(وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) قرأ الجمهور بالجمع باعتبار كل فرد من أفراد الطائفتين كقوله: (هذان خصمان اختصموا) وقال النسفي: حملاً على المعنى، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس وثنى في قوله: (فأصلحوا بينهما) نظراً إلى اللفظ.
عن أنس قال: " قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله ابن أبيّ فانطلق إليه وركب حماراً، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليه قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني ريح حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه، فغضب لكل منهما أصحابه، وكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فنزلت (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) " الآية [[رواه البخاري.]] أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
وقد روي نحو هذا من وجوه أخر، قال ابن عباس كان قتال بالنعال والعصي، فأمرهم أن يصلحوا بينهما وعن عائشة قالت: ما رأيت مثل ما رغبت عنه هذه الأمة في هذه الآية، وقيل المراد من الطائفتين الأوس والخزرج.
(فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) البغي التعدي بغير حق، والامتناع من الصلح الموافق للصواب، والاستطالة والظلم، والفيء الرجوع، وقد سمي به الظل والغنيمة، لأن الظل يرجع بعد نسخ الشمس، والغنيمة ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين، والمعنى أنه إذا تقاتل فريقان من المسلمين، فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم، ويدعوهم إلى حكم الله. فإن حصل بعد ذلك التعدي من إحدى الطائفتين على الأخرى، ولم تقبل الصلح ولا دخلت فيه، ولم تتأثر بالنصيحة وأبت الإجابة إلى حكم الله تعالى، كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى أمر الله وحكمه وكتابه، وقيل: إلى طاعته في الصلح الذي أمر به، وحتى للغاية، وقيل بمعنى كي، فتكون للتعليل، والأول كما قال بعضهم هو الظاهر المناسب لسياق الآية.
عن ابن عباس في الآية قال: " إن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفة من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله، وينصف بعضهم عن بعض، فإذا أجابوا حكم فيهم بكتاب الله حتى ينصف المظلوم، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ، وحق على الإمام أن يقاتلهم حتى يفيئوا إلى أمر الله، ويقروا بحكم الله "، وعن ابن عمر قال ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت في نفسي من هذه الآية أني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله. والحاصل أن حكم الفئة الباغية وجوب قتالها ما قاتلت، فإذا كفت وقبضت عن الحرب أيديها تركت، والمراد بأمر الله الصلح وزوال الشحناء.
(فإن فاءت) أي فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها إلى الحق، وأجابت الدعوات إلى كتاب الله وحكمه والرضا بما فيه (فأصلحوا بينهما بالعدل) أي بالنصح والدعاء إلى حكم الله، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر، يعني فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله. ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم. وتؤدي ما يجب عليها للأخرى. ثم أمر الله سبحانه المسلمين أن يعدلوا في كل أمورهم بعد أمرهم بهذا العدل الخاص بالطائفتين المتقاتلين فقال:
(وأقسطوا) أي: اعدلوا وهو أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين والقسط الجور، والقسط العدل، والفعل منه أقسط الرباعي وهمزته للسلب أي أزال القسط، وهو الجور بخلاف قسط الثلاثي فمعناه الجور، يقال: قسط الرجل إذا جار، وأقسط إذا عدل، وهذا هو المشمهور خلافاً للزجاج في جعلهما سواء (إن الله يحب المقسطين) أي: العادلين، ومحبته لهم تستلزم مجازاتهم بأحسن الجزاء.
وجملة
{"ayah":"وَإِن طَاۤىِٕفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱقۡتَتَلُوا۟ فَأَصۡلِحُوا۟ بَیۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَـٰتِلُوا۟ ٱلَّتِی تَبۡغِی حَتَّىٰ تَفِیۤءَ إِلَىٰۤ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَاۤءَتۡ فَأَصۡلِحُوا۟ بَیۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوۤا۟ۖ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِینَ"}