الباحث القرآني

﴿واللّاءِ يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِسائِكم إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ واللّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ . عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ (﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]) فَإنَّ العِدَّةَ هُنالِكَ أُرِيدَ بِها الأقْراءُ فَأشْعَرَ ذَلِكَ أنَّ تِلْكَ المُعْتَدَّةَ مِمَّنْ لَها أقْراءٌ، فَبَقِيَ بَيانُ اعْتِدادِ المَرْأةِ الَّتِي تَجاوَزَتْ سِنَّ المَحِيضِ أوِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ مَن تَحِيضُ وهي الصَّغِيرَةُ. وكِلْتاهُما يَصْدُقُ عَلَيْها أنَّها آيِسَةٌ مِنَ المَحِيضِ، أيْ في ذَلِكَ الوَقْتِ. والوُقُفُ عَلى قَوْلِهِ (﴿واللّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾)، أيْ هُنَّ مَعْطُوفاتٌ عَلى الآيِسِينَ. واليَأْسُ: عَدَمُ الأمَلِ. والمَأْيُوسُ مِنهُ في الآيَةِ يُعْلَمُ مِنَ السِّياقِ مِن قَوْلِهِ (﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١])، أيْ يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ سَواءً كانَ اليَأْسُ مِنهُ بَعْدَ تَعَدُّدِهِ أوْ كانَ بِعَدَمِ ظُهُورِهِ، أيْ لَمْ يَكُنِ انْقِطاعَهُ لِمَرَضٍ أوْ إرْضاعٍ. وهَذا السِّنُّ يَخْتَلِفُ تَحْدِيدُهُ بِاخْتِلافِ الذَّواتِ والأقْطارِ كَما يَخْتَلِفُ سِنُّ ابْتِداءِ الحَيْضِ كَذَلِكَ. وقَدْ (p-٣١٦)اخْتُلِفَ في تَحْدِيدِ هَذا السِّنِّ بِعَدَدِ السِّنِينَ فَقِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً، وقِيلَ: خَمْسٌ وخَمْسُونَ، وتَرْكُ الضَّبْطِ بِالسِّنِينَ أوْلى وإنَّما هَذا تَقْرِيبٌ لِإبانِ اليَأْسِ. والمَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ بَيِّنٌ وهي مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ (﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: ٢٢٨]) مِن سُورَةِ البَقَرَةِ. وقَدْ نَزَلَتْ سُورَةُ الطَّلاقِ بَعْدَ سُورَةِ البَقَرَةِ. وقَدْ خُفِيَ مَفادُ الشَّرْطِ مِن قَوْلِهِ (﴿إنِ ارْتَبْتُمْ﴾) وما هو مُتَّصِلٌ بِهِ. وجُمْهُورُ أهْلِ التَّفْسِيرِ جَعَلُوا هَذا الشَّرْطَ مُتَّصِلًا بِالكَلامِ الَّذِي وقَعَ هو في أثْنائِهِ، وإنَّهُ لَيْسَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ (﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]) في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، خِلافًا لِشُذُوذِ تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ وتَشْتِيتٍ لِشَمْلِ الكَلامِ، ثُمَّ خُفِيَ المُرادُ مِن هَذا الشَّرْطِ بِقَوْلِهِ (﴿إنِ ارْتَبْتُمْ﴾) . ولِلْعُلَماءِ فِيهِ طَرِيقَتانِ: الطَّرِيقَةُ الأُولى: مَشى أصْحابُها إلى أنَّ مَرْجِعَ اليَأْسِ غَيْرُ مَرْجِعِ الِارْتِيابِ بِاخْتِلافِ المُتَعَلِّقِ، فَرَوى أشْهَبُ عَنْ مالِكٍ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا بَيَّنَ عِدَّةَ ذَواتِ القُرُوءِ وذَواتِ الحَمْلِ، أيْ في سُورَةِ البَقَرَةِ، وبَقِيَتِ اليائِسَةُ والَّتِي لَمْ تَحِضِ ارْتابَ أصْحابِ مُحَمَّدٍ ﷺ في أمْرِهِما فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. ومِثْلُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجاهِدٍ، ورَوى الطَّبَرِيُّ خَبَرًا «عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أنَّهُ سَألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ اعْتِدادِ هاتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَمْ تُذْكَرا في سُورَةِ البَقَرَةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» . فَجَعَلُوا حَرْفَ (إنْ) بِمَعْنى (إذْ) وأنَّ الِارْتِيابَ وقَعَ في حُكْمِ العِدَّةِ قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ، أيْ إذِ ارْتَبْتُمْ في حُكْمِ ذَلِكَ فَبَيَّنّاهُ بِهَذِهِ الآيَةِ قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: حَدِيثُ أُبَيٍّ غَيْرُ صَحِيحٍ. وأنا أقُولُ: رَواهُ البَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ والحاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ وصَحَّحَهُ. والطَّبَرانِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سالِمٍ أنَّ أُبَيًّا قالَ: ولَيْسَ في رِوايَةِ الطَّبَرِيِّ ما يَدُلُّ عَلى إسْنادِ الحَدِيثِ. وهُوَ في رِوايَةِ البَيْهَقِيِّ بِسَنَدِهِ إلى أبِي عُثْمانَ عُمَرَ بْنِ سالِمٍ الأنْصارِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وهو مُنْقَطِعٌ، لِأنَّ أبا عُثْمانَ لَمْ يَلْقَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وأحْسَبُ أنَّهُ في (p-٣١٧)مُسْتَدْرَكِ الحاكِمِ كَذَلِكَ لِأنَّ البَيْهَقِيَّ رَواهُ عَنِ الحاكِمِ فَلا وجْهَ لِقَوْلِ ابْنِ العَرَبِيِّ: هو غَيْرُ صَحِيحٍ. فَإنَّ رِجالَ سَنَدِهِ ثِقاتٌ. وفِي أسْبابِ النُّزُولِ لِلْواحِدِيِّ عَنْ قَتادَةَ «أنَّ خَلّادَ بْنَ النُّعْمانِ وأُبَيًّا سَألا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» . وقِيلَ: إنَّ السّائِلَ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ سَألَ عَنْ عِدَّةِ الآيِسَةِ. فالرِّيبَةُ عَلى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ تَكُونُ مُرادًا بِها ما حَصَلَ مِنَ التَّرَدُّدِ في حُكْمِ هَؤُلاءِ المُطَلَّقاتِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المُبْتَدَأِ وهو المَوْصُولُ وبَيْنَ خَبَرِهِ وهو جُمْلَةُ (﴿فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ﴾) . والفاءُ في (﴿فَعِدَّتُهُنَّ﴾) داخِلَةٌ عَلى جُمْلَةِ الخَبَرِ لِما في المَوْصُولِ مِن مَعْنى الشَّرْطِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى (﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكم فَآذُوهُما﴾ [النساء: ١٦]) ومِثْلُهُ كَثِيرٌ في الكَلامِ. والِارْتِيابُ عَلى هَذا قَدْ وقَعَ فِيما مَضى فَتَكُونُ (إنْ) مُسْتَعْمَلَةً في مَعْنى اليَقِينِ بِلا نُكْتَةٍ. والطَّرِيقَةُ الثّانِيَةُ: مَشى أصْحابُها إلى أنَّ مَرْجِعَ اليَأْسِ ومَرْجِعَ الِارْتِيابِ واحِدٌ، وهو حالَةُ المُطَلَّقَةِ مِنَ المَحِيضِ، وهو عَنْ عِكْرِمَةَ وقَتادَةَ وابْنِ زَيْدٍ وبِهِ فَسَّرَ يَحْيى بْنُ بُكَيْرٍ وإسْماعِيلُ بْنُ هادٍ مِنَ المالِكِيَّةِ ونَسَبَهُ ابْنُ لُبابَةَ مِنَ المالِكِيَّةِ إلى داوُدَ الظّاهِرِيِّ. وهَذا التَّفْسِيرُ يَمْحَضُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الِارْتِيابِ حُصُولَ الرَّيْبِ في حالِ المَرْأةِ. وعَلى هَذا فَجُمْلَةُ الشَّرْطِ وجَوابِهِ خَبَرٌ عَنْ (اللّائِي يَئِسْنَ)، أيْ إنِ ارْتَبْنَ هُنَّ وارْتَبْتُمْ أنْتُمْ لِأجْلِ ارْتِيابِهِنَّ، فَيَكُونُ ضَمِيرُ جَمْعِ الذُّكُورِ المُخاطَبِينَ تَغْلِيبًا ويَبْقى الشَّرْطُ عَلى شَرْطِيَّتِهِ. والِارْتِيابُ مُسْتَقْبَلٌ والفاءُ رابِطَةٌ لِلْجَوابِ. (p-٣١٨)وهَذا التَّفْسِيرُ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الِاعْتِدادُ بِثَلاثَةِ أشْهُرٍ مَشْرُوطًا بِأنْ تَحْصُلَ الرِّيبَةُ في يَأْسِها مِنَ المَحِيضِ فاصْطَدَمَ أصْحابُهُ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ الَّذِي يَقْتَضِي أنَّهُ إنْ لَمْ تَحْصُلِ الرِّيبَةُ في يَأْسِهِنَّ أنَّهُنَّ لا يَعْتَدِدْنَ بِذَلِكَ أوْ لا يَعْتَدِدْنَ أصْلًا فَنَسَبَ ابْنُ لُبابَةَ مِن فُقَهاءِ المالِكِيَّةِ إلى داوُدَ الظّاهِرِيِّ أنَّهُ ذَهَبَ إلى سُقُوطِ العِدَّةِ عَنِ المَرْأةِ الَّتِي يُوقِنُ أنَّها يائِسَةٌ. قُلْتُ ولا تُعْرَفُ نِسْبَةُ هَذا إلى داوُدَ. فَإنَّ ابْنَ حَزْمٍ: لَمْ يَحْكِهِ عَنْهُ ولا حَكاهُ أحَدٌ مِمَّنْ تَعَرَّضُوا لِاخْتِلافِ الفُقَهاءِ، قالَ ابْنُ لُبابَةَ: وهو شُذُوذٌ، وقالَ ابْنُ لُبابَةَ: وأمّا ابْنُ بُكَيْرٍ وإسْماعِيلُ بْنُ حَمّادٍ، أيْ مِن فُقَهاءِ المالِكِيَّةِ فَجَعَلا المَرْأةَ المُتَيَقَّنَ يَأْسُها مُلْحَقَةً بِالمُرْتابَةِ في العِدَّةِ بِطَرِيقِ القِياسِ يُرِيدُ أنَّ العِدَّةَ لَها حِكْمَتانِ بَراءَةُ الرَّحِمِ، وانْتِظارُ المُراجَعَةِ، وأمّا الَّذِينَ لا يَعْتَبِرُونَ مَفْهُومَ المُخالَفَةِ فَهم في سِعَةٍ مِمّا لَزِمَ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَهُ. وأصْحابُ هَذا الطَّرِيقِ مُخْتَلِفُونَ في الوِجْهَةِ وفي مَحْمِلِ الآيَةِ بِحَسَبِها: فَقالَ عِكْرِمَةُ وابْنُ زَيْدٍ وقَتادَةُ: لَيْسَ عَلى المَرْأةِ المُرْتابِ في مُعاوَدَةِ الحَيْضِ إلَيْها عِدَّةٌ أكْثَرَ مِن ثَلاثَةِ أشْهُرٍ تَعَلُّقًا بِظاهِرٍ لِلْآيَةِ ولَعَلَّ عِلَّةَ ذَلِكَ عِنْدَهم أنَّ ثَلاثَةَ الأشْهُرِ يَتَبَيَّنُ فِيها أمْرُ الحَمْلِ فَإنَّ لَمْ يَظْهَرْ حَمْلٌ بَعْدَ انْقِضائِها تَمَّتْ عِدَّةُ المَرْأةِ، لِأنَّ الحَمْلَ بَعْدَ سِنِّ اليَأْسِ نادِرٌ فَإذا اعْتَرَتْها رِيبَةُ الحَمْلِ انْتَقَلَ النَّظَرُ إلى حُكْمِ الشَّكِّ في الحَمْلِ وتِلْكَ مَسْألَةٌ غَيْرُ الَّتِي نَزَلَتْ في شَأْنِها الآيَةُ. وقالَ الأكْثَرُونَ مِن أهْلِ العِلْمِ: إنَّ المُرْتابَ في يَأْسِها تَمْكُثُ تِسْعَةَ أشْهُرٍ (أيْ أمَدَ الحَمْلِ المُعْتادِ) فَإنْ لَمْ يَظْهَرْ بِها حَمْلٌ ابْتَدَأتِ الِاعْتِدادَ بِثَلاثَةِ أشْهُرٍ فَتَكْمُلُ لَها سَنَةٌ كامِلَةٌ. وأصِلُ ذَلِكَ ما رَواهُ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ مِن قَضاءِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ ولَمْ يُخالِفْ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ، وأخَذَ بِهِ مالِكٌ. وعَنْ مالِكٍ في المُدَوَّنَةِ: تِسْعَةُ أشْهُرٍ لِلرِّيبَةِ والثَّلاثَةُ الأشْهُرِ هي العِدَّةُ. ولَعَلَّهم رَأوْا أنَّ العِدَّةَ بَعْدَ مُضِيِّ التِّسْعَةِ الأشْهُرِ تَعَبُّدٌ لِأنَّ ذَلِكَ هو الَّذِي في القُرْآنِ وأمّا التِّسْعَةُ الأشْهُرِ فَأوْجَبَها عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ لَعَلَّهُ بِالِاجْتِهادِ، وهو تَقْيِيدٌ لِلْإطْلاقِ الَّذِي في الآيَةِ. وقالَ النَّخَعِيُّ وسُفْيانُ الثَّوْرِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ والشّافِعِيُّ: تَعْتَدُّ المُرْتابُ في يَأْسِها بِالأقْراءِ أيْ تَنْتَظِرُ الدَّمَ إلى أنْ تَبْلُغَ سِنَّ مَن لا يُشْبِهُ أنْ تَحِيضَ ولَوْ زادَتْ مُدَّةُ (p-٣١٩)انْتِظارِها عَلى تِسْعَةِ أشْهُرٍ. فَإذا بَلَغَتْ سِنَّ اليَأْسِ دُونَ رِيبَةٍ اعْتَدَّتْ بِثَلاثَةِ أشْهُرٍ مِن يَوْمِئِذٍ. ونَحْنُ نَتَأوَّلُ لَهُ بِأنَّ تَقْدِيرَ الكَلامِ: فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ، أيْ بَعْدَ زَوالِ الِارْتِيابِ كَما سَنَذْكُرُهُ، وهو مَعَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّ هَذِهِ الثَّلاثَةَ الأشْهُرِ بَعْدَ مُضِيِّ تِسْعَةِ أشْهُرٍ أوْ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ تَبْلُغُ بِها سِنَّ مَن لا يُشْبِهُ أنْ تَحِيضَ تَعَبُّدٌ، لِأنَّ انْتِفاءَ الحَمْلِ قَدِ اتَّضَحَ وانْتِظارَ المُراجَعَةِ قَدِ امْتَدَّ. إلّا أنْ نَعْتَذِرَ لَهم بِأنَّ مُدَّةَ الِانْتِظارِ لا يَتَحَفَّزُ في خِلالِها المُطَلِّقُ لِلرَّأْيِ في أمْرِ المُراجَعَةِ لِأنَّهُ في سِعَةِ الِانْتِظارِ فَيُزادُ في المُدَّةِ لِأجْلِ ذَلِكَ، وفي تَفْسِيرِ القُرْطُبِيِّ: قالَ عِكْرِمَةُ وقَتادَةُ: مِنَ الرِّيبَةِ المَرْأةُ المُسْتَحاضَةُ الَّتِي لا يَسْتَقِيمُ لَها الحَيْضُ في أوَّلِ الشَّهْرِ مِرارًا، وفي الأشْهُرِ مَرَّةً أيْ بِدُونَ انْضِباطٍ اهـ. ونَقْلَ الطَّبَرِيُّ مِثْلَ هَذا الكَلامِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وابْنِ زَيْدٍ، فَيَجِبُ أنْ يُصارَ إلى هَذا الوَجْهِ في تَفْسِيرِ الآيَةِ. والمَرْأةُ إذا قارَبَتْ وقْتَ اليَأْسِ لا يَنْقَطِعُ عَنْها الحَيْضُ دُفْعَةً واحِدَةً بَلْ تَبْقى عِدَّةَ أشْهُرٍ يَنْتابُها الحَيْضُ غِبًّا بِدُونِ انْتِظامٍ ثُمَّ يَنْقَطِعُ تَمامًا. وقَوْلُهُ تَعالى (﴿واللّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾) عَطْفٌ عَلى (﴿واللّائِي يَئِسْنَ﴾) والتَّقْدِيرُ: عِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ. ويَحْسُنُ الوُقُفُ عَلى قَوْلِهِ (﴿فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أشْهُرٍ﴾) . * * * ﴿وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ . مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ (﴿واللّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾) فَهي إتْمامٌ لِأحْوالِ العِدَّةِ المُجْمَلِ في قَوْلِهِ تَعالى (﴿وأحْصُوا العِدَّةَ﴾ [الطلاق: ١]) وتَقْدِيرُ الكَلامِ: (وأُولاتُ الأحْمالِ مِنهُنَّ)، أيْ مِنَ المُطَلَّقاتِ أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. فَحَصَلَ بِهَذِهِ الآيَةِ مَعَ الَّتِي قَبْلَها تَفْصِيلٌ لِأحْوالِ المُطَلَّقاتِ وحَصَلَ أيْضًا مِنها بَيانٌ لِإجْمالِ الآيَةِ الَّتِي في سُورَةِ البَقَرَةِ. (﴿وأُولاتُ﴾) اسْمُ جَمْعٍ لِذاتٍ بِمَعْنى: صاحِبَةٍ. وذاتُ: مُؤَنَّثُ ذُو، بِمَعْنى: صاحِبٍ. ولا مُفْرَدَ لِ (أُولاتُ) مِن لَفْظِهِ كَما لا مُفْرَدَ لِلَفْظِ (أُولُوا) و(أُولاتُ) مِثْلُ ذَواتٍ كَما أنَّ أُولُو مِثْلُ ذَوُو. ويُكْتَبُ (أُولاتُ) بِواوٍ بَعْدَ الهَمْزَةِ في الرَّسْمِ تَبَعًا لِكِتابَةِ لَفْظِ (أُولُو) بِواوٍ بَعْدَ الهَمْزَةِ لِقَصْدِ التَّفْرِقَةِ في الرَّسْمِ بَيْنَ أُولِي في حالَةِ (p-٣٢٠)النَّصْبِ والجَرِّ وبَيْنَ حَرْفِ (إلى) . ولَيْتَهم قَصَرُوا كِتابَتَهُ بِواوٍ بَعْدَ الهَمْزَةِ عَلى لَفْظِ أُولِي المُذَكَّرِ المَنصُوبِ أوِ المَجْرُورِ وتَرَكُوا التَّكَلُّفَ في غَيْرِهِما. وجُعِلَتْ عِدَّةُ المُطَلَّقَةِ الحامِلِ مَنهاةً بِوَضْعِ الحَمْلِ لِأنَّهُ لا أدَلَّ عَلى بَراءَةِ الرَّحِمِ مِنهُ، إذِ الغَرَضُ الأوَّلُ مِنَ العِدَّةِ تَحَقُّقُ بَراءَةِ الرَّحِمِ مِن ولَدٍ لِلْمُطَلَّقِ أوْ ظُهُورِ اشْتِغالِ الرَّحِمِ بِجَنَيْنٍ لَهُ. وضُمَّ إلى ذَلِكَ غَرَضٌ آخَرُ وهو تَرَقُّبُ نَدَمِ المُطَلِّقِ وتَمْكِينُهُ مِن تَدارُكِ أمْرِهِ بِالمُراجَعَةِ، فَلَمّا حَصَلَ الأهَمُّ أُلْغِيَ ما عَداهُ رَعْيًا لِحَقِّ المَرْأةِ في الِانْطِلاقِ مِن حَرَجِ الِانْتِظارِ، عَلى أنَّ الحَمْلَ قَدْ يَحْصُلُ بِالقُرْبِ مِنَ الطَّلاقِ فَأُلْغِيَ قَصْدُ الِانْتِظارِ تَعْلِيلًا بِالغالِبِ دُونَ النّادِرِ، خِلافًا لِمَن قالَ في المُتَوَفّى عَنْها: عَلَيْها أقْصى الأجَلَيْنِ وهو مَنسُوبٌ إلى عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ وابْنِ العَبّاسِ. وبِهَذا التَّفْسِيرِ لا تَتَعارَضُ هَذِهِ الآيَةُ مَعَ آيَةِ عِدَّةِ المُتَوَفّى عَنْها الَّتِي في سُورَةِ البَقَرَةِ (﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤]) لِأنَّ تِلْكَ في وادٍ وهَذِهِ في وادٍ، تِلْكَ شَأْنُ المُتَوَفّى عَنْهُنَّ وهَذِهِ في شَأْنِ المُطَلَّقاتِ. ولَكِنْ لَمّا كانَ أجَلُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ وعَشْرٍ لِلْمُتَوَفّى عَنْها مُنْحَصِرَةً حِكْمَتُهُ في تَحَقُّقِ بَراءَةِ رَحِمِ امْرَأةِ المُتَوَفّى مِن ولَدٍ لَهُ إذْ لا فائِدَةَ فِيهِ غَيْرَ ذَلِكَ ولا يُتَوَهَّمُ أنَّ الشَّرِيعَةَ جَعَلَتْ ذَلِكَ لِغَرَضِ الحُزْنِ عَلى الزَّوْجِ المُتَوَفّى لِلْقَطْعِ بِأنَّ هَذا مَقْصِدٌ جاهِلِيٌّ، وقَدْ دَلَّتِ الشَّرِيعَةُ في مَواضِعَ عَلى إبْطالِهِ والنَّهْيِ عَنْهُ في تَصارِيفَ كَثِيرَةٍ كَما بَيَّناهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى (﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٤]) إلَخْ في سُورَةِ البَقَرَةِ. وقَدْ عَلِمْنا أنَّ وضْعَ الحَمْلِ غايَةٌ لِحُصُولِ هَذا المَقْصِدِ نَجَمَ مِن جِهَةِ المَعْنى أنَّ المُتَوَفّى عَنْها الحامِلَ إذا وضَعَتْ حَمْلَها تَخْرُجُ مِن عِدَّةِ وفاةِ زَوْجِها ولا تُقَضِّي أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا كَما أنَّها لَوْ كانَ أمَدُ حَمْلِها أكْثَرَ مِن أرْبَعَةِ أشْهُرٍ وعَشْرٍ لا تَقْتَصِرُ عَلى الأرْبَعَةِ الأشْهُرِ وعَشْرٍ إذْ لا حِكْمَةَ في ذَلِكَ. مِن أجْلِ ذَلِكَ كانَتِ الآيَةُ دالَّةً عَلى أنَّ عِدَّةَ الحامِلِ وضْعُ حَمْلِها سَواءً كانَتْ مُعْتَدَّةً مِن طَلاقٍ أمْ كانَتْ مُعْتَدَّةً في وفاةٍ. (p-٣٢١)ومِن أجْلِ ذَلِكَ قالَ جُمْهُورُ أهْلِ العِلْمِ مِنَ الصَّحابَةِ فَمَن بَعْدَهم: إنَّ عِدَّةَ الحامِلِ المُتَوَفّى عَنْها كَعِدَّتِها مِنَ الطَّلاقِ وضْعُ حَمْلِها غَيْرَ أنَّ أقْوالَهم تَدُلُّ عَلى أنَّ بَيْنَهم مَن كانُوا يَرَوْنَ في تَعارُضِ العُمُومَيْنِ أنَّ العامَّ المُتَأخِّرَ مِنهُما يَنْسَخُ العامَّ الآخَرَ وهي طَرِيقَةُ المُتَقَدِّمِينَ. رَوى أهْلُ الصَّحِيحِ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ لَمّا بَلَغَهُ أنَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ قالَ في عِدَّةِ الحامِلِ المُتَوَفّى عَنْها: إنَّ عَلَيْها أقْصى الأجَلَيْنِ (أيْ أجَلِ وضْعِ الحَمْلِ وأجَلِ الأرْبَعَةِ الأشْهُرِ والعَشْرِ) قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّساءِ القُصْرى أيْ سُورَةُ الطَّلاقِ بَعْدَ الطُّولى أيْ بَعْدَ طُولى السُّوَرِ وهي البَقَرَةُ، أيْ لَيْسَتْ آيَةُ سُورَةِ البَقَرَةِ بِناسِخَةٍ لِما في آيَةِ سُورَةِ الطَّلاقِ. ( ويُعَضِّدُهم خَبَرُ «سُبَيْعَةَ بَنْتِ الحارِثِ الأسْلَمِيَّةِ تُوُفِّيَ زَوْجُها سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ في حِجَّةِ الوَداعِ بِمَكَّةَ وتَرَكَها حامِلًا فَوَضَعَتْ بَعْدَ وفاتِهِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وقِيلَ بِأرْبَعِينَ لَيْلَةً. فاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في التَّزَوُّجِ فَقالَ لَها: قَدْ حَلَلْتِ فانْكِحِي إنْ شِئْتِ» . رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ أُمُّ المُؤْمِنِينَ وقَبِلَهُ مُعْظَمُ الصَّحابَةِ الَّذِينَ بَلَغَهم. وتَلَقّاهُ الفُقَهاءُ بَعْدَهم بِالقَبُولِ ويُشْهَدُ لَهُ بِالمَعْنى والحِكْمَةِ كَما تَقَدَّمَ آنِفًا. واخْتَلَفَ المُتَأخِّرُونَ مِن أهْلِ الأُصُولِ في وجْهِ العَمَلِ في تَعارُضِ عُمُومَيْنِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما عامٌّ مِن وجْهٍ مِثْلَ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ فالجُمْهُورُ دَرَجُوا عَلى تَرْجِيحِ أحَدِهِما بِمُرَجِّحٍ والحَنَفِيَّةُ جَعَلُوا المُتَأخِّرَ مِنَ العَمُودَيْنِ ناسِخًا لِلْمُتُقَدِّمِ. فَقَوْلُهُ (﴿وأُولاتُ الأحْمالِ﴾) لِأنَّ المَوْصُولَ مِن صِيَغِ العُمُومِ فَيَعُمُّ كُلَّ حامِلٍ مُعْتَدَّةٍ سَواءً كانَتْ في عِدَّةِ الطَّلاقِ أوْ في عِدَّةِ وفاةٍ، وقَوْلُهُ (﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤] تَعُمُّ كُلَّ امْرَأةٍ تَرَكَها المَيِّتُ سَواءً كانَتْ حامِلًا أوْ غَيْرَ حامِلٍ، لِأنَّ ( ﴿أزْواجًا﴾ [البقرة: ٢٣٤]) نَكِرَةٌ وقَعَتْ مَفْعُولَ الصِّلَةِ وهي (﴿يَذَرُونَ﴾ [البقرة: ٢٣٤]) المُشْتَمِلَةُ عَلى ضَمِيرِ المَوْصُولِ الَّذِي هو عامٌّ فَمَفْعُولُهُ تَبَعٌ لَهُ في عُمُومِهِ فَيَشْمَلُ المُتَوَفّى عَنْهُنَّ الحَوامِلَ وهُنَّ مِمَّنْ شَمَلَهُنَّ عُمُومُ (﴿أُولاتُ الأحْمالِ﴾) فَتَعارُضُ العُمُومانِ كُلٌّ مِن وجْهٍ، فَآيَةُ (﴿وأُولاتُ الأحْمالِ﴾) اقْتَضَتْ أنَّ الحَوامِلَ كُلَّهُنَّ تَنْتَهِي عِدَّتُهُنَّ بِالوَضْعِ وقَدْ يَكُونُ الوَضْعُ قَبْلَ الأرْبَعَةِ الأشْهُرِ والعَشْرِ، وآيَةُ البَقَرَةِ يَقْتَضِي عُمُومُها أنَّ المُتَوَفّى عَنْهُنَّ يَتَرَبَّصْنَ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا. وقَدْ يَتَأخَّرُ هَذا الأجَلُ عَنْ وضْعِ الحَمْلِ. (p-٣٢٢)فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى تَرْجِيحِ عُمُومِ (﴿وأُولاتُ الأحْمالِ﴾) عَلى عُمُومِ (﴿ويَذَرُونَ أزْواجًا﴾ [البقرة: ٢٣٤]) مِن وُجُوهٍ. أحَدُها: أنَّ عُمُومَ (﴿وأُولاتُ الأحْمالِ﴾) حاصِلٌ بِذاتِ اللَّفْظِ لِأنَّ المَوْصُولَ مَعَ صِلَتِهِ مِن صِيَغِ العُمُومِ، وأمّا قَوْلُهُ (﴿ويَذَرُونَ أزْواجًا﴾ [البقرة: ٢٣٤]) فَإنَّ (﴿أزْواجًا﴾ [البقرة: ٢٣٤]) نَكِرَةٌ في سِياقِ الإثْباتِ فَلا عُمُومَ لَها في لَفْظِها وإنَّما عَرَضَ لَها العُمُومُ تَبَعًا لِعُمُومِ المَوْصُولِ العامِلِ فِيها وما كانَ عُمُومُهُ بِالذّاتِ أرْجَحَ مِمّا كانَ عُمُومُهُ بِالعَرْضِ. وثانِيها: أنَّ الحُكْمَ في عُمُومِ (﴿وأُولاتُ الأحْمالِ﴾) عُلِّقَ بِمَدْلُولِ صِلَةِ المَوْصُولِ وهي مُشْتَقٌّ، وتَعْلِيقُ الحُكْمِ بِالمُشْتَقِّ يُؤْذِنُ بِتَعْلِيلِ ما اشْتُقَّ مِنهُ بِخِلافِ العُمُومِ الَّذِي في سُورَةِ البَقَرَةِ، فَما كانَ عُمُومُهُ مُعَلَّلًا بِالوَصْفِ أرْجَحُ في العَمَلِ مِمّا عُمُومُهُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ. وثالِثُها: قَضاءُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في عِدَّةِ سُبَيْعَةَ الأسْلَمِيَّةِ. وذَهَبَ الحَنَفِيَّةُ إلى أنَّ عُمُومَ (﴿وأُولاتُ الأحْمالِ﴾) ناسِخٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ (﴿ويَذَرُونَ أزْواجًا﴾ [البقرة: ٢٣٤]) في مِقْدارِ ما تَعارَضا فِيهِ. ومَآلُ الرَّأْيَيْنِ واحِدٌ هو أنَّ عِدَّةَ الحامِلِ وضْعُ حَمْلِها سَواءً كانَتْ مُعْتَدَّةً مِن طَلاقٍ أمْ مِن وفاةِ زَوْجِها. والصَّحِيحُ أنَّ آيَةَ البَقَرَةِ لَمْ يَرْتَفِعْ حُكْمُها وشَذَّ القائِلُونَ بِأنَّ المُتَوَفّى عَنْها إنَّ لَمْ تَكُنْ حامِلًا ووَضَعَتْ حَمْلَها يَجِبُ عَلَيْها عِدَّةَ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ وعَشْرًا. وقالَ قَلِيلٌ مِن أهْلِ العِلْمِ بِالجَمْعِ بَيْنَ الآيَتَيْنِ بِما يُحَقِّقُ العَمَلَ بِهِما مَعًا فَأوْجَبُوا عَلى الحامِلِ المُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها الِاعْتِدادَ بِالأقْصى مِنَ الأجَلَيْنِ أجَلِ الأرْبَعَةِ الأشْهُرِ والعَشْرِ وأجَلِ وضْعِ الحَمْلِ، وهو قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ وابْنِ عَبّاسٍ. وقَصْدُهم مِن ذَلِكَ الِاحْتِياطُ لِأنَّهُ قَدْ تَأتّى لَهم هُنا إذْ كانَ التَّعارُضُ في مِقْدارِ زَمَنَيْنِ فَأُمْكِنَ العَمَلُ بِأوْسَعِهِما الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ الآخَرُ وزِيادَةٌ فَيَصِيرُ مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ (﴿أُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾) ما لَمْ تَكُنْ في عِدَّةِ وفاةٍ ويَكُونُ مَعْنى آيَةِ سُورَةِ البَقَرَةِ وأزْواجُ المُتَوَفَّيْنَ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا ما لَمْ تَكُنَّ حَوامِلَ فَيَزِدْنَ تَرَبُّصًا إلى وضْعِ الحَمْلِ. ولا يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ (p-٣٢٣)(﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤]) بِما في آيَةِ (﴿وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾) مِن خُصُوصٍ بِالنَّظَرِ إلى الحَوامِلِ المُتَوَفّى عَنْهُنَّ، إذْ لا يَجُوزُ أنْ تَنْتَهِيَ عِدَّةُ الحامِلِ المُتَوَفّى عَنْها الَّتِي مَضَتْ عَلَيْها أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وعَشْرٌ قَبْلَ وضْعِ حَمْلِها مِن عِدَّةِ زَوْجِها، وهي في حالَةِ حَمْلٍ لِأنَّ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ بُطْلانُهُ مِن عِدَّةِ أدِلَّةٍ في الشَّرِيعَةِ لا خِلافَ فِيها وإلى هَذا ذَهَبَ ابْنُ أبِي لَيْلى. وفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قالَ: كُنْتُ في حَلْقَةٍ فِيها عُظْمٌ مِنَ الأنْصارِ أيْ بِالكُوفَةِ وفِيهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي لَيْلى وكانَ أصْحابُهُ يَعِظُونَهُ فَذَكَرَ آخِرَ الأجَلَيْنِ، فَحَدَّثَتُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ في شَأْنِ سُبَيْعَةَ بِنْتِ الحارِثِ فَقالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَكِنَّ عَمَّهُ أيْ عَمَّ عُتْبَةَ وهو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ كانَ لا يَقُولُ ذَلِكَ أيْ لَمْ يُحَدِّثْنا بِهِ فَقُلْتُ: إنِّي إذَنْ لَجَرِيءٌ إنْ كَذَبْتُ عَلى رَجُلٍ في جانِبِ الكُوفَةِ وكانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ ساكِنًا بِظاهِرِ الكُوفَةِ فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ عامِرًا أوْ مالِكَ بْنَ عَوْفٍ فَقُلْتُ: كَيْفَ كانَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ في المُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها وهي حامِلٌ، فَقالَ: قالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ: أتَجْعَلُونَ عَلَيْها التَّغْلِيظَ ولا تَجْعَلُونَ لَها الرُّخْصَةَ لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّساءِ القُصْرى بَعْدَ الطُّولى (أيِ البَقَرَةِ) . وفِي البُخارِيِّ عَنْ أبِي سَلَمَةَ جاءَ رَجُلٌ إلى ابْنِ عَبّاسٍ وأبُو هُرَيْرَةَ جالَسٌ عِنْدَهُ فَقالَ: أفْتِنِي في امْرَأةٍ ولَدَتْ بَعْدَ زَوْجِها بِأرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: آخِرُ الأجَلَيْنِ. فَقُلْتُ أنا (﴿وأُولاتُ الأحْمالِ أجَلُهُنَّ أنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾) . قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: أنا مَعَ ابْنِ أخِي أيْ مَعَ أبِي سَلَمَةَ فَأرْسَلَ ابْنُ عَبّاسٍ كُرَيْبًا إلى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْألُها فَقالَتْ: قُتِلَ - (كَذا والتَّحْقِيقُ أنَّهُ ماتَ في حِجَّةِ الوَداعِ) - زَوْجُ سُبَيْعَةَ الأسْلَمِيَّةِ وهي حُبْلى فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأرْبَعِينَ لَيْلَةً فَخُطِبَتْ فَأنْكَحَها رَسُولُ اللَّهِ. وقَدْ قالَ بَعْضُهم: إنَّ ابْنَ عَبّاسٍ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ. ولَمْ يُذْكَرْ رُجُوعُهُ في حَدِيثِ أبِي سَلَمَةَ. * * * ﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِن أمْرِهِ يُسْرًا﴾ ﴿ذَلِكَ أمْرُ اللَّهِ أنْزَلَهُ إلَيْكم ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ ويُعْظِمْ لَهُ أجْرًا﴾ . (p-٣٢٤)تَكْرِيرٌ لِلْمَوْعِظَةِ وهو اعْتِراضٌ. والقَوْلُ فِيهِ كالقَوْلِ في قَوْلِهِ تَعالى (﴿ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: ٢] ﴿ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٣]) . والمَقْصُودُ مَوْعِظَةُ الرِّجالِ والنِّساءِ عَلى الأخْذِ بِما في هَذِهِ الأحْكامِ مِمّا عَسى أنْ يَكُونَ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلى أحَدٍ بِأنَّ عَلى كُلٍّ أنْ يَصْبِرَ لِذَلِكَ امْتِثالًا لِأمْرِ اللَّهِ فَإنَّ المُمْتَثِلَ وهو مُسَمًّى المُتَّقِيَ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ يُسْرًا فِيما لَحِقَهُ مِن عُسْرٍ. والأمْرُ: الشَّأْنُ والحالُ. والمَقْصُودُ: يَجْعَلُ لَهُ مِن أمْرِهِ العَسِيرِ في نَظَرِهِ يُسْرًا بِقَرِينَةِ جَعْلِ اليُسْرَ لِأمْرِهِ. و(مَن) لِلِابْتِداءِ المَجازِيِّ المُرادُ بِهِ المُقارَنَةُ والمُلابَسَةُ. واليُسْرُ: انْتِفاءُ الصُّعُوبَةِ، أيِ انْتِفاءُ المَشاقِّ والمَكْرُوهاتِ. والمَقْصُودُ مِن هَذا تَحْقِيقُ الوَعْدِ بِاليُسْرِ فِيما شَأْنُهُ العُسْرُ لِحَثِّ الأزْواجِ عَلى امْتِثالِ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ الزَّوْجَ مِنَ الإنْفاقِ في مُدَّةِ العِدَّةِ ومِنَ المُراجَعَةِ وتَرْكِ مَنزِلِهِ لِأجْلِ سُكْناها إذا كانَ لا يَسَعُهُما وما أمَرَ بِهِ المَرْأةَ مِن تَرَبُّصِ أمَدِ العِدَّةِ وعَدَمِ الخُرُوجِ ونَحْوِ ذَلِكَ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ (﴿ذَلِكَ أمْرُ اللَّهِ﴾) إلى الأحْكامِ المُتَقَدِّمَةِ مِن أوَّلِ السُّورَةِ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المُتَعاطِفَتَيْنِ. والأمْرُ في قَوْلِهِ (﴿أمْرُ اللَّهِ﴾): حُكْمُهُ وما شَرَعَهُ لَكم كَما قالَ (﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا﴾ [الشورى: ٥٢]) . وإنْزالُهُ: إبْلاغُهُ إلى النّاسِ بِواسِطَةِ الرَّسُولِ ﷺ أطْلَقَ عَلَيْهِ الإنْزالَ تَشْبِيهًا لِشَرَفِ مَعانِيهِ وألْفاظِهِ بِالشَّيْءِ الرَّفِيعِ لِأنَّ الشَّرِيفَ يُتَخَيَّلُ رَفِيعًا. وهو اسْتِعارَةٌ كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ. فَفي قَوْلِهِ (﴿أنْزَلَهُ﴾) اسْتِعارَةٌ مَكْنِيَّةٌ. والكَلامُ كِنايَةٌ عَنِ الحَثِّ عَلى التَّهَمُّمِ بِرِعايَتِهِ والعَمَلِ بِهِ وبَعْثِ النّاسِ عَلى التَّنافُسِ في العِلْمِ بِهِ إذْ قَدِ اعْتَنى اللَّهُ بِالنّاسِ حَيْثُ أنْزَلَ إلَيْهِمْ ما فِيهِ صَلاحُهم. وأُعِيدَ التَّحْرِيضُ عَلى العَمَلِ بِما أمَرَ اللَّهُ بِالوَعَدِ بِما هو أعْظَمُ مِنَ الأرْزاقِ وتَفْرِيجِ الكَرْبِ وتَيَسُّرِ الصُّعُوباتِ في الدُّنْيا. وذَلِكَ هو تَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئاتِ وتَوْفِيرُ الأُجُورِ. (p-٣٢٥)والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ المُعْتَرِضَةِ فَلَها حُكْمُ الِاعْتِراضِ. وجِيءَ بِالوَعْدِ مِنَ الشَّرْطِ لِتَحْقِيقِ تَعْلِيقِ الجَوابِ عَلى شَرْطِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب