الباحث القرآني

﴿ن﴾ افْتِتاحُ هَذِهِ السُّورَةِ بِأحَدِ حُرُوفِ الهِجاءِ جارٍ عَلى طَرِيقَةِ أمْثالِها مِن فَواتِحِ السُّوَرِ ذَواتِ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ المُبَيَّنَةِ في سُورَةِ البَقَرَةِ وهَذِهِ أوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مُفْتَتَحَةً بِحَرْفٍ مَقْطَعٍ مِن حُرُوفِ الهِجاءِ. ورَسَمُوا حَرْفَ (ن) بِصُورَتِهِ الَّتِي يُرْسَمُ بِها في الخَطِّ وهي مُسَمّى اسْمِهِ الَّذِي هو (نُونٌ) (بِنُونٍ بَعْدَها واوٍ ثُمَّ نُونٍ) وكانَ القِياسُ أنْ تُكْتَبَ الحُرُوفُ الثَّلاثَةُ؛ لِأنَّ الكِتابَةَ تَبَعٌ لِلنُّطْقِ والمَنطُوقِ بِهِ وهو اسْمُ الحَرْفِ لا ذاتُهُ؛ لِأنَّكَ إذا أرَدْتَ كِتابَةَ سَيْفٍ مَثَلًا فَإنَّما تَرْسُمُ سِينًا، وياءً، وفاءً، ولا تَرْسُمُ صُورَةَ سَيْفٍ. وإنَّما يُقْرَأُ بِاسْمِ الحِرَفِ لا بِهِجائِهِ كَما تَقَدَّمَ في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ. ويُنْطَقُ بِاسْمِ نُونٍ ساكِنَ الآخِرِ سُكُونَ الكَلِماتِ قَبْلَ دُخُولِ العَوامِلِ عَلَيْها. وكَذَلِكَ قُرِئَ في القِراءاتِ المُتَواتِرَةِ. * * * (p-٦٠)﴿والقَلَمِ وما يَسْطُرُونَ﴾ ﴿ما أنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ ﴿وإنَّ لَكَ لَأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ ﴿وإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ يَجْرِي القَسَمُ هُنا عَلى سُنَنِ الأقْسامِ الصّادِرَةِ في كَلامِ اللَّهِ تَعالى أنْ تَكُونَ بِأشْياءٍ مُعَظَّمَةٍ دالَّةٍ عَلى آثارِ صِفاتِ اللَّهِ تَعالى. والقَلَمُ المُقْسَمُ بِهِ قِيلَ هو ما يُكَنّى عَنْهُ بِالقَلَمِ مِن تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِالمَوْجُوداتِ الكائِنَةِ والَّتِي سَتَكُونُ، أوْ هو كائِنٌ غَيْبِيٌّ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ. وعَنْ مُجاهِدٍ وقَتادَةٍ: أنَّهُ القَلَمُ الَّذِي في قَوْلِهِ تَعالى ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾ [العلق: ٤] ﴿عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ٥] . قُلْتُ: وهَذا هو المُناسِبُ لِقَوْلِهِ ﴿وما يَسْطُرُونَ﴾ في الظّاهِرِ وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ حالُ المُشْرِكِينَ المَقْصُودِينَ بِالخِطابِ الَّذِينَ لا يَعْرِفُوا إلّا القَلَمَ الَّذِي هو آلَةُ الكِتابَةِ عِنْدَ أهْلِ الكِتابِ وعِنْدَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الكِتابَةَ مِنَ العَرَبِ. ومِن فَوائِدَ هَذا القَسَمُ أنَّ هَذا القُرْآنَ كِتابُ الإسْلامِ، وأنَّهُ سَيَكُونُ مَكْتُوبًا مَقْرُوءًا بَيْنَ المُسْلِمِينَ، ولِهَذا كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَأْمُرُ أصْحابَهُ بِكِتابَةِ ما يُوحى بِهِ إلَيْهِ. وتَعْرِيفُ (القَلَمِ) تَعْرِيفُ الجِنْسِ. فالقَسَمُ بِالقَلَمِ لِشَرَفِهِ بِأنَّهُ يُكْتَبُ بِهِ القُرْآنُ وكُتِبَتْ بِهِ الكُتُبُ المُقَدَّسَةُ وتُكْتَبُ بِهِ كُتُبُ التَّرْبِيَةِ ومَكارِمِ الأخْلاقِ والعُلُومِ وكُلُّ ذَلِكَ مِمّا لَهُ حَظُّ شَرَفٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. وهَذا يُرَجِّحُهُ أنَّ اللَّهَ نَوَّهُ بِالقَلَمِ في أوَّلِ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ القُرْآنِ لِقَوْلِهِ ﴿اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ﴾ [العلق: ٣] ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾ [العلق: ٤] ﴿عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ٥] . و(﴿ما يَسْطُرُونَ﴾) هي السُّطُورُ المَكْتُوبَةُ بِالقَلَمِ و(ما) يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، أيْ وما يَكْتُبُونَهُ مِنَ الصُّحُفِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. والمَعْنى: وسَطْرِهِمُ الكِتابَةَ سُطُورًا. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَسَمًا بِالأقْلامِ الَّتِي يَكْتُبُ بِها كُتّابُ الوَحْيِ القُرْآنَ، (﴿وما يَسْطُرُونَ﴾) قَسَمًا بِكِتابَتِهِمْ، فَيَكُونُ قَسَمًا بِالقُرْآنِ عَلى أنَّ القُرْآنَ ما هو بِكَلامِ مَجْنُونٍ (p-٦١)كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿والكِتابِ المُبِينِ﴾ [الزخرف: ٢] ﴿إنّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف: ٣] في سُورَةِ الزُّخْرُفِ. وتَنْظِيرُهُ بِقَوْلِ أبِي تَمّامٍ: وثَناياكِ إنَّها إغْرِيضٌ. . . البَيْتَ. ويَسْطُرُونَ: مُضارِعُ سَطَرَ، يُقالُ: سَطَرَ مِن بابِ نَصَرَ، إذا كَتَبَ كَلِماتٍ عِدَّةٍ تَحْصُلُ مِنها صُفُوفٌ مِنَ الكِتابَةِ. وأصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّطْرِ وهو القَطْعُ؛ لِأنَّ صُفُوفَ الكِتابَةِ تَبْدُو كَأنَّها قِطَعٌ. وضَمِيرُ (يَسْطُرُونَ) راجِعٌ إلى غَيْرِ مَذْكُورٍ في الكَلامِ وهو مَعْلُومٌ لِلسّامِعِينَ؛ لِأنَّ ذِكْرَ القَلَمِ يُنْبِئُ بِكَتَبَةٍ يَكْتُبُونَ بِهِ فَكانَ لَفْظُ القَسَمِ مُتَعَلِّقًا بِآلَةِ الكِتابَةِ والكِتابَةِ، والمَقْصُودُ: المَكْتُوبُ في إطْلاقِ المَصْدَرِ عَلى المَفْعُولِ. فَهو بِمَنزِلَةِ الفِعْلِ المَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ؛ لِأنَّ السّاطِرِينَ غَيْرُ مَعْلُومِينَ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: والمَسْطُورِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكِتابٍ مَسْطُورٍ﴾ [الطور: ٢] ﴿فِي رَقٍّ مَنشُورٍ﴾ [الطور: ٣] . ومَن فَسَّرَ (القَلَمِ) بِمَعْنى تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى بِما سَيَكُونُ جَعَلَ ضَمِيرَ (يَسْطُرُونَ) راجِعًا إلى المَلائِكَةِ فَيَكُونُ السَّطْرُ رَمْزًا لِتَنْفِيذِ المَلائِكَةِ ما أمَرَ اللَّهُ بِتَنْفِيذِهِ حِينَ تَلَقِّي ذَلِكَ، أيْ يَكْتُبُونَ ذَلِكَ لِلْعَمَلِ بِهِ أوْ لِإبْلاغِهِ مِن بَعْضِهِمْ إلى بَعْضٍ عَلى وجْهٍ لا يَقْبَلُ الزِّيادَةَ ولا النُّقْصانَ، فَشُبِّهَ ذَلِكَ الضَّبْطُ بِضَبْطِ الكاتِبِ ما يُرِيدُ إبْلاغَهُ بِدُونِ تَغْيِيرٍ. وأُوثِرَ القَسَمُ بِالقَلَمِ والكِتابَةِ لِلْإيماءِ إلى أنَّ باعِثَ الطّاعِنِينَ عَلى الرَّسُولِ ﷺ واللّامِزِينَ لَهُ بِالجُنُونِ، إنَّما هو ما أتاهم بِهِ مِنَ الكِتابِ. والمُقْسَمُ عَلَيْهِ نَفْيُ أنْ يَكُونَ النَّبِيءُ ﷺ مَجْنُونًا والخِطابُ لَهُ بِهَذا تَسْلِيَةً لَهُ لِئَلّا يُحْزِنَهُ قَوْلُ المُشْرِكِينَ لَمّا دَعاهم إلى الإسْلامِ: هو مَجْنُونٌ، وذَلِكَ ما شافَهُوا بِهِ النَّبِيءَ ﷺ وحَكاهُ اللَّهُ عَنْهم في آخِرِ السُّورَةِ ﴿وإنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأبْصارِهِمْ لَمّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ويَقُولُونَ إنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ [القلم: ٥١] . وهَكَذا كُلُّ ما ورَدَ فِيهِ نَفْيُ صِفَةِ الجُنُونِ عَنْهُ فَإنَّما هو رَدٌّ عَلى أقْوالِ المُشْرِكِينَ كَقَوْلِهِ ﴿وما صاحِبُكم بِمَجْنُونٍ﴾ [التكوير: ٢٢] . وقَدْ زَلَّ فِيهِ صاحِبُ الكَشّافِ زَلَّةً لا تَلِيقُ بِعِلْمِهِ. والمَقْصُودُ مِن نَفْيِ الجُنُونِ عَنْهُ إثْباتُ ما قَصَدَ المُشْرِكُونَ نَفْيَهُ وهو أنْ يَكُونَ (p-٦٢)رَسُولًا مِنَ اللَّهِ لِأنَّهم لَمّا نَفَوْا عَنْهُ صِفَةَ الرِّسالَةِ وضَعُوا مَوْضِعَها صِفَةَ الجُنُونِ، فَإذا نُفِيَ ما زَعَمُوهُ فَقَدْ ثَبَتَ ما ادَّعاهُ. وقَدْ أُجِيبَ قَوْلُهم وتَأْكِيدُهم ذَلِكَ بِحَرْفِ (إنَّ) ولامِ الابْتِداءِ إذْ قالُوا ﴿إنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾ [القلم: ٥١] بِمُؤَكِّداتٍ أقْوى مِمّا في كَلامِهِمْ إذْ أُقْسِمَ عَلَيْهِ وجِيءَ بَعْدَ النَّفْيِ بِالباءِ الَّتِي تُزادُ بَعْدَ النَّفْيِ لِتَأْكِيدِهِ، وبِالجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ مَنفِيَّةً لِدَلالَةِ الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ عَلى ثَباتِ الخَبَرِ، أيْ تَحَقُّقِهِ فَهَذِهِ ثَلاثَةُ مُؤَكِّداتٍ. وقَوْلُهُ ﴿بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾ جَعَلَهُ في الكَشّافِ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي في (مَجْنُونٍ) المَنفِيِّ. والتَّقْدِيرُ: انْتَفى وصْفُ المَجْنُونِ بِنِعْمَةِ رَبِّكِ عَلَيْكَ. والباءُ لِلْمُلابَسَةِ أوِ السَّبَبِيَّةِ، أيْ بِسَبَبِ إنْعامِ اللَّهِ إذْ بَرَّأكَ مِنَ النَّقائِصِ. والَّذِي أرى أنْ تَكُونَ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً، وأنَّ الباءَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ المَقامُ وتَقْدِيرُهُ: أنَّ ذَلِكَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ، عَلى نَحْوِ ما قِيلَ في تَعَلُّقِ الباءِ في قَوْلِهِ (بِاسْمِ اللَّهِ) وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ اسْتِعْمالُهم كَقَوْلِ الحَماسِيِّ الفَضْلِ بْنِ عَبّاسٍ اللَّهَبِيِّ: ؎كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ في بُغْضِ صاحِبِهِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكم وتَقْلُـونَـا وذَهَبَ ابْنُ الحاجِبِ في أمالِيهِ أنَّ (﴿بِنِعْمَةِ رَبِّكَ﴾) مُتَعَلِّقٌ بِما يَتَضَمَّنُهُ حَرْفُ (ما) النّافِيَةِ مِن مَعْنى الفِعْلِ وقَدَّرَهُ: انْتَفى أنْ تَكُونَ مَجْنُونًا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ. ولا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِهِ (مَجْنُونٍ) إذْ لَوْ عُلِّقَ بِهِ لَأوْهَمَ نَفْيَ جُنُونٍ خاصٍّ وهو الجُنُونُ الَّذِي يَكُونُ مِن نِعْمَةِ اللَّهِ ولَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَقِيمٍ. واسْتَحْسَنَ هَذا ابْنُ هِشامٍ في مُغْنِي اللَّبِيبِ في البابِ الثّالِثِ لَوْلا أنَّهُ مُخالِفٌ لِاتِّفاقِ النُّحاةِ عَلى عَدَمِ صِحَّةِ تَعَلُّقِ الظَّرْفِ بِالحَرْفِ ولَمْ يُخالِفْهم في ذَلِكَ إلّا أبُو عَلِيٍّ وأبُو الفَتْحِ في خُصُوصِ تَعَلُّقِ المَجْرُورِ والظَّرْفِ بِمَعْنى الحَرْفِ النّائِبِ عَنْ فِعْلٍ مِثْلُ حَرْفِ النِّداءِ في قَوْلِكَ: يا لَزَيْدٍ يُرِيدُ في الاسْتِغاثَةِ، وتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ في قَوْلِهِ ﴿فَما أنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ ولا مَجْنُونٍ﴾ [الطور: ٢٩] في سُورَةِ الطُّورِ. ولَمّا ثَبَّتَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ فَدَفَعَ بُهْتانَ أعْدائِهِ أعْقَبَهُ بِإكْرامِهِ بِأجْرٍ عَظِيمٍ عَلى ما لَقِيَهُ مِنَ المُشْرِكِينَ مِن أذًى بِقَوْلِهِ ﴿وإنَّ لَكَ لَأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ بِقَرِينَةِ وُقُوعِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ ﴿ما أنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾، مُؤَكِّدًا ذَلِكَ بِحَرْفِ (إنَّ) وبِلامِ الابْتِداءِ وبِتَقْدِيمِ المَجْرُورِ وهو في قَوْلِهِ لَكَ. (p-٦٣)وهَذا الأجْرُ هو ثَوابُ اللَّهِ في الآخِرَةِ وعِنايَةُ اللَّهِ بِهِ ونَصْرُهُ في الدُّنْيا. و(مَمْنُونٍ) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِن مَنِّ المُعْطِي عَلى المُعْطى إذا عَدَّ عَلَيْهِ عَطاءَهُ وذَكَرَهُ لَهُ، أوِ افْتَخَرَ عَلَيْهِ بِهِ فَإنَّ ذَلِكَ يَسُوءُ المُعْطى، قالَ النّابِغَةُ: ؎عَلَيَّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ ∗∗∗ لِوالِدِهِ لَيْسَتْ بِذاتِ عَقارِبٍ أيْ لَيْسَ فِيها أذًى، والمَنُّ مِنَ الأذى قالَ تَعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكم بِالمَنِّ والأذى﴾ [البقرة: ٢٦٤] . وقَدِ انْتَزَعَ مِن هَذِهِ الآيَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بِكَسْرِ المُوَحَّدَةِ أوْ غَيْرُهُ في قَوْلِهِ: ؎أيادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وإنْ هي جَلَّتِ قَبْلَهُ: ؎سَأشْكُرُ عَمْرًا إنْ تَراخَتْ مَنِيَّتِي ومُرادُهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ المَعْرُوفُ بِالأشْدَقِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (مَمْنُونٍ) مُشْتَقًّا مِن قَوْلِهِمْ: مَنَّ الحَبْلَ، إذا قَطَعَهُ، أيْ أجْرًا غَيْرَ مَقْطُوعٍ عَنْكَ، وهو الثَّوابُ المُتَزايِدُ كُلَّ يَوْمٍ، أوْ أجْرًا أبَدِيًّا في الآخِرَةِ، ولِهَذا كانَ لِإيثارِ كَلِمَةِ (مَمْنُونٍ) هُنا مِنَ الإيجازِ بِجَمْعِ مَعْنَيَيْنِ بِخِلافِ قَوْلِهِ ﴿عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هود: ١٠٨] في سُورَةِ هُودٍ؛ لِأنَّ ما هُنا تَكْرِمَةٌ لِلرَّسُولِ ﷺ . وبَعْدَ أنْ آنَسَ نَفْسَ رَسُولِهِ ﷺ بِالوَعْدِ عادَ إلى تَسْفِيهِ قَوْلِ الأعْداءِ فَحَقَّقَ أنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِخُلُقٍ عَظِيمٍ وذَلِكَ ضِدُّ الجُنُونِ مُؤَكِّدًا ذَلِكَ بِثَلاثَةِ مُؤَكِّداتٍ مِثْلُ ما في الجُمْلَةِ قَبْلَهُ. والخُلُقُ: طِباعُ النَّفْسِ، وأكْثَرُ إطْلاقِهِ عَلى طِباعِ الخَيْرِ إذا لَمْ تُتْبَعْ بِنَعْتٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنْ هَذا إلّا خُلُقُ الأوَّلِينَ﴾ [الشعراء: ١٣٧] في سُورَةِ الشُّعَراءِ. والعَظِيمُ: الرَّفِيعُ القَدْرِ وهو مُسْتَعارٌ مِن ضَخامَةِ الجِسْمِ، وشاعَتْ هَذِهِ الاسْتِعارَةُ حَتّى ساوَتِ الحَقِيقَةَ. و(عَلى) لِلْاسْتِعْلاءِ المَجازِيِّ المُرادُ بِهِ التَّمَكُّنُ كَقَوْلِهِ ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنَّكَ عَلى الحَقِّ المُبِينِ﴾ [النمل: ٧٩]، ﴿إنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الزخرف: ٤٣]، ﴿إنَّكَ لَعَلى هُدًى مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج: ٦٧] . (p-٦٤)وفِي حَدِيثِ عائِشَةَ أنَّها «سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَتْ: كانَ خُلُقُهُ القُرْآنَ» أيْ ما تَضَمَّنَهُ القُرْآنُ مِن إيقاعِ الفَضائِلِ والمَكارِمِ والنَّهْيِ عَنْ أضْدادِها. والخُلُقُ العَظِيمُ: هو الخُلُقُ الأكْرَمُ في نَوْعِ الأخْلاقِ وهو البالِغُ أشَدَّ الكَمالِ المَحْمُودِ في طَبْعِ الإنْسانِ لِاجْتِماعِ مَكارِمِ الأخْلاقِ في النَّبِيءِ ﷺ فَهو حَسَنٌ مُعامَلَتِهِ النّاسَ إلى اخْتِلافِ الأحْوالِ المُقْتَضِيَةِ لِحُسْنِ المُعامَلَةِ، فالخُلُقُ العَظِيمُ أرْفَعُ مِن مُطْلَقِ الخُلُقِ الحَسَنِ. ولِهَذا قالَتْ عائِشَةُ كانَ خُلُقُهُ القُرْآنَ، ألَسْتَ تَقْرَأُ ﴿قَدْ أفْلَحَ المُؤْمِنُونَ﴾ [المؤمنون: ١] الآياتِ العَشْرَ. وعَنْ عَلِيٍّ الخُلُقُ العَظِيمُ: هو أدَبُ القُرْآنِ ويَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّ ما وصَفَ بِهِ القُرْآنُ مَحامِدَ الأخْلاقِ وما وُصِفَ بِهِ النَّبِيءُ ﷺ مِن نَحْوِ قَوْلِهِ ﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٩] وقَوْلِهِ ﴿خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩] وغَيْرِ ذَلِكَ مِن آياتِ القُرْآنِ. وما أخَذَ بِهِ مِنَ الأدَبِ بِطَرِيقِ الوَحْيِ غَيْرَ القُرْآنِ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «إنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخْلاقِ»، فَجَعَلَ أصْلَ شَرِيعَتِهِ إكْمالَ ما يَحْتاجُهُ البَشَرُ مِن مَكارِمِ الأخْلاقِ في نُفُوسِهِمْ، ولا شَكَّ أنَّ الرَّسُولَ ﷺ أكْبَرُ مَظْهَرٍ لِما في شَرْعِهِ قالَ تَعالى ﴿ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فاتَّبِعْها﴾ [الجاثية: ١٨] وأمَرَهُ أنْ يَقُولَ ﴿وأنا أوَّلُ المُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٣] . فَكَما جَعَلَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ عَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ جَعَلَ شَرِيعَتَهُ لِحَمْلِ النّاسِ عَلى التَّخَلُّقِ بِالخُلُقِ العَظِيمِ بِمُنْتَهى الاسْتِطاعَةِ. وبِهَذا يَزْدادُ وُضُوحًا مَعْنى التَّمَكُّنِ الَّذِي أفادَهُ حَرْفُ الاسْتِعْلاءِ في قَوْلِهِ ﴿وإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ فَهو مُتَمَكِّنٌ مِنهُ الخُلُقُ العَظِيمُ في نَفْسِهِ، ومُتَمَكِّنٌ مِنهُ في دَعْوَتِهِ الدِّينِيَّةِ. واعْلَمْ أنَّ جُماعَ الخُلُقِ العَظِيمِ الَّذِي هو أعْلى الخُلُقِ الحَسَنِ هو التَّدَيُّنُ، ومَعْرِفَةُ الحَقائِقِ، وحِلْمُ النَّفْسِ، والعَدْلُ، والصَّبْرُ عَلى المَتاعِبِ، والاعْتِرافُ لِلْمُحْسِنِ، والتَّواضُعُ، والزُّهْدُ، والعِفَّةُ، والعَفْوُ، والجُمُودُ، والحَياءُ، والشَّجاعَةُ، وحُسْنُ الصَّمْتِ، والتَّؤُدَةُ، والوَقارُ، والرَّحْمَةُ، وحُسْنُ المُعامَلَةِ والمُعاشَرَةِ. والأخْلاقُ كامِنَةٌ في النَّفْسِ ومَظاهِرُها تَصَرُّفاتُ صاحِبِها في كَلامِهِ، وطَلاقَةِ (p-٦٥)وجْهِهِ، وثَباتِهِ، وحُكْمِهِ، وحَرَكَتِهِ وسُكُونِهِ، وطَعامِهِ وشَرابِهِ، وتَأْدِيبِ أهْلِهِ، ومَن لِنَظِرِهِ، وما يَتَرَتَّبُ عَلى ذَلِكَ مِن حُرْمَتِهِ عِنْدَ النّاسِ، وحُسْنِ الثَّناءِ عَلَيْهِ والسُّمْعَةِ. وأمّا مَظاهِرُها في رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَفي ذَلِكَ كُلِّهِ وفي سِياسِيَّتِهِ أُمَّتِهِ، وفِيما خُصَّ بِهِ مِن فَصاحَةِ كَلامِهِ وجَوامِعِ كَلِمِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب