الباحث القرآني

﴿وقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وزَوْجُكَ الجَنَّةَ﴾ عَطْفٌ عَلى ”إذ قُلْنا“ بِتَقْدِيرِ إذْ، أوْ بِدُونِهِ، أوْ عَلى (قُلْنا)، والزَّمانُ مُمْتَدٌّ واسِعٌ لِلْقَوْلَيْنِ، وتَصْدِيرُ الكَلامِ بِالنِّداءِ لِتَنْبِيهِ المَأْمُورِ لِما يُلْقى إلَيْهِ مِنَ الأمْرِ، وتَحْرِيكِهِ لِما يُخاطَبُ بِهِ، إذْ هو مِنَ الأُمُورِ الَّتِي يَنْبَغِي أنْ يَتَوَجَّهَ إلَيْها، (واسْكُنْ)، أمْرٌ مِنَ السُّكْنى، بِمَعْنى اتِّخاذِ المَسْكَنِ، لا مِنَ السُّكُونِ تَرْكِ الحَرَكَةِ إذْ يُنافِيهِ ظاهِرًا (حَيْثُ شِئْتُما)، وذُكِرَ مُتَعَلِّقُهُ بِدُونِ (فِي) ولَيْسَ بِمَكانٍ مُبْهَمٍ، (وأنْتَ) تَوْكِيدٌ لِلْمُسْتَكِنِّ في (اسْكُنْ)، والمَقْصِدُ مِنهُ بِالذّاتِ صِحَّةُ العَطْفِ، إذْ لَوْلاهُ لَزِمَ العَطْفُ عَلى الضَّمِيرِ المُتَّصِلِ بِلا فَصْلٍ، وهو مُمْتَنِعٌ في الفَصِيحِ عَلى الصَّحِيحِ، وإفادَةُ تَقْرِيرِ المَتْبُوعِ مَقْصُودَةٌ تَبَعًا، وصَحَّ العَطْفُ مَعَ أنَّ المَعْطُوفَ لا يُباشِرُهُ فِعْلُ الأمْرِ، لِأنَّهُ وقَعَ تابِعًا، ويُغْتَفَرُ فِيهِ ما لا يُغْتَفَرُ في المَتْبُوعِ، وقِيلَ: هُناكَ تَغْلِيبانِ تَغْلِيبُ المُخاطَبِ عَلى الغائِبِ، والمُذَكَّرِ عَلى المُؤَنَّثِ، ولِكَوْنِ (p-233)التَّغْلِيبِ مَجازًا، ومَعْنى السُّكُونِ والأمْرِ مَوْجُودًا فِيهِما حَقِيقَةً خَفِيَ الأمْرُ، فَأمّا أنْ يَلْتَزِمَ أنَّ التَّغْلِيبَ قَدْ يَكُونُ مَجازًا غَيْرَ لُغَوِيٍّ بِأنْ يَكُونَ التَّجَوُّزُ في الإسْنادِ، أوْ يُقالُ: إنَّهُ لُغَوِيٌّ، لِأنَّ صِيغَةَ الأمْرِ هُنا لِلْمُخاطَبِ، وقَدِ اسْتُعْمِلَتْ في الأعَمِّ، ولِلتَّخَلُّصِ عَنْ ذَلِكَ قِيلَ: إنَّهُ مَعْطُوفٌ بِتَقْدِيرِ: فَلْيَسْكُنْ، وفِيهِ أنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مِن عَطْفِ الجُمْلَةِ عَلى الجُمْلَةِ، فَلا وجْهَ لِلتَّأْكِيدِ، والأمْرُ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ لِلْإباحَةِ كاصْطادُوا، وأنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ كَما أنَّ النَّهْيَ فِيما بَعْدُ لِلتَّحْرِيمِ، وإيثارُهُ عَلى اسْكُنا لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ المَقْصِدُ بِالحُكْمِ في جَمِيعِ الأوامِرِ، وهي تَبَعٌ لَهُ، كَما أنَّها في الخِلْقَةِ كَذَلِكَ، ولِهَذا قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: لا يَصِحُّ إيرادُ زَوْجِكَ بِدُونِ العَطْفِ، بِأنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مَعَهُ، والجَنَّةُ في المَشْهُورِ دارُ الثَّوابِ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ القِيامَةِ، لِأنَّها المُتَبادِرَةُ عِنْدَ الإطْلاقِ، ولِسَبْقِ ذِكْرِها في السُّورَةِ، وفي ظَواهِرِ الآثارِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ، ومِنها ما في الصَّحِيحِ مِن مُحاجَّةِ آدَمَ ومُوسى عَلَيْهِما السَّلامُ، فَهي إذَنْ في السَّماءِ، حَيْثُ شاءَ اللَّهُ تَعالى مِنها، وذَهَبَ المُعْتَزِلَةُ، وأبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ، وأُناسٌ إلى أنَّها جَنَّةٌ أُخْرى خَلَقَها اللَّهُ تَعالى امْتِحانًا لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وكانَتْ بُسْتانًا في الأرْضِ بَيْنَ فارِسَ وكِرْمانَ، وقِيلَ: بِأرْضِ عَدَنٍ، وقِيلَ: بِفِلَسْطِينَ، كُورَةٌ بِالشّامِ، ولَمْ تَكُنِ الجَنَّةَ المَعْرُوفَةَ، وحَمَلُوا الهُبُوطَ عَلى الِانْتِقالِ مِن بُقْعَةٍ إلى بُقْعَةٍ، كَما في ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ أوْ عَلى ظاهِرِهِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ في مَكانٍ مُرْتَفِعٍ، قالُوا: لِأنَّهُ لا نِزاعَ في أنَّهُ تَعالى خَلَقَ آدَمَ في الأرْضِ، ولَمْ يَذْكُرْ في القِصَّةِ أنَّهُ نَقَلَهُ إلى السَّماءِ، ولَوْ كانَ نَقَلَهُ إلَيْها لَكانَ أوْلى بِالذِّكْرِ، ولِأنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ في شَأْنِ تِلْكَ الجَنَّةِ وأهْلِها ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا ولا تَأْثِيمًا﴾ ﴿إلا قِيلا سَلامًا سَلامًا﴾ و﴿لا لَغْوٌ فِيها ولا تَأْثِيمٌ﴾ ﴿وما هم مِنها بِمُخْرَجِينَ﴾ وقَدْ لَغا إبْلِيسُ فِيها، وكَذَبَ، وأُخْرِجَ مِنها آدَمُ وحَوّاءُ مَعَ إدْخالِهِما فِيها عَلى وجْهِ السُّكْنى لا كَإدْخالِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَيْلَةَ المِعْراجِ، ولِأنَّ جَنَّةَ الخُلْدِ دارٌ لِلنَّعِيمِ، وراحَةٌ، ولَيْسَتْ بِدارِ تَكْلِيفٍ، وقَدْ كُلِّفَ آدَمُ أنْ لا يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، ولِأنَّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الكافِرِينَ، وقَدْ دَخَلَها لِلْوَسْوَسَةِ، ولَوْ كانَتْ دارَ الخُلْدِ ما دَخَلَها، ولا كادَ، لِأنَّ الأكابِرَ صَرَّحُوا بِأنَّهُ لَوْ جِيءَ بِالكافِرِ إلى بابِ الجَنَّةِ لَتَمَزَّقَ، ولَمْ يَدْخُلْها، لِأنَّهُ ظُلْمَةٌ، وهي نُورٌ، ودُخُولُهُ مُسْتَتِرًا في الجَنَّةِ عَلى ما فِيهِ، لا يُفِيدُ، ولِأنَّها مَحَلُّ تَطْهِيرٍ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ أنْ يَقَعَ فِيها العِصْيانُ والمُخالَفَةُ، ويَحِلَّ بِها غَيْرُ المُطَهَّرِينَ؟ ولِأنَّ أوَّلَ حَمْلِ حَوّاءَ كانَ في الجَنَّةِ عَلى ما في بَعْضِ الآثارِ، ولَمْ يَرِدْ أنَّ ذَلِكَ الطَّعامَ اللَّطِيفَ يَتَوَلَّدُ مِنهُ نُطْفَةُ هَذا الجَسَدِ الكَثِيفِ، والتِزامُ الجَوابِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لا يَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ، والتِزامُ ما لا يَلْزَمُ، وما في حَيِّزِ المُحاجَّةِ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلى هَذِهِ الجَنَّةِ، وكَوْنُ حَمْلِها عَلى ما ذُكِرَ يَجْرِي مَجْرى المُلاعَبَةِ بِالدِّينِ، والمُراغَمَةِ لِإجْماعِ المُسْلِمِينَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وقِيلَ: كانَتْ في السَّماءِ، ولَيْسَتْ دارَ الثَّوابِ بَلْ هي جَنَّةُ الخُلْدِ، وقِيلَ: كانَتْ غَيْرَهُما، ويَرُدُّ ذَلِكَ أنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أنَّ في السَّماءِ بَساتِينَ غَيْرَ بَساتِينِ الجَنَّةِ المَعْرُوفَةِ، واحْتِمالُ أنَّها خُلِقَتْ إذْ ذاكَ، ثُمَّ اضْمَحَلَّتْ مِمّا لا يُقْدِمُ عَلَيْهِ مُنْصِفٌ، وقِيلَ: الكُلُّ مُمْكِنٌ، واللَّهُ تَعالى عَلى ما يَشاءُ قَدِيرٌ، والأدِلَّةُ مُتَعارِضَةٌ، فالأحْوَطُ والأسْلَمُ هو الكَفُّ عَنْ تَعْيِينِها، والقَطْعُ بِهِ، وإلَيْهِ مالَ صاحِبُ التَّأْوِيلاتِ، والَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ ساداتِنا الصُّوفِيَّةِ قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى أسْرارَهم أنَّها في الأرْضِ عِنْدَ جَبَلِ الياقُوتِ تَحْتَ خَطِّ الِاسْتِواءِ، ويُسَمُّونَها جَنَّةَ البَرْزَخِ، وهي الآنَ مَوْجُودَةٌ، وإنَّ العارِفِينَ يَدْخُلُونَها اليَوْمَ بِأرْواحِهِمْ لا بِأجْسامِهِمْ، ولَوْ قالُوا: إنَّها جَنَّةُ المَأْوى ظَهَرَتْ حَيْثُ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وكَيْفَ شاءَ، كَما ظَهَرَتْ لِنَبِيِّنا عَلى ما ورَدَ في الصَّحِيحِ في عَرْضِ حائِطِ المَسْجِدِ، لَمْ يَبْعُدْ عَلى مَشْرَبِهِمْ، ولَوْ أنَّ قائِلًا قالَ بِهَذا، لَقُلْتُ بِهِ، لَكِنْ لِلتَّفَرُّدِ في مِثْلِ هَذِهِ المَطالِبِ آفاتٌ، وكَما اخْتُلِفَ في هَذِهِ الجَنَّةِ اخْتُلِفَ في وقْتِ خَلْقِ زَوْجِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَذَكَرَ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ عَبّاسٍ، وناسٍ مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أخْرَجَ إبْلِيسَ مِنَ الجَنَّةِ، وأسْكَنَها آدَمَ بَقِيَ فِيها وحْدَهُ، وما كانَ مَعَهُ مَن يَسْتَأْنِسُ بِهِ، فَألْقى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ النَّوْمَ، ثُمَّ أخَذَ ضِلَعًا مِن جانِبِهِ الأيْسَرِ، ووَضَعَ مَكانَهُ لَحْمًا، وخَلَقَ حَوّاءَ مِنهُ، فَلَمّا اسْتَيْقَظَ وجَدَها (p-234)عِنْدَ رَأْسِهِ قاعِدَةً، فَسَألَها: مَن أنْتِ؟ قالَتِ: امْرَأةٌ، قالَ: ولِمَ خُلِقْتِ؟ قالَتْ: لِتَسْكُنَ إلَيَّ، فَقالَتِ المَلائِكَةُ تَجْرِبَةً لِعِلْمِهِ: مَن هَذِهِ؟ قالَ: امْرَأةٌ، قالُوا: لِمَ سُمِّيَتِ امْرَأةً قالَ: لِأنَّها خُلِقَتْ مِنَ المِراءِ، فَقالُوا: ما اسْمُها؟ قالَ: حَوّاءُ، قالُوا: لِمَ سُمِّيَتْ حَوّاءَ؟ قالَ: لِأنَّها خُلِقَتْ مِن شَيْءٍ حَيٍّ، وقالَ كَثِيرُونَ ولَعَلِّي أقُولُ بِقَوْلِهِمْ: إنَّها خُلِقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، ودَخَلا مَعًا، وظاهِرُ الآيَةِ الكَرِيمَةِ يُشِيرُ إلَيْهِ، وإلّا تَوَجَّهَ الأمْرُ إلى مَعْدُومٍ، وإنْ كانَ في عِلْمِهِ تَعالى مَوْجُودًا، وأيْضًا في تَقْدِيمِ (زَوْجِكَ) عَلى الجَنَّةِ نَوْعُ إشارَةٍ إلَيْهِ، وفي المَثَلِ: الرَّفِيقُ قَبْلَ الطَّرِيقِ، وأيْضًا هي مَسْكَنُ القَلْبِ، والجَنَّةُ مَسْكَنُ البَدَنِ، ومِنَ الحِكْمَةِ تَقْدِيمُ الأوَّلِ عَلى الثّانِي، وأثَرُ السُّدِّيِّ عَلى ما فِيهِ مِمّا لا يَخْفى عَلَيْكم مُعارَضٌ بِما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قالَ: بَعَثَ اللَّهُ جُنْدًا مِنَ المَلائِكَةِ، فَحَمَلُوا آدَمَ وحَوّاءَ عَلى سَرِيرٍ مِن ذَهَبٍ، كَما تُحْمَلُ المُلُوكُ، ولِباسُهُما النُّورُ، حَتّى أدْخَلُوهُما الجَنَّةَ، فَإنَّهُ كَما تَرى يَدُلُّ عَلى خَلْقِها قَبْلَ دُخُولِ الجَنَّةِ، ﴿وكُلا مِنها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما﴾ الضَّمِيرُ المَجْرُورُ لِلْجَنَّةِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ مِن مَطاعِمِها مِن ثِمارٍ وغَيْرِها، فَلَمْ يَحْظُرْ عَلَيْهِما شَيْئًا إلّا ما سَيَأْتِي، وأصْلُ (كُلا) أُأْكُلا، بِهَمْزَتَيْنِ، الأُولى لِلْوَصْلِ، والثّانِيَةُ فاءُ الكَلِمَةِ، فَحُذِفَتِ الثّانِيَةُ لِاجْتِماعِ المِثْلَيْنِ حَذْفَ شُذُوذٍ، وأُتْبِعَتْ بِالأُولى لِفَواتِ الغَرَضِ، وقِيلَ: حُذِفا مَعًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ، والرَّغَدُ بِفَتْحِ الغَيْنِ، وقَرَأ النَّخَعِيُّ بِسُكُونِها، الهَنِيءُ الَّذِي لا عَناءَ فِيهِ، أوِ الواسِعُ، يُقالُ: رَغُدَ عَيْشُ القَوْمِ، ورَغِدَ بِكَسْرِ الغَيْنِ، وضَمِّها، كانُوا في رِزْقٍ واسِعٍ كَثِيرٍ، وأرْغَدَ القَوْمُ أخْصَبُوا وصارُوا في رَغَدٍ مِنَ العَيْشِ، ونَصْبُهُ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: أكْلًا رَغَدًا، وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: إنَّهُ حالٌ بِتَأْوِيلِ راغِدِينَ مُرَفَّهِينَ، (وحَيْثُ) ظَرْفُ مَكانٍ مُبْهَمٍ لازِمٌ لِلظَّرْفِيَّةِ، وإعْرابُها لُغَةُ بَنِي فَقْعَسٍ، ولا تَكُونُ ظَرْفَ زَمانٍ خِلافًا لِلْأخْفَشِ، ولا يَجْزِمُ بِها دُونَ (ما) خِلافًا لِلْفَرّاءِ، ولا تُضافُ لِلْمُفْرَدِ خِلافًا لِلْكِسائِيِّ، ولا يُقالُ: زَيْدٌ حَيْثُ عَمْرٌو، خِلافًا لِلْكُوفِيِّينَ، ويَعْتَقِبُ عَلى آخِرِها الحَرَكاتُ الثَّلاثُ مَعَ الياءِ والواوِ والألِفِ، ويُقالُ: حايِثُ عَلى قِلَّةٍ، وهي هُنا مُتَعَلِّقَةٌ (بِكُلا)، والمُرادُ بِها العُمُومُ لِقَرِينَةِ المَقامِ، وعَدَمِ المُرَجِّحِ، أيْ: أيَّ مَكانٍ مِنَ الجَنَّةِ شِئْتُما، وأباحَ لَهُما الأكْلَ كَذَلِكَ إزاحَةً لِلْعُذْرِ في التَّناوُلِ مِمّا حَظَرَ، ولَمْ تُجْعَلْ مُتَعَلِّقَةً بِـ(اسْكُنْ) لِأنَّ عُمُومَ الأمْكِنَةِ مُسْتَفادٌ مِن جَعْلِ الجَنَّةِ مَفْعُولًا بِهِ لَهُ مَعَ أنَّ التَّكْرِيمَ في الأكْلِ مِن كُلِّ ما يُرِيدُ مِنها، لا في عَدَمِ تَعْيِينِ السُّكْنى، ولِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى في آيَةٍ أُخْرى: ﴿فَكُلا مِن حَيْثُ شِئْتُما﴾ يَسْتَدْعِي ما ذَكَرْنا، وكَذا قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ولا تَقْرَبا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ﴾ ظاهِرُ هَذا النَّهْيِ التَّحْرِيمُ، والمَنهِيُّ عَنْهُ الأكْلُ مِنَ الشَّجَرَةِ، إلّا أنَّهُ سُبْحانَهُ نَهى عَنْ قُرْبانِها مُبالَغَةً، ولِهَذا جَعَلَ جَلَّ شَأْنُهُ العِصْيانَ المُرَتَّبَ عَلى الأكْلِ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ، وعَدَلَ عَنْ فَتَأْثَما، إلى التَّعْبِيرِ بِالظُّلْمِ الَّذِي يُطْلَقُ عَلى الكَبائِرِ، ولَمْ يَكْتَفِ بِأنْ يَقُولَ: ظالِمِينَ، بَلْ قالَ: مِنَ الظّالِمِينَ، بِناءً عَلى ما ذَكَرُوا أنَّ قَوْلَكَ: زَيْدٌ مِنَ العالِمِينَ، أبْلَغُ مِن: زَيْدٌ عالِمٌ، لِجَعْلِهِ غَرِيقًا في العِلْمِ أبًا عَنْ جَدٍّ، وإنْ قُلْنا بِأنَّ (تَكُونا) دالَّةٌ عَلى الدَّوامِ ازْدادَتِ المُبالَغَةُ، ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: لا تَقْرَبْ، بِفَتْحِ الرّاءِ نَهْيٌ عَنِ التَّلَبُّسِ بِالشَّيْءِ، وبِضَمِّها بِمَعْنى لا تَدْنُ مِنهُ، وقالَ الجَوْهَرِيُّ: قَرُبَ بِالضَّمِّ يَقْرُبُ قُرْبانًا، وقَرِبْتُهُ بِالكَسْرِ قُرْبانًا دَنَوْتُ مِنهُ، والتّاءُ في الشَّجَرَةِ لِلْوَحْدَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وهو اللّائِقُ بِمَقامِ الإزاحَةِ، وجازَ أنْ يُرادَ النَّوْعُ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ اللّامُ لِلْجِنْسِ، كَما في الكَشْفِ، ووَقَعَ خِلافٌ في هَذِهِ الشَّجَرَةِ، فَقِيلَ: الحِنْطَةُ، وقِيلَ: النَّخْلَةُ، وقِيلَ: شَجَرَةُ الكافُورِ، ونُسِبَ إلى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ، وقِيلَ: التِّينُ، وقِيلَ: الحَنْظَلُ، وقِيلَ: شَجَرَةُ المَحَبَّةِ، وقِيلَ: شَجَرَةُ الطَّبِيعَةِ والهَوى، وقِيلَ، وقِيلَ، والأوْلى عَدَمُ القَطْعِ والتَّعْيِينِ كَما أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يُعَيِّنْها (p-235)بِاسْمِها في الآيَةِ، ولا أرى ثَمَرَةً في تَعْيِينِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، ويُقالُ فِيها: شِجَرَةٌ، بِكَسْرِ الشِّينِ، وشَيَرَةٌ بِإبْدالِ الجِيمِ ياءً مَفْتُوحَةً مَعَ فَتْحِ الشِّينِ وكَسْرِها، وبِكُلٍّ قَرَأ بَعْضٌ، وعَنْ أبِي عَمْرٍو أنَّهُ كَرِهَ شَيَرَةً قائِلًا: إنَّ بَرابِرَ مَكَّةَ وسُودانَها يَقْرَؤُونَ بِها، ولا يَخْفى ما فِيهِ، والشَّجَرُ ما لَهُ ساقٌ أوْ كُلُّ ما تَفَرَّعَ لَهُ أغْصانٌ وعِيدانٌ، أوْ أعَمُّ مِن ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿شَجَرَةً مِن يَقْطِينٍ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتَكُونا﴾ إمّا مَجْزُومٌ بِحَذْفِ النُّونِ مَعْطُوفًا عَلى ﴿تَقْرَبا﴾ فَيَكُونُ مَنهِيًّا عَنْهُ، وكانَ عَلى أصْلِ مَعْناها، أوْ مَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ جَوابٌ لِلنَّهْيِ كَقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ولا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ﴾ والنَّصْبُ بِإضْمارِ أنْ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، وبِالفاءِ نَفْسِها عِنْدَ الجَرْمِيِّ، وبِالخِلافِ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ، (وكانَ) حِينَئِذٍ بِمَعْنى صارَ، وأيًّا ما كانَ مِن تَفَهُّمِ سَبَبِيَّةِ ما تَقَدَّمَ، لِكَوْنِها ﴿مِنَ الظّالِمِينَ﴾ أيِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهم بِارْتِكابِ المَعْصِيَةِ أوْ نَقَصُوا حُظُوظَهم بِمُباشَرَةِ ما يُخِلُّ بِالكَرامَةِ والنَّعِيمِ، أوْ تَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ تَعالى، ولَعَلَّ القُرْبانَ المَنهِيَّ عَنْهُ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِلظُّلْمِ المُخِلِّ بِالعِصْمَةِ، هو ما لا يَكُونُ مَصْحُوبًا بِعُذْرٍ كالنِّسْيانِ هُنا مَثَلًا المُشارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَنَسِيَ ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ فَلا يَسْتَدْعِي حَمْلُ النَّهْيِ عَلى التَّحْرِيمِ، والظُّلْمِ المَقُولِ بِالتَّشْكِيكِ عَلى ارْتِكابِ المَعْصِيَةِ عَدَمَ عِصْمَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالأكْلِ المَقْرُونِ بِالنِّسْيانِ، وإنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ ما تَرَتَّبَ نَظَرًا إلى أنَّ حَسَناتِ الأبْرارِ سَيِّئاتُ المُقَرَّبِينَ، ولِلسَّيِّدِ أنْ يُخاطِبَ عَبْدَهُ بِما شاءَ، نَعَمْ لَوْ كانَ ذَلِكَ غَيْرَ مَقْرُونٍ بِعُذْرٍ كانَ ارْتِكابُهُ حِينَئِذٍ مُخِلًّا، ودُونَ إثْباتِ هَذا خَرْطُ القَتادِ، فَإذًا لا دَلِيلَ في هَذِهِ القِصَّةِ عَلى عَدَمِ العِصْمَةِ، ولا حاجَةَ إلى القَوْلِ: إنَّ ما وقَعَ كانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ لا بَعْدَها كَما يَدَّعِيهِ المُعْتَزِلَةُ، القائِلُونَ بِأنَّ ظُهُورَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِالأسْماءِ مُعْجِزَةٌ عَلى نُبُوَّتِهِ إذْ ذاكَ، وصُدُورُ الذَّنْبِ قَبْلَها جائِزٌ عِنْدَ أكْثَرِ الأصْحابِ، وهو قَوْلُ أبِي هُذَيْلٍ وأبِي عَلِيٍّ مِنَ المُعْتَزِلَةِ، ولا إلى حَمْلِ النَّهْيِ عَلى التَّنْزِيهِ، والظُّلْمِ عَلى نَقْصِ الحَظِّ مَثَلًا، والتَزَمَهُ غَيْرُ واحِدٍ، وقُرِئَ (تِقْرَبا) بِكَسْرِ التّاءِ، وهي لُغَةُ الحِجازِيِّينَ، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ (هَذِي) بِالياءِ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب