فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4]: وَهَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَأْوِيلِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ أَنَّ مَعْنَاهَا إذَا ارْتَبْتُمْ. وَحُرُوفُ الْمَعَانِي يُبْدَلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا هَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْوَجْهِ الَّذِي رَجَعَتْ فِيهِ إنْ بِمَعْنَى إذَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مَا رُوِيَ أَنَّ «أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ لَنَا عِدَّةَ الْحَائِضِ بِالْأَقْرَاءِ فَمَا حُكْمُ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ».
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ وَهُوَ الثَّانِي: إنَّ اللَّهَ جَعَلَ عِدَّةَ الْحَائِضِ بِالْأَقْرَاءِ، فَمَنْ انْقَطَعَ حَيْضُهَا، وَهِيَ تَقْرُبُ مِنْ حَدِّ الِاحْتِمَالِ [فَوَاجِبٌ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْ ارْتَفَعَتْ عَنْ حَدِّ الِاحْتِمَالِ] وَجَبَ عَلَيْهَا الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ بِالْإِجْمَاعِ، لَا بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا رِيبَةَ فِيهَا.
الثَّالِثُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: الْآيَةُ وَارِدَةٌ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَدْرِي دَمَ حَيْضٍ هُوَ أَوْ دَمَ عِلَّةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَحْقِيقِ الْمَقْصُودِ: أَمَّا وَضْعُ حُرُوفِ الْمَعَانِي إبْدَالًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ. وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي حُرُوفِ الْخَفْضِ؛ وَإِنَّمَا الْآيَةُ وَارِدَةٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْعِدَّةِ مَوْضُوعٌ لِأَجْلِ الرِّيبَةِ؛ إذْ الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَتَرْتَابُ لِشُغْلِهِ بِالْمَاءِ؛ فَوُضِعَتْ الْعِدَّةُ لِأَجْلِ هَذِهِ الرِّيبَةِ، وَلَحِقَهَا ضَرْبٌ مِنْ التَّعَبُّدِ.
وَيُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ حَرْفَ " إنْ " يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ الْوَاجِبِ، كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ الْمُمْكِنِ، وَعَلَى هَذَا خُرِّجَ قَوْلُهُ: " وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ". وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَلْجَئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ وَاللُّغَوِيِّينَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أُبَيٍّ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] يَقُولُ فِي شَأْنِ الْعِدَّةِ: إنَّ تَفْسِيرَهَا: إنْ لَمْ تَدْرُوا مَا تَصْنَعُونَ فِي أَمْرِهَا فَهَذِهِ سَبِيلُهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَة قَوْله تَعَالَى وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] يَعْنِي الصَّغِيرَةَ، وَعِدَّتُهَا أَيْضًا بِالْأَشْهُرِ؛ لِتَعَذُّرِ الْأَقْرَاءِ فِيهَا عَادَةً؛ وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا أَجْرَاهَا اللَّهُ عَلَى الْعَادَاتِ، فَهِيَ تَعْتَدُّ
بِالْأَشْهُرِ، فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ فِي زَمَنِ احْتِمَالِهِ عِنْدَ النِّسَاءِ انْتَقَلَتْ إلَى الدَّمِ، لِوُجُودِ الْأَصْلِ. فَإِذَا وُجِدَ الْأَصْلُ لَمْ يَبْقَ لِلْبَدَلِ حُكْمٌ، كَمَا أَنَّ الْمُسِنَّةَ إذَا اعْتَدَّتْ بِالدَّمِ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَادَتْ إلَى الْأَشْهُرِ.
رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ اعْتَدَّتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ رَفَعَتْهَا حَيْضَتُهَا فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ اسْتَبَانَ بِهَا حَمْلٌ فَذَلِكَ وَإِلَّا اعْتَدَّتْ بَعْدَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ حَلَّتْ، وَأَمَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالتَّرَبُّصِ سَنَةً.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: تَبْقَى إلَى سِنِّ الْيَأْسِ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: تَعْتَدُّ سَنَةً؛ وَإِنْ كَانَتْ مُسِنَّةً وَانْقَطَعَ حَيْضُهَا وَقَالَ النِّسَاءُ: إنَّ مِثْلَهَا لَا تَحِيضُ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ إنَّهَا تَبْقَى إلَى سِنِّ الْيَأْسِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ إذَا كَانَتْ مُرْتَابَةً بِحَمْلٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَشْهَبُ لَا تَحِلُّ أَبَدًا حَتَّى تَيْأَسَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
[مَسْأَلَة لِلْمَرْءِ أَنْ يُنْكِحَ وَلَدَهُ الصِّغَارَ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْءِ أَنْ يُنْكِحَ وَلَدَهُ الصِّغَارَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ عِدَّةَ مَنْ لَمْ يَحِضْ مِنْ النِّسَاءِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَلَا تَكُونُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا نِكَاحٌ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْغَرَضِ، وَهُوَ بَدِيعٌ فِي فَنِّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]: هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الْمُطَلَّقَةِ لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهَا، وَإِلَيْهَا رَجَعَ عَقِبَ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا كَذَلِكَ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَحَدِيثِ سُبَيْعَةَ فِي السُّنَّةِ؛ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ قَدْ حَصَلَتْ يَقِينًا، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
[مَسْأَلَة وَضَعَتْ الْحَامِلُ مَا وَضَعَتْ مِنْ عَلَقَةٍ أَوْ مُضْغَةٍ]
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إذَا وَضَعَتْ الْحَامِلُ مَا وَضَعَتْ مِنْ عَلَقَةٍ أَوْ مُضْغَةٍ حَلَّتْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَحِلُّ إلَّا بِمَا يَكُونُ وَلَدًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي وَضْعِ اللَّهِ الْعِدَّةَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ أَنَّهَا الْمُدَّةُ الَّتِي فِيهَا يُخْلَقُ الْوَلَدُ فَوُضِعَتْ اخْتِبَارًا لِشَغْلِ الرَّحِمِ مِنْ فَرَاغِهِ.
{"ayah":"وَٱلَّـٰۤـِٔی یَىِٕسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِیضِ مِن نِّسَاۤىِٕكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـٰثَةُ أَشۡهُرࣲ وَٱلَّـٰۤـِٔی لَمۡ یَحِضۡنَۚ وَأُو۟لَـٰتُ ٱلۡأَحۡمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن یَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ وَمَن یَتَّقِ ٱللَّهَ یَجۡعَل لَّهُۥ مِنۡ أَمۡرِهِۦ یُسۡرࣰا"}