الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٦٨-٦٩] ﴿وأوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا ومِنَ الشَّجَرِ ومِمّا يَعْرِشُونَ﴾ ﴿ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَراتِ فاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِن بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٦٩] . ﴿وأوْحى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا ومِنَ الشَّجَرِ ومِمّا يَعْرِشُونَ﴾ المُرادُ مِنَ الوَحْيِ: الإلْهامُ والهِدايَةُ إلى بِنائِها تِلْكَ البُيُوتَ العَجِيبَةَ المُسَدَّسَةَ، مِن أضْلاعٍ مُتَساوِيَةٍ لا يَزِيدُ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ، مِمّا لا يُمْكِنُ مِثْلُهُ لِلْبَشَرِ إلّا بِأدَواتٍ وآلاتٍ. وقَدْ أرْشَدَها تَعالى إلى بِنائِها بُيُوتًا تَأْوِي إلَيْها في ثَلاثَةِ أمْكِنَةٍ: الجِبالِ. والشَّجَرِ. وبُيُوتِ النّاسِ، حَيْثُ يَعْرِشُونَ، أيْ: يَبْنُونَ العُرُوشَ، جَمْعُ (عَرْشٍ) وهو البَيْتُ الَّذِي يُسْتَظَلُّ بِهِ كالعَرِيشِ. ولَيْسَ لِلنَّحْلِ بَيْتٌ في غَيْرِ هَذِهِ الأمْكِنَةِ: الجِبالِ والشَّجَرِ وبُيُوتِ النّاسِ. وأكْثَرُ بُيُوتِها ما كانَ في الجِبالِ، وهو المُتَقَدِّمُ في الآيَةِ، ثُمَّ في الشَّجَرِ دُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ في الثّالِثِ أقَلُّ. فالنَّحْلُ إذًا نَوْعانِ: جَبَلِيَّةٌ تَسْكُنُ في الجِبالِ والفَيافِي لا يَتَعَهَّدُها أحَدٌ مِنَ النّاسِ. وأهْلِيَّةٌ تَأْوِي إلى البُيُوتِ وتَتَعَهَّدُ في الخَلايا. ومِن بَدِيعِ الإلْهامِ فِيها اتِّخاذُها البُيُوتَ قَبْلَ المَرْعى. فَهي تَتَّخِذُها أوَّلًا. فَإذا اسْتَقَرَّ لَها بَيْتٌ خَرَجَتْ مِنهُ، فَرَعَتْ، وأكَلَتْ مِنَ الثَّمَراتِ، ثُمَّ أوَتْ إلى بُيُوتِها. وقَدْ أشارَ تَعالى إلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ [النحل: ٦٩] أيْ: مِن كُلِّ ثَمَرَةٍ تَشْتَهِيها، حُلْوِها ومُرِّها. فالعُمُومُ عُرْفِيٌّ، أوْ لَفْظُ (كُلِّ) لِلتَّكْثِيرِ، أوْ هو عامٌّ مَخْصُوصٌ بِالعادَةِ. ولَوْ أُبْقِي الأمْرُ عَلى ظاهِرِهِ لَجازَ؛ لِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنَ الأمْرِ بِالأكْلِ مِن جَمِيعِ الثَّمَراتِ الأكْلُ مِنها؛ لِأنَّ الأمْرَ لِلتَّخْلِيَةِ والإباحَةِ. (p-٣٨٢٧)لَطِيفَةٌ: إنَّما أُوثِرَ (مِن) في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِنَ الجِبالِ﴾ إلخ، عَلى (في) دَلالَةً عَلى مَعْنى التَّبْعِيضِ. وأنْ لا تُبْنى بُيُوتُها في كُلِّ جَبَلٍ وكُلِّ شَجَرٍ وكُلِّ ما يُعَرَّشُ، ولا في كُلِّ مَكانٍ مِنها. نَبَّهَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ. قالَ النّاصِرُ: ويَتَزَيَّنُ هَذا المَعْنى الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ في تَبْعِيضِ (مِنِ) المُتَعَلِّقَةِ بِاتِّخاذِ البُيُوتِ، بِإطْلاقِ الأكْلِ. كَأنَّهُ تَعالى وكَلَ الأكْلَ إلى شَهْوَتِها واخْتِيارِها، فَلَمْ يَحْجُرْ عَلَيْها فِيهِ، وإنْ حَجَرَ عَلَيْها في البُيُوتِ وأُمِرَتْ بِاتِّخاذِها في بَعْضِ المَواضِعِ دُونَ بَعْضٍ؛ لِأنَّ مَصْلَحَةَ الآكِلِ حاصِلَةٌ عَلى الإطْلاقِ بِاسْتِمْرارِ مُشْتَهاها مِنهُ. وأمّا البُيُوتُ فَلا تَحْصُلُ مَصْلَحَتُها في كُلِّ مَوْضِعٍ. ولِهَذا المَعْنى دَخَلَتْ (ثُمَّ) لِتَفاوُتِ الأمْرِ بَيْنَ الحَجْرِ عَلَيْها في اتِّخاذِ البُيُوتِ، والإطْلاقِ لَها في تَناوُلِ الثَّمَراتِ. كَما تَقُولُ: راعِ الحَلالَ فِيما تَأْكُلُهُ، ثُمَّ كُلْ أيَّ شَيْءٍ شِئْتَ. فَتَوَسُّطٌ (ثُمَّ) لِتَفاوُتِ الحَجْرِ والإطْلاقِ. فَسُبْحانُ اللَّطِيفِ الخَبِيرِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا﴾ [النحل: ٦٩] أيِ: الطُّرُقَ الَّتِي ألْهَمَكِ وأفْهَمَكِ في عَمَلِ العَسَلِ. فالسُّبُلُ مَجازٌ عَنْ طُرُقِ العَمَلِ وأنْواعِها، أوْ عَلى حَقِيقَتِها. أيْ: إذا أكَلْتِ الثِّمارَ في المَواضِعِ النّائِيَةِ، فاسْلُكِي راجِعَةً إلى بُيُوتِكِ سُبُلَ رَبِّكِ، لا تَتَوَعَّرُ عَلَيْكِ ولا تَضِلِّينَ فِيها. و(ذُلُلًا) جَمْعُ ذَلُولٍ، حالٌ مِنَ (السُّبُلَ) أيْ: مُذَلَّلَةً ذَلَّلَها اللَّهُ لَكِ وسَهَّلَها. فَهي تَسْلُكُ مِن هَذا الجَوِّ العَظِيمِ، والبَرارِيِّ الشّاسِعَةِ والأوْدِيَةِ والجِبالِ الشّاهِقَةِ. ثُمَّ تَعُودُ كُلُّ واحِدَةٍ مِنها إلى بَيْتِها لا تَحِيدُ عَنْهُ يُمْنَةً ولا يُسْرَةً. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِها شَرابٌ﴾ [النحل: ٦٩] اسْتِئْنافٌ، عَدَلَ بِهِ عَنْ خِطابِ النَّحْلِ؛ لِبَيانِ ما يَظْهَرُ مِنها مِن عَجِيبِ صُنْعِهِ تَعالى؛ تَعْدِيدًا لِلنِّعَمِ، وتَنْبِيهًا عَلى العِبَرِ، وإرْشادًا إلى الآياتِ العَظِيمَةِ مِن هَذا الحَيَوانِ الضَّعِيفِ. وسُمِّيَ العَسَلُ شَرابًا؛ لِأنَّهُ يُشْرَبُ مَعَ الماءِ وغَيْرِهِ: ﴿مُخْتَلِفٌ ألْوانُهُ﴾ [فاطر: ٢٨] أيْ فَمِنهُ أبْيَضُ وأصْفَرُ وأحْمَرُ؛ لِاخْتِلافِ ما يُؤْكَلُ مِنَ النَّوْرِ أوْ مِزاجِها: ﴿فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ﴾ [النحل: ٦٩] لِأنَّهُ مِن جُمْلَةِ الأشْفِيَةِ والأدْوِيَةِ في بَعْضِ الأمْراضِ. ولَهُ دَخْلٌ في أكْثَرِ ما بِهِ الشِّفاءُ والمَعاجِينُ، وقَلَّ (p-٣٨٢٨)مَعْجُونٌ مِنَ المَعاجِينِ، لَمْ يَذْكُرِ الأطِبّاءُ فِيهِ العَسَلَ. وقَدْ قامَ الآنَ مَقامَهُ السُّكَّرُ، لِكَثْرَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ. وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: إنْ أخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ فَقالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا» فَذَهَبَ فَسَقاهُ عَسَلًا، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ ! سَقَيْتُهُ عَسَلًا ما زادَهُ إلّا اسْتِطْلاقًا. قالَ: «اذْهَبْ فاسْقِهِ عَسَلًا» فَذَهَبَ فَسَقاهُ عَسَلًا ثُمَّ جاءَ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ ! ما زادَهُ إلّا اسْتِطْلاقًا. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «صَدَقَ اللَّهُ وكَذَبَ بَطْنُ أخِيكَ، اذْهَبْ فاسْقِهِ عَسَلًا. فَذَهَبَ فَسَقاهُ عَسَلًا فَبَرَأ»» . قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قالَ بَعْضُ العُلَماءِ بِالطِّبِّ: كانَ هَذا الرَّجُلُ عِنْدَهُ فَضَلاتٌ. فَلَمّا سَقاهُ عَسَلًا وهو حارٌّ تَحَلَّلَتْ فَأسْرَعَتْ في الِانْدِفاعِ، فَزادَهُ إسْهالًا، فاعْتَقَدَ الأعْرابِيُّ أنَّ هَذا يَضُرُّهُ، وهو مَصْلَحَةٌ لِأخِيهِ، ثُمَّ سَقاهُ فازْدادَ التَّحْلِيلُ والدَّفْعُ، ثُمَّ سَقاهُ فَكَذَلِكَ، فَلَمّا انْدَفَعَتِ الفَضَلاتُ الفاسِدَةُ المُضِرَّةُ بِالبَدَنِ، اسْتَمْسَكَ بَطْنُهُ، وصَلَحَ مِزاجُهُ وانْدَفَعَتِ الأسْقامُ والآلامُ بِبَرَكَةِ إشارَتِهِ ﷺ . انْتَهى. وفِي (العِنايَةُ) لِلشِّهابِ هُنا، قِصَّةٌ عَنْ طَبَقاتِ الأطِبّاءِ فِيها تَأْيِيدٌ لِقِصَّةِ الأعْرابِيِّ فانْظُرْها. ﴿إنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٦٩] أيْ: فَيَعْتَبِرُونَ ويَسْتَدِلُّونَ عَلى وحْدانِيَّتِهِ سُبْحانَهُ، وانْفِرادِهِ بِأُلُوهِيَّتِهِ، وأنَّهُ هو الَّذِي ألْهَمَ هَذِهِ الدَّوابَّ الضَّعِيفَةَ فَعَلِمَتْ مَساقِطَ الأنْداءِ، مِن وراءِ البَيْداءِ، فَتَقَعُ عَلى كُلِّ حَرارَةٍ عَبِقَةٍ، وزَهْرَةٍ أنِقَةٍ، ثُمَّ تَصْدُرُ عَنْها بِما تَحْفَظُهُ رِضابًا، وتَلْفِظُهُ شَرابًا. (p-٣٨٢٩)قالَ الحُجَّةُ الغَزالِيُّ (في الإحْياءِ): انْظُرْ إلى النَّحْلِ كَيْفَ أوْحى اللَّهُ إلَيْها حَتّى اتَّخَذَتْ مِنَ الجِبالِ بُيُوتًا. وكَيْفَ اسْتَخْرَجَ مِن لُعابِها الشَّمْعَ والعَسَلَ. وجَعَلَ أحَدَهُما ضِياءً والآخَرَ شِفاءً. ثُمَّ لَوْ تَأمَّلْتَ عَجائِبَ أمْرِها في تَناوُلِها الأزْهارَ والأنْوارَ، واحْتِرازِها مِنَ النَّجاساتِ والأقْذارِ، وطاعَتِها لِواحِدٍ مِن جُمْلَتِها وهو أكْبَرُها شَخْصًا وهو أمِيرُها، ثُمَّ ما سَخَّرَ اللَّهُ لِأمِيرِها مِنَ العَدْلِ والإنْصافِ بَيْنَها، حَتّى أنَّهُ لَيُقْتَلُ مِنها عَلى بابِ المَنفَذِ كُلُّ ما وقَعَ مِنها عَلى نَجاسَةٍ؛ لَقَضَيْتَ مِن ذَلِكَ العَجَبِ إنْ كُنْتَ بَصِيرًا في نَفْسِكَ، وفارِغًا مِن هَمِّ بَطْنِكَ وفَرْجِكَ، وشَهَواتِ نَفْسِكَ في مُعاداةِ أقْرانِكَ، ومُوالاةِ إخْوانِكَ. ثُمَّ دَعْ عَنْكَ جَمِيعَ ذَلِكَ، وانْظُرْ إلى بُنْيانِها بَيْتًا مِنَ الشَّمْعِ، واخْتِيارِها مِن جَمِيعِ الأشْكالِ الشَّكْلَ المُسَدَّسَ، فَلا تَبْنِي بَيْتَها مُسْتَدِيرًا ولا مُرَبَّعًا ولا مُخَمَّسًا، بَلْ مُسَدَّسًا لِخاصِّيَّةٍ في الشَّكْلِ المُسَدَّسِ، يَقْصُرُ فَهُمُ المُهَنْدِسِ عَنْ دَرَكِ ذَلِكَ. وهو أنْ أوْسَعَ الأشْكالِ وأحْواها المُسْتَدِيرُ وما يَقْرُبُ مِنهُ. فَإنَّ المُرَبَّعَ تَخْرُجُ مِنهُ زَوايا ضائِعَةٌ. وشَكْلُ النِّحَلِ مُسْتَدِيرٌ مُسْتَطِيلٌ. فَتَرَكَ المُرَبَّعَ حَتّى لا تَبْقى الزَّوايا فارِغَةً. ثُمَّ لَوْ بَناها مُسْتَدِيرَةً لَبَقِيَ خارِجَ البُيُوتِ فُرَجٌ ضائِعَةٌ، فَإنَّ الأشْكالَ المُسْتَدِيرَةَ إذا اجْتَمَعَتْ لَمْ تَجْتَمِعْ مُتَراصَّةً، ولا شَكْلَ في الأشْكالِ ذَواتِ الزَّوايا يَقْرُبُ في الِاحْتِواءِ مِنَ المُسْتَدِيرِ. ثُمَّ تَتَراصُّ الجُمْلَةُ مِنهُ بِحَيْثُ لا تَبْقى بَعْدَ اجْتِماعِها فُرْجَةٌ إلّا المُسَدَّسَ. وهَذِهِ خاصِّيَّةُ هَذا الشَّكْلِ. فانْظُرْ كَيْفَ ألْهَمَ اللَّهُ تَعالى النَّحْلَ، عَلى صِغَرِ جِرْمِهِ، ذَلِكَ؛ لُطْفًا بِهِ وعِنايَةً بِوُجُودِهِ فِيما هو مُحْتاجٌ إلَيْهِ؛ لِيَهْنَأ عَيْشُهُ. فَسُبْحانَهُ ما أعْظَمَ شَأْنَهُ وأوْسَعَ لُطْفَهُ وامْتِنانَهُ. وفي طَبْعِهِ أنَّهُ يَهْرُبُ بَعْضُهُ مِن بَعْضٍ ويُقاتِلُ بَعْضُهُ بَعْضًا في الخَلايا ويَلْسَعُ مَن دَنا مِنَ الخَلِيَّةِ. ورُبَّما هَلَكَ المَلْسُوعُ. وإذا أُهْلِكَ شَيْءٌ مِنها داخِلَ الخَلايا أخْرَجَتْهُ الأحْياءُ إلى خارِجٍ. وفي طَبْعِهِ أيْضًا النَّظافَةُ. فَلِذَلِكَ يَخْرُجُ رَجِيعُهُ مِنَ الخَلِيَّةِ؛ لِأنَّهُ مُنْتِنُ الرِّيحِ. وهو يَعْلَمُ زَمانَيِ الرَّبِيعِ والخَرِيفِ. والَّذِي يَعْمَلُهُ في الرَّبِيعِ أجْوَدُ. والصَّغِيرُ أعْمَلُ مِنَ الكَبِيرِ، وهو يَشْرَبُ مِنَ الماءِ ما كانَ صافِيًا عَذْبًا، يَطْلُبُهُ حَيْثُ كانَ. ولا يَأْكُلُ مِنَ العَسَلِ إلّا قَدْرَ شِبْعَةٍ. وإذا قَلَّ العَسَلُ في الخَلِيَّةِ، قَذَفَهُ بِالماءِ لِيَكْثُرَ، خَوْفًا عَلى نَفْسِهِ مِن نَفادِهِ؛ لِأنَّهُ إذا نَفِدَ أفْسَدَ النَّحْلُ بُيُوتَ المُلُوكِ وبُيُوتَ الذُّكُورِ. ورُبَّما قَتَلَتْ ما كانَ مِنها هُناكَ. (p-٣٨٣٠)قالَ حَكِيمٌ مِنَ اليُونانَ لِتَلامِذَتِهِ: كُونُوا كالنَّحْلِ في الخَلايا. قالُوا: وكَيْفَ النَّحْلُ في الخَلايا ؟ قالَ: إنَّها لا تَتْرُكُ عِنْدَها بَطّالًا إلّا نَفَتْهُ وأبْعَدَتْهُ وأقْصَتْهُ عَنِ الخَلِيَّةِ، لِأنَّهُ يُضَيِّقُ المَكانَ، ويُفْنِي العَسَلَ، ويُعَلِّمُ النَّشِيطُ الكَسَلَ. والنَّحْلُ يَسْلَخُ جِلْدَهُ كالحَيّاتِ. وتُوافِقُهُ الأصْواتُ اللَّذِيذَةُ المُطْرِبَةُ، ويَضُرُّهُ السُّوسُ. ودَواؤُهُ أنْ يُطْرَحَ لَهُ في كُلِّ خَلِيَّةٍ كَفُّ مِلْحٍ. وأنْ يُفْتَحَ في كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، ويُدَخَّنَ بِأخْثاءِ البَقَرِ. وفي طَبْعِهِ أنَّهُ مَتى طارَ مِنَ الخَلِيَّةِ، يَرْعى ثُمَّ يَعُودُ، فَتَعُودُ كُلُّ نَحْلَةٍ إلى مَكانِها لا تُخْطِئُهُ. كَذا في (حَياةُ الحَيَوانِ) . وذَكَرَ الإمامُ الغَزالِيُّ أيْضًا في كِتابِ (الحِكْمَةُ في خَلْقِ المَخْلُوقاتِ): أنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ لِلنَّحْلِ رَئِيسًا تَتْبَعُهُ وتَهْتَدِي بِهِ فِيما تَنالُهُ مِن أقْواتِها. فَإنْ ظَهَرَ مَعَ الرَّئِيسِ الَّذِي تَتْبَعُهُ رَئِيسٌ آخَرُ مِن جِنْسِهِ؛ قَتَلَ أحَدُهُما الآخَرَ، وذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ ظاهِرَةٍ، وهو خَوْفُ الِافْتِراقِ؛ لِأنَّهُما إذا كانا أمِيرَيْنِ، وسَلَكَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما فَجًّا، افْتَرَقَ النَّحْلُ خَلْفَهُما. ثُمَّ إنَّها أُلْهِمَتْ أنْ تَرْعى رُطُوباتٍ مِن عَلى الأزْهارِ. فَيَسْتَحِيلُ في أجْوافِها عَسَلًا. فَعُلِمَ مِن هَذا التَّسْخِيرِ ما فِيهِ مِن مَصالِحِ العِبادِ، مِن شَرابٍ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ، كَما أخْبَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى. وفِيهِ غِذاءٌ ومَلاذٌ لِلْعِبادِ. وفِيهِ مِن أقْواتِ فَضَلاتٍ عَظِيمَةٍ جُعِلَتْ لِمَنافِعِ بَنِي آدَمَ. فَهي مِثْلُ ما يَفْضُلُ مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي خُلِقَ لِمَصالِحِ أوْلادِ البَهائِمِ وأقْواتِها. وما فَضَلَ مِن ذَلِكَ فَفِيهِ مِنَ البَرَكَةِ والكَثْرَةِ ما يَنْتَفِعُ بِهِ النّاسُ. ثُمَّ انْظُرْ ما تَحْمِلُهُ النَّحْلُ مِنَ الشَّمْعِ في أرْجُلِها، لِتُوعِيَ فِيهِ العَسَلَ وتَحْفَظَهُ. فَلا تَكادُ تَجِدُ وِعاءً أحْفَظَ لِلْعَسَلِ مِنَ الشَّمْعِ في الأجْناحِ. فانْظُرْ في هَذِهِ الذُّبابَةِ، هَلْ في عِلْمِها وقُدْرَتِها جَمْعُ الشَّمْعِ مَعَ العَسَلِ ؟ أوْ عِنْدَها مِنَ المَعْرِفَةِ بِحَيْثُ رَتَّبَتْ حِفْظَ العَسَلِ مُدَّةً طَوِيلَةً بِاسْتِقْرارِهِ في الشَّمْعِ وصِيانَتِهِ في الجِبالِ والشَّجَرِ في المَواضِعِ الَّتِي تَحْفَظُهُ ولا يَفْسَدُ فِيها ! ثُمَّ انْظُرْ لِخُرُوجِها نَهارًا لِرَعْيِها ورُجُوعِها عَشِيَّةً إلى أماكِنِها وقَدْ حَمَلَتْ ما يَقُومُ بِقُوَّتِها ويَفْضُلُ عَنْها، ولَها في تَرْتِيبِ بُيُوتِها مِنَ الحِكْمَةِ في بِنائِها حافِظٌ لِما تُلْقِيهِ مِن أجْوافِها مِنَ العَسَلِ، (p-٣٨٣١)ولَها جِهَةٌ أُخْرى تَجْعَلُ فِيها بِرازَها مُباعَدًا عَنْ مَواضِعِ العَسَلِ. وفِيها غَيْرُ هَذا مِمّا انْفَرَدَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ. قالَ أبُو السُّعُودِ: ولَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ مِن عَجائِبِ أحْوالِ ما ذَكَرَ مِنَ الماءِ والنَّباتِ والأنْعامِ والنَّحْلِ؛ أشارَ إلى بَعْضِ عَجائِبِ أحْوالِ البَشَرِ مِن أوَّلِ عُمْرِهِ إلى آخِرِهِ وتَطَوُّراتِهِ فِيما بَيْنَ ذَلِكَ. وقَدْ ضَبَطُوا مَراتِبَ العُمْرِ في أرْبَعٍ: الأُولى: سِنُّ النُّشُوءِ والنَّماءِ. والثّانِيَةُ: سِنُّ الوُقُوفِ وهي سِنُّ الشَّبابِ. والثّالِثَةُ: سِنُّ الِانْحِطاطِ القَلِيلِ وهي سِنُّ الكُهُولَةِ. والرّابِعَةُ: سِنُّ الِانْحِطاطِ الكَبِيرِ وهي سِنُّ الشَّيْخُوخَةِ، فَقالَ سُبْحانَهُ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب