الباحث القرآني
(لطيفة: في الفرق بين قولك: كل من كل الثمرات وكل من الثمرات كلها)
فإن قيل: فإذا استوى الأمران كقولك كل من كل الثمرات وكل من الثمرات كلها فلم اختص أحد النظمين بالقرآن في موضع دون موضع؟
قيل: هذا لا يلزم لأن كل واحد منه فصيح ولكن لا بد من فائدة في الاختصاص أما قوله تعالى: ﴿فَأخْرَجْنا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾
فـ (مِن) هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض والمجرور في موضع المفعول لا في موضع الظرف وإنما تريد الثمرات نفسها إلا أنه أخرج منها شيئا وأدخل من لبيان الجنس كله ولو قال أخرجنا به من الثمرات كلها لذهب الوهم إلى أن المجرور في موضع ظرف وأن مفعول أخرجنا فيما بعد ولم يتوهم ذلك مع تقديم كل لعلم المخاطبين أن كلا إذا تقدمت تقتضي الإحاطة بالجنس وإذا تأخرت وكانت توكيدا اقتضت الإحاطة بالمؤكد خاصة جنسا شائعا كان أو معهودا معروفا.
وأما قوله تعالى: ﴿كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ ولم يقل من الثمرات كلها ففيها الحكمة التي في الآية قبلها، ومزيد فائدة وهو أنه تقدمها في النظم قوله تعالى: ﴿وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ والأعْنابِ﴾ فلو قال بعدها كلي من الثمرات كلها لذهب الوهم إلى أنه يريد الثمرات المذكورة قبل هذا أعني (ثمرات النخيل والأعناب) لأن اللام إنما تنصرف إلى المعهود فكان الابتداء بكل أحصن للمعنى وأجمع للجنس وأرفع للبس وأبدع في النظم فتأمله.
* [فصل: بَيانُ أنَّ العَسَلَ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ]
وَقَدِ اخْتَلَفَ النّاسُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ﴾ [النحل: ٦٩]، هَلِ الضَّمِيرُ في "فِيهِ" راجِعٌ إلى الشَّرابِ، أوْ راجِعٌ إلى القُرْآنِ؟ عَلى قَوْلَيْنِ:
الصَّحِيحُ رُجُوعُهُ إلى الشَّرابِ وهو قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ عَبّاسٍ، والحسن، وقتادة، والأكْثَرِينَ فَإنَّهُ هو المَذْكُورُ والكَلامُ سِيقَ لِأجْلِهِ، ولا ذِكْرَ لِلْقُرْآنِ في الآيَةِ، وهَذا الحَدِيثُ الصَّحِيحُ وهو قَوْلُهُ: " صَدَقَ اللَّهُ " كالصَّرِيحِ فِيهِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
* (فصل: تَأمل أحوال النَّحْل وما فِيها من العبر والآيات)
فانْظُر إليها وإلى اجتهادها في صَنْعَة العَسَل وبنائها البيُوت المسدسة الَّتِي هي من أتم الاشكال وأحسنها استدارة وأحكمها صنعا فَإذا انْضَمَّ بَعْضها إلى بعض لم يكن بَينها فُرْجَة ولا خلل كل هَذا بِغَيْر مقياس ولا آله ولا بيكار وتلك من أثر صنع الله وإلهامه إيّاها وايحائه إليها كَما قالَ تَعالى ﴿وَأوحى رَبك إلى النَّحْل أن اتخذي من الجبال بُيُوتًا﴾ إلى قَوْله ﴿لآيات لقوم يتفكرون﴾
فَتَأمل كَمال طاعتها وحسن ائتمارها لأمر رَبها اتَّخذت بيوتها في هَذِه الأمكنة الثَّلاثَة في الجبال الشقفان، وفي الشّجر، وفي بيُوت النّاس حَيْثُ يعرشون أي بيبنون العروش وهِي البيُوت فَلا يرى للنحل بَيت غير هَذِه الثَّلاثَة ألْبَتَّةَ.
وتأمل كَيفَ أكثر بيوتها في الجبال والشقفان وهو البَيْت المُقدم في الآية ثمَّ في الأشجار وهِي من أكثر بيوتها ومِمّا يعرش النّاس واقل بيوتها بَينهم حَيْثُ يعرشون، وأما في الجبال والشَّجر فبيوت عَظِيمَة يُؤْخَذ مِنها من العَسَل الكثير جدا.
وتأمل كَيفَ أداها حسن الِامْتِثال إلى أن اتَّخذت البيُوت أولا، فَإذا اسْتَقر لَها بَيت خرجت مِنهُ فرعت وأكلت من الثِّمار ثمَّ آوت إلى بيوتها لأن رَبها سُبْحانَهُ امرها باتخاذ البيُوت أولا ثمَّ بالأكل بعد ذَلِك ثمَّ إذا اكلت سلكت سبل رَبها مذللة لا يستوعز عَلَيْها شَيْء ترعى ثمَّ تعود ومن عَجِيب شَأْنها أن لَها أميرا يُسمى اليعسوب لا يتم لَها رواح ولا إياب ولا عمل ولا مرعى إلّا بِهِ فَهي مؤتمره لأمره سامعة لَهُ مطيعه وله عَلَيْها تَكْلِيف وأمر ونهى وهِي رعية لَهُ منقادة لأمره متبعة لرايه يدبرها كَما يدبر الملك امْر رَعيته حَتّى إنَّها إذا آوت إلا بيوتها وقف على باب البَيْت فَلا يدع واحِدَة تزاحم الأخرى ولا تتقدم عَلَيْها في العبور بل تعبر بيوتها واحِدَة بعد واحِدَة بِغَيْر تزاحم ولا تصادم ولا تراكم كَما يفعل الأمير إذا انْتهى بعسكره إلى معبر ضيق لا يجوزه إلا واحِد واحِد ومن تدبر أحوالها وسياساتها وهدايتها واجتماع شملها وانتظام امرها وتدبير ملكها وتفويض كل عمل إلى واحِد مِنها يتعجب مِنها كل العجب ويعلم أن هَذا لَيْسَ في مقدورها ولا هو من ذاتها فَإن هَذِه أعمال محكمَة متقنة في غايَة الأحكام والاتقان فَإذا نظرت إلى العامِل رَأيْته من أضْعَف خلق الله أجهله بِنَفسِهِ وبحاله وأعجزه عَن القيام بمصلحته فضلا عَمّا يصدر عَنهُ من الأمور العجيبة ومن عَجِيب أمرها أن فِيها أميرين لا يَجْتَمِعانِ في بَيت واحِد ولا يتأمران على جمع واحِد بل إذا اجْتمع مِنها جندان وأميران قتلوا احْدُ الأميرين وقطعوه واتَّفَقُوا على الأمير الواحِد من غير معاداة بَينهم ولا أذى من بَعضهم لبَعض بل يصيرون يدا واحِدَة وجندا واحِدًا.
* (فصل)
وَمن أعجب أمرها ما لا يَهْتَدِي لَهُ أكثر النّاس ولا يعرفونه وهو النِّتاج الَّذِي يكون لَها هَل هو على وجه الولادَة والتوالد أوْ الاستحالة فَقل من يعرف ذَلِك أوْ يفْطن لَهُ ولَيْسَ نتاجها على واحِد من هذَيْن الوَجْهَيْنِ، وإنَّما نتاجها بِأمْر من أعجب العجيب فَإنَّها إذا ذهبت إلى المرعي أخذت تِلْكَ الأجزاء الصافية الَّتِي على الوَرق من الورْد والزهر والحشيش وغَيره وهِي الطل فتمصها وذَلِكَ مادَّة العَسَل ثمَّ أنها تكبس الأجزاء المنعقدة على وجه الورقة وتعقدها على رجلها كالعدسة فتملأ بها المسدسات الفارغة من العَسَل ثمَّ يقوم يعسوبها على بَيته مبتدئا مِنهُ فينفخ فِيهِ ثمَّ يطوف على تِلْكَ البيُوت بَيْتا بَيْتا وينفخ فِيها كلها فتدب فِيها الحَياة بِإذن الله عز وجل فتتحرك وتخرج طيورا بِإذن الله وتلك أحدى الآيات والعجائب الَّتِي قل من يتفطن لَها وهَذا كُله من ثَمَرَة ذَلِك الوَحْي الإلهي أفادها وأكسبها هَذا التَّدْبِير والسّفر والمعاش والبناء والنتاج فسل المُعَطل من الَّذِي أوحى إليها أمرها وجعل ما جعل في طباعها؟
وَمن الَّذِي سهل لَها سبله ذللا منقادة لا تستعصي عَلَيْها ولا تستوعرها ولا تضل عَنْها على بعْدها؟
وَمن الَّذِي هداها لشأنها؟ ومن الَّذِي أنزل لَها من الطل ما إذا جنته ردته عسلا صافيا مُخْتَلفا ألوانه في غايَة الحَلاوَة واللذاذة والمَنفَعَة من بَين أبيض يرى فِيهِ الوَجْه أعظم من رُؤْيَته في المرْآة وسمه لي من جاءَ بِهِ وقالَ هَذا أفخر ما يعرف النّاس من العَسَل وأصفاه وأطيبه فَإذا طعمه ألذ شَيْء يكون من الحَلْوى ومن بَين أحمر وأخضر ومورد وأسود وأشقر وغير ذَلِك من الألوان والطعوم المُخْتَلفَة فِيهِ بِحَسب مراعيه ومادتها.
وَإذا تَأمَّلت ما فِيهِ من المَنافِع والشفاء ودخوله في غالب الأدوية حَتّى كانَ المتقدمون لا يعْرفُونَ السكر ولا هو مَذْكُور في كتبهمْ أصلا وإنَّما كانَ الَّذِي يستعملونه في الأدوية هو العَسَل وهو المَذْكُور في كتب القَوْم ولعمر الله أنه لأنفع من السكر وأجدى وأجلى للأخلاط وأقمع لَها وأذهب لضررها وأقوى للمعدة وأشد تفريحا للنَّفس وتقوية للأرواح وتنفيذا للدواء وإعانة لَهُ على اسْتِخْراج الدّاء من اعماق البدن ولِهَذا لم يَجِيء في شَيْء من الحَدِيث قطّ ذكر السكر ولا كانُوا يعرفونه أصلا ولَو عدم من العالم لما احْتاجَ إليه، ولَو عدم العَسَل لاشتدت الحاجة إليه، وإنَّما غلب على بعض المدن اسْتِعْمال السكر حَتّى هجروا العَسَل واستطابوه عَلَيْهِ ورأوه أقل حِدة وحرارة مِنهُ، ولم يعلمُوا أن من مَنافِع العَسَل ما فِيهِ من الحدة والحرارة فَإذا لم يُوافق من يَسْتَعْمِلهُ كسرها بمقابلها فَيصير أنفع لَهُ من السكر.
وسنفرد - إن شاءَ الله - مقالَة نبين فِيها فضل العَسَل على السكر من طرق عديدة لا تمنع وبراهين كَثِيرَة لا تدفع ومَتى رأيت السكر يجلو بلغما ويذيب خلطا أوْ يشفي من داء، وإنَّما غايَته بعض التَّنْفِيذ للدواء إلى العُرُوق للطافته وحلاوته.
وَأما الشِّفاء الحاصِل من العَسَل فقد حرمه الله كثيرا من النّاس حَتّى صارُوا يذمونه ويخشون غائلته من حرارته وحدته ولا ريب أن كَونه شِفاء وكَون القُرْآن شِفاء والصَّلاة شِفاء وذكر الله والإقبال عَلَيْهِ شِفاء، أمر لا يعم الطبائع والأنفس فَهَذا كتاب الله هو الشِّفاء النافع وهو أعظم الشِّفاء، وما أقل المستشفين بِهِ بل لا يزِيد الطبائع الرَّديئَة رداءة ولا يزِيد الظّالِمين إلا خسارا.
وَكَذَلِكَ ذكر الله والإقبال عَلَيْهِ والإنابة إليه والفزع إلى الصَّلاة كم قد شفي بِهِ من عليل، وكم قد عوفي بِهِ من مَرِيض، وكم قامَ مقام كثير من الأدوية الَّتِي لا تبلغ قَرِيبا من مبلغه في الشِّفاء وأنت ترى كثيرا من النّاس بل أكثرهم لا نصيب لَهُم من الشِّفاء بذلك أصلا.
وَلَقَد رأيت في بعض كتب الأطباء المُسلمين في ذكر الأدوية المفردة ذكر الصَّلاة ذكرها في باب الصّاد وذكر من مَنافِعها في البدن الَّتِي توجب الشِّفاء وُجُوهًا عديدة، ومن مَنافِعها في الرّوح والقلب.
وَسمعت شَيخنا أبا العَبّاس ابن تَيْمِية رَحمَه الله يَقُول وقد عرض لَهُ بعض الألم فَقالَ لَهُ الطَّبِيب أضر ما عَلَيْك الكَلام في العلم والفكر فِيهِ والتوجه والذكر.
فَقالَ ألستم تَزْعُمُونَ أن النَّفس إذا قويت وفرحت اوجب فرحها لَها قُوَّة تعين بها الطبيعة على دفع العارِض فَإنَّهُ عدوها فَإذا قويت عَلَيْهِ قهرته فَقالَ لَهُ الطَّبِيب بلى فَقالَ إذا اشتغلت نَفسِي بالتوجه والذكر والكَلام في العلم وظفرت بِما يشكل عَلَيْها مِنهُ فرحت بِهِ وقويت فَأوجب ذَلِك دفع العارِض هَذا أوْ نَحوه من الكَلام.
والمَقْصُود أن ترك كثير من النّاس الِاسْتِشْفاء بالعسل لا يُخرجهُ عَن كَونه شِفاء كَما أن ترك أكثرهم الِاسْتِشْفاء بِالقُرْآنِ من أمراض القُلُوب لا يُخرجهُ عَن كَونه شِفاء لَها وهو شِفاء لما في الصُّدُور وإن لم يسْتَشف بِهِ أكثر المرضى كَما قالَ تَعالى ﴿يا أيها النّاس قد جاءتكم موعظة من ربكُم وشفاء لما في الصُّدُور وهدى ورَحْمَة للْمُؤْمِنين﴾
فَعم بِالمَوْعِظَةِ والشفاء وخص بِالهدى والمعرفة فَهو نَفسه شِفاء أستشفي بِهِ أوْ لم يسْتَشف بِهِ ولم يصف الله في كِتابه بالشفاء إلّا القُرْآن والعَسَل فهما الشفاآن هَذا شِفاء القُلُوب من أمراض غيها وضلالها وأدواء شبهاتها وشهواتها، وهَذا شِفاء للأبدان من كثير من أسقامها وأخلاطها وآفاتها ولَقَد أصابني أيام مقامي بِمَكَّة أسقام مُخْتَلفَة ولا طَبِيب هُناكَ ولا أدوية كَما في غَيرها من المدن فَكنت أستشفي بالعسل وماء زَمْزَم ورأيت فيهما من الشِّفاء أمرا عجيبا، وتَأمل إخباره سُبْحانَهُ وتَعالى عَن القُرْآن بِأنَّهُ نَفسه شِفاء وقالَ عَن السعل ﴿فِيهِ شِفاء للنّاس﴾ وما كانَ نَفسه شِفاء أبلغ مِمّا جعل فِيهِ شِفاء ولَيْسَ هَذا مَوضِع استقصاء فوائد العسل ومنافعه.
* (فصل آخر)
وأمر النحل في هدايتها من أعجب العجب وذلك أن لها أميرا ومدبرا وهو اليعسوب وهو أكبر جسما من جميع النحل وأحسن لونا وشكلا وإناث النحل تلد في إقبال الربيع وأكثر أولادها يكن إناثا وإذا وقع فيها ذكر لم تدعه بينها بل إما أن تطرده وإما أن تقتله إلا طائفة يسيرة منها تكون حول الملك وذلك أن الذكر منها لا تعمل شيئا ولا تكسب ثم تجمع الأمهات وفراخها عند الملك فيخرج بها إلى المرعى من المزوج والرياض والبساتين والمراتع في أقصد الطرق وأقربها فيجتني منها كفايتها فيرجع بها الملك فإذا انتهوا إلى الخلايا وقف على بابها ولم يدع ذكرا ولا نحلة غريبة تدخلها فإذا تكامل دخولها دخل بعدها وتواجدت النحل على مقاعدها وأماكنها فيبتدئ الملك بالعمل كأنه يعلمها إياه فيأخذ النحل في العمل ويتسارع إليه ويترك الملك العمل ويجلس ناحية بحيث يشاهد النحل فيأخذ النحل في إيجاد الشمع من لزوجات الأوراق والأنوار، ثم تقتسم النحل فرقا فمنها فرقة تلزم الملك ولا تفارقه ولا تعمل ولا تكسب وهم حاشية الملك من الذكورة ومنها فرقة تهيئ الشمع وتصنعه والشمع هو ثفل العسل وفيه حلاوة كحلاوة التين وللنحل فيه عناية شديدة فوق عنايتها بالعسل فينظفه النحل ويصفيه ويخلصه مما يخالطه من أبوالها وغيرها وفرقة تبني البيوت وفرقة تسقي الماء وتحمله على متونها وفرقة تكنس الخلايا وتنظفها من الأوساخ والجيف والزبل وإذا رأت بينها نحلة مهينة بطالة قطعها وقتلها حتى لا تفسد عليهن بقية العمال وتعديهن ببطالتها ومهانتها وأول ما يبنى في الخلية مقعد الملك وبيته فيبنى له بيتا مربعا يشبه السرير والتخت فيجلس عليه ويستدير حوله طائفة من النحل يشبه الأمراء والخدم والخواص لا يفارقنه ويجعل النحل بين يديه شيئا يشبه الحوض يصب فيه من العسل أصفى ما يقدر عليه ويملأ منه الحوض يكون ذلك طعاما للملك وخواصه ثم يأخذن في ابتناء البيوت على خطوط متساوية كأنها سكك ومحال وتبنى بيوتها مسدسة متساوية الأضلاع كأنها قرأت كتاب إقليدس حتى عرفت أوفق الأشكال لبيوتها لأن المطلوب من بناء الدور هو الوثاقة والسعة والشكل المسدس دون سائر الأشكال إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض صار شكلا مستديرا كاستدارة الرحى ولا يبقى فيه فروج ولا خلل ويشد بعضه بعضا حتى يصير طبقا واحدا محكما لا يدخل بين بيوته رؤوس الإبر فتبارك الذي ألهمها أن تبني بيوتها هذا البناء المحكم الذي يعجز البشر عن صنع مثله فعلمت أنها محتاجة إلى أن تبني بيوتها من أشكال موصوفة بصفتين إحداهما: أن لا يكون زواياها ضيقة حتى لا يبقى الموضع الضيق معطلا.
الثانية: أن تكون تلك البيوت مشكلة بأشكال إذا انضم بعضها إلى بعض وامتلأت العرصة منها فلا يبقى منها ضائعا ثم إنها علمت أن الشكل الموصوف بهاتين الصفتين هو المسدس فقط فإن المثلثات والمربعات وإن أمكن امتلاء العرصة منها إلا أن زواياها ضيقة وأما سائر الأشكال وإن كانت زواياها واسعة إلا أنها لا تمتلئ العرصة منها بل يبقى فيما بينها فروج خالية ضائعة وأما المسدس فهو موصوف بهاتين الصفتين فهداها سبحانه على بناء بيوتها على هذا الشكل من غير مسطر ولا آلة ولا مثال يحتذى عليه وأصنع بني آدم لا يقدر على بناء البيت المسدس إلا بالآلات الكبيرة فتبارك الذي هداها أن تسلك سبل مراعيها على قوتها وتأتها ذللا لا تستعصي عليها ولا تضل عنها وأن تجتني أطيب ما في المرعى وألطفه وأن تعود إلى بيوتها الخالية فتصب فيها شرابا مختلفا ألوانه (فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون)
فإذا فرغت من بناء البيوت خرجت خماصا تسيح سهلا وجبلا فأكلت من الحلاوات المرتفعة على رؤوس الأزهار وورق الأشجار فترجع بطانا وجعل سبحانه في أفواهها حرارة منضجة تنضج ما جنته فتعيده حلاوة ونضجا ثم تمجه في البيوت حتى إذا امتلأت ختمتها وسدت رؤوسها بالشمع المصفى فإذا امتلأت تلك البيوت عمدت إلى مكان آخر إن صادفته فاتخذت فيه بيوتا وفعلت كما فعلت في البيوت الأولى فإذا برد الهوى وأخلف المرعى وحيل بينها وبين الكسب لزمت بيوتها واغتذت بما ادخرته من العسل وهي في أيام الكسب والسعي تخرج بكرة وتسيح في المراتع وتستعمل كل فرقة منها بما يخصها من العمل فإذا أمست رجعت إلى بيوتها وإذا كان وقت رجوعها وقف على باب الخلية بواب منها ومعه أعوان فكل نحلة تريد الدخول يشمها البواب ويتفقدها فإن وجد منها رائحة منكرة أو رأى بها لطخة من قذر منعها من الدخول وعزلها ناحية إلى أن يدخل الجميع فيرجع إلى المعزولات الممنوعات من الدخول فيتفقدهن ويكشف أحوالهن مرة ثانية فمن وجده قد وقع على شيء منتن أو نجس قده نصفين ومن كانت جنايته خفيفة تركه خارج الخلية هذا دأب البواب كل عشية، وأما الملك فلا يكثر الخروج من الخلية إلا نادرا إذا اشتهى التنزه فيخرج ومعه أمراء النحل والخدم فيطوف في المروج والرياض والبساتين ساعة من النهار ثم يعود إلى مكانه ومن عجيب أمره أنه ربما لحقه أذى من النحل أو من صاحب الخلية أو من خدمه فيغضب ويخرج من الخلية ويتباعد عنها ويتبعه جميع النحل وتبقى الخلية خالية فإذا رأى صاحبها ذلك وخاف أن يأخذ النحل ويذهب بها إلى مكان آخر احتال لاسترجاعه وطلب رضاه فيتعرف موضعه الذي صار إليه بالنحل فيعرفه باجتماع النحل إليه فإنها لا تفارقه وتجتمع عليه حتى تصير عليه عنقودا وهو إذا خرج غضبا جلس على مكان مرتفع من الشجرة وطافت به النحل وانضمت إليه حتى يصير كالكرة فيأخذ صاحب النحل رمحا أو قصبة طويلة ويشد على رأسه حزمة من النبات الطيب الرائحة العطر النظيف ويدنيه إلى محل الملك ويكون معه إما مزهر أو يراع أو شيء من آلات الطرب فيحركه وقد أدنى إليه ذلك الحشيش فلا يزال كذلك إلى أن يرضى الملك فإذا رضي وزال غضبه طفر ووقع على الضغث وتبعه خدمه وسائر النحل فيحمله صاحبه إلى الخلية فينزل ويدخلها هو وجنوده ولا يقع النحل على جيفة ولا حيوان ولا طعام ومن عجيب أمرها أنها تقتل الملوك الظلمة المفسدة ولا تدين لطاعتها والنحل الصغار المجتمعة الخلق هي العسالة وهي تحاول مقاتلة الطوال القليلة النفع وإخراجها ونفيها عن الخلايا وإذا فعلت ذلك جاد العسل وتجتهد أن تقتل ما تريد قتلها خارج الخلية صيانة للخلية عن جيفته ومنها صنف قليل النفع كبير الجسم وبينها وبين العسالة حرب فهي تقصدها وتغتالها وتفتح عليها بيوتها وتقصد هلاكها والعسالة شديدة التيقظ والتحفظ منها فإذا هجمت عليها في بيوتها حاولتها وألجأتها إلى أبواب البيوت فتتلطخ بالعسل فلا تقدر على الطيران ولا يفلت منها الآكل طويل العمر فإذا انقضت الحرب وبرد القتال عادت إلى القتلى فحملتها وألقتها خارج الخلية وقد ذكرنا أن الملك لا يخرج إلا في الأحايين وإذا خرج خرج في جموع من الفراخ والشبان وإذا عزم على الخروج ظل قبل ذلك اليوم أو يومين يعلم الفراخ وينزلها منازلها ويرتبها فيخرج ويخرجن معه على ترتيب ونظام قد دبره معهن لا يخرجن عنه وإذا تولدت عنده ذكران عرف أنهن يتطلبن الملك فيجعل كل واحد منهم على طائفة من الفراخ ولا يقتل ملك منها ملكا آخر لما في ذلك من فساد الرعية وهلاكها وتفرقها وإذا رأى صاحب الخلية الملوك قد كثرت في الخلية وخاف من تفرق النحل بسببهم احتال عليهم وأخذ الملوك كلها إلا واحدا ويحبس الباقي عنده في إناء ويدع عندهم من العسل ما يكفيهم حتى إذا حدث بالملك المنصوب حدث مرض أو موت أو كان مفسدا فقتلته النحل أخذ من هؤلاء المحبوسين واحدا وجعله مكانه لئلا يبقى النحل بلا ملك فيتشتت أمرها ومن عجيب أمرها أن الملك إذا خرج متنزها ومعه الأمراء والجنود ربما لحقه إعياء فتحمله الفراخ وفي النحل كرام عمال لها سعي وهمة واجتهاد وفيها لئام كسالى قليلة النفع مؤثرة للبطالة فالكرام دائما تطردها وتنفيها عن الخلية ولا تساكنها خشية أن تعدي كرامها وتفسدها والنحل من ألطف الحيوان وأنقاه ولذلك لا تلقي زبلها إلا حين تطير وتكره النتن والروائح الخبيثة وأبكارها وفراخها أحرس وأشد اجتهادا من الكبار وأقل لسعا وأجود عسلا ولسعها إذا لسعت أقل ضررا من لسع الكبار ولما كانت النحل من أنفع الحيوان وأبركه قد خصت من وحي الرب تعالى وهدايته لما لم يشركها فيه غيرها وكان الخارج من بطونها مادة الشفاء من الأسقام والنور الذي يضيء في الظلام بمنزلة الهداة من الأنام كان أكثر الحيوان أعداء وكان أعداؤها من أقل الحيوان منفعة وبركة وهذه سنة الله في خلقه وهو العزيز الحكيم.
{"ayahs_start":68,"ayahs":["وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِی مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُیُوتࣰا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا یَعۡرِشُونَ","ثُمَّ كُلِی مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰتِ فَٱسۡلُكِی سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلࣰاۚ یَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابࣱ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَ ٰنُهُۥ فِیهِ شِفَاۤءࣱ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ"],"ayah":"وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِی مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُیُوتࣰا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا یَعۡرِشُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق