الباحث القرآني

[الصُّلْحُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ] وَقَوْلُهُ: " والصُّلْحُ جائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ إلّا صُلْحًا أحَلَّ حَرامًا أوْ حَرَّمَ حَلالًا " هَذا مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ رَواهُ التِّرْمِذِيُّ وغَيْرُهُ مِن حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ المُزَنِيّ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «الصُّلْحُ جائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، إلّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلالًا أوْ أحَلَّ حَرامًا، والمُسْلِمُونَ عَلى شُرُوطِهِمْ، إلّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلالًا أوْ أحَلَّ حَرامًا» قالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ؛ وقَدْ نَدَبَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى إلى الصُّلْحِ بَيْنَ الطّائِفَتَيْنِ في الدِّماءِ فَقالَ: ﴿وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما﴾ [الحجرات: ٩] وَنَدَبَ الزَّوْجَيْنِ إلى الصُّلْحِ عِنْدَ التَّنازُعِ في حُقُوقِهِما، فَقالَ: ﴿وَإنِ امْرَأةٌ خافَتْ مِن بَعْلِها نُشُوزًا أوْ إعْراضًا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحًا والصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء: ١٢٨] وَقالَ تَعالى: ﴿لا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِن نَجْواهم إلا مَن أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ أوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ﴾ [النساء: ١١٤] وَأصْلَحَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لَمّا وقَعَ بَيْنَهُمْ، ولَمّا تَنازَعَ كَعْبُ بْنُ مالِكٍ وابْنُ أبِي حَدْرَدٍ في دَيْنٍ عَلى ابْنِ أبِي حَدْرَدٍ، أصْلَحَ النَّبِيُّ ﷺ بِأنْ اسْتَوْضَعَ مِن دَيْنِ كَعْبٍ الشَّطْرَ وأمَرَ غَرِيمَهُ بِقَضاءِ الشَّطْرِ، وقالَ لِرَجُلَيْنِ اخْتَصَما عِنْدَهُ: «اذْهَبا فاقْتَسِما ثُمَّ تَوَخَّيا الحَقَّ ثُمَّ اسْتَهِما ثُمَّ لْيُحْلِلْ كُلٌّ مِنكُما صاحِبَهُ» وَقالَ: «مَن كانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لِأخِيهِ مِن عِرْضٍ أوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنهُ اليَوْمَ قَبْلَ أنْ لا يَكُونَ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، وإنْ كانَ لَهُ عَمَلٌ صالِحٌ أُخِذَ مِنهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ صاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» وَجَوَّزَ في دَمِ العَمْدِ أنْ يَأْخُذَ أوْلِياءُ القَتِيلِ ما صُولِحُوا عَلَيْهِ، ولَمّا «اسْتُشْهِدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَرامٍ الأنْصارِيُّ، والِدُ جابِرٍ، وكانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، سَألَ النَّبِيُّ ﷺ غُرَماءَهُ أنْ يَقْبَلُوا ثَمَرَ حائِطَهِ ويُحْلِلُوا أباهُ». وَقالَ عَطاءٌ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: إنّهُ كانَ لا يَرى بَأْسًا بِالمُخارَجَةِ، يَعْنِي الصُّلْحَ في المِيراثِ؛ وسُمِّيَتْ المُخارَجَةُ لِأنَّ الوارِثَ يُعْطى ما يُصالِحُ عَلَيْهِ ويُخْرِجُ نَفْسَهُ مِن المِيراثِ، وصُولِحَتْ امْرَأةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِن نَصِيبِها مِن رُبُعِ الثُّمُنِ عَلى ثَمانِينَ ألْفًا، وقَدْ رَوى مِسْعَرٌ عَنْ أزْهَرَ عَنْ مُحارِبٍ قالَ: قالَ عُمَرُ: " رُدُّوا الخُصُومَ حَتّى يَصْطَلِحُوا فَإنَّ فَصْلَ القَضاءِ يُحْدِثُ بَيْنَ القَوْمِ الضَّغائِنَ ". وَقالَ عُمَرُ أيْضًا " رُدُّوا الخُصُومَ لَعَلَّهم أنْ يَصْطَلِحُوا، فَإنَّهُ آثَرُ لِلصِّدْقِ، وأقَلُّ لِلْخِيانَةِ ". وَقالَ عُمَرُ أيْضًا: " رُدُّوا الخُصُومَ إذا كانَتْ بَيْنَهم قَرابَةٌ، فَإنَّ فَصْلَ القَضاءِ يُورِثُ بَيْنَهم الشَّنَآنَ " * [فَصْلٌ: الحُقُوقُ ضَرْبانِ حَقُّ اللَّهِ تَعالى وحَقُّ عِبادِهِ]. والحُقُوقُ نَوْعانِ: حَقُّ اللَّهِ، وحَقُّ الآدَمِيِّ؛ فَحَقُّ اللَّهِ لا مَدْخَلَ لِلصُّلْحِ فِيهِ كالحُدُودِ والزَّكَواتِ والكَفّاراتِ ونَحْوِها، وإنَّما الصُّلْحُ بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ رَبِّهِ في إقامَتِها، لا في إهْمالِها، ولِهَذا لا يُقْبَلُ بِالحُدُودِ، وإذا بَلَغَتْ السُّلْطانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشّافِعَ والمُشَفِّعَ. وَأمّا حُقُوقُ الآدَمِيِّينَ فَهي الَّتِي تَقْبَلُ الصُّلْحَ والإسْقاطَ والمُعاوَضَةَ عَلَيْها، والصُّلْحُ العادِلُ هو الَّذِي أمَرَ اللَّهُ بِهِ ورَسُولُهُ ﷺ كَما قالَ: ﴿فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالعَدْلِ﴾ [الحجرات: ٩] والصُّلْحُ الجائِرُ هو الظُّلْمُ بِعَيْنِهِ، وكَثِيرٌ مِن النّاسِ لا يَعْتَمِدُ العَدْلَ في الصُّلْحِ، بَلْ يُصْلِحُ صُلْحًا ظالِمًا جائِرًا، فَيُصالِحُ بَيْنَ الغَرِيمَيْنِ عَلى دُونِ الطَّفِيفِ مِن حَقِّ أحَدِهِما، والنَّبِيُّ ﷺ صالَحَ بَيْنَ كَعْبٍ وغَرِيمِهِ وصالَحَ أعْدَلَ الصُّلْحِ فَأمَرَهُ أنْ يَأْخُذَ الشَّطْرَ ويَدَعَ الشَّطْرَ؛ وكَذَلِكَ لَمّا عَزَمَ عَلى طَلاقِ سَوْدَةَ رَضِيَتْ بِأنْ تَهَبَ لَهُ لَيْلَتَها وتَبْقى عَلى حَقِّها مِن النَّفَقَةِ والكِسْوَةِ، فَهَذا أعْدَلُ الصُّلْحِ، فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أباحَ لِلرَّجُلِ أنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ ويَسْتَبْدِلَ بِها غَيْرَها، فَإذا رَضِيَتْ بِتَرْكِ بَعْضِ حَقِّها وأخْذِ بَعْضِهِ وأنْ يُمْسِكَها كانَ هَذا مِن الصُّلْحِ العادِلِ، وكَذَلِكَ أرْشَدَ الخَصْمَيْنِ اللَّذَيْنِ كانَتْ بَيْنَهُما المَوارِيثُ بِأنْ يَتَوَخَّيا الحَقَّ بِحَسَبِ الإمْكانِ ثُمَّ يُحْلِلْ كُلٌّ مِنهُما صاحِبَهُ؛ وقَدْ أمَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِالإصْلاحِ بَيْنَ الطّائِفَتَيْنِ المُقْتَتِلَتَيْنِ أوَّلًا فَإنْ بَغَتْ إحْداهُما عَلى الأُخْرى فَحِينَئِذٍ أمَرَ بِقِتالِ الباغِيَةِ لا بِالصُّلْحِ فَإنَّها ظالِمَةٌ، فَفي الإصْلاحِ مَعَ ظُلْمِها هَضْمٌ لِحَقِّ الطّائِفَةِ المَظْلُومَةِ، وكَثِيرٌ مِن الظَّلَمَةِ المُصْلِحِينَ يُصْلِحُ بَيْنَ القادِرِ الظّالِمِ والخَصْمِ الضَّعِيفِ المَظْلُومِ بِما يُرْضِي بِهِ القادِرَ صاحِبَ الجاهِ، ويَكُونُ لَهُ فِيهِ الحَظُّ، ويَكُونُ الإغْماضُ والحَيْفُ فِيهِ عَلى الضَّعِيفِ، ويَظُنُّ أنَّهُ قَدْ أصْلَحَ، ولا يُمَكِّنُ المَظْلُومَ مِن أخْذِ حَقِّهِ، وهَذا ظُلْمٌ، بَلْ يُمَكِّنُ المَظْلُومَ مِن اسْتِيفاءِ حَقِّهِ، ثُمَّ يَطْلُبُ إلَيْهِ بِرِضاهُ أنْ يَتْرُكَ بَعْضَ حَقِّهِ بِغَيْرِ مُحاباةٍ لِصاحِبِ الجاهِ، ولا يَشْتَبِهُ بِالإكْراهِ لِلْآخَرِ بِالمُحاباةِ ونَحْوِها. * [فَصْلٌ: الصُّلْحُ إمّا مَرْدُودٌ وإمّا جائِزٌ نافِذٌ] والصُّلْحُ الَّذِي يُحِلُّ الحَرامَ ويُحَرِّمُ الحَلالَ كالصُّلْحِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ بُضْعٍ حَلالٍ، أوْ إحْلالَ بِضْع حَرامٍ، أوْ إرْقاقَ حُرٍّ، أوْ نَقْلَ نَسَبٍ أوْ ولاءً عَنْ مَحَلٍّ إلى مَحَلٍّ، أوْ أكْلَ رَبًّا، أوْ إسْقاطَ واجِبٍ، أوْ تَعْطِيلَ حَدٍّ، أوْ ظُلْمَ ثالِثٍ، وما أشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَكُلُّ هَذا صُلْحٌ جائِزٌ مَرْدُودٌ. فالصُّلْحُ الجائِزُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ هو الَّذِي يُعْتَمَدُ فِيهِ رِضا اللَّهِ سُبْحانَهُ ورِضا الخَصْمَيْنِ؛ فَهَذا أعْدَلُ الصُّلْحِ وأحَقُّهُ، وهو يَعْتَمِدُ العِلْمَ والعَدْلَ؛ فَيَكُونُ المُصْلِحُ عالِمًا بِالوَقائِعِ، عارِفًا بِالواجِبِ، قاصِدًا لِلْعَدْلِ، فَدَرَجَةُ هَذا أفْضَلُ مِن دَرَجَةِ الصّائِمِ القائِمِ، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ألا أُنَبِّئُكم بِأفْضَلَ مِن دَرَجَةِ الصّائِمِ القائِمِ، قالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: إصْلاحُ ذاتِ البَيْنِ؛ فَإنَّ فَسادَ ذاتِ البَيْنِ الحالِقَةُ، أما إنِّي لا أقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، ولَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» وَقَدْ جاءَ في أثَرٍ: أصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ، فَإنَّ اللَّهُ يُصْلِحُ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ يَوْمَ القِيامَةِ؛ وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكم واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكم تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: ١٠].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب