الباحث القرآني

﴿فَجَعَلْناها نَكالا﴾ أيْ كَيْنُونَتَهم (p-284)وصَيْرُورَتَهم قِرَدَةً، أوِ المَسْخَةَ، أوِ العُقُوبَةَ، أوِ الآيَةَ المَدْلُولَ عَلَيْها بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ عَلِمْتُمُ﴾ وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْقَرْيَةِ، وقِيلَ: لِلْحِيتانِ، والنَّكالُ واحِدُ الأنْكالِ، وهي القُيُودُ، ونَكَّلَ بِهِ فَعَلَ بِهِ ما يَعْتَبِرُ بِهِ غَيْرُهُ، فَيَمْتَنِعُ عَنْ مِثْلِهِ، ﴿لِما بَيْنَ يَدَيْها وما خَلْفَها﴾ أيْ لِمُعاصِرِيهِمْ، ومَن خَلْفَهُمْ، وهو المَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وغَيْرِهِ، ورُوِيَ عَنْهُ أيْضًا (لِما) بِحَضْرَتِها مِنَ القُرى، أيْ أهْلِها، وما تَباعَدَ عَنْها، أوْ لِلْآتِينَ والماضِينَ، وهو المُخْتارُ عِنْدَ جَماعَةٍ، فَكُلٌّ مِن ظَرْفَيِ المَكانِ مُسْتَعارٌ لِلزَّمانِ، و(ما) أُقِيمَتْ مَقامَ (مَن) إمّا تَحْقِيرًا لَهم في مَقامِ العَظَمَةِ والكِبْرِياءِ، أوْ لِاعْتِبارِ الوَصْفِ، فَإنَّ (ما) يُعَبَّرُ بِها عَنِ العُقَلاءِ تَعْظِيمًا إذا أُرِيدَ الوَصْفُ، كَقَوْلِهِ: (سُبْحانَ ما سَخَّرَكُنَّ)، وصَحَّ كَوْنُها نَكالًا لِلْماضِينَ أنَّها ذُكِرَتْ في زُبُرِ الأوَّلِينَ، فاعْتَبَرُوا بِها، وصَحَّتِ الفاءُ لِأنَّ جَعْلَ ذَلِكَ نَكالًا لِلْفَرِيقَيْنِ إنَّما يَتَحَقَّقُ بَعْدَ القَوْلِ والمَسْخِ، أوْ لِأنَّ الفاءَ إنَّما تَدُلُّ عَلى تَرَتُّبِ جَعْلِ العُقُوبَةِ نَكالًا عَلى القَوْلِ، وتَسَبُّبِهِ عَنْهُ، سَواءٌ كانَ عَلى نَفْسِهِ، أوْ عَلى الإخْبارِ بِهِ، فَلا يُنافِي حُصُولَ الِاعْتِبارِ قَبْلَ وُقُوعِ هَذِهِ الواقِعَةِ بِسَبَبِ سَماعِ هَذِهِ القِصَّةِ، وقِيلَ: اللّامُ لامُ الأجَلِ، (وما) عَلى حَقِيقَتِها، والنَّكالُ بِمَعْنى العُقُوبَةِ، لا العِبْرَةِ، والمُرادُ (بِما بَيْنَ يَدَيْها) ما تَقَدَّمَ مِن سائِرِ الذُّنُوبِ قَبْلَ أخْذِ السَّمَكِ، (وبِما خَلْفَها) ما بَعْدَها، والقَوْلُ بِأنَّ المُرادَ جَعَلْنا المَسْخَ عُقُوبَةً لِأجْلِ ذُنُوبِهِمُ المُتَقَدِّمَةِ عَلى المَسْخَةِ، والمُتَأخِّرَةِ عَنْها يَسْتَدْعِي بَقاءَهم مُكَلَّفِينَ بَعْدَ المَسْخِ، ولا يَظْهَرُ ذَلِكَ إلّا عَلى قَوْلِ مُجاهِدٍ، وحَمْلُ الذُّنُوبِ الَّتِي بَعْدَ المَسْخَةِ عَلى السَّيِّئاتِ الباقِيَةِ آثارُها لَيْسَ بِشَيْءٍ، كَما لا يَخْفى، وقَوْلُ أبِي العالِيَةِ: إنَّ المُرادَ (بِما بَيْنَ يَدَيْها) ما مَضى مِنَ الذُّنُوبِ، (وبِما خَلْفَها) مَن يَأْتِي بَعْدُ، والمَعْنى فَجَعَلْناها عُقُوبَةً لِما مَضى مِن ذُنُوبِهِمْ، وعِبْرَةً لِمَن بَعْدَهُمْ، مُنْحَطٌّ مِنَ القَوْلِ جِدًّا لِمَزِيدِ ما فِيهِ مِن تَفْكِيكِ النَّظْمِ والتَّكَلُّفِ، ﴿ومَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ المَوْعِظَةُ ما يُذْكَرُ مِمّا يُلَيِّنُ القَلْبَ ثَوابًا كانَ أوْ عِقابًا، والمُرادُ (بِالمُتَّقِينَ) ما يَعُمُّ كُلَّ مُتَّقٍ مِن كُلِّ أُمَّةٍ، وإلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وقِيلَ: مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وقِيلَ: مِنهُمْ، ويُحْتَمَلُ أنَّهُمُ اتَّعَظُوا بِذَلِكَ، وخافُوا ارْتِكابَ خِلافَ ما أُمِرُوا بِهِ، ويَحْتَمِلُ أنَّهم وعَظَ بَعْضُهم بَعْضًا بِهَذِهِ الواقِعَةِ، وحَظُّ العارِفِ مِن هَذِهِ القِصَّةِ أنْ يَعْرِفَ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى خَلَقَ النّاسَ لِعِبادَتِهِ، وجَعَلَهم بِحَيْثُ لَوْ أُهْمِلُوا وتُرِكُوا وخُلُّوا بَيْنَهم وبَيْنَ طِباعِهِمْ، لَتَوَغَّلُوا وانْهَمَكُوا في اللَّذّاتِ الجِسْمانِيَّةِ، والغَواشِي الظَّلَمانِيَّةِ لِضَرُوراتِهِمْ لَها، واعْتِيادِهِمْ مِنَ الطُّفُولِيَّةِ عَلَيْها. ؎والنَّفْسُ كالطِّفْلِ إنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلى حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ فَوَضَعَ اللَّهُ تَعالى العِباداتِ، وفَرَضَ عَلَيْهِمْ تَكْرارَها في الأوْقاتِ المُعَيَّنَةِ، لِيَزُولَ عَنْهم بِها دَرْنُ الطِّباعِ المُتَراكِمِ في أوْقاتِ الغَفَلاتِ، وظُلْمَةِ الشَّواغِلِ العارِضَةِ في أزْمِنَةِ ارْتِكابِ الشَّهَواتِ، وجَعَلَ يَوْمًا مِن أيّامِ الأُسْبُوعِ مَخْصُوصًا لِلِاجْتِماعِ عَلى العِبادَةِ، وإزالَةِ وحْشَةِ التَّفْرِقَةِ، ودَفْعِ ظُلْمَةِ الِاشْتِغالِ بِالأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَوَضَعَ السَّبْتَ لِلْيَهُودِ لِأنَّ عالَمَ الحِسِّ الَّذِي إلَيْهِ دَعْوَةُ اليَهُودِ هو آخِرُ العَوالِمِ، والسَّبْتُ آخِرُ الأُسْبُوعِ، والأحَدُ لِلنَّصارى، لِأنَّ عالَمَ العَقْلِ الَّذِي إلَيْهِ دَعْوَتُهم أوَّلُ العَوالِمِ، ويَوْمُ الأحَدِ أوَّلُ الأُسْبُوعِ، والجُمُعَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، لِأنَّهُ يَوْمُ الجَمْعِ، والخَتْمِ فَهو أوْفَقُ بِهِمْ، وألْيَقُ بِحالِهِمْ، فَمَن لَمْ يُراعِ هَذِهِ الأوْضاعَ والمُراقَباتِ أصْلًا زالَ نُورُ اسْتِعْدادِهِ، وطُفِئَ مِصْباحُ فُؤادِهِ، ومُسِخَ كَما مُسِخَ أصْحابُ السَّبْتِ، ومَن غَلَبَ عَلَيْهِ وصْفٌ مِن أوْصافِ الحَيَواناتِ، ورَسَخَ فِيهِ بِحَيْثُ أزالَ اسْتِعْدادَهُ وتَمَكَّنَ في طِباعِهِ، وصارَ صُورَةً ذاتِيَّةً لَهُ، كالماءِ الَّذِي مَنبَعُهُ مَعْدِنُ الكِبْرِيتِ مَثَلًا أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ (p-285)ذَلِكَ الحَيَوانِ، حَتّى كَأنْ صارَ طِباعُهُ طِباعَهُ، ونَفْسُهُ نَفْسَهُ، فَلْيَجْهَدِ المَرْءُ عَلى حِفْظِ إنْسانِيَّتِهِ وتَدْبِيرِ صِحَّتِهِ بِشَرابِ الأدْوِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ، والمَعاجِينِ الحُكْمِيَّةِ ولْيَحُثَّ نَفْسَهُ بِالمَواعِظِ الوَعْدِيَّةِ والوَعِيدِيَّةِ. ؎هِيَ النَّفْسُ إنْ تُهْمَلْ تُلازِمْ خَساسَةً ∗∗∗ وإنْ تَنْبَعِثْ نَحْوَ الفَضائِلِ تَلْهَجُ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب