الباحث القرآني
﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإنْ بَغَتْ إحْداهُما عَلى الأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللَّهِ فَإنْ فاءَتْ فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالعَدْلِ وأقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ لِما جَرى قَوْلُهُ: أنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهالَةٍ الآيَةَ كانَ مِمّا يَصْدُقُ عَلَيْهِ إصابَةُ قَوْمٍ أنْ تَقَعَ الإصابَةُ بَيْنَ طائِفَتَيْنِ مِنَ المُؤْمِنِينَ لِأنَّ مِنَ الأخْبارِ الكاذِبَةِ أخْبارَ النَّمِيمَةِ بَيْنَ القَبائِلِ، وخَطَرُها أكْبَرُ مِمّا يَجْرِي بَيْنَ الأفْرادِ، والتَّبْيِينُ فِيها أعْسَرُ، وقَدْ لا يَحْصُلُ التَّبْيِينُ إلّا بَعْدَ أنْ تَسْتَعِرَ نارُ الفِتْنَةِ ولا تُجْدِيَ النَّدامَةُ.
وفِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في قِصَّةِ مُرُورِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلى مَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بْنُ سَلُولَ ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى حِمارٍ فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وبالَ الحِمارُ، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: خَلِّ سَبِيلَ حِمارِكَ فَقَدْ آذانا نَتَنُهُ. فَقالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَواحَةَ: واللَّهِ إنَّ بَوْلَ حِمارِهِ لَأطْيَبُ مِن مِسْكِكَ فاسْتَبّا وتَجالَدا وجاءَ قَوْماهُما الأوْسُ والخَزْرَجُ، فَتَجالَدُوا بِالنِّعالِ والسَّعَفِ فَرَجَعَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ فَأصْلَحَ بَيْنَهم. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» . وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ: ولَيْسَ فِيهِ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في تِلْكَ الحادِثَةِ.
ويُناكِدُ هَذا أنَّ تِلْكَ الوَقْعَةَ كانَتْ في أوَّلِ أيّامِ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ المَدِينَةَ. وهَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الهِجْرَةِ وأنَّ أنَسَ بْنَ مالِكٍ لَمْ يَجْزِمْ بِنُزُولِها في ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: فَبَلَغَنا أنْ نَزَلَتْ فِيهِمْ: ﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما﴾ . اللَّهُمَّ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الآيَةُ أُلْحِقَتْ بِهَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ.
(p-٢٣٩)١٠٣ وعَنْ قَتادَةَ والسُّدِّيِّ: أنَّها نَزَلَتْ في فِتْنَةٍ بَيْنَ الأوْسِ والخَزْرَجِ بِسَبَبِ خُصُومَةٍ بَيْنَ رَجُلٍ وامْرَأتِهِ أحَدُهُما مِنَ الأوْسِ والآخَرُ مِنَ الخَزْرَجِ انْتَصَرَ لِكُلٍّ مِنهُما قَوْمُهُ حَتّى تَدافَعُوا وتَناوَلَ بَعْضُهم بَعْضًا بِالأيْدِي والنِّعالِ والعِصِيِّ فَنَزَلَتِ الآيَةُ فَجاءَ النَّبِيءُ ﷺ فَأصْلَحَ بَيْنَهُما وهَذا أظْهَرُ مِنَ الرِّوايَةِ الأُولى فَكانَتْ حُكْمًا عامًّا نَزَلَ في سَبَبٍ خاصٍّ.
و(إنْ) حَرْفُ شَرْطٍ يُخَلِّصُ الماضِيَ لِلِاسْتِقْبالِ فَيَكُونُ في قُوَّةِ المُضارِعِ. وارْتَفَعَ ”طائِفَتانِ“ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ ”اقْتَتَلُوا“ لِلِاهْتِمامِ بِالفاعِلِ. وإنَّما عَدَلَ عَنِ المُضارِعِ بَعْدَ كَوْنِهِ الألْيَقَ بِالشَّرْطِ لِأنَّهُ لَمّا أُرِيدَ تَقْدِيمُ الفاعِلِ عَلى فِعْلِهِ لِلِاهْتِمامِ بِالمُسْنَدِ إلَيْهِ جُعِلَ الفِعْلُ ماضِيًا عَلى طَرِيقَةِ الكَلامِ الفَصِيحِ في مِثْلِهِ مِمّا أُولِيَتْ فِيهِ (إنْ) الشَّرْطِيَّةُ الِاسْمَ نَحْوَ ﴿وإنْ أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ﴾ [التوبة: ٦]، ﴿وإنِ امْرَأةٌ خافَتْ مِن بَعْلِها نُشُوزًا﴾ [النساء: ١٢٨] . قالَ الرَّضِيُّ: وحَقُّ الفِعْلِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الِاسْمِ الَّذِي يَلِي (إنْ) أنْ يَكُونَ ماضِيًا وقَدْ يَكُونُ مُضارِعًا عَلى الشُّذُوذِ وإنَّما ضَعُفَ مَجِيءُ المُضارِعِ لِحُصُولِ الفَصْلِ بَيْنَ الجازِمِ وبَيْنَ مَعْمُولِهِ.
ويَعُودُ ضَمِيرُ ”اقْتَتَلُوا“ عَلى ”طائِفَتانِ“ بِاعْتِبارِ المَعْنى لِأنَّ طائِفَةَ ذاتُ جَمْعٍ، والطّائِفَةُ الجَماعَةُ. وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ في سُورَةِ النِّساءِ.
والوَجْهُ أنْ يَكُونَ فِعْلُ ”اقْتَتَلُوا“ مُسْتَعْمَلًا في إرادَةِ الوُقُوعِ مِثْلَ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ ومِثْلَ ﴿والَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِن نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا﴾ [المجادلة: ٣]، أيْ يُرِيدُونَ العَوْدَ لِأنَّ الأمْرَ بِالإصْلاحِ بَيْنَهُما واجِبٌ قَبْلَ الشُّرُوعِ في الِاقْتِتالِ وذَلِكَ عِنْدَ ظُهُورِ بَوادِرِهِ وهو أوْلى مِنِ انْتِظارِ وُقُوعِ الِاقْتِتالِ لِيُمْكِنَ تَدارَكُ الخُطَبِ قَبْلَ وُقُوعِهِ عَلى مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنِ امْرَأةٌ خافَتْ مِن بَعْلِها نُشُوزًا أوْ إعْراضًا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحًا﴾ [النساء: ١٢٨] .
وبِذَلِكَ يَظْهَرُ وجْهُ تَفْرِيعِ قَوْلِهِ ﴿فَإنْ بَغَتْ إحْداهُما عَلى الأُخْرى﴾ عَلى جُمْلَةِ ”اقْتَتَلُوا“، أيْ فَإنِ ابْتَدَأتْ إحْدى الطّائِفَتَيْنِ قِتالَ الأُخْرى ولَمْ تَنْصَعْ إلى الإصْلاحِ فَقاتِلُوا الباغِيَةَ.
(p-٢٤٠)والبَغْيُ: الظُّلْمُ والِاعْتِداءُ عَلى حَقِّ الغَيْرِ، وهو هُنا مُسْتَعْمَلٌ في مَعْناهُ اللُّغَوِيِّ وهو غَيْرُ مَعْناهِ الفِقْهِيِّ فَـ ”الَّتِي“ تَبْغِي هي الطّائِفَةُ الظّالِمَةُ الخارِجَةُ عَنِ الحَقِّ وإنْ لَمْ تُقاتِلْ لِأنَّ بَغْيَها يَحْمِلُ الطّائِفَةَ المَبْغِيَّ عَلَيْها أنْ تُدافِعَ عَنْ حَقِّها.
وإنَّما جُعِلَ حُكْمُ قِتالِ الباغِيَةِ أنْ تَكُونَ طائِفَةً لِأنَّ الجَماعَةَ يَعْسُرُ الأخْذُ عَلى أيْدِي ظُلْمِهِمْ بِأفْرادٍ مِنَ النّاسِ وأعْوانِ الشُّرْطَةِ فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ كَفُّهم عَنِ البَغْيِ بِالجَيْشِ والسِّلاحِ.
وهَذا في التَّقاتُلِ بَيْنَ الجَماعاتِ والقَبائِلِ، فَأمّا خُرُوجُ فِئَةٍ عَنْ جَماعَةِ المُسْلِمِينَ فَهو أشَدُّ ولَيْسَ هو مَوْرِدَ هَذِهِ الآيَةِ ولَكِنَّها أصْلٌ لَهُ في التَّشْرِيعِ.
وقَدْ بَغى أهْلُ الرِّدَّةِ عَلى جَماعَةِ المُسْلِمِينَ بَغْيًا بِغَيْرِ قِتالٍ فَقاتَلَهم أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وبَغى بُغاةُ أهْلِ مِصْرَ عَلى عُثْمانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكانُوا بُغاةً عَلى جَماعَةِ المُؤْمِنِينَ، فَأبى عُثْمانُ قِتالَهم وكَرِهَ أنْ يَكُونَ سَبَبًا في إراقَةِ دِماءِ المُسْلِمِينَ اجْتِهادًا مِنهُ فَوَجَبَ عَلى المُسْلِمِينَ طاعَتُهُ لِأنَّهُ ولِيُّ الأمْرِ ولَمْ يَنْفُوا عَنِ الثُّوّارِ حُكْمَ البَغْيِ.
ويَتَحَقَّقُ وصْفُ البَغْيِ بِإخْبارِ أهْلِ العِلْمِ أنَّ الفِئَةَ بَغَتْ عَلى الأُخْرى أوْ بِحُكْمِ الخَلِيفَةِ العالِمِ العَدْلِ، وبِالخُرُوجِ عَنْ طاعَةِ الخَلِيفَةِ وعَنِ الجَماعَةِ بِالسَّيْفِ إذا أمَرَ بِغَيْرِ ظُلْمٍ ولا جَوْرٍ ولَمْ تُخْشَ مِن عِصْيانِهِ فِتْنَةٌ لِأنَّ ضُرَّ الفِتْنَةِ أشَدُّ مِن شَدِّ الجَوْرِ في غَيْرِ إضاعَةِ المَصالِحِ العامَّةِ مِن مَصالِحِ المُسْلِمِينَ، وذَلِكَ لِأنَّ الخُرُوجَ عَنْ طاعَةِ الخَلِيفَةِ بَغْيٌ عَلى الجَماعَةِ الَّذِينَ مَعَ الخَلِيفَةِ.
وقَدْ كانَ تَحْقِيقُ مَعْنى البَغْيِ وصُوَرُهُ غَيْرَ مَضْبُوطٍ في صَدْرِ الإسْلامِ وإنَّما ضَبَطَهُ العُلَماءُ بَعْدَ وقْعَةِ الجَمَلِ ولَمْ تَطُلْ ثَمَّ بَعْدَ وقْعَةِ صِفِّينَ، وقَدْ كانَ القِتالُ فِيها بَيْنَ فِئَتَيْنِ ولَمْ يَكُنِ الخارِجُونَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الَّذِينَ بايَعُوهُ بِالخِلافَةِ، بَلْ كانُوا شَرَطُوا لِمُبايَعَتِهِمْ إيّاهُ أخْذَ القَوَدِ مِن قَتَلَةِ عُثْمانَ مِنهم، فَكانَ اقْتِناعُ أصْحابِ مُعاوِيَةَ مَجالًا لِلِاجْتِهادِ بَيْنَهم وقَدْ دارَتْ بَيْنَهم كُتُبٌ فِيها حُجَجُ الفَرِيقَيْنِ ولا يُعْلَمُ الثّابِتُ مِنها والمَكْذُوبُ إذْ كانَ المُؤَرِّخُونَ أصْحابَ أهْواءٍ مُخْتَلِفَةٍ. وقالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: كانَ طَلْحَةُ والزُّبَيْرُ يَرَيانِ البَداءَةَ بِقَتْلِ قَتَلَةِ عُثْمانَ أوْلى، إلّا أنَّ العُلَماءَ حَقَّقُوا بَعْدَ ذَلِكَ أنَّ البَغْيَ في جانِبِ أصْحابِ مُعاوِيَةَ لِأنَّ البَيْعَةَ بِالخِلافَةِ لا تَقْبَلُ التَّقْيِيدَ بِشَرْطٍ.
(p-٢٤١)وقَدِ اعْتَرَفَ الجَمِيعُ بِأنَّ مُعاوِيَةَ وأصْحابَهُ كانُوا مُدافِعِينَ عَنْ نَظَرٍ اجْتِهادِيٍّ مُخْطِئٍ، وكانَ الواجِبُ يَقْضِي عَلى جَماعَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ الدُّعاءَ إلى الصُّلْحِ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ حَسَبَ أمْرِ القُرْآنِ وُجُوبَ الكِفايَةِ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ وقَعَ التَّداعِي إلَيْهِ ولَمْ يَتِمَّ لِانْتِقاضِ الحَرُورِيَّةِ عَلى أمْرِ التَّحْكِيمِ فَقالُوا: لا حُكْمَ إلّا لِلَّهِ ولا نَحْكُمُ الرِّجالَ.
وقِيلَ: كِيدَتْ مَكِيدَةٌ بَيْنَ الحَكَمَيْنِ، والأخْبارُ في ذَلِكَ مُضْطَرِبَةٌ عَلى اخْتِلافِ المُتَصَدِّينَ لِحِكايَةِ القَضِيَّةِ مِنَ المُؤَرِّخِينَ أصْحابِ الأهْواءِ. واللَّهُ أعْلَمُ بِالضَّمائِرِ.
وسُئِلَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ عَنِ القِتالِ بَيْنَ الصَّحابَةِ فَقالَ: شَهِدَ أصْحابُ مُحَمَّدٍ وغِبْنا وعَلِمُوا وجَهِلْنا. وقالَ المُحاسِبِيُّ: تَعْلَمُ أنَّ القَوْمَ كانُوا أعْلَمَ بِما دَخَلُوا فِيهِ مِنّا.
والأمْرُ في قَوْلِهِ ﴿فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي﴾ لِلْوُجُوبِ، لِأنَّ هَذا حُكْمٌ بَيْنَ الخَصْمَيْنِ والقَضاءُ بِالحَقِّ واجِبٌ لِأنَّهُ لِحِفْظِ حَقِّ المُحِقِّ، ولِأنَّ تَرْكَ قِتالِ الباغِيَةِ يَجُرُّ إلى اسْتِرْسالِها في البَغْيِ وإضاعَةِ حُقُوقِ المَبْغِيِّ عَلَيْها في الأنْفُسِ والأحْوالِ والأغْراضِ واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ، ولِأنَّ ذَلِكَ يُجَرِّئُ غَيْرَها عَلى أنْ تَأْتِيَ مِثْلَ صَنِيعِها فَمُقاتَلَتُها زَجَرٌ لِغَيْرِها. وهو وُجُوبُ كِفايَةٍ ويَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِ الإمامِ جَيْشًا يُوَجِّهُهُ لِقِتالِها إذْ لا يَجُوزُ أنْ يَلِيَ قِتالَ البُغاةِ إلّا الأئِمَّةُ والخُلَفاءُ. فَإذا اخْتَلَّ أمْرُ الإمامَةِ فَلْيَتَوَلَّ قِتالَ البُغاةِ السَّوادُ الأعْظَمُ مِنَ الأُمَّةِ وعُلَماؤُها. فَهَذا الوُجُوبُ مُطْلَقٌ في الأحْوالِ تُقَيِّدُهُ الأدِلَّةُ الدّالَّةُ عَلى عَدَمِ المَصِيرِ إلَيْهِ إذا عُلِمَ أنَّ قِتالَها يَجُرُّ إلى فِتْنَةٍ أشَدِّ مِن بَغْيِها.
وقَدْ تَلْتَبِسُ الباغِيَةُ مِنَ الطّائِفَتَيْنِ المُتَقاتِلَتَيْنِ فَإنَّ أسْبابَ التَّقاتُلِ قَدْ تَتَوَلَّدُ مِن أُمُورٍ لا يُؤْبَهُ بِها في أوَّلِ الأمْرِ ثُمَّ تَثُورُ الثّائِرَةُ ويَتَجالَدُ الفَرِيقانِ فَلا يُضْبَطُ أمْرُ الباغِي مِنهُما، فالإصْلاحُ بَيْنَهُما يُزِيلُ اللَّبْسَ فَإنِ امْتَنَعَتْ إحْداهُما تَعَيَّنَ البَغْيُ في جانِبِها لِأنَّ لِلْإمامِ والقاضِي أنْ يُجْبِرَ عَلى الصُّلْحِ إذا خَشِيَ الفِتْنَةَ ورَأى بَوارِقَها، وذَلِكَ بَعْدَ أنْ تَبَيَّنَ لِكِلْتا الطّائِفَتَيْنِ شُبْهَتُها إنْ كانَتْ لَها شُبْهَةٌ وتُزالُ بِالحُجَّةِ الواضِحَةِ والبَراهِينِ القاطِعَةِ ومَن يَأْبَ مِنهُما فَهو أعَقُّ وأظْلَمُ.
(p-٢٤٢)وجَعَلَ الفَيْءَ إلى أمْرِ اللَّهِ غايَةً لِلْمُقاتِلَةِ، أيْ يَسْتَمِرُّ قِتالُ الطّائِفَةِ الباغِيَةِ إلى غايَةِ رُجُوعِها إلى أمْرِ اللَّهِ، وأمْرُ اللَّهِ هو ما في الشَّرِيعَةِ مِنَ العَدْلِ والكَفِّ عَنِ الظُّلْمِ، أيْ حَتّى تُقْلِعَ عَنْ بَغْيِها. وأُتْبِعَ مَفْهُومُ الغايَةِ بِبَيانِ ما تُعامَلُ بِهِ الطّائِفَتانِ بَعْدَ أنْ تَفِيءَ الباغِيَةُ بِقَوْلِهِ ﴿فَإنْ فاءَتْ فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالعَدْلِ﴾، والباءُ لِلْمُلابَسَةِ والمَجْرُورُ حالٌ مِن ضَمِيرِ ”أصْلِحُوا“ .
والعَدْلُ: هو ما يَقَعُ التَّصالُحُ عَلَيْهِ بِالتَّراضِي والإنْصافِ وأنْ لا يَضُرَّ بِإحْدى الطّائِفَتَيْنِ فَإنَّ المَتالِفَ الَّتِي تَلْحَقُ كِلْتا الطّائِفَتَيْنِ قَدْ تَتَفاوَتُ تَفاوُتًا شَدِيدًا فَتَجِبُ مُراعاةُ التَّعْدِيلِ.
وقَيَّدَ الإصْلاحَ المَأْمُورَ بِهِ ثانِيًا بِقَيْدِ أنْ تَفِيءَ الباغِيَةُ بِقَيْدِ ”بِالعَدْلِ“ ولَمْ يُقَيِّدِ الإصْلاحَ المَأْمُورَ بِهِ، وهَذا القَيْدُ يُقَيَّدُ بِهِ أيْضًا الإصْلاحُ المَأْمُورُ بِهِ أوَّلًا لِأنَّ القَيْدَ مِن شَأْنِهِ أنْ يَعُودَ إلَيْهِ لِاتِّحادِ سَبَبِ المُطْلَقِ والمُقَيَّدِ، أيْ يَجِبُ العَدْلُ في صُورَةِ الإصْلاحِ فَلا يُضَيِّعُوا بِصُورَةِ الصُّلْحِ مَنافِعَ عَنْ كِلا الفَرِيقَيْنِ إلّا بِقَدْرِ ما تَقْتَضِيهِ حَقِيقَةُ الصُّلْحِ مِن نُزُولٍ عَنْ بَعْضِ الحَقِّ بِالمَعْرُوفِ.
ثُمَّ أمَرَ المُسْلِمِينَ بِالعَدْلِ بِقَوْلِهِ: ”وأقْسِطُوا“ أمْرًا عامًّا تَذْيِيلًا لِلْأمْرِ بِالعَدْلِ الخاصِّ في الصُّلْحِ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ، فَشَمِلَ ذَلِكَ هَذا الأمْرَ العامَّ أنْ يَعْدِلُوا في صُورَةِ ما إذا قاتَلُوا الَّتِي تَبْغِي، ثُمَّ قالَ فَإنْ فاءَتْ فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما. وهَذا إصْلاحٌ ثانٍ بَعْدِ الإصْلاحِ المَأْمُورِ بِهِ ابْتِداءً. ومَعْناهُ: أنَّ الفِئَةَ الَّتِي خَضَعَتْ لِلْقُوَّةِ وألْقَتِ السِّلاحَ تَكُونُ مَكْسُورَةَ الخاطِرِ شاعِرَةً بِانْتِصارِ الفِئَةِ الأُخْرى عَلَيْها فَأوْجَبَ عَلى المُسْلِمِينَ أنْ يُصْلِحُوا بَيْنَهُما بِتَرْغِيبِهِما في إزالَةِ الإحَنِ والرُّجُوعِ إلى أُخُوَّةِ الإسْلامِ لِئَلّا يَعُودَ التَّنَكُّرُ بَيْنَهُما.
قالَ أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ: ومِنَ العَدْلِ في صُلْحِهِمْ أنْ لا يُطالَبُوا بِما جَرى بَيْنَهم مُدَّةَ القِتالِ مِن دَمٍ ولا مالٍ فَإنَّهُ تَلَفٌ عَلى تَأْوِيلٍ، وفي طَلَبِهِمْ بِهِ تَنْفِيرٌ لَهم عَنِ الصُّلْحِ واسْتِشْراءٌ في البَغْيِ وهَذا أصْلٌ في المَصْلَحَةِ اهـ.
ثُمَّ قالَ: لا ضَمانَ عَلَيْهِمْ في نَفْسٍ ولا مالَ عِنْدَنا (المالِكِيَّةُ) . وقالَ أبُو حَنِيفَةَ يَضْمَنُونَ. ولِلشّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلانِ: فَأمّا ما كانَ قائِمًا رُدَّ بِعَيْنِهِ. وانْظُرْ هَلْ يَنْطَبِقُ (p-٢٤٣)كَلامُ ابْنُ العَرَبِيِّ عَلى نَوْعَيِ الباغِيَةِ أوْ هو خاصٌّ بِالباغِيَةِ عَلى الخَلِيفَةِ وهو الأظْهَرُ.
فَأمّا حُكْمُ تَصَرُّفِ الجَيْشِ المُقاتِلِ لِلْبُغاةِ فَكَأحْوالِ الجِهادِ إلّا أنَّهُ لا يُقْتَلُ أسِيرُهم ولا يُتَّبَعُ مُدَبَّرَهم ولا يُذَفَّفُ عَلى جَرِيحِهِمْ ولا تُسْبى ذَرارِيَّهم ولا تُغْنَمُ أمْوالُهم ولا تُسْتَرَقُّ أسْراهم.
ولِلْفُقَهاءِ تَفاصِيلُ في أحْوالِ جَبْرِ الأضْرارِ اللّاحِقَةِ بِالفِئَةِ المُعْتَدى عَلَيْها والأضْرارِ اللّاحِقَةِ بِالجَماعَةِ الَّتِي تَتَوَلّى قِتالَ البُغاةِ فَيَنْبَغِي أنْ يُؤْخَذَ مِن مَجْمُوعِ أقْوالِهِمْ ما يَرى أُولُو الأمْرِ المَصْلَحَةَ في الحَمْلِ عَلَيْها جَرْيًا عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ .
{"ayah":"وَإِن طَاۤىِٕفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱقۡتَتَلُوا۟ فَأَصۡلِحُوا۟ بَیۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَـٰتِلُوا۟ ٱلَّتِی تَبۡغِی حَتَّىٰ تَفِیۤءَ إِلَىٰۤ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَاۤءَتۡ فَأَصۡلِحُوا۟ بَیۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوۤا۟ۖ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق