الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما أنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ ﴿وَإنَّ لَكَ لَأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ ﴿وَإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ . تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا وعَلَيْهِ - بَيانُ الرَّدِّ عَلى مَقالَتِهِمْ تِلْكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهم بِالحَقِّ﴾ الآيَةَ [المؤمنون: ٧٠] مِن سُورَةِ ”المُؤْمِنُونَ“ . وَساقَ النُّصُوصَ، وقالَ: إنَّ في الآيَةِ ما يَرُدُّ عَلَيْهِمْ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ جاءَهم بِالحَقِّ﴾ . اهـ. وَهَكَذا هُنا في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ دَعْواهم، ويَرُدُّ عَلَيْهِمْ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنَّ لَكَ لَأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ أيْ عَلى ما جِئْتَ بِهِ مِنَ الحَقِّ وقُمْتَ بِهِ مِنَ البَلاغِ عَنِ اللَّهِ والصَّبْرِ عَلَيْهِ، كَما رَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿وَما صاحِبُكم بِمَجْنُونٍ﴾ [التكوير: ٢٢] . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى في حَقِّ رَسُولِهِ الكَرِيمِ الأعْظَمِ: ﴿وَإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾؛ لِأنَّ المَجْنُونَ سَفِيهٌ لا يَعْنِي ما يَقُولُ، ولا يُحْسِنُ أيَّ تَصَرُّفٍ. والخُلُقُ العَظِيمُ أرْقى مَنازِلِ الكَمالِ في عُظَماءِ الرِّجالِ. (p-٢٤٧)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنَّ لَكَ لَأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾، المَنُّ: القَطْعُ. أيْ: إنَّ أجْرَهُ ﷺ عِنْدَ اللَّهِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ. قالَ الشّاعِرُ: \ ٥ ؎لِمُعَفَّرٍ قَهْدٍ تَنازَعَ شِلْوَهُ غُبْسٌ كَواسِبُ لا يُمَنُّ طَعامُها وَقَدْ بَيَّنَ تَعالى دَوامَ أجْرِهِ دُونَ انْقِطاعٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: ٥٦] . وَصَلَواتُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ، وصَلَواتُ المَلائِكَةِ، والمُؤْمِنِينَ لا تَنْقَطِعُ لَيْلًا ولا نَهارًا وهي مِنَ اللَّهِ تَعالى رَحْمَةٌ، ومِنَ المَلائِكَةِ والمُؤْمِنِينَ دُعاءٌ. وَفِي سُورَتِيِ: ”الضُّحى“ و ”ألَمْ نَشْرَحْ“ بِكامِلِها: ﴿ما ودَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلى﴾ ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى﴾ ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾ [الضحى: ٣ - ٥] . وَقَوْلُهُ: ﴿وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح: ٤] . وَمَعْلُومٌ مِنَ السُّنَّةِ أنَّ مَن دَلَّ عَلى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ مَن عَمِلَ بِهِ، فَما مِن مُسْلِمٍ تُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةٌ في صَحِيفَتِهِ إلّا ولِلرَّسُولِ ﷺ مِثْلُها. وَقَدْ قالَ ﷺ: «إذا ماتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلّا مِن ثَلاثٍ» . وَمِنها: «أوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ»، وأيُّ عِلْمٍ أعَمُّ نَفْعًا مِمّا جاءَ بِهِ ﷺ وتَرَكَهُ في الأُمَّةِ حَتّى قالَ: «تَرَكْتُ فِيكم ما إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا أبَدًا كِتابَ اللَّهِ وسُنَّتِي»، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الدّالَّةِ عَلى دَوامِ أجْرِهِ. أمّا جَزاؤُهُ عِنْدَ اللَّهِ فَلا يَقْدِرُ قَدْرَهُ إلّا اللَّهُ تَعالى. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ تَقَدَّمَ أنَّ هَذِهِ بِمَثابَةِ الرَّدِّ عَلى ادِّعاءِ المُشْرِكِينَ أوَّلًا عَلَيْهِ ﷺ ورَمْيِهِ بِالجُنُونِ؛ لِأنَّ أخْلاقَ المَجانِينِ مَذْمُومَةٌ بَلْ لا أخْلاقَ لَهم، وهُنا أقْصى مَراتِبِ العُلُوِّ في الخُلُقِ. وَقَدْ أكَّدَ هَذا السِّياقَ بِعَوامِلِ المُؤَكِّداتِ بِانْدِراجِهِ في جَوابِ القَسَمِ الأوَّلِ في أوَّلِ السُّورَةِ، وبِأنَّ اللّامَ في (لَعَلى)، وجاءَ بِعَلى الدّالَّةِ عَلى الِاسْتِعْلاءِ والتَّمَكُّنِ بَدَلًا مِن ذُو (p-٢٤٨)مَثَلًا: ذُو خُلُقٍ عَظِيمٍ لِبَيانِ قُوَّةِ التَّمَكُّنِ والِاسْتِعْلاءِ، وأنَّهُ ﷺ فَوْقَ كُلِّ خُلُقٍ عَظِيمٍ مُتَمَكِّنٌ مِنهُ مُسْتَعْلٍ عَلَيْهِ. وَقَدْ أجْمَلَ الخُلُقَ العَظِيمَ هُنا وهو مِن أعَمِّ ما امْتَدَحَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ﷺ في كِتابِهِ، وقَدْ أرْشَدَتْ عائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - إلى ما بَيَّنَ هَذا الإجْمالَ حِينَما سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِهِ ﷺ الَّذِي امْتُدِحَ بِهِ فَقالَتْ: «كانَ خُلُقُهُ القُرْآنَ» تَعْنِي واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ: أنَّهُ ﷺ يَأْتَمِرُ بِأمْرِهِ ويَنْتَهِي بِنَواهِيهِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكم عَنْهُ فانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧] . وَكَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ﴾ [الإسراء: ٩] . وَكَما قالَ ﷺ: «لَنْ يُؤْمِنَ أحَدُكم حَتّى يَكُونَ هَواهُ تَبَعًا لِما جِئْتُ بِهِ»، فَكانَ هو ﷺ مُمْتَثِلًا لِتَعالِيمِ القُرْآنِ في سِيرَتِهِ كُلِّها، وقَدْ أمَرَنا بِالتَّأسِّي بِهِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ، فَكانَ مِن أهَمِّ ما يَجِبُ عَلى الأُمَّةِ مَعْرِفَةُ تَفْصِيلِ هَذا الإجْمالِ؛ لِيَتِمَّ التَّأسِّي المَطْلُوبُ. وَقَدْ أخَذَتْ قَضِيَّةُ الأخْلاقِ عامَّةً، وأخْلاقُهُ ﷺ خاصَّةً مَحَلَّ الصَّدارَةِ مِن مَباحِثِ الباحِثِينَ، وتَقْرِيرِ المُرْشِدِينَ، فَهي بِالنِّسْبَةِ لِلْعُمُومِ أساسُ قِوامِ الأُمَمِ، وعامِلُ الحِفاظِ عَلى بَقائِها، كَما قِيلَ: ؎إنَّما الأُمَمُ الأخْلاقُ ما بَقِيَتْ ∗∗∗ فَإنْ هُمُ ذَهَبَتْ أخْلاقُهم ذَهَبُوا وَقَدْ أجْمَلَ ﷺ البِعْثَةَ كُلَّها في مَكارِمِ الأخْلاقِ في قَوْلِهِ ﷺ: «إنَّما بُعِثْتُ؛ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخْلاقِ» . وَقَدْ عُنِيَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ رِضْوانُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِمْ بِقَضِيَّةِ أخْلاقِهِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، فَسَألُوا عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - عَنْ ذَلِكَ فَقالَتْ: «كانَ خُلُقُهُ القُرْآنَ»، وعُنِيَ بِها العُلَماءُ بِالتَّأْلِيفِ، كالشَّمائِلِ لِلتِّرْمِذِيِّ. أمّا أقْوالُ المُفَسِّرِينَ في الخُلُقِ العَظِيمِ المَعْنِيِّ هُنا فَهي عَلى قَوْلَيْنِ، لا تَعارُضَ بَيْنَهُما: مِنها: أنَّهُ الدِّينُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ والسُّدِّيُّ وغَيْرُهم. والآخَرُ قَوْلُ عائِشَةَ: «كانَ خُلُقُهُ القُرْآنَ»، والقُرْآنُ والدِّينُ مُرْتَبِطانِ. ولَكِنْ لَمْ يَزَلِ الإجْمالُ مَوْجُودًا. وإذا رَجَعْنا إلى بَعْضِ الآياتِ في القُرْآنِ نَجِدُ بَعْضَ البَيانِ لِما كانَ (p-٢٤٩)عَلَيْهِ ﷺ مِن عَظِيمِ الخُلُقِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩] . وَقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ جاءَكم رَسُولٌ مِن أنْفُسِكم عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨] . وَقَوْلِهِ: ﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهم ولَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِن حَوْلِكَ فاعْفُ عَنْهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٩] . وَقَوْلِهِ: ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجادِلْهم بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥] . وَمِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ الَّتِي فِيها التَّوْجِيهُ أوِ الوَصْفُ بِما هو أعْظَمُ الأخْلاقِ، وإذا كانَ خُلُقُهُ ﷺ هو القُرْآنَ، فالقُرْآنُ يَهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ. والمُتَأمِّلُ لِلْقُرْآنِ في هَدْيِهِ يَجِدُ مَبْدَأ الأخْلاقِ في كُلِّ تَشْرِيعٍ فِيهِ حَتّى العِباداتِ. فَفي الصَّلاةِ خُشُوعٌ وخُضُوعٌ وسَكِينَةٌ ووَقارٌ، فَأْتُوها وعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ والوَقارُ. وَفِي الزَّكاةِ مُرُوءَةٌ وكَرَمٌ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكم بِالمَنِّ والأذى﴾ [البقرة: ٢٦٤] . وَقَوْلُهُ: ﴿إنَّما نُطْعِمُكم لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكم جَزاءً ولا شُكُورًا﴾ [الإنسان: ٩] . وَفِي الصِّيامِ: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حاجَةً في أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ» . وَقَوْلُهُ ﷺ: «الصِّيامُ جُنَّةٌ» . وَفِي الحَجِّ: ﴿فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدالَ في الحَجِّ﴾ . وَفِي الِاجْتِماعِيّاتِ: خُوطِبَ ﷺ بِأعْلى دَرَجاتِ الأخْلاقِ، حَتّى ولَوْ لَمْ يَكُنْ داخِلًا تَحْتَ الخِطابِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ خارِجًا عَنْ نِطاقِ الطَّلَبِ: ﴿وَقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَها ﴿وَبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ ﴿إمّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُما وقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيمًا﴾ ﴿واخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا﴾ (p-٢٥٠)[الإسراء: ٢٣ - ٢٤]، مَعَ أنَّ والِدَيْهِ لَمْ يَكُنْ أحَدُهُما مَوْجُودًا عِنْدَ نُزُولِها، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّعالِيمِ العامَّةِ والخاصَّةِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْها القُرْآنُ. وَقَدْ عُنِيَ ﷺ بِالأخْلاقِ حَتّى كانَ يُوصِي بِها المَبْعُوثِينَ في كُلِّ مَكانٍ، كَما أوْصى مُعاذَ بْنَ جَبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُما كُنْتَ، وأتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُها، وخالِقِ النّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» . وَقالَ ﷺ: «إنَّ مِمّا أدْرَكَ النّاسُ مِن كَلامِ النُّبُوَّةِ: إذا لَمْ تَسْتَحِ فاصْنَعْ ما تَشاءُ»، أيْ: إنَّ الحَياءَ وهو مِن أخَصِّ الأخْلاقِ سِياجٌ مِنَ الرَّذائِلِ، وهَذا مِمّا يُؤَكِّدُ أنَّ الخُلُقَ الحَسَنَ يَحْمِلُ عَلى الفَضائِلِ، ويَمْنَعُ مِنَ الرَّذائِلِ، كَما قِيلَ في ذَلِكَ: ؎إنَّ الكَرِيمَ إذا تَمَكَّنَ مِن أذًى ∗∗∗ جاءَتْهُ أخْلاقُ الكِرامِ فَأقْلَعا ؎وَتَرى اللَّئِيمَ إذا تَمَكَّنَ مِن أذًى ∗∗∗ يَطْغى فَلا يُبْقِي لِصُلْحٍ مَوْضِعًا وَقَدْ أشارَ القُرْآنُ إلى هَذا الجانِبِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ والكاظِمِينَ الغَيْظَ والعافِينَ عَنِ النّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٤] . * * * * تَنْبِيهٌ إنَّ مِن أهَمِّ قَضايا الأخْلاقِ بَيانُهُ ﷺ لَها بِقَوْلِهِ: «إنَّما بُعِثْتُ؛ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخْلاقِ» . مَعَ أنَّ بِعْثَتَهُ بِالتَّوْحِيدِ، والعِباداتِ، والمُعامَلاتِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَجْعَلُ الأخْلاقَ هي البِعْثَةُ. وَبَيانُ ذَلِكَ في قَضِيَّةٍ مَنطِقِيَّةٍ قَطْعِيَّةٍ حَمْلِيَّةٍ، مُقَدِّمَتُها حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وهو: «الدِّينُ حُسْنُ الخُلُقِ»، والكُبْرى آيَةٌ كَرِيمَةٌ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ البِرَّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكم قِبَلَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ ولَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ والمَلائِكَةِ والكِتابِ والنَّبِيِّينَ وآتى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ والسّائِلِينَ وفي الرِّقابِ وأقامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عاهَدُوا والصّابِرِينَ في البَأْساءِ والضَّرّاءِ وحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٧٧] . وَلِمُساواةِ طَرَفَيِ الصُّغْرى في الماصَدَقِ، وهو: «الدِّينُ حُسْنُ الخُلُقِ»، يَكُونُ التَّرْكِيبُ المَنطِقِيُّ بِالقِياسِ الِاقْتِرانِيِّ حُسْنُ الخُلُقِ هو البِرُّ، والبِرُّ هو الإيمانُ بِاللَّهِ واليَوْمِ (p-٢٥١)الآخِرِ، إلى آخِرِ ما جاءَ في الآيَةِ الكَرِيمَةِ، يَنْتُجُ حُسْنُ الخُلُقِ هو الإيمانُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وما عُطِفَ عَلَيْهِ. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ بِأقْسامِهِ الثَّلاثَةِ: الإسْلامِ مِن صَلاةٍ وزَكاةٍ. إلخ. والإيمانِ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ. إلخ. وَمِن إحْسانٍ في وفاءٍ وصِدْقٍ وصَبْرٍ، وتَقْوى اللَّهِ تَعالى؛ إذْ هي مُراقَبَةُ اللَّهِ سِرًّا وعَلَنًا، وقَدْ ظَهَرَتْ نَتِيجَةُ عِظَمِ هَذِهِ الأخْلاقِ في الرَّحْمَةِ العامَّةِ الشّامِلَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما أرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] . وَكَذَلِكَ لِلْأُمَّةِ يَوْمَ القِيامَةِ، كَما قالَ ﷺ: «أقْرَبُكم مِنِّي مَنزِلَةً يَوْمَ القِيامَةِ أحاسِنُكم أخْلاقًا» . وَهِيَ قَضِيَّةٌ مَنطِقِيَّةٌ أُخْرى: «إنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخْلاقِ»، ﴿وَما أرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ . فَمَكارِمُ الأخْلاقِ رَحْمَةٌ لِلْعالَمِينَ في الدُّنْيا، ومَنزِلَةٌ عُلْيا لِلْمُؤْمِنِينَ في الآخِرَةِ. * * * تَنْبِيهٌ آخَرُ. اتَّفَقَ عُلَماءُ الِاجْتِماعِ أنَّ أُسُسَ الأخْلاقِ أرْبَعَةٌ: هِيَ: الحِكْمَةُ، والعِفَّةُ، والشَّجاعَةُ، والعَدالَةُ. وَيُقابِلُها رَذائِلُ أرْبَعَةٌ: هِيَ الجَهْلُ، والشَّرَهُ، والجُبْنُ، والجَوْرُ. وَيَتَفَرَّعُ عَنْ كُلِّ فَضِيلَةٍ فُرُوعُها: الحِكْمَةُ: الذَّكاءُ وسُهُولَةُ الفَهْمِ، وسِعَةُ العِلْمِ. وعَنِ العِفَّةِ: القَناعَةُ، والوَرَعُ، والحَياءُ، والسَّخاءُ، والدَّعَةُ، والصَّبْرُ، والحُرِّيَّةُ. وعَنِ الشَّجاعَةِ: النَّجْدَةُ، وعِظَمُ الهِمَّةِ. وعَنِ السَّماحَةِ: الكَرَمُ، والإيثارُ، والمُواساةُ، والمُسامَحَةُ. (p-٢٥٢)أمّا العَدالَةُ - وهي أُمُّ الفَضائِلِ الأخْلاقِيَّةِ - فَيَتَفَرَّعُ عَنْها: الصَّداقَةُ، والأُلْفَةُ، وصِلَةُ الرَّحِمِ، وتَرْكُ الحِقْدِ، ومُكافَأةُ الشَّرِّ بِالخَيْرِ، واسْتِعْمالُ اللُّطْفِ. فَهَذِهِ أُصُولُ الأخْلاقِ وفُرُوعُها، فَلَمْ تَبْقَ خَصْلَةٌ مِنها إلّا وهي مُكْتَمِلَةٌ فِيهِ ﷺ . وَقَدْ بَرَّأهُ اللَّهُ مِن كُلِّ رَذِيلَةٍ، فَتَحَقَّقَ أنَّهُ ﷺ عَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، فِعْلًا وعَقْلًا. وَقالَ الفَخْرُ الرّازِيُّ: لَقَدْ كانَ ﷺ عَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. والخُلُقُ ما تَخَلَّقَ بِهِ الإنْسانُ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠]، ولا بُدَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ مِن خَصْلَةٍ فاضِلَةٍ. فاجْتَمَعَ لَهُ ﷺ جَمِيعُ خِصالِ الفَضْلِ عِنْدَ جَمِيعِ الأنْبِياءِ. وهَذا وإنْ كانَ لَهُ وجْهٌ إلّا أنَّ واقِعَ سِيرَتِهِ ﷺ أعَمُّ مِن ذَلِكَ. فَقَدْ كانَ قَبْلَ البَعْثَةِ والوَحْيِ، مُلَقَّبًا عِنْدَ القُرَشِيِّينَ بِالأمِينِ، كَما في قِصَّةِ وضْعِ الحَجَرِ في الكَعْبَةِ؛ إذْ قالُوا عَنْهُ: الأمِينُ ارْتَضَيْناهُ. وَجاءَ عَنْ زَيْدِ بْنِ حارِثَةَ، لَمّا أُخِذَ أسِيرًا وأهْدَتْهُ خَدِيجَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - لِخِدْمَتِهِ ﷺ . وجاءَ أهْلُهُ بِالفِداءِ يُفادُونَهُ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ لَهُمُ: ”«ادْعُوهُ وأخْبِرُوهُ، فَإنِ اخْتارَكم فَهو لَكم بِدُونِ فِداءٍ ) فَقالَ زَيْدٌ: واللَّهِ لا أخْتارُ عَلى صُحْبَتِكَ أحَدًا أبَدًا، فَقالَ لَهُ أهْلُهُ: ويْحَكَ ! أتَخْتارُ الرِّقَّ عَلى الحُرِّيَّةِ ؟ ! فَقالَ: نَعَمْ، واللَّهِ لَقَدْ صَحِبْتُهُ فَلَمْ يَقُلْ لِي لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ قَطُّ. ولا لِشَيْءٍ لَمْ أفْعَلْهُ: لِمَ لَمْ تَفْعَلْهُ قَطُّ»:“ ورَجَعَ قَوْمُهُ، وبَقِيَ هو عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأخَذَ بِيَدِهِ، وأعْلَنَ تَبَنِّيَهُ عَلى ما كانَ مَعْهُودًا قَبْلَ البَعْثَةِ. إنَّنا لَوْ قُلْنا: إنَّ اخْتِيارَ اللَّهِ إيّاهُ قَبْلَ وُجُودِهِ، وتَعَهُّدَ اللَّهِ إيّاهُ بَعْدَ وُجُودِهِ؛ مِن شَقِّ الصَّدْرِ في طُفُولَتِهِ، ومِن مَوْتِ أبَوَيْهِ ورِعايَةِ اللَّهِ لَهُ. كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما ودَّعَكَ رَبُّكَ وما قَلى﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوى﴾ ﴿وَوَجَدَكَ ضالًّا فَهَدى﴾ ﴿وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأغْنى﴾ ﴿فَأمّا اليَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾ ﴿وَأمّا السّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾ ﴿وَأمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: ٣ - ١١] . إنَّها نِعْمَةُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ، وعَلى أُمَّتِهِ مَعَهُ - صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ - ورَزَقَنا التَّأسِّيَ بِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب