلُومًا، وهَذِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ يَنْدَرِجُ تَحْتَها أنْواعٌ كَثِيرَةٌ، وكُلُّ واحِدٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ حَمَلَهُ عَلى واحِدٍ مِن تِلْكَ الأنْواعِ وفِيهِ وُجُوهٌ: الوَجْهُ الأوَّلُ: المُرادُ نَهْيُ المُشْرِكِينَ عَنِ المَذاهِبِ الَّتِي كانُوا يَعْتَقِدُونَها في الإلَهِيّاتِ والنُّبُوّاتِ بِسَبَبِ تَقْلِيدِ أسْلافِهِمْ، لِأنَّهُ تَعالى نَسَبَهم في تِلْكَ العَقائِدِ إلى اتِّباعِ الهَوى فَقالَ: ﴿إنْ هي إلّا أسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أنْتُمْ وآباؤُكم ما أنْزَلَ اللَّهُ بِها مِن سُلْطانٍ﴾ [النجم: ٢٣] وقالَ في إنْكارِهِمُ البَعْثَ: ﴿بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهم في الآخِرَةِ بَلْ هم في شَكٍّ مِنها بَلْ هم مِنها عَمُونَ﴾ [النمل: ٦٦] وحُكِيَ عَنْهم أنَّهم قالُوا: ﴿إنْ نَظُنُّ إلّا ظَنًّا وما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الجاثية: ٣٢] وقالَ: ﴿ومَن أضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ [القصص: ٥٠] وقالَ: ﴿ولا تَقُولُوا لِما تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذا حَلالٌ وهَذا حَرامٌ﴾ [النحل: ١١٦] الآيَةَ وقالَ: ﴿هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ﴾ [الأنعام: ١٤٨] . والقَوْلُ الثّانِي: نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الحَنَفِيَّةِ أنَّ المُرادَ مِنهُ شَهادَةُ الزُّورِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لا تَشْهَدْ إلّا بِما رَأتْهُ عَيْناكَ وسَمِعَتْهُ أُذُناكَ ووَعاهُ قَلْبُكَ. والقَوْلُ الثّالِثُ: المُرادُ مِنهُ: النَّهْيُ عَنِ القَذْفِ ورَمْيِ المُحْصَنِينَ والمُحْصَناتِ بِالأكاذِيبِ، وكانَتْ عادَةُ العَرَبِ جارِيَةً بِذَلِكَ يَذْكُرُونَها في الهِجاءِ ويُبالِغُونَ فِيهِ. والقَوْلُ الرّابِعُ: المُرادُ مِنهُ النَّهْيُ عَنِ الكَذِبِ. قالَ قَتادَةُ: لا تَقُلْ سَمِعْتُ ولَمْ تَسْمَعْ ورَأيْتُ ولَمْ تَرَ وعَلِمْتُ ولَمْ تَعْلَمْ. والقَوْلُ الخامِسُ: أنَّ القَفْوَ هو البُهْتُ وأصْلُهُ مِنَ القَفا، كَأنَّهُ قَوْلٌ يُقالُ خَلْفَهُ وهو في مَعْنى الغِيبَةِ وهو ذِكْرُ الرَّجُلِ في غِيبَتِهِ بِما يَسُوءُهُ. وفي بَعْضِ الأخْبارِ مَن قَفا مُسْلِمًا بِما لَيْسَ فِيهِ حَبَسَهُ اللَّهُ في رَدْغَةِ الخَبالِ، واعْلَمْ أنَّ اللَّفْظَ عامٌّ يَتَناوَلُ الكُلَّ فَلا مَعْنى لِلتَّقْلِيدِ. واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ نُفاةُ القِياسِ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقالُوا: القِياسُ لا يُفِيدُ إلّا الظَّنَّ والظَّنُّ مُغايِرٌ لِلْعِلْمِ، فالحُكْمُ في دِينِ اللَّهِ بِالقِياسِ حُكْمٌ بِغَيْرِ المَعْلُومِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَجُوزَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ . أُجِيبَ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ الحُكْمَ في الدِّينِ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ جائِزٌ بِإجْماعِ الأُمَّةِ في صُوَرٍ كَثِيرَةٍ: (p-١٦٧)أحَدُها: أنَّ العَمَلَ بِالفَتْوى عَمَلٌ بِالظَّنِّ وهو جائِزٌ. وثانِيها: العَمَلُ بِالشَّهادَةِ عَمَلٌ بِالظَّنِّ وأنَّهُ جائِزٌ. وثالِثُها: الِاجْتِهادُ في طَلَبِ القِبْلَةِ لا يُفِيدُ إلّا الظَّنَّ وأنَّهُ جائِزٌ. ورابِعُها: قِيَمُ المُتْلَفاتِ وأُرُوشُ الجِناياتِ لا سَبِيلَ إلَيْها إلّا بِالظَّنِّ وأنَّهُ جائِزٌ. وخامِسُها: الفَصْدُ والحِجامَةُ وسائِرُ المُعالَجاتِ بِناءً عَلى الظَّنِّ وأنَّهُ جائِزٌ. وسادِسُها: كَوْنُ هَذِهِ الذَّبِيحَةِ ذَبِيحَةً لِلْمُسْلِمِ مَظْنُونٌ لا مَعْلُومٌ، وبِناءُ الحُكْمِ عَلَيْهِ جائِزٌ. وسابِعُها: قالَ تَعالى: ﴿وإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَمًا مِن أهْلِهِ وحَكَمًا مِن أهْلِها﴾ [النساء: ٣٥] وحُصُولُ ذَلِكَ الشِّقاقِ مَظْنُونٌ لا مَعْلُومٌ. وثامِنُها: الحُكْمُ عَلى الشَّخْصِ المُعَيَّنِ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا مَظْنُونٌ ثُمَّ نَبْنِي عَلى هَذا الظَّنِّ أحْكامًا كَثِيرَةً مِثْلَ حُصُولِ التَّوارُثِ ومِثْلَ الدَّفْنِ في مَقابِرِ المُسْلِمِينَ وغَيْرِهِما. وتاسِعُها: جَمِيعُ الأعْمالِ المُعْتَبَرَةِ في الدُّنْيا مِنَ الأسْفارِ، وطَلَبِ الأرْباحِ والمُعامَلاتِ إلى الآجالِ المَخْصُوصَةِ والِاعْتِمادِ عَلى صَداقَةِ الأصْدِقاءِ وعَداوَةِ الأعْداءِ كُلُّها مَظْنُونَةٌ، وبِناءُ الأمْرِ عَلى تِلْكَ الظُّنُونِ جائِزٌ. وعاشِرُها: قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظّاهِرِ واللَّهُ يَتَوَلّى السَّرائِرَ» “ وذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأنَّ الظَّنَّ مُعْتَبَرٌ في هَذِهِ الأنْواعِ العَشَرَةِ فَبَطَلَ قَوْلُ مَن يَقُولُ: إنَّهُ لا يَجُوزُ بِناءُ الأمْرِ عَلى الظَّنِّ. والجَوابُ الثّانِي: أنَّ الظَّنَّ قَدْ يُسَمّى بِالعِلْمِ. والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذا جاءَكُمُ المُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أعْلَمُ بِإيمانِهِنَّ فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكُفّارِ﴾ [الممتحنة: ١٠] ومِنَ المَعْلُومِ أنَّهُ إنَّما يُمْكِنُ العِلْمُ بِأيْمانِهِنَّ بِناءً عَلى إقْرارِهِنَّ، وذَلِكَ لا يُفِيدُ إلّا الظَّنَّ، فَهَهُنا اللَّهُ تَعالى سَمّى الظَّنَّ عِلْمًا. والجَوابُ الثّالِثُ: أنَّ الدَّلِيلَ القاطِعَ لَمّا دَلَّ عَلى وُجُوبِ العَمَلِ بِالقِياسِ، وكانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ دَلِيلًا عَلى أنَّهُ مَتى حَصَلَ ظَنُّ أنَّ حُكْمَ اللَّهِ في هَذِهِ السُّورَةِ يُساوِي حُكْمَهُ في مَحَلِّ النَّصِّ، فَأنْتُمْ مُكَلَّفُونَ بِالعَمَلِ عَلى وفْقِ ذَلِكَ الظَّنِّ، فَهَهُنا الظَّنُّ وقَعَ في طَرِيقِ الحُكْمِ، فَأمّا ذَلِكَ الحُكْمُ فَهو مَعْلُومٌ مُتَيَقَّنٌ. أجابَ نُفاةُ القِياسِ عَنِ السُّؤالِ الأوَّلِ فَقالُوا: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ عامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ في الصُّوَرِ العَشَرَةِ المَذْكُورَةِ، فَيَبْقى هَذا العُمُومُ فِيما وراءَ هَذِهِ الصُّوَرِ حُجَّةً، ثُمَّ نَقُولُ: الفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الصُّوَرِ العَشْرِ وبَيْنَ مَحَلِّ النِّزاعِ أنَّ هَذِهِ الصُّوَرَ العَشْرَ مُشْتَرِكَةٌ في أنَّ تِلْكَ الأحْكامِ أحْكامٌ مُخْتَصَّةٌ بِأشْخاصٍ مُعَيَّنِينَ في أوْقاتٍ مُعَيَّنَةٍ، فَإنَّ الواقِعَةَ الَّتِي يَرْجِعُ فِيها الإنْسانُ المُعَيَّنُ إلى المَعْنى المُعَيَّنِ واقِعَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِذَلِكَ الشَّخْصِ المُعَيَّنِ، وكَذَلِكَ القَوْلُ في الشَّهادَةِ وفي طَلَبِ القِبْلَةِ وفي سائِرِ الصُّوَرِ. والتَّنْصِيصُ عَلى وقائِعِ الأشْخاصِ المُعَيَّنِينَ في الأوْقاتِ المُعَيَّنَةِ يَجْرِي مَجْرى التَّنْصِيصِ عَلى ما لا نِهايَةَ لَهُ، وذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ، فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ اكْتَفَيْنا بِالظَّنِّ. أمّا الأحْكامُ المُثْبَتَةُ بِالأقْيِسَةِ فَهي أحْكامٌ كُلِّيَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ في وقائِعَ كُلِّيَّةٍ وهي مَضْبُوطَةٌ قَلِيلَةٌ، والتَّنْصِيصُ عَلَيْها مُمْكِنٌ ولِذَلِكَ فَإنَّ الفُقَهاءَ الَّذِينَ اسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الأحْكامَ بِطَرِيقِ القِياسِ ضَبَطُوها وذَكَرُوها في كُتُبِهِمْ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: التَّنْصِيصُ عَلى الأحْكامِ في الصُّوَرِ العَشْرِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوها غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلا جَرَمَ اكْتَفى الشّارِعُ فِيها بِالظَّنِّ، أمّا المَسائِلُ المُثْبَتَةُ بِالطُّرُقِ القِياسِيَّةِ التَّنْصِيصُ عَلَيْها مُمْكِنٌ فَلَمْ يَجُزِ الِاكْتِفاءُ فِيها بِالظَّنِّ فَظَهَرَ الفَرْقُ. وأمّا الجَوابُ الثّانِي: وهو قَوْلُهُمُ الظَّنُّ قَدْ يُسَمّى عِلْمًا فَنَقُولُ: هَذا باطِلٌ فَإنَّهُ يَصِحُّ أنْ يُقالَ هَذا مَظْنُونٌ وغَيْرُ مَعْلُومٍ، وهَذا مَعْلُومٌ وغَيْرُ مَظْنُونٍ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى حُصُولِ المُغايَرَةِ، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: (p-١٦٨)﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ﴾ [الأنعام: ١٤٨] نَفْيُ العِلْمِ، وإثْباتٌ لِلظَّنِّ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى حُصُولِ المُغايَرَةِ، وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ﴾ [الممتحنة: ١٠] فالمُؤْمِنُ هو المُقِرُّ، وذَلِكَ الإقْرارُ هو العِلْمُ. وأمّا الجَوابُ الثّالِثُ: فَهو أيْضًا ضَعِيفٌ، لِأنَّ ذَلِكَ الكَلامَ إنَّما يَتِمُّ لَوْ ثَبَتَ أنَّ القِياسَ حُجَّةٌ بِدَلِيلٍ قاطِعٍ وذَلِكَ باطِلٌ لَأنَّ تِلْكَ الحُجَّةَ إمّا أنْ تَكُونَ عَقْلِيَّةً أوْ نَقْلِيَّةً، والأوَّلُ باطِلٌ لِأنَّ القِياسَ الَّذِي يُفِيدُ الظَّنَّ لا يَجِبُ عَقْلًا أنْ يَكُونَ حُجَّةً، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ لا نِزاعَ أنْ يَصِحَّ مِنَ الشَّرْعِ أنْ يَقُولَ: نَهَيْتُكم عَنِ الرُّجُوعِ إلى القِياسِ ولَوْ كانَ كَوْنُهُ حُجَّةً أمْرًا عَقْلِيًّا مَحْضًا لامْتَنَعَ ذَلِكَ. والثّانِي أيْضًا باطِلٌ، لِأنَّ الدَّلِيلَ النَّقْلِيَّ في كَوْنِ القِياسِ حُجَّةً إنَّما يَكُونُ قَطْعِيًّا لَوْ كانَ مَنقُولًا نَقْلًا مُتَواتِرًا وكانَتْ دَلالَتُهُ عَلى ثُبُوتِ هَذا المَطْلُوبِ دَلالَةً قَطْعِيَّةً غَيْرَ مُحْتَمِلَةٍ النَّقِيضَ ولَوْ حَصَلَ مِثْلُ هَذا الدَّلِيلِ لَوَصَلَ إلى الكُلِّ ولَعَرَفَهُ الكُلُّ ولارْتَفَعَ الخِلافُ، وحَيْثُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ في هَذِهِ المَسْألَةِ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ قاطِعٌ، فَثَبَتَ أنَّهُ لَمْ يُوجَدْ في إثْباتِ كَوْنِ القِياسِ حُجَّةً دَلِيلٌ قاطِعٌ البَتَّةَ، فَبَطَلَ قَوْلُكم: كَوْنُ الحُكْمِ المُثْبَتِ بِالقِياسِ حُجَّةً مَعْلُومٌ لا مَظْنُونٌ، فَهَذا تَمامُ الكَلامِ في تَقْرِيرِ هَذا الدَّلِيلِ. وأحْسَنُ ما يُمْكِنُ أنْ يُقالَ في الجَوابِ عَنْهُ إنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الآيَةِ الَّتِي عَوَّلْتُمْ عَلَيْها تَمَسُّكٌ بِعامٍّ مَخْصُوصٍ، والتَّمَسُّكُ بِالعامِّ المَخْصُوصِ لا يُفِيدُ إلّا الظَّنَّ، فَلَوْ دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ التَّمَسُّكَ بِالظَّنِّ غَيْرُ جائِزٍ لَدَلَّتْ عَلى أنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الآيَةِ غَيْرُ جائِزٍ، فالقَوْلُ بِكَوْنِ هَذِهِ الآيَةِ حُجَّةً يُفْضِي ثُبُوتُهُ إلى نَفْيِهِ فَكانَ تَناقُضًا فَسَقَطَ الِاسْتِدْلالُ بِهِ، واللَّهُ أعْلَمُ. ولِلْمُجِيبِ أنْ يُجِيبَ فَيَقُولُ: نَعْلَمُ بِالتَّواتُرِ الظّاهِرِ مِن دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ أنَّ التَّمَسُّكَ بِآياتِ القُرْآنِ حُجَّةٌ في الشَّرِيعَةِ ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْ هَذا الجَوابِ بِأنَّ كَوْنَ العامِّ المَخْصُوصِ حُجَّةً غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالتَّواتُرِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ فِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ العُلُومَ إمّا مُسْتَفادَةٌ مِنَ الحَواسِّ، أوْ مِنَ العُقُولِ. أمّا القِسْمُ الأوَّلُ: فَإلَيْهِ الإشارَةُ بِذِكْرِ السَّمْعِ والبَصَرِ، فَإنَّ الإنْسانَ إذا سَمِعَ شَيْئًا ورَآهُ فَإنَّهُ يَرْوِيهِ ويُخْبِرُ عَنْهُ. وأمّا القِسْمُ الثّانِي: فَهو العُلُومُ المُسْتَفادَةُ مِنَ العَقْلِ وهي قِسْمانِ: البَدِيهِيَّةُ والكَسْبِيَّةُ، وإلى العُلُومِ العَقْلِيَّةِ الإشارَةُ بِذِكْرِ الفُؤادِ. البَحْثُ الثّانِي: ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذِهِ الجَوارِحَ مَسْئُولَةٌ وفِيهِ وُجُوهٌ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ أنَّ صاحِبَ السَّمْعِ والبَصَرِ والفُؤادِ هو المَسْئُولُ لِأنَّ السُّؤالَ لا يَصِحُّ إلّا مِمَّنْ كانَ عاقِلًا، وهَذِهِ الجَوارِحُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، بَلِ العاقِلُ الفاهِمُ هو الإنْسانُ، فَهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واسْألِ القَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢] والمُرادُ أهْلُها يُقالُ لَهُ لِمَ سَمِعْتَ ما لا يَحِلُّ لَكَ سَماعُهُ ؟ ولِمَ نَظَرْتَ إلى ما لا يَحِلُّ لَكَ النَّظَرُ إلَيْهِ، ولِمَ عَزَمْتَ عَلى ما لا يَحِلُّ لَكَ العَزْمُ عَلَيْهِ. والوَجْهُ الثّانِي: أنَّ تَقْرِيرَ الآيَةِ أنَّ أُولَئِكَ الأقْوامَ كُلُّهم مَسْئُولُونَ عَنِ السَّمْعِ والبَصَرِ والفُؤادِ فَيُقالُ لَهُمُ: اسْتَعْمَلْتُمُ السَّمْعَ في ماذا ؟ أفِي الطّاعَةِ أوْ في المَعْصِيَةِ ؟ وكَذَلِكَ القَوْلُ في بَقِيَّةِ الأعْضاءِ، وذَلِكَ لِأنَّ هَذِهِ الحَواسَّ آلاتُ النَّفْسِ، والنَّفْسُ كالأمِيرِ لَها والمُسْتَعْمِلُ لَها في مَصالِحِها فَإنِ اسْتَعْمَلَتْها النَّفْسُ في الخَيْراتِ اسْتَوْجَبَتِ الثَّوابَ، وإنِ اسْتَعْمَلَتْها في المَعاصِي اسْتَحَقَّتِ العِقابَ. (p-١٦٩) والوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّهُ ثَبَتَ بِالقُرْآنِ أنَّهُ تَعالى يَخْلُقُ الحَياةَ في الأعْضاءِ ثُمَّ إنَّها تَشْهَدُ عَلى الإنْسانِ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ألْسِنَتُهم وأيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور: ٢٤] ولِذَلِكَ لا يَبْعُدُ أنْ يَخْلُقَ الحَياةَ والعَقْلَ والنُّطْقَ في هَذِهِ الأعْضاءِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى يُوَجِّهُ السُّؤالَ عَلَيْها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب