الباحث القرآني

﴿ولَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكم في السَّبْتِ فَقُلْنا لَهم كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ﴾ ﴿فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وما خَلْفَها ومَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ هَذِهِ مِن جُمْلَةِ الأخْبارِ الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ تَعالى تَذْكِيرًا لِلْيَهُودِ بِما أتاهُ سَلَفُهم مِنَ الِاسْتِخْفافِ بِأوامِرِ اللَّهِ تَعالى وبِما عُرِضَ في خِلالِ ذَلِكَ مِنَ الزَّواجِرِ والرَّحْمَةِ والتَّوْبَةِ وإنَّما خالَفَ في حِكايَةِ هاتِهِ القِصَّةِ أُسْلُوبَ حِكايَةِ ما تَقَدَّمَها وما تَلاها مِن ذِكْرِ (إذِ) المُؤْذِنَةِ بِزَمَنِ القِصَّةِ والمُشْعِرَةِ بِتَحَقُّقِ وُقُوعِها إلى قَوْلِهِ هُنا ﴿ولَقَدْ عَلِمْتُمُ﴾ لِمَعْنًى بَدِيعٍ هو مِن وُجُوهِ إعْجازِ القُرْآنِ وذَلِكَ أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ المُشارَ إلَيْها بِهَذِهِ الآيَةِ لَيْسَتْ مِنَ القَصَصِ الَّتِي تَضَمَّنَتْها كُتُبُ التَّوْراةِ مِثْلَ القَصَصِ الأُخْرى المَأْتِيِّ في حِكايَتِها بِكَلِمَةِ إذْ لِأنَّها مُتَواتِرَةٌ عِنْدَهم بَلْ هَذِهِ القِصَّةُ وقَعَتْ في زَمَنِ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَكانَتْ غَيْرَ مَسْطُورَةٍ في الأسْفارِ القَدِيمَةِ وكانَتْ مَعْرُوفَةً لِعُلَمائِهِمْ وأحْبارِهِمْ فَأطْلَعَ اللَّهُ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ عَلَيْها وتِلْكَ مُعْجِزَةٌ غَيْبِيَّةٌ وأوْحى إلَيْهِ في لَفْظِها ما يُؤْذِنُ بِأنَّ العِلْمَ بِها أخْفى مِنَ العِلْمِ بِالقَصَصِ الأُخْرى فَأسْنَدَ الأمْرَ فِيها لِعِلْمِهِمْ إذْ قالَ ”﴿ولَقَدْ عَلِمْتُمُ﴾“ والِاعْتِداءُ وزْنُهُ افْتِعالٌ مِنَ العَدُوِّ وهو تَجاوُزُ حَدِّ السَّيْرِ والحَدِّ والغايَةِ. وغَلَبَ إطْلاقُ الِاعْتِداءِ عَلى مُخالَفَةِ الحَقِّ وظُلْمِ النّاسِ والمُرادُ هُنا اعْتِداءُ الأمْرِ الشَّرْعِيِّ لِأنَّ الأمْرَ الشَّرْعِيَّ يُشَبَّهُ بِالحَدِّ في أنَّهُ يُؤْخَذُ بِما شَمِلَهُ ولا يُؤْخَذُ بِما وراءَهُ. والِاعْتِداءُ الواقِعُ مِنهم هو اعْتِداءُ أمْرِ اللَّهِ تَعالى إيّاهم مِن عَهْدِ مُوسى بِأنْ يُحافِظُوا عَلى حُكْمِ السَّبْتِ وعَدَمِ الِاكْتِسابِ فِيهِ لِيَتَفَرَّغُوا فِيهِ لِلْعِبادَةِ بِقَلْبٍ خالِصٍ مِنَ الشُّغْلِ بِالدُّنْيا، فَكانَتْ طائِفَةٌ مِن سُكّانِ أيْلَةَ عَلى البَحْرِ رَأوْا (p-٥٤٤)تَكاثُرَ الحِيتانِ يَوْمَ السَّبْتِ بِالشّاطِئِ لِأنَّها إذا لَمْ تَرَ سُفُنَ الصَّيّادِينَ وشِباكَهم أمِنَتْ فَتَقَدَّمَتْ إلى الشّاطِئِ تَفْتَحُ أفْواهَها في الماءِ لِابْتِلاعِ ما يَكُونُ عَلى الشَّواطِئِ مِن آثارِ الطَّعامِ ومِن صَغِيرِ الحِيتانِ وغَيْرِها. فَقالُوا لَوْ حَفَرْنا لَها حِياضًا وشَرَعْنا إلَيْها جَداوِلَ يَوْمَ الجُمْعَةِ فَتُمْسِكُ الحِياضُ الحُوتَ إلى يَوْمِ الأحَدِ فَنَصْطادُها وفَعَلُوا ذَلِكَ فَغَضِبَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ لِهَذا الحِرْصِ عَلى الرِّزْقِ أوْ لِأنَّهم يَشْغَلُونَ بِالَهم يَوْمَ السَّبْتَ بِالفِكْرِ فِيما تَحَصَّلَ لَهم أوْ لِأنَّهم تَحَيَّلُوا عَلى اعْتِياضِ العَمَلِ في السَّبْتِ، وهَذا الَّذِي أحْسَبُهُ لِما اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الِاسْتِخْفافِ واعْتِقادِهِمْ أنَّهم عَلِمُوا ما لَمْ تَهْتَدِ إلَيْهِ شَرِيعَتُهم فَعاقَبَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِما ذَكَرَهُ هُنا. فَقَوْلُهُ في السَّبْتِ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ في لِلظَّرْفِيَّةِ. والسَّبْتُ مَصْدَرُ سَبَتَ اليَهُودِيُّ مِن بابِ ضَرَبَ ونَصَرَ بِمَعْنى احْتَرَمَ السَّبْتَ وعَظَّمَهُ. والمَعْنى اعْتَدَوْا في حالِ تَعْظِيمِ السَّبْتِ أوْ في زَمَنِ تَعْظِيمِ السَّبْتِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ في لِلْعِلَّةِ أيِ اعْتَدَوُا اعْتِداءً لِأجْلِ ما أوْجَبَهُ احْتِرامُ السَّبْتِ مِن قَطْعِ العَمَلِ. ولَعَلَّ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ فِيهِ لِيَكُونَ أمْنًا لِلدَّوابِّ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ في ظَرْفِيَّةً والسَّبْتُ بِمَعْنى اليَوْمِ وإنَّما جُعِلَ الِاعْتِداءُ فِيهِ مَعَ أنَّ الحَفْرَ في يَوْمِ الجُمْعَةَ لِأنَّ أثَرَهُ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ العِصْيانُ وهو دُخُولُ الحِيتانِ لِلْحِياضِ يَقَعُ في يَوْمِ السَّبْتِ. وقَوْلُهُ ﴿فَقُلْنا لَهم كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ﴾ كُونُوا أمْرُ تَكْوِينٍ والقِرَدَةُ بِكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الرّاءِ جَمْعُ قِرْدٍ وتَكْوِينُهم قِرَدَةً يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِتَصْيِيرِ أجْسامِهِمْ أجْسامَ قِرَدَةٍ مَعَ بَقاءِ الإدْراكِ الإنْسانِيِّ وهَذا قَوْلُ جُمْهُورِ العُلَماءِ والمُفَسِّرِينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِتَصْيِيرِ عُقُولِهِمْ كَعُقُولِ القِرَدَةِ مَعَ بَقاءِ الهَيْكَلِ الإنْسانِيِّ وهَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ والعِبْرَةُ حاصِلَةٌ عَلى كِلا الِاعْتِبارَيْنِ. والأوَّلُ أظْهَرُ في العِبْرَةِ لِأنَّ فِيهِ اعْتِبارَهم بِأنْفُسِهِمْ واعْتِبارَ النّاسِ بِهِمْ بِخِلافِ الثّانِي والثّانِي أقْرَبُ لِلتّارِيخِ؛ إذْ لَمْ يُنْقَلْ مَسْخٌ في كُتُبِ تارِيخِ العِبْرانِيِّينَ. والقُدْرَةُ صالِحَةٌ لِلْأمْرَيْنِ والكُلُّ مُعْجِزَةٌ لِلشَّرِيعَةِ أوْ لِداوُدَ ولِذَلِكَ قالَ الفَخْرُ لَيْسَ قَوْلُ مُجاهِدٍ بِبَعِيدٍ جِدًّا لَكِنَّهُ خِلافُ الظّاهِرِ مِنَ الآيَةِ، ولَيْسَ الآيَةُ صَرِيحَةً في المَسْخِ. ومَعْنى كَوْنِهِمْ قِرَدَةً أنَّهم لَمّا لَمْ يَتَلَقَّوُا الشَّرِيعَةَ بِفَهْمِ مَقاصِدِها ومَعانِيها وأخَذُوا بِصُورَةِ الألْفاظِ فَقَدْ أشْبَهُوا العَجْماواتِ في وُقُوفِها عِنْدَ المَحْسُوساتِ فَلَمْ يَتَمَيَّزُوا عَنِ العَجْماواتِ إلّا بِالشَّكْلِ الإنْسانِيِّ وهَذِهِ القِرَدَةُ تُشارِكُهم في هَذا الشَّبَهِ وهَذا مَعْنى قَوْلِ مُجاهِدٍ هو مَسْخُ قُلُوبٍ لا مَسْخُ ذَواتٍ. (p-٥٤٥)ثُمَّ إنَّ القائِلِينَ بِوُقُوعِ المَسْخِ في الأجْسامِ اتَّفَقُوا - أوْ كادُوا - عَلى أنَّ المَمْسُوخَ لا يَعِيشُ أكْثَرَ مِن ثَلاثَةِ أيّامٍ وأنَّهُ لا يَتَناسَلُ ورَوى ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ أنَّهُ قالَ «لَمْ يُهْلِكِ اللَّهُ قَوْمًا أوْ يُعَذِّبْ قَوْمًا فَيَجْعَلَ لَهم نَسْلًا» وهو صَرِيحٌ في البابِ ومِنَ العُلَماءِ مِن جَوَّزَ تَناسُلَ المَمْسُوخِ وزَعَمُوا أنَّ الفِيلَ والقِرْدَ والضَّبَّ والخِنْزِيرَ مِنَ الأُمَمِ المَمْسُوخَةِ وقَدْ كانَتِ العَرَبُ تَعْتَقِدُ ذَلِكَ في الضَّبِّ قالَ أحَدُ بَنِي سُلَيْمٍ وقَدْ جاءَ لِزَوْجِهِ بِضَبٍّ فَأبَتْ أنْ تَأْكُلَهُ: ؎قالَتْ وكُنْتَ رَجُلًا فَطِينًا هَذا لَعَمْرُ اللَّهِ إسْرائِينا حَتّى قالَ بَعْضُ الفُقَهاءِ بِحُرْمَةِ أكْلِ الفِيلِ ونَحْوِهِ بِناءً عَلى احْتِمالِ أنَّ أصْلَهُ نَسْلٌ آدَمِيٌّ قالَ ابْنُ الحاجِبِ وأمّا ما يُذْكَرُ أنَّهُ مَمْسُوخٌ كالفِيلِ والقِرْدِ والضَّبِّ فَفي المَذْهَبِ الجَوازُ لِعُمُومِ الآيَةِ والتَّحْرِيمِ لِما يُذْكَرُ أيْ لِعُمُومِ آيَةِ المَأْكُولاتِ، وصَحَّحَ صاحِبُ التَّوْضِيحِ عَنْ مالِكٍ الجَوازَ وقَدْ رَوى مُسْلِمٌ في أحادِيثَ مُتَفَرِّقَةٍ مِن آخِرِ صَحِيحِهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ لا يُدْرى ما فَعَلَتْ ولا أُراها إلّا الفَأْرَ، ألا تَرَوْنَها إذا وُضِعَ لَها ألْبانُ الإبِلِ لَمْ تَشْرَبْهُ وإذا وُضِعَ لَها ألْبانُ الشّاءِ شَرِبَتْهُ» اهـ. وقَدْ تَأوَّلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وابْنُ رُشْدٍ في البَيانِ وغَيْرُ واحِدٍ مِنَ العُلَماءِ بِأنَّ هَذا قالَهُ النَّبِيءُ ﷺ عَنِ اجْتِهادٍ قَبْلَ أنْ يُوَقِّفَهُ اللَّهُ عَلى أنَّ المَمْسُوخَ لا يَعِيشُ أكْثَرَ مِن ثَلاثَةِ أيّامٍ ولا يَتَناسَلُ كَما هو صَرِيحُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قُلْتُ: يُؤَيِّدُ هَذا أنَّهُ قالَهُ عَنِ اجْتِهادِ قَوْلِهِ ولا أُراها. ولا شَكَّ أنْ هاتِهِ الأنْواعَ مِنَ الحَيَوانِ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ المَسْخِ وأنَّ المَسْخَ إلَيْها دَلِيلٌ عَلى وُجُودِها ومَعْرِفَةِ النّاسِ بِها. وهَذا الأمْرُ التَّكْوِينِيُّ كانَ لِأجْلِ العُقُوبَةِ عَلى ما اجْتَرَءُوا مِنَ الِاسْتِخْفافِ بِالأمْرِ الإلَهِيِّ حَتّى تَحَيَّلُوا عَلَيْهِ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَرْضى بِالحِيَلِ عَلى تَجاوُزِ أوامِرِهِ ونَواهِيهِ فَإنَّ شَرائِعَ اللَّهِ تَعالى مَشْرُوعَةٌ لِمَصالِحٍ وحِكَمٍ فالتَّحَيُّلُ عَلى خَرْقِ تِلْكَ الحِكَمِ بِإجْراءِ الأفْعالِ عَلى صُوَرٍ مَشْرُوعَةٍ مَعَ تَحَقُّقِ تَعْطِيلِ الحِكْمَةِ مِنها جَراءَةً عَلى اللَّهِ تَعالى، ولا حُجَّةَ لِمَن يَنْتَحِلُ جَوازَ الحِيَلِ بِقَوْلِهِ تَعالى في قِصَّةِ أيُّوبَ وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فاضْرِبْ بِهِ ولا تَحْنَثْ لِأنَّ تِلْكَ فَتْوى مِنَ اللَّهِ تَعالى لِنَبِيءٍ لِتَجَنُّبِ الحِنْثِ الَّذِي قَدْ يُتَفادى عَنْهُ بِالكَفّارَةِ ولَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ أصْلَ الحِنْثِ لِنَبِيِّهِ لِأنَّهُ خِلافُ الأوْلى فَأفْتاهُ بِما قالَهُ، وذَلِكَ مِمّا يُعِينُ عَلى حِكْمَةِ اجْتِنابِ الحِنْثِ لِأنَّ فِيهِ (p-٥٤٦)مُحافَظَةً عَلى تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعالى فَلا فَواتَ لِلْحِكْمَةِ في ذَلِكَ، ومَسْألَةُ الحِيَلِ الشَّرْعِيَّةِ لَعَلَّنا نَتَعَرَّضُ لَها في سُورَةِ ص وفِيها تَمْحِيصٌ. وقَوْلُهُ فَجَعَلْناها نَكالًا عادَ فِيهِ الضَّمِيرُ عَلى العُقُوبَةِ المُسْتَفادَةِ مِن قَوْلِهِ فَقُلْنا لَهم كُونُوا قِرَدَةً. والنَّكالُ بِفَتْحِ النُّونِ العِقابُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَرْدَعُ المُعاقَبَ عَنِ العَوْدِ لِلْجِنايَةِ، ويَرْدَعُ غَيْرَهُ عَنِ ارْتِكابِ مِثْلِها، وهو مُشْتَقٌّ مِن نَكَلَ إذا امْتَنَعَ. ويُقالُ نَكَّلَ بِهِ تَنْكِيلًا ونَكالًا بِمَعْنى عاقَبَهُ بِما يَمْنَعُهُ مِنَ العَوْدِ. والمُرادُ بِما بَيْنَ يَدَيْها وما خَلْفَها ما قارَنَها مِن مَعاصِيهِمْ وما سَبَقَ يَعْنِي أنَّ تِلْكَ الفِعْلَةَ كانَتْ آخِرَ ما فَعَلُوهُ فَنَزَلَتِ العُقُوبَةُ عِنْدَها ولِما بَيْنَ يَدَيْها مِنَ الأُمَمِ القَرِيبَةِ مِنها ولِما خَلْفَها مِنَ الأُمَمِ البَعِيدَةِ. والمَوْعِظَةُ ما بِهِ الوَعْظُ وهو التَّرْهِيبُ مِنَ الشَّرِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب