الباحث القرآني

(p-٤٢٨)﴿وقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ وكُلا مِنها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما ولا تَقْرَبا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا﴾ [البقرة: ٣٤] أيْ بَعْدَ أنِ انْقَضى ذَلِكَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ وهَذِهِ تَكْرِمَةٌ أكْرَمَ اللَّهُ بِها آدَمَ بَعْدَ أنْ أكْرَمَهُ بِكَرامَةِ الإجْلالِ مِن تِلْقاءِ المَلائِكَةِ. ونِداءُ آدَمَ قَبْلَ تَخْوِيلِهِ سُكْنى الجَنَّةِ نِداءُ تَنْوِيهٍ بِذِكْرِ اسْمِهِ بَيْنَ المَلَأِ الأعْلى لِأنَّ نِداءَهُ يَسْتَرْعِي إسْماعَ أهْلِ المَلَأِ الأعْلى فَيَتَطَلَّعُونَ لِما سَيُخاطَبُ بِهِ، ويُنْتَزَعُ مِن هَذِهِ الآيَةِ أنَّ العالِمَ جَدِيرٌ بِالإكْرامِ بِالعَيْشِ الهَنِيءِ، كَما أُخِذَ مِنَ الَّتِي قَبْلَها أنَّهُ جَدِيرٌ بِالتَّعْظِيمِ، والأمْرُ بِقَوْلِهِ (اسْكُنْ) مُسْتَعْمَلٌ في الِامْتِنانِ بِالتَّمْكِينِ والتَّخْوِيلِ ولَيْسَ أمْرًا لَهُ بِأنْ يَسْعى بِنَفْسِهِ لِسُكْنى الجَنَّةِ إذْ لا قُدْرَةَ لَهُ عَلى ذَلِكَ السَّعْيِ فَلا يُكَلَّفُ بِهِ. وضَمِيرُ (أنْتَ) واقِعٌ لِأجْلِ عَطْفِ (وزَوْجُكَ) عَلى الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ في (اسْكُنْ) وهو اسْتِعْمالُ العَرَبِيَّةِ عِنْدَ عَطْفِ اسْمٍ عَلى ضَمِيرٍ مُتَّصِلٍ مَرْفُوعِ المَحَلِّ لا يَكادُونَ يَتْرُكُونَهُ، يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ زِيادَةَ إيضاحِ المَعْطُوفِ فَتَحْصُلُ فائِدَةُ تَقْرِيرِ مَدْلُولِ المَعْطُوفِ لِئَلّا يَكُونَ تابِعَةُ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ أبْرَزَ مِنهُ في الكَلامِ، فَلَيْسَ الفَصْلُ بِمِثْلِ هَذا الضَّمِيرِ مُقَيَّدًا تَأْكِيدًا لِلنِّسْبَةِ لِأنَّ الإتْيانَ بِالضَّمِيرِ لازِمٌ لا خِيرَةَ لِلْمُتَكَلِّمِ فِيهِ فَلا يَكُونُ مُقْتَضى حالٍ ولا يَعْرِفُ السّامِعُ أنَّ المُتَكَلِّمَ مُرِيدٌ بِهِ تَأْكِيدًا ولَكِنَّهُ لا يَخْلُو مِن حُصُولِ تَقْرِيرِ مَعْنى المُضْمَرِ وهو ما أشارَ إلَيْهِ في الكَشّافِ بِمَجْمُوعِ قَوْلِهِ، وأنْتَ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ المَسْتَكِنِّ لِيَصِحَّ العَطْفُ عَلَيْهِ. والزَّوْجُ كُلُّ شَيْءٍ ثانٍ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ بَيْنَهُما تَقارُنٌ، في حالٍ ما. ويَظْهَرُ أنَّهُ اسْمٌ جامِدٌ لِأنَّ جَمِيعَ تَصارِيفِهِ في الكَلامِ مُلاحَظٌ فِيها مَعْنى كَوْنِهِ ثانِيَ اثْنَيْنِ أوْ مُماثِلَ غَيْرِهِ. فَكُلُّ واحِدٍ مِنِ اثْنَيْنِ مُقْتَرِنَيْنِ في حالٍ ما يُسَمّى زَوْجًا لِلْآخَرِ، قالَ تَعالى (﴿أوْ يُزَوِّجُهم ذُكْرانًا وإناثًا﴾ [الشورى: ٥٠]) أيْ يَجْعَلُ لِأحَدِ الطِّفْلَيْنِ زَوْجًا لَهُ أيْ سِواهُ مِن غَيْرِ صِنْفِهِ، وقَرِيبٌ مِن هَذا الِاسْتِعْمالِ اسْتِعْمالُ لَفْظِ شَفْعٍ. وسُمِّيَتِ الأُنْثى القَرِينَةُ لِلرَّجُلِ بِنِكاحٍ زَوْجًا لِأنَّها اقْتَرَنَتْ بِهِ وصَيَّرَتْهُ ثانِيًا، ويُسَمّى الرَّجُلُ زَوْجًا لَها لِذَلِكَ بِلا فَرْقٍ، فَمِن ثَمَّ لا يُقالُ لِلْمَرْأةِ زَوْجَةً بِهاءِ تَأْنِيثٍ لِأنَّهُ اسْمٌ ولَيْسَ بِوَصْفٍ. وقَدْ لَحَّنُوا الفَرَزْدَقَ في قَوْلِهِ:(p-٤٢٩) ؎وإنَّ الَّذِي يَسْعى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي كَساعٍ إلى أُسْدِ الشَّرى يَسْتَبِيلُها وتَسامَحَ الفُقَهاءُ في إلْحاقِ عَلامَةِ التَّأْنِيثِ لِلزَّوْجِ إذا أرادُوا بِهِ امْرَأةَ الرَّجُلِ لِقَصْدِ نَفْيِ الِالتِباسِ في تَقْرِيرِ الأحْكامِ في كُتُبِهِمْ في مِثْلِ قَوْلِهِمُ: القَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، أوِ القَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ وهو صَنِيعٌ حَسَنٌ. وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يُحَدِّثُ إحْدى نِسائِهِ فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَدَعاهُ يا فُلانٌ فَجاءَ فَقالَ لَهُ هَذِهِ زَوْجَتَيْ فُلانَةٌ» الحَدِيثَ، فَقَوْلُهُ زَوْجَتِي بِالتّاءِ فَتَعَيَّنَ كَوْنُهُ مِن عِبارَةِ راوِي الحَدِيثِ في السَّنَدِ إلى أنَسٍ ولَيْسَتْ بِعِبارَةِ النَّبِيءِ ﷺ . وطَوى في هَذِهِ الآيَةِ خَلْقَ زَوْجِ آدَمَ وقَدْ ذُكِرَ في آياتٍ أُخْرى كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿الَّذِي خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنها زَوْجَها﴾ [النساء: ١] وسَيَأْتِي ذَلِكَ في سُورَةِ النِّساءِ وسُورَةِ الأعْرافِ. ولَمْ يَرِدِ اسْمُ زَوْجِ آدَمَ في القُرْآنِ واسْمُها عِنْدَ العَرَبِ حَوّاءُ ووَرَدَ ذِكْرُ اسْمِها في حَدِيثٍ رَواهُ ابْنُ سَعْدٍ في طَبَقاتِهِ عَنْ خالِدِ بْنِ خِداشٍ عَنِ ابْنِ وهْبٍ يَبْلُغُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: «النّاسُ لِآدَمَ وحَوّاءَ كَطَفٍّ لِصاعٍ لَنْ يَمْلَئُوهُ» الحَدِيثَ. ”طَفُّ المِكْيالِ“ بِفَتْحِ الطّاءِ وكَسْرِها ما قَرُبَ مِن مَلْئِهِ، أيْ هم لا يَبْغُونَ الكَمالَ فَإنَّ كُلَّ كَمالٍ مِنَ البَشَرِ قابِلٌ لِلزِّيادَةِ. وخالِدُ بْنُ خِداشٍ بَصَرِيٌّ وثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وأبُو حاتِمٍ وسُلَيْمانُ بْنُ حَرْبٍ وضَعَّفَهُ ابْنُ المَدِينِيِّ. فاسْمُ زَوْجِ آدَمَ عِنْدَ العَرَبِ حَوّاءُ واسْمُها في العِبْرانِيَّةِ مُضْطَرَبٌ فِيهِ، فَفي سِفْرِ التَّكْوِينِ في الإصْحاحِ الثّانِي أنَّ اسْمَها ”امْرَأةٌ“ سَمّاها كَذَلِكَ آدَمُ قالَ: لِأنَّها مِنِ امْرِئٍ أُخِذَتْ. وفي الإصْحاحِ الثّالِثِ أنَّ آدَمَ دَعا اسْمَ امْرَأتِهِ حَوّاءَ لِأنَّها أُمُّ كُلِّ حَيٍّ. وقالَ ابْنُ سَعْدٍ نامَ آدَمُ فَخُلِقَتْ حَوّاءُ مِن ضِلَعِهِ فاسْتَيْقَظَ ووَجَدَها عِنْدَهُ فَقالَ ”أثا“ أيِ امْرَأةٌ بِالنَّبَطِيَّةِ، أيِ اسْمُها بِالنَّبَطِيَّةِ المَرْأةُ كَما سَمّاها آدَمُ. وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ﴾ [البقرة: ٣١] أنَّ آدَمَ دَعا نَفْسَهُ، إيشَ، فَلَعَلَّ أثا مُحَرَّفَةٌ عَنْ إشا. واسْمُها بِالعِبْرِيَّةِ خَمْواءُ بِالخاءِ المُعْجَمَةِ وبَهاءٍ بَعْدَ الألْفِ ويُقالُ أيْضًا حَيْوا بِحاءٍ مُهْمِلَةٍ وألِفٍ في آخِرِهِ فَصارَتْ بِالعَرَبِيَّةِ حَوّاءَ وصارَتْ في الطَّلْيانِيَّةِ إيبا. وفي الفَرَنْسِيَّةِ إيبَ. وفي التَّوْراةِ أنَّ حَوّاءَ خُلِقَتْ في الجَنَّةِ بَعْدَ أنْ أُسْكِنَ آدَمُ في الجَنَّةِ وأنَّ اللَّهَ خَلَقَها لِتُؤْنِسَهُ قالَ تَعالى ﴿وجَعَلَ مِنها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إلَيْها﴾ [الأعراف: ١٨٩] أيْ يَأْنَسَ. والأمْرُ في (اسْكُنْ) أمْرُ إعْطاءٍ؛ أيْ جَعَلَ اللَّهُ آدَمَ هو وزَوْجَهُ في الجَنَّةِ. (p-٤٣٠)والسُّكْنى اتِّخاذُ المَكانِ مَقَرًّا لِغالِبِ أحْوالِ الإنْسانِ. والجَنَّةُ قِطْعَةٌ مِنَ الأرْضِ فِيها الأشْجارٌ المُثْمِرَةٌ والمِياهُ وهي أحْسَنُ مَقَرٍّ لِلْإنْسانِ إذا لَفَحَهُ حَرُّ الشَّمْسِ ويَأْكُلُ مِن ثَمَرِهِ إذا جاعَ ويَشْرَبُ مِنَ المِياهِ الَّتِي يَشْرَبُ مِنها الشَّجَرُ ويَرُوقُهُ مَنظَرُ ذَلِكَ كُلِّهِ. فالجَنَّةُ تَجَمَعُ ما تَطْمَحُ إلَيْهِ طَبِيعَةُ الإنْسانِ مِنَ اللَّذّاتِ. وتَعْرِيفُ الجَنَّةِ تَعْرِيفُ العَهْدِ وهي جَنَّةٌ مَعْهُودَةٌ لِآدَمَ يُشاهِدُها إذا كانَ التَّعْرِيفُ في الجَنَّةِ حِكايَةً لِما يُرادِفُهُ فِيما خُوطِبَ بِهِ آدَمُ، أوْ أُرِيدَ بِها المَعْهُودُ لَنا إذا كانَتْ حِكايَةُ قَوْلِ اللَّهِ لَنا بِالمَعْنى وذَلِكَ جائِزٌ في حِكايَةِ القَوْلِ. وقَدِ اخْتَلَفَ عُلَماءُ الإسْلامِ في تَعْيِينِ هَذِهِ الجَنَّةِ فالَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ أنَّها جَنَّةُ الخُلْدِ الَّتِي وعَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ والمُصَدِّقِينَ رُسُلَهُ وجَزَمُوا بِأنَّها مَوْجُودَةٌ في العالَمِ العُلْوِيِّ عالَمِ الغَيْبِ أيْ في السَّماءِ وأنَّها أعَدَّها اللَّهُ لِأهْلِ الخَيْرِ بَعْدَ القِيامَةِ، وهَذا الَّذِي تَقَلَّدَهُ أهْلُ السُّنَّةِ مِن عُلَماءِ الكَلامِ وأبُو عَلِيٍّ الجُبّائِيُّ وهو الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ ظَواهِرُ الآياتِ والأخْبارِ المَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيءِ ﷺ . ولا تَعْدُو أنَّها ظَواهِرُ كَثِيرَةٌ لَكِنَّها تُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ ولَيْسَ لِهَذِهِ القَضِيَّةِ تَأْثِيرٌ في العَقِيدَةِ. وذَهَبَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ وأبُو القاسِمِ البَلْخِيُّ والمُعْتَزِلَةُ عَدا الجُبّائِيَّ إلى أنَّها جَنَّةٌ في الأرْضِ خَلَقَها اللَّهُ لِإسْكانِ آدَمَ وزَوْجِهِ، ونَقَلَ البَيْضاوِيُّ عَنْهم أنَّها بُسْتانٌ في فِلَسْطِينَ أوْ هو بَيْنَ فارِسَ وكِرْمانَ، وأحْسَبُ أنَّ هَذا ناشِئٌ عَنْ تَطَلُّبِهِمْ تَعْيِينَ المَكانِ الَّذِي ذُكِرَ ما يُسَمّى في التَّوْراةِ بِاسْمِ عَدْنٍ. فَفِي التَّوْراةِ في الإصْحاحِ الثّانِي مِن سِفْرِ التَّكْوِينِ: وأخَذَ الرَّبُّ الإلَهُ آدَمَ ووَضَعَهُ في جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَها ويَحْفَظَها ثُمَّ. قالَتْ: فَأخْرَجَهُ الرَّبُّ الإلَهُ مِن جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَ الأرْضَ الَّتِي أُخِذَ مِنها وهَذا يَقْتَضِي أنَّ جَنَّةَ عَدْنٍ لَيْسَتْ في الأرْضِ لَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ شُرّاحُ التَّوْراةِ أنَّ جَنَّةَ عَدْنٍ في الأرْضِ وهو ظاهِرُ وصْفِ نَهْرِ هَذِهِ الجَنَّةِ الَّذِي يَسْقِيها بِأنَّهُ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِن عَدْنٍ، فَيَسْقِي الجَنَّةَ ومِن هُناكَ يَنْقَسِمُ فَيَصِيرُ أرْبَعَةَ رُءُوسٍ اسْمُ الواحِدِ قَيْشُونُ وهو المُحِيطُ بِجَمِيعِ أرْضِ الحُوَيْلَةِ وهم مِن بَنِي كُوشٍ كَما في الإصْحاحِ مِنَ التَّكْوِينِ، واسْمُ النَّهْرِ الثّانِي جَيْحُونُ وهو المُحِيطُ بِجَمِيعِ أرْضٍ كُوشٍ. واسْمُ النَّهْرِ الثّالِثِ ”حِدّا قِلْ“ وهو الجارِي شَرْقَ أشُورْ دِجْلَةَ. والنَّهْرُ الرّابِعُ الفُراتُ. ولَمْ أقِفْ عَلى ضَبْطِ عَدْنٍ هَذِهِ. ورَأيْتُ في كِتابِ عَبْدِ الحَقِّ الإسْلامِيِّ السِّبْتِيِّ الَّذِي كانَ (p-٤٣١)يَهُودِيًّا وأسْلَمَ وألَّفَ كِتابًا في الرَّدِّ عَلى اليَهُودِ سَمّاهُ الحُسامُ المَحْدُودُ في الرَّدِّ عَلى اليَهُودِ كَتَبَهُ بِغِيدِنَ وضَبَطَهُ بِالعَلاماتِ بِكَسْرِ الغَيْنِ المُعْجَمَةِ وكَسْرِ الدّالِ المُهْمَلَةِ ولَعَلَّ النُّقْطَةَ عَلى حَرْفِ العَيْنِ سَهْوٌ مِنَ النّاسِخِ فَذَلِكَ هو مَنشَأُ قَوْلِ القائِلِينَ أنَّها بِعَدْنٍ أوْ بِفِلَسْطِينَ أوْ بَيْنَ فارِسَ وكِرْمانَ، والَّذِي ألْجَأهم إلى ذَلِكَ أنَّ جَنَّةَ الثَّوابِ دارُ كَمالٍ لا يُناسِبُ أنْ يَحْصُلَ فِيها العِصْيانُ وأنَّها دارُ خُلْدٍ لا يَخْرُجُ ساكِنُها وهو التِجاءٌ بِلا مُلْجِئٍ لِأنَّ ذَلِكَ مِن أحْوالِ سُكّانٍ الجَنَّةِ لا لِتَأْثِيرِ المَكانِ وكُلُّهُ جَعْلُ اللَّهِ تَعالى عِنْدَما أرادَهُ. واحْتَجَّ أهْلُ السُّنَّةِ بِأنَّ ”ألْ“ في الجَنَّةِ لِلْعَهْدِ الخارِجِيِّ ولا مَعْهُودَ غَيْرَها، وإنَّما تَعَيَّنَ كَوْنُها لِلْعَهْدِ الخارِجِيِّ لِعَدَمِ صِحَّةِ الحَمْلِ عَلى الجِنْسِ بِأنْواعِهِ الثَّلاثَةِ، إذْ لا مَعْنى لِلْحَمْلِ عَلى أنَّها لامُ الحَقِيقَةِ لِأنَّها قَدْ نِيطَ بِها فِعْلُ السُّكْنى ولا مَعْنى لِتَعَلُّقِهِ بِالحَقِيقَةِ بِخِلافِ نَحْوِ: الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنَ المَرْأةِ، ولا مَعْنى لِلْحَمْلِ عَلى العَهْدِ الذِّهْنِيِّ إذِ الفَرْدُ مِنَ الحَقِيقَةِ هُنا مَقْصُودٌ مُعَيَّنٌ لِأنَّ الأمْرَ بِالإسْكانِ جَزاءٌ وإكْرامٌ فَلابُدَّ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِجَنَّةٍ مَعْرُوفَةٍ، ولا مَعْنى لِلْحَمْلِ عَلى الِاسْتِغْراقِ لِظُهُورِ ذَلِكَ. ولَمّا كانَ المَقْصُودُ هو الجَزاءَ تَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِأمْرٍ مُعَيَّنٍ مَعْهُودٍ ولا مَعْهُودَ إلّا الجَنَّةُ المَعْرُوفَةُ لاسِيَّما وهو اصْطِلاحُ الشَّرْعِ. وقَدْ يُقالُ أنَّ اللّامَ لِلْعَهْدِ ولَعَلَّ المَعْهُودَ لِآدَمَ هو جَنَّةٌ في الأرْضِ مُعَيَّنَةٍ أُشِيرَ إلَيْها بِتَعْرِيفِ العَهْدِ ولِذَلِكَ أخْتارُ أنا أنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ﴾ لَمّا كانَ المَقْصُودُ مِنهُ القَصَصَ لَنا حُكِيَ بِالألْفاظِ المُتَعارَفَةِ لَدَيْنا تَرْجَمَةٌ لِألْفاظِ اللُّغَةِ الَّتِي خُوطِبَ بِها آدَمُ أوْ عَنِ الإلْهامِ الَّذِي أُلْقِيَ إلى آدَمَ فَيَكُونُ تَعْرِيفُ الجَنَّةِ مَنظُورًا فِيهِ إلى مُتَعارَفِنا فَيَكُونُ آدَمُ قَدْ عَرَفَ المُرادَ مِن مَسْكَنِهِ بِطَرِيقٍ آخَرَ غَيْرِ التَّعْرِيفِ ويَكُونُ قَدْ حُكِيَ لَنا ذَلِكَ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيفِ لِأنَّ لَفْظَ الجَنَّةِ المُقْتَرِنَ في كَلامِنا بِلامِ التَّعْرِيفِ يَدُلُّ عَلى عَيْنِ ما دَلَّ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ الآخَرُ الَّذِي عَرَفَ بِهِ آدَمُ مُرادَ اللَّهِ تَعالى؛ أيْ قُلْنا لَهُ اسْكُنِ البُقْعَةَ الَّتِي تُسَمُّونَها أنْتُمُ اليَوْمَ بِالجَنَّةِ، والحاصِلُ أنَّ الأظْهَرَ أنَّ الجَنَّةَ الَّتِي أُسْكِنَها آدَمُ هي الجَنَّةُ المَعْدُودَةُ دارًا لِجَزاءِ المُحْسِنِينَ. ومَعْنى الأكْلِ مِنَ الجَنَّةِ مِن ثَمَرِها؛ لِأنَّ الجَنَّةَ تَسْتَلْزِمُ ثِمارًا وهي مِمّا يُقْصَدُ بِالأكْلِ ولِذَلِكَ تُجْعَلُ (مِن) تَبْعِيضِيَّةً بِتَنْزِيلِ بَعْضِ ما يَحْوِيهِ المَكانُ مُنْزِلَةَ بَعْضٍ لِذَلِكَ المَكانِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ (مِن) ابْتِدائِيَّةً إشارَةً إلى أنَّ الأكْلَ المَأْذُونَ فِيهِ أكْلُ ما تُثْمِرُهُ تِلْكَ الجَنَّةُ كَقَوْلِكَ هَذا الثَّمَرُ مِن خَيْبَرَ. (p-٤٣٢)والرَّغَدُ وصْفٌ لِمَوْصُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّياقُ أيْ أكْلًا رَغَدًا، والرَّغَدُ الهَنِيءُ الَّذِي لا عَناءَ فِيهِ ولا تَقْتِيرٌ، وقَوْلُهُ ﴿حَيْثُ شِئْتُما﴾ ظَرْفُ مَكانٍ أيْ مِن أيِّ مَواضِعَ أرَدْتُما الأكْلَ مِنها، ولَمّا كانَتْ مَشِيئَتُهُما لا تَنْحَصِرُ بِمَواضِعَ اسْتُفِيدَ العُمُومُ في الإذْنِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ، وفي جَعْلِ الأكْلِ مِنَ الثَّمَرِ مِن أحْوالِ آدَمَ وزَوْجِهِ حِينَ إنْشائِها تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ اللَّهَ جَعَلَ الِاقْتِياتَ جِبِلَّةً لِلْإنْسانِ لا تَدُومُ حَياتُهُ إلّا بِهِ. وقَوْلُهُ ﴿ولا تَقْرَبا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ﴾ يَعْنِي بِهِ ولا تَأْكُلا مِنَ الشَّجَرَةِ لِأنَّ قُرْبانَها إنَّما هو لِقَصْدِ الأكْلِ مِنها فالنَّهْيُ عَنِ القُرْبانِ أبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الأكْلِ لِأنَّ القُرْبَ مِنَ الشَّيْءِ يُنْشِئُ داعِيَةً ومَيْلًا إلَيْهِ فَفي الحَدِيثِ «مَن حامَ حَوْلَ الحِمى يُوشِكُ أنْ يَقَعَ فِيهِ» وقالَ ابْنُ العَرَبِيِّ سَمِعْتُ الشّاشِيَّ في مَجْلِسِ النَّظَرِ يَقُولُ: إذا قِيلَ لا تَقْرَبْ - بِفَتْحِ الرّاءِ - كانَ مَعْناهُ لا تَتَلَبَّسْ بِالفِعْلِ، وإذا قِيلَ - بِضَمِّ الرّاءِ - كانَ مَعْناهُ لا تَدْنُ مِنهُ اهـ. وهُوَ غَرِيبٌ فَإنَّ قَرُبَ وقَرِبَ نَحْوَ كَرُمَ وسَمِعَ بِمَعْنى دَنا، فَسَواءٌ ضَمَمْتَ الرّاءَ أوْ فَتَحْتَها في المُضارِعِ فالمُرادُ النَّهْيُ عَنِ الدُّنُوِّ إلّا أنَّ الدُّنُوَّ بَعْضُهُ مَجازِيُّ وهو التَّلَبُّسُ وبَعْضُهُ حَقِيقِيُّ ولا يَكُونُ لِلْمَجازِيِّ وزْنٌ خاصٌّ في الأفْعالِ وإلّا لَصارَ مِنَ المُشْتَرَكِ لا مِنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ، اللَّهُمَّ إلّا أنْ يَكُونَ الِاسْتِعْمالُ خَصَّ المَجازِيَّ بِبَعْضِ التَّصارِيفِ فَتَكُونُ تِلْكَ الزِّنَةُ قَرِينَةً لَفْظِيَّةً لِلْمَجازِ وذَلِكَ حَسَنٌ، وهو مِن مَحاسِنِ فُرُوقِ اسْتِعْمالِ الألْفاظِ المُتَرادِفَةِ في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ مِثْلُ تَخْصِيصِ بَعِدَ مَكْسُورِ العَيْنِ بِالِانْقِطاعِ التّامِّ وبَعُدَ مَضْمُومِ العَيْنِ بِالتَّنَحِّي عَنِ المَكانِ ولِذَلِكَ خُصَّ الدُّعاءُ بِالمَكْسُورِ في قَوْلِهِمْ لِلْمُسافِرِ لا تَبْعِدْ، قالَتْ فاطِمَةُ بِنْتُ الأحْجَمِ الخُزاعِيَّةُ: ؎إخْوَتِي لا تَبْعَدُوا أبَدًا ∗∗∗ وبَلى واللَّهِ قَدْ بَعِدُوا وفِي تَعْلِيقِ النَّهْيِ بِقُرْبانِ الشَّجَرَةِ إشارَةٌ إلى مَنزَعِ سَدِّ الذَّرائِعِ وهو أصْلٌ مِن أُصُولِ مَذْهَبِ مالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وفِيهِ تَفْصِيلٌ مُقَرَّرٌ في أُصُولِ الفِقْهِ. والإشارَةُ بِـ (هَذِهِ) إلى شَجَرَةٍ مَرْئِيَّةٍ لِآدَمَ وزَوْجِهِ، والمُرادُ شَجَرَةٌ مِن نَوْعِها أوْ كانَتْ شَجَرَةً وحِيدَةً في الجَنَّةِ. وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ القَصَصِ في تَعْيِينِ نَوْعِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَعَنْ عَلِيٍّ وابْنِ مَسْعُودٍ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ والسُّدِّيِّ أنَّها الكَرْمَةُ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ وجُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ أنَّها الحِنْطَةُ، وعَنْ قَتادَةَ وابْنِ جُرَيْجٍ ونَسَبَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ إلى جَمْعٍ مِنَ الصَّحابَةِ أنَّها شَجَرَةُ التِّينِ. ووَقَعَ في سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْراةِ إبْهامُها وعُبِّرَ عَنْها بِشَجَرَةِ مَعْرِفَةِ الخَيْرِ والشَّرِّ. (p-٤٣٣)وقَوْلُهُ ﴿فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ﴾ أيْ مِنَ المُعْتَدِينَ وأشْهَرُ مَعانِي الظُّلْمِ في اسْتِعْمالِ العَرَبِ هو الِاعْتِداءُ، والِاعْتِداءُ إمّا اعْتِداءٌ عَلى نَهْيِ النّاهِي إنْ كانَ المَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ الجَزْمَ بِالتَّرْكِ، وإمّا اعْتِداءٌ عَلى النَّفْسِ والفَضِيلَةِ إنْ كانَ المَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الأكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ بَقاءَ فَضِيلَةِ التَّنَعُّمِ لِآدَمَ في الجَنَّةِ، فَعَلى الأوَّلِ الظُّلْمُ لِأنْفُسِهِما بِارْتِكابِ غَضَبِ اللَّهِ وعِقابِهِ، وعَلى الثّانِي الظُّلْمُ لِأنْفُسِهِما بِحِرْمانِها مِن دَوامِ الكَرامَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب