الباحث القرآني

﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإنْ بَغَتْ إحْداهُما عَلى الأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللَّهِ فَإنْ فاءَتْ فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالعَدْلِ وأقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ﴾ ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكم واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكم تُرْحَمُونَ﴾ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِن قَوْمٍ عَسى أنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنهم ولا نِساءٌ مِن نِساءٍ عَسى أنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أنْفُسَكم ولا تَنابَزُوا بِالألْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمانِ ومَن لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ ولا تَجَسَّسُوا ولا يَغْتَبْ بَعْضُكم بَعْضًا أيُحِبُّ أحَدُكم أنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ﴾ . سَبَبُ نُزُولِها ما جَرى بَيْنَ الأوْسِ والخَزْرَجِ حِينَ أساءَ الأدَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وهو مُتَوَجِّهٌ إلى زِيارَةِ سَعْدِ بْنِ عُبادَةَ في مَوْضِعِهِ، وتَعَصَّبَ بَعْضُهم لِعَبْدِ اللَّهِ، ورَدَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَواحَةَ عَلى ابْنِ أُبَيٍّ، فَتَجالَدَ الحَيّانِ، قِيلَ: بِالحَدِيدِ، وقِيلَ: بِالجَرِيدِ والنِّعالِ والأيْدِي، فَنَزَلَتْ، فَقَرَأها عَلَيْهِمْ، (p-١١٢)فاصْطَلَحُوا. وقالَ السُّدِّيُّ: وكانَتْ بِالمَدِينَةِ امْرَأةٌ مِنَ الأنْصارِ يُقالُ لَها أمُّ بَدْرٍ، وكانَ لَها زَوْجٌ مِن غَيْرِهِمْ، فَوَقَعَ بَيْنَهم شَيْءٌ أوْجَبَ أنْ يَأْنَفَ لَها قَوْمُها ولَهُ قَوْمُهُ، فَوَقَعَ قِتالٌ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ بِسَبَبِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿اقْتَتَلُوا﴾ جَمْعًا، حَمْلًا عَلى المَعْنى، لِأنَّ الطّائِفَتَيْنِ في مَعْنى القَوْمِ والنّاسِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: اقْتَتَلَتا. عَلى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: اقْتَتَلَتا. عَلى التَّثْنِيَةِ، مُراعًى بِالطّائِفَتَيْنِ. الفَرِيقانِ اقْتَتَلُوا، وكُلُّ واحِدٍ مِنَ الطّائِفَتَيْنِ باغٍ، فالواجِبُ السَّعْيُ بَيْنَهُما بِالصُّلْحِ، فَإنْ لَمْ تَصْطَلِحا وأقامَتا عَلى البَغْيِ قُوتِلَتا، أوْ لِشُبْهَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِما، وكُلٌّ مِنهُما يَعْتَقِدُ أنَّهُ عَلى الحَقِّ، فالواجِبُ إزالَةُ الشُّبَهِ بِالحُجَجِ النَّيِّرَةِ والبَراهِينِ القاطِعَةِ، فَإنْ لَجّا، فَكالباغِيَتَيْنِ، ﴿فَإنْ بَغَتْ إحْداهُما﴾، فالواجِبُ أنْ تُقاتَلَ حَتّى تَكُفَّ عَنِ البَغْيِ. ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ مِن أحْكامِ الَّتِي تَبْغِي لِشَيْءٍ إلّا لِقِتالِها، وإلى الإصْلاحِ إنْ فاءَتْ. والبَغْيُ هُنا: طَلَبُ العُلُوِّ بِغَيْرِ الحَقِّ، والأمْرُ في فَأصْلِحُوا وقاتِلُوا هو لِمَن لَهُ الأمْرُ مِنَ المُلُوكِ ووُلاتِهِمْ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿حَتّى تَفِيءَ﴾، مُضارِعَ فاءَ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، والزُّهْرِيُّ: حَتّى تَفِيَ، بِغَيْرِ هَمْزَةٍ وفَتْحِ الياءِ، وهَذا شاذٌّ، كَما قالُوا في مُضارِعِ جاءَ يَجِي بِغَيْرِ هَمْزٍ، فَإذا أدْخَلُوا النّاصِبَ فَتَحُوا الياءَ أجْرَوْهُ مُجْرى يَفِي مُضارِعِ وفى شُذُوذًا. ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُمْ﴾: أيْ إخْوَةٌ في الدِّينِ. وفي الحَدِيثِ: «المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُهُ» . وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿بَيْنَ أخَوَيْكُمْ﴾ مُثَنّى، لِأنَّ أقَلَّ مَن يَقَعُ بَيْنَهُمُ الشِّقاقُ اثْنانِ، فَإذا كانَ الإصْلاحُ لازِمًا بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَهو ألْزَمُ بَيْنَ أكْثَرِ مِنِ اثْنَيْنِ. وقِيلَ: المُرادُ بِالأخَوَيْنِ: الأوْسُ والخَزْرَجُ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، والحَسَنُ: بِخِلافٍ عَنْهُ، والجَحْدَرِيُّ، وثابِتٌ البُنانِيُّ، وحَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وابْنُ سِيرِينَ: بَيْنَ إخْوانِكم جَمْعًا، بِالألِفِ والنُّونِ، والحَسَنُ أيْضًا، وابْنُ عامِرٍ في رِوايَةٍ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، ويَعْقُوبُ: بَيْنَ إخْوَتِكم جَمْعًا، عَلى وزْنِ غِلْمَةٍ. ورَوى عَبْدُ الوَهّابِ عَنْ أبِي عَمْرٍو القِراءاتِ الثَّلاثَ، ويَغْلِبُ الإخْوانُ في الصَّداقَةِ، والإخْوَةُ في النَّسَبِ، وقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلٌّ مِنهُما مَكانَ الآخَرِ، ومِنهُ ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ﴾، وقَوْلُهُ: ﴿أوْ بُيُوتِ إخْوانِكُمْ﴾ [النور: ٦١] . ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِن قَوْمٍ﴾: هَذِهِ الآيَةُ والَّتِي بَعْدَها تَأْدِيبٌ لِلْأُمَّةِ، لِما كانَ فِيهِ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ مِن هَذِهِ الأوْصافِ الذَّمِيمَةِ الَّتِي وقَعَ النَّهْيُ عَنْها. وقِيلَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ عِكْرِمَةَ بْنِ أبِي جَهْلٍ، كانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وقَدْ أسْلَمَ، فَقالَ لَهُ قَوْمٌ: هَذا ابْنُ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الأُمَّةِ، فَعَزَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وشَكاهم، فَنَزَلَتْ. وقَوْمٌ مُرادِفُ رِجالٍ، كَما قالَ تَعالى: ﴿الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلى النِّساءِ﴾ [النساء: ٣٤]، ولِذَلِكَ قابَلَهُ هُنا بِقَوْلِهِ: ﴿ولا نِساءٌ مِن نِساءٍ﴾، وفي قَوْلِ زُهَيْرٍ: ؎وما أدْرِي وسَوْفَ إخالُ أدْرِي أقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نِساءُ وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهو في الأصْلِ جَمْعُ قائِمٍ، كَصُوَّمٍ وزُوَّرٍ في جَمْعٍ صائِمٍ وزائِرٍ. انْتَهى ولَيْسَ فُعَّلٌ مِن أبْنِيَةِ الجُمُوعِ إلّا عَلى مَذْهَبِ أبِي الحَسَنِ في قَوْلِهِ: إنَّ رُكَّبًا جَمْعُ راكِبٍ. وقالَ أيْضًا الزَّمَخْشَرِيُّ: وأمّا قَوْلُهم في قَوْمِ فِرْعَوْنَ وقَوْمِ عادٍ: هُمُ الذُّكُورُ والإناثُ، فَلَيْسَ لَفْظُ القَوْمِ بِمُتَعاطٍ لِلْفَرِيقَيْنِ، ولَكِنَّ قَصْدَ ذِكْرِ الذُّكُورِ وتَرْكَ ذِكْرِ الإناثِ لِأنَّهُنَّ تَوابِعٌ لِرِجالِهِنَّ. انْتَهى. وغَيْرُهُ يَجْعَلُهُ مِن بابِ التَّغْلِيبِ والنَّهْيِ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِانْصِبابِهِ عَلى قَوْمٍ ونِساءٍ بِقَيْدِ الجَمْعِيَّةِ مِن حَيْثُ المَعْنى، وإنْ كانَ ظاهِرُ اللَّفْظِ ذَلِكَ، بَلِ المَعْنى: لا يَسْخَرْ أحَدٌ مِن أحَدٍ، وإنَّما ذَكَرَ الجَمْعَ، والمُرادُ بِهِ كُلُّ فَرْدٍ مِمَّنْ يَتَناوَلُهُ عُمُومُ البَدَلِ. فَكَأنَّهُ إذا سَخِرَ الواحِدُ، كانَ بِمَجْلِسِهِ ناسٌ يَضْحَكُونَ عَلى قَوْلِهِ، أوْ بَلَغَتْ سُخْرِيَّتُهُ ناسًا فَضَحِكُوا، فَيَنْقَلِبُ الحالُ إلى جَماعَةٍ. ﴿عَسى أنْ يَكُونُوا﴾: أيِ المَسْخُورُ مِنهم ﴿خَيْرًا مِنهُمْ﴾: أيْ مِنَ السّاخِرِينَ بِهِمْ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، ورَدَتْ مَوْرِدَ جَوابِ المُسْتَخْبِرِ عَنِ العِلَّةِ المُوجِبَةِ لِما جاءَ النَّهْيُ عَنْهُ، أيْ رُبَّما يَكُونُ المَسْخُورُ مِنهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا مِنَ السّاخِرِ، لِأنَّ العِلْمَ بِخَفِيّاتِ الأُمُورِ إنَّما هو لِلَّهِ تَعالى. وعَنِ ابْنِ (p-١١٣)مَسْعُودٍ: لَوْ سَخِرْتُ مِن كَلْبٍ، خَشِيتُ أنْ أُحَوَّلَ كَلْبًا. ﴿ولا نِساءٌ مِن نِساءٍ﴾: رُوِيَ أنَّ عائِشَةَ وحَفْصَةَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، رَأتا أُمَّ سَلَمَةَ رَبَطَتْ حَقْوَيْها بِثَوْبٍ أبْيَضَ وسَدَلَتْ طَرَفَهُ خَلْفَها، فَقالَتْ عائِشَةُ لِحَفْصَةَ: انْظُرِي إلى ما يُجَرُّ خَلْفَها، كَأنَّهُ لِسانُ كَلْبٍ. وعَنْ عائِشَةَ، أنَّها كانَتْ تَسْخَرُ مِن زَيْنَبَ بِنْتِ خُزَيْمَةَ الهِلالِيَّةِ، وكانَتْ قَصِيرَةً. وعَنْ أنَسٍ: كانَ نِساءُ النَّبِيِّ ﷺ يُعَيِّرْنَ أُمَّ سَلَمَةَ بِالقِصَرِ. وقالَتْ صَفِيَّةُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: يُعَيِّرْنَنِي ويَقُلْنَ يا يَهُودِيَّةَ بِنْتَ يَهُودِيَّيْنِ، فَقالَ لَها: هَلّا قُلْتِ إنَّ أبِي هارُونُ، وإنَّ عَمِّي مُوسى، وإنَّ زَوْجِي مُحَمَّدٌ ؟ وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ وأُبَيٌّ: عَسَوْا أنْ يَكُونُوا، وعَسَيْنَ أنْ يَكُنَّ، فَعَسى ناقِصَةٌ، والجُمْهُورُ: عَسى فِيهِما تامَّةٌ، وهي لُغَتانِ: الإضْمارُ لُغَةُ تَمِيمٍ، وتَرْكُهُ لُغَةُ الحِجازِ. ﴿ولا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ﴾: ضَمَّ المِيمَ في: تَلْمِزُوا. الحَسَنُ والأعْرَجُ وعُبَيْدٌ عَنْ أبِي عَمْرٍو. وقالَ أبُو عَمْرٍو: هي عَرَبِيَّةٌ، والجُمْهُورُ بِالكَسْرِ، واللَّمْزُ بِالقَوْلِ والإشارَةِ ونَحْوِهِ مِمّا يَفْهَمُهُ آخَرُ، والهَمْزُ لا يَكُونُ إلّا بِاللِّسانِ، والمَعْنى: لا يَعِبْ بَعْضُكم بَعْضًا، كَما قالَ: فاقْتُلُوا أنْفُسَكم، كَأنَّ المُؤْمِنِينَ نَفْسٌ واحِدَةٌ، إذْ هم إخْوَةٌ كالبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وكالجَسَدِ إذا اشْتَكى مِنهُ عُضْوٌ تَداعى سائِرُهُ بِالسَّهَرِ والحُمّى. ومَفْهُومُ أنْفُسِكم أنَّ لَهُ أنْ يَعِيبَ غَيْرَهُ، مِمّا لا يَدِينُ بِدِينِهِ. فَفي الحَدِيثِ: «اذْكُرُوا الفاجِرَ بِما فِيهِ كَيْ يُحَذِّرَهُ النّاسُ» . وقِيلَ: المَعْنى لا تَفْعَلُوا ما تَلْمِزُونَ بِهِ، لِأنَّ مَن فَعَلَ ما اسْتَحَقَّ اللَّمْزَ، فَقَدَ لَمَزَ نَفْسَهُ. ﴿ولا تَنابَزُوا بِالألْقابِ﴾: اللَّقَبُ إنْ دَلَّ عَلى ما يَكْرَهُهُ المَدْعُوُّ بِهِ، كانَ مَنهِيًّا، وأمّا إذا كانَ حَسَنًا، فَلا يُنْهى عَنْهُ. وما زالَتِ الألْقابُ الحَسَنَةُ في الأُمَمِ كُلِّها مِنَ العَرَبِ والعَجَمِ تَجْرِي في مُخاطَباتِهِمْ ومُكاتَباتِهِمْ مِن غَيْرِ نَكِيرٍ. ورُوِيَ أنَّ بَنِي سَلَمَةَ كانُوا قَدْ كَثُرَتْ فِيهِمُ الألْقابُ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وفي الحَدِيثِ: «كَنُّوا أوْلادَكم» . قالَ عَطاءٌ: مَخافَةَ الألْقابِ. وعَنْ عُمَرَ: ”أشِيعُوا الكُنى فَإنَّها سُنَّةٌ“ . انْتَهى، ولا سِيَّما إذا كانَتِ الكُنْيَةُ غَرِيبَةً، لا يَكادُ يَشْتَرِكُ فِيها أحَدٌ مَعَ مَن تَكَنّى بِها في عَصْرِهِ، فَإنَّهُ يَطِيرُ بِها ذِكْرُهُ في الآفاقِ، وتَتَهادى أخْبارَهُ الرِّفاقُ، كَما جَرى في كُنْيَتِي بِأبِي حَيّانَ، واسْمِي مُحَمَّدٌ. فَلَوْ كانَتْ كُنْيَتِي أبا عَبْدِ اللَّهِ أوْ أبا بَكْرٍ، مِمّا يَقَعُ فِيهِ الِاشْتِراكُ، لَمْ أشْتَهِرْ تِلْكَ الشُّهْرَةَ، وأهْلُ بِلادِنا جَزِيرَةِ الأنْدَلُسِ كَثِيرًا ما يُلَقَّبُونَ الألْقابَ، حَتّى قالَ فِيهِمْ أبُو مَرْوانَ الطُّنْبِيُّ: ؎يا أهْلَ أنْدَلُسَ ما عِنْدَكم أدَبٌ ∗∗∗ بِالمَشْرِقِ الأدَبُ النَّفّاحُ بِالطِّيبِ ؎يُدْعى الشَّبابُ شُيُوخًا في مَجالِسِهِمْ ∗∗∗ والشَّيْخُ عِنْدَكم يُدْعى بِتَلْقِيبِ فَمِن عُلَماءِ بِلادِنا وصالِحِيهِمْ مَن يُدْعى الواعِي وبِاللِّصِّ وبِوَجْهٍ نافِخٍ، وكُلُّ هَذا يَحْرُمُ تَعاطِيهِ. قِيلَ: ولَيْسَ مِن هَذا قَوْلُ المُحَدِّثَيْنِ سُلَيْمانَ الأعْمَشِ وواصِلٍ الأحْدَبِ، ونَحْوُهُ مِمّا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَيْهِ، ولَيْسَ فِيهِ قَصْدُ اسْتِخْفافٍ ولا أذًى. قالُوا: وقَدْ قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِعَلْقَمَةَ: وتَقُولُ أنْتَ ذَلِكَ يا أعْوَرُ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: أيْ لا يَقُولُ أحَدٌ لِأحَدٍ يا يَهُودِيُّ بَعْدَ إسْلامِهِ، ولا يا فاسِقُ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، ونَحْوُ ذَلِكَ. وتَلاحى ابْنُ أبِي حَدْرَدٍ وكَعْبُ بْنُ مالِكٍ، فَقالَ لَهُ مالِكٌ: يا أعْرابِيُّ، يُرِيدُ أنْ يُبْعِدَهُ مِنَ الهِجْرَةِ، فَقالَ لَهُ الآخَرُ: يا يَهُودِيُّ، يُرِيدُ المُخاطَبَةَ لِلْيَهُودِ في يَثْرِبَ. ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمانِ﴾: أيْ بِئْسَ اسْمٌ تَنْسُبُونَهُ بِعِصْيانِكم نَبْزُكم بِالألْقابِ، فَتَكُونُونَ فُسّاقًا بِالمَعْصِيَةِ بَعْدَ إيمانِكم، أوْ بِئْسَ ما يَقُولُهُ الرَّجُلُ لِأخِيهِ يا فاسِقُ بَعْدَ إيمانِهِ. وقالَ الرُّمّانِيُّ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَجْتَمِعُ الفُسُوقُ والإيمانُ. انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ نَحْوَ قَوْلِ الرُّمّانِيِّ، قالَ: اسْتِقْباحُ الجَمْعِ بَعْدَ الإيمانِ، والفِسْقِ الَّذِي يَأْباهُ الإيمانُ، وهَذِهِ نَزْعَةٌ اعْتِزالِيَّةٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الِاسْمُ هَهُنا بِمَعْنى الذِّكْرِ مِن قَوْلِهِمْ: طارَ اسْمُهُ في النّاسِ بِالكَرَمِ أوْ بِاللَّوْمِ، كَما يُقالُ: طارَ ثَناؤُهُ وصِيتُهُ وحَقِيقَةُ ما سُمِّيَ مِن ذِكْرِهِ وارْتَفَعَ بَيْنَ النّاسِ، كَأنَّهُ قِيلَ: بِئْسَ الذِّكْرُ المُرْتَفِعُ (p-١١٤)لِلْمُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ ارْتِكابِ هَذِهِ الجَرائِمِ أنْ تُذْكَرُوا بِالفِسْقِ. ﴿ومَن لَمْ يَتُبْ﴾: أيْ عَنْ هَذِهِ الأشْياءِ ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾: تَشْدِيدٌ وحُكْمٌ بِظُلْمِ مَن لَمْ يَتُبْ. ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾: أيْ لا تَعْمَلُوا عَلى حَسَبِهِ، وأمَرَ تَعالى بِاجْتِنابِهِ، لِئَلّا يَجْتَرِئَ أحَدٌ عَلى ظَنٍّ إلّا بَعْدَ نَظَرٍ وتَأمُّلٍ وتَمْيِيزٍ بَيْنَ حَقِّهِ وباطِلِهِ. والمَأْمُورُ بِاجْتِنابِهِ هو بَعْضُ الظَّنِّ المَحْكُومِ عَلَيْهِ بِأنَّهُ إثْمٌ، وتَمْيِيزُ المُجْتَنِبِ مِن غَيْرِهِ أنَّهُ لا يُعْرَفُ لَهُ أمارَةٌ صَحِيحَةٌ وسَبَبٌ ظاهِرٌ، كَمَن يَتَعاطى الرَّيْبَ والمُجاهَرَةَ بِالخَبائِثِ، كالدُّخُولِ والخُرُوجِ إلى حاناتِ الخَمْرِ، وصُحْبَةِ نِساءِ المَغانِي، وإدْمانِ النَّظَرِ إلى المُرْدِ. فَمِثْلُ هَذا يُقَوِّي الظَّنَّ فِيهِ أنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِ الصَّلاحِ، ولا إثْمَ فِيهِ، وإنْ كُنّا لا نَراهُ يَشْرَبُ الخَمْرَ، ولا يَزْنِي، ولا يَعْبَثُ بِالشُّبّانِ، بِخِلافِ مَن ظاهِرُهُ الصَّلاحُ فَلا يُظَنُّ بِهِ السُّوءُ. فَهَذا هو المَنهِيُّ عَنْهُ، ويَجِبُ أنْ يُزِيلَهُ. والإثْمُ: الذَّنْبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صاحِبُهُ العِقابَ. وقالالزَّمَخْشَرِيُّ: والهَمْزَةُ فِيهِ بَدَلٌ عَنِ الواوِ، كَأنَّهُ يَثِمُ الأعْمالَ، أيْ يَكْسِرُها بِإحْباطِهِ، وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ تَصْرِيفَ هَذِهِ الكَلِمَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ الهَمْزُ. تَقُولُ: أثِمَ يَأْثَمُ فَهو آثِمٌ، والإثْمُ والآثامُ، فالهَمْزَةُ أصْلٌ ولَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ واوٍ. وأمّا يَثِمُ فَأصْلُهُ يَوْثِمُ، وهو مِن مادَّةٍ أُخْرى. وقِيلَ: الإثْمُ مُتَعَلِّقٌ بِتَكَلُّمِ الظّانِّ. أمّا إذا لَمْ يَتَكَلَّمْ، فَهو في فُسْحَةٍ، لِأنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى رَفْعِ الخَواطِرِ الَّتِي يُبِيحُها قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «الحَزْمُ سُوءُ الظَّنِّ» . وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ولا تَجَسَّسُوا﴾ بِالجِيمِ. وقَرَأ الحَسَنُ وأبُو رَجاءٍ وابْنُ سِيرِينَ بِالحاءِ وهُما مُتَقارِبانِ، نَهْيٌ عَنْ تَتَبُّعِ عَوْراتِ المُسْلِمِينَ ومَعايِبِهِمْ والِاسْتِكْشافِ عَمّا سَتَرُوهُ. وقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ لَكَ في فُلانٍ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا ؟ فَقالَ: إنّا قَدْ نُهِينا عَنِ التَّجَسُّسِ، فَإنْ ظَهَرَ لَنا شَيْءٌ أخَذْنا بِهِ. وفي الحَدِيثِ: «أنَّ الأمِيرَ إذا ابْتَغى الرِّيبَةَ في النّاسِ أفْسَدَهم»، وقَدْ وقَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ في حِراسَتِهِ عَلى مَن كانَ في ظاهِرِهِ رِيبَةٌ، وكانَ دَخَلَ عَلَيْهِ هَجْمًا، فَلَمّا ذُكِرَ لَهُ نَهْيُ اللَّهِ تَعالى عَنِ التَّجَسُّسِ، انْصَرَفَ عُمَرُ. ﴿ولا يَغْتَبْ بَعْضُكم بَعْضًا﴾، يُقالُ: غابَهُ واغْتابَهُ، كَغالَهُ واغْتالَهُ، والغِيبَةُ مِنَ الِاغْتِيابِ، كالغِيلَةِ مِنَ الِاغْتِيالِ، وهي ذِكْرُ الرَّجُلِ بِما يَكْرَهُ مِمّا هو فِيهِ. وفي الحَدِيثِ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ما الغِيبَةُ فَقالَ: أنْ تَذْكُرَ مِنَ المَرْءِ ما يَكْرَهُ أنْ يَسْمَعَ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ وإنْ كانَ حَقًّا ؟ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إذا قُلْتَ باطِلًا فَذَلِكَ البُهْتانُ»، وفي الصَّحِيحَيْنِ فَقَدْ بَهَتَّهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الغِيبَةُ إدامُ كِلابِ النّاسِ. وقالَتْ عائِشَةُ عَنِ امْرَأةٍ: ما رَأيْتُ أجْمَلَ مِنها، إلّا أنَّها قَصِيرَةٌ، فَقالَ لَها النَّبِيُّ ﷺ: «اغْتَبْتِيها، نَظَرْتِ إلى أسْوَأ ما فِيها فَذَكَرْتِيهِ» . وحَكى الزَّهْراوِيُّ عَنْ جابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «الغِيبَةُ أشَدُّ مِنَ الزِّنا، لِأنَّ الزّانِيَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ، والَّذِي يَغْتابُ فَلا يُتابُ عَلَيْهِ حَتّى يَسْتَحِلَّ، وعِرْضُ المُسْلِمِ مِثْلُ دَمِهِ في التَّحْرِيمِ» . وفي الحَدِيثِ المُسْتَفِيضِ: «فَإنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكم دِماءَكم وأمْوالَكم وأعْراضَكم» . ولا يُباحُ مِن هَذا المَعْنى إلّا ما تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَيْهِ، مِن تَجْرِيحِ الشُّهُودِ والرُّواةِ والخُطّابِ إذا اسْتَنْصَحَ مَن يُخْطَبُ إلَيْهِ مَن يَعْرِفُهم، والعَرَبُ تُشَبِّهُ الغِيبَةَ بِأكْلِ اللَّحْمِ، ومِنهُ: ؎وإنْ أكَلُوا لَحْمِي وفَّرْتُ لُحُومَهُمْ ﴿أيُحِبُّ أحَدُكُمْ﴾، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَمْثِيلٌ وتَصْوِيرٌ لِما يَنالُهُ المُغْتابُ مِن عِرْضِ المُغْتابِ عَلى أفْظَعِ وجْهٍ وأفْحَشِهِ، وفِيهِ مُبالَغاتٌ شَتّى، مِنها: الِاسْتِفْهامُ الَّذِي مَعْناهُ التَّقْرِيرُ، ومِنها: جَعْلُ ما هو في الغايَةِ مِنَ الكَراهَةِ مَوْصُولًا بِالمَحَبَّةِ، ومِنها: إسْنادُ الفِعْلِ إلى أحَدِكم والإشْعارُ بِأنَّ أحَدًا مِنَ الأحَدَيْنِ لا يُحِبُّ ذَلِكَ، ومِنها: أنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلى تَمْثِيلِ الِاغْتِيابِ بِأكْلِ لَحْمِ الإنْسانِ حَتّى جَعَلَ الإنْسانَ أخًا، ومِنها: أنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلى أكْلِ لَحْمِ الأخِ حَتّى جَعَلَهُ مَيْتًا. انْتَهى. وقالَ الرُّمّانِيُّ: كَراهِيَةُ هَذا اللَّحْمِ يَدْعُو إلَيْهِ الطَّبْعُ، وكَراهِيَةُ الغِيبَةِ يَدْعُو إلَيْها العَقْلُ، وهو أحَقُّ أنْ يُجابَ، لِأنَّهُ بَصِيرٌ عالِمٌ، والطَّبْعُ أعْمى جاهِلٌ. انْتَهى. وقالَ أبُو زَيْدٍ السُّهَيْلِيُّ: ضَرَبَ المَثَلَ لِأخْذِهِ العِرْضَ (p-١١٥)بِأكْلِ اللَّحْمِ، لِأنَّ اللَّحْمَ سِتْرٌ عَلى العَظْمِ، والشّاتِمُ لِأخِيهِ كَأنَّهُ يُقَشِّرُ ويَكْشِفُ ما عَلَيْهِ مِن سِتْرٍ. وقالَ تَعالى: ﴿مَيْتًا﴾، لِأنَّ المَيِّتَ لا يُحِسُّ، وكَذَلِكَ الغائِبُ لا يَسْمَعُ ما يَقُولُ فِيهِ المُغْتابُ، ثُمَّ هو في التَّحْرِيمِ كَآكِلِ لَحْمِ المَيِّتِ. انْتَهى. ورُوِيَ في الحَدِيثِ: «ما صامَ مَن أكَلَ لُحُومَ النّاسِ» . وقالَ أبُو قِلابَةَ الرِّياشِيُّ: سَمِعْتُ أبا عاصِمٍ يَقُولُ: ما اغْتَبْتُ أحَدًا مُنْذُ عَرَفْتُ ما في الغِيبَةِ. وقِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عُبَيْدٍ: لَقَدْ وقَعَ فِيكَ فُلانٌ حَتّى رَحِمْناكَ، قالَ: إيّاهُ فارْحَمُوا. وقالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ: بَلَغَنِي أنَّكَ تَغْتابُنِي، قالَ: لَمْ يَبْلُغْ قَدْرُكَ عِنْدِي أنْ أُحَكِّمَكَ في حَسَناتِي. وانْتَصَبَ مَيْتًا عَلى الحالِ مِن ﴿لَحْمَ﴾، وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَنْتَصِبَ عَنِ الأخِ، وهو ضَعِيفٌ، لِأنَّ المَجْرُورَ بِالإضافَةِ لا يَجِيءُ الحالُ مِنهُ إلّا إذا كانَ لَهُ مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ، نَحْوُ: أعْجَبَنِي رُكُوبُ الفَرَسِ مُسْرَجًا، وقِيامُ زَيْدٍ مُسْرِعًا. فالفَرَسُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وزَيْدٌ في مَوْضِعِ رَفْعٍ. وقَدْ أجازَ بَعْضُ أصْحابِنا أنَّهُ إذا كانَ الأوَّلُ جُزْءًا أوْ كالجُزْءِ، جازَ انْتِصابُ الحالِ مِنَ الثّانِي، وقَدْ رَدَدْنا عَلَيْهِ ذَلِكَ فِيما كَتَبْناهُ في عِلْمِ النَّحْوِ. ﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾، قالَ الفَرّاءُ: أيْ فَقَدْ كَرِهْتُمُوهُ، فَلا تَفْعَلُوهُ. وقِيلَ: لَمّا وقَّفَهم عَلى التَّوْبِيخِ بِقَوْلِهِ: ﴿أيُحِبُّ أحَدُكم أنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتًا﴾، فَأجابَ عَنْ هَذا: لِأنَّهم في حُكْمِ مَن يَقُولُها، فَخُوطِبُوا عَلى أنَّهم قالُوا لا، فَقِيلَ لَهم: فَكَرِهْتُمُوهُ، وبَعْدَ هَذا يُقَدَّرُ فَلِذَلِكَ فاكْرَهُوا الغِيبَةَ الَّتِي هي نَظِيرُ ذَلِكَ. وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يُعْطَفُ قَوْلُهُ: ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾، قالَهُ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ، وفِيهِ عَجْرَفَةُ العَجَمِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولَمّا قَرَّرَهم عَزَّ وجَلَّ بِأنَّ أحَدًا مِنهم لا يُحِبُّ أكْلَ جِيفَةِ أخِيهِ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾، أيْ فَتَحَقَّقَتْ بِوُجُوبِ الإقْرارِ عَلَيْكم بِأنَّكم لا تَقْدِرُونَ عَلى دَفْعِهِ وإنْكارِهِ لِإباءِ البَشَرِيَّةِ عَلَيْكم أنْ تَجْحَدُوا كَراهَتَكم لَهُ وتَقَذُّرُكم مِنهُ، فَلْيَتَحَقَّقَ أيْضًا أنْ تَكْرَهُوا ما هو نَظِيرُهُ مِنَ الغِيبَةِ والطَّعْنِ في أعْراضِ المُسْلِمِينَ. انْتَهى، وفِيهِ أيْضًا عَجْرَفَةُ العَجَمِ. والَّذِي قَدَّرَهُ الفَرّاءُ أسْهَلُ وأقَلُّ تَكَلُّفًا، وأجْرى عَلى قَواعِدِ العَرَبِيَّةِ. وقِيلَ: لَفْظُهُ خَبَرٌ، ومَعْناهُ الأمْرُ، تَقْدِيرُهُ: فاكْرَهُوهُ، ولِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾، ووَضْعُ الماضِي مَوْضِعَ الأمْرِ في لِسانِ العَرَبِ كَثِيرٌ، ومِنهُ اتَّقى اللَّهَ امْرُؤٌ فَعَلَ خَيْرًا يُثَبْ عَلَيْهِ، أيْ لِيَتَّقِ اللَّهَ، ولِذَلِكَ انْجَزَمَ يُثَبْ عَلى جَوابِ الأمْرِ. وما أحْسَنَ ما جاءَ التَّرْتِيبُ في هَذِهِ الآيَةِ. جاءَ الأمْرُ أوَّلًا بِاجْتِنابِ الطَّرِيقِ الَّتِي لا تُؤَدِّي إلى العِلْمِ، وهو الظَّنُّ، ثُمَّ نَهى ثانِيًا عَنْ طَلَبِ تَحَقُّقِ ذَلِكَ الظَّنِّ، فَيَصِيرُ عِلْمًا بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَجَسَّسُوا﴾، ثُمَّ نَهى ثالِثًا عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ إذا عُلِمَ، فَهَذِهِ أُمُورٌ ثَلاثَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ، ظَنٌّ فَعِلْمٌ بِالتَّجَسُّسِ فاغْتِيابٌ. وضَمِيرُ النِّصْفِ في كَرِهْتُمُوهُ، الظّاهِرُ أنَّهُ عائِدٌ عَلى الأكْلِ. وقِيلَ: عَلى المَيِّتِ. وقَرَأ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، وأبُو حَيْوَةَ: فَكُرِّهْتُمُوهُ، بِضَمِّ الكافِ وتَشْدِيدِ الرّاءِ، ورَواها الخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، والجُمْهُورُ: بِفَتْحِ الكافِ وتَخْفِيفِ الرّاءِ، وكَرِهَ يَتَعَدّى إلى واحِدٍ، فَقِياسُهُ إذا ضُعِّفَ أنْ يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ، كَقِراءَةِ الخُدْرِيِّ ومَن مَعَهُ، أيْ جَعَلْتُمْ فَكَرِهْتُمُوهُ. فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ﴾ [الحجرات: ٧] فَعَلى التَّضْمِينِ بِمَعْنى بَغَّضَ، وهو يَتَعَدّى لِواحِدٍ، وبِـ إلى إلى آخَرَ، وبَغَّضَ مَنقُولٌ بِالتَّضْعِيفِ مِن بَغَّضَ الشَّيْءَ إلى زَيْدٍ. والظّاهِرُ عَطْفُ ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ عَلى ما قَبْلَهُ مِنَ الأمْرِ والنَّهْيِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب