الباحث القرآني

ثُمَّ ذَكَّرَ الكُلَّ بِنِعْمَةٍ تَشْمَلُهم وهي مُحاجَّتُهُ لِأقْرَبِ خَلْقِهِ إذْ ذاكَ إلَيْهِ عَنْ أبِينا آدَمَ قَبْلَ إيجادِهِ اقْتَضى الأُسْلُوبُ الحَكِيمُ أنْ يُوَضِّحَ لَهُمُ الحُجَّةَ في فَضِيلَةِ هَذا الخَلِيفَةِ فَذَكَرَ ما آتاهُ مِنَ العِلْمِ، فَلَمّا فَرَغَ مِن مُحاجَّتِهِمْ بِما أوْجَبَ إذْعانَهم ذَكَّرَ بَنِيهِ بِنِعْمَةِ السُّجُودِ (p-٢٨١)لَهُ، فَما كانَ تَقْدِيمُ إظْهارِ فَضِيلَةِ العِلْمِ إلّا مُحافَظَةً عَلى حُسْنِ السِّياقِ في تَرْتِيبِ الدَّلِيلِ عَلى أقْوَمِ مِنهاجٍ وأوْضَحِ سَبِيلٍ. ولَمّا فَرَغَ مِن نِعْمَةِ التَّفْضِيلِ في الصِّفاتِ الذّاتِيَّةِ بَيَّنَ النِّعْمَةَ بِشَرَفِ المَسْكَنِ مَعَ تَسْخِيرِ زَوْجٍ مِنَ الجِنْسِ لِكَمالِ الأُنْسِ وما يَتْبَعُ ذَلِكَ فَقالَ تَعالى. وقالَ الحَرالِّيُّ: لَمّا أظْهَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ فَضِيلَةَ آدَمَ فِيما أشادَ بِهِ عِنْدَ المَلائِكَةِ مِن عِلْمِهِ وخِلافَتِهِ والإسْجادِ لَهُ وإباءِ إبْلِيسَ عَنْهُ؛ أظْهَرَ تَعالى إثْرَ ذَلِكَ ما يُقابِلُ مِن أحْوالِ آدَمَ حالَ ما ظَهَرَ لِلْمَلائِكَةِ بِما فِيهِ مِن حَظِّ مُخالَفَةٍ يُشارِكُ بِها إفْراطَ ما في الشَّيْطانِ مِنَ الإباءِ لِإحاطَةِ خَلْقِ آدَمَ بِالكَوْنِ كُلِّهِ عُلُوًّا وسُفْلًا، ولِيَظْهَرَ فَضْلُ آدَمَ في حالِ مُخالَفَتِهِ عَلى إبْلِيسَ في حالِ إبائِهِ مِمّا يَبْدُو عَلى آدَمَ مِنَ الرُّجُوعِ بِالتَّوْبَةِ كَحالِ رُجُوعِ المَلائِكَةِ بِالتَّسْلِيمِ، فَيَظْهَرُ فِيهِ الجَمْعُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ والفَضْلُ في الحالَيْنِ: حالُ عِلْمِهِ وحالُ تَوْبَتِهِ في مُخالَفَتِهِ، فَجَعَلَ تَعالى إسْكانَ الجَنَّةِ تَوْطِئَةً لِإظْهارِ ذَلِكَ مِن أمْرِهِ فَقالَ تَعالى: ﴿وقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ﴾، مِنَ السَّكَنِ وهو الهُدُوءُ في الشَّيْءِ الَّذِي في طَيِّهِ (p-٢٨٢)إقْلاقٌ، ”أنْ“ في قَوْلِهِ: ”أنْتَ“ اسْمُ باطِنِ الذّاتِ عَلَمًا هي المُشْتَرَكَةُ في أنا وأنْتَ وأنْتِ وأنْ تَفْعَلَ كَذا، والألِفُ في أنا إشارَةُ ذاتِ المُتَكَلِّمِ، وفي مُقابَلَتِها التّاءُ إشارَةً لِذاتِ المُخاطَبِ ذَكَرًا أوْ أُنْثى ﴿وزَوْجُكَ الجَنَّةَ﴾ فَأجَنَّتْ لِآدَمَ ما فِيها مِن خَبْءِ اسْتِخْراجِ أمْرِ مَعْصِيَتِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِكَمالِ باطِنِهِ بِإطْلاعِهِ عَلى سِرٍّ مِن أسْرارِ رَبِّهِ في عِلْمِ التَّقْدِيرِ إيمانًا والكَمالُ ظاهِرُهُ يَكُونُ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِفَضِيلَةِ تَوْبَتِهِ إسْلامًا لَيْسَ لِبَنِيهِ التَّوْبَةُ (p-٢٨٣)إثْرَ المَعْصِيَةِ مُخالَفَةً لِإصْرارِ إبْلِيسَ بَعْدَ إبائِهِ وشَهادَةً عَلَيْهِ بِجَهْلِهِ في ادِّعائِهِ، وجُعِلَ لَهُ ذَلِكَ فِيما هو مُتَنَزِّلٌ عَنْ رُتْبَةِ عِلْمِهِ فَلَمْ تَلْحَقْهُ فِيهِ فِتْنَةٌ حَفِيظَةٌ عَلى خِلافَتِهِ وأُنْزِلَتْ مَعْصِيَتُهُ إلى مَحَلِّ مَطْعَمِهِ الَّذِي هو خُصُوصُ حالِ المَرْءِ مِن جِهَةِ أجْوَفِيَّةِ خَلْقِهِ لِيَبْدُوَ نَقْصُ الأجْوَفِ ويُبْدِي ذَلِكَ إكْبارَ الصَّمَدِ الَّذِي يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ، فَكانَ ذَلِكَ مِن فِعْلِهِ تَسْبِيحًا بِحَمْدِ رَبِّهِ؛ لا يَقْضِي اللَّهُ لِمُؤْمِنٍ قَضاءً إلّا كانَ خَيْرًا لَهُ انْتَهى. ولَمّا كانَ السِّياقُ هُنا لِمُجَرَّدِ بَيانِ النِّعَمِ اسْتِعْطافًا إلى المُؤالَفَةِ؛ كانَ عَطْفُ الأكْلِ بِالواوِ في قَوْلِهِ: ﴿وكُلا مِنها﴾ كافِيًا في ذَلِكَ، وكانَ التَّصْرِيحُ بِالرَّغَدِ الَّذِي هو مِن أجَلِّ النِّعَمِ عَظِيمَ المَوْقِعِ، فَقالَ تَعالى: ﴿رَغَدًا﴾ أيْ (p-٢٨٤)واسِعًا رافِهًا طَيِّبًا هَنِيئًا ﴿حَيْثُ﴾ أيْ أيَّ مَكانٍ ﴿شِئْتُما﴾ بِخِلافِ سِياقِ الأعْرافِ؛ فَإنَّهُ أُرِيدَ مِنهُ مَعَ التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ التَّعْرِيفُ بِزِيادَةِ التَّمْكِينِ وأنَّها لَمْ تَمْنَعْ مِنَ الإخْراجِ تَحْذِيرًا لِلْمُتَمَكِّنِينَ في الأرْضِ المُتَوَسِّعِينَ في المَعايِشِ مِن إحْلالِ السَّطَواتِ وإنْزالِ المَثُلاثِ، كَما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. ثُمَّ المَقْصُودُ مِن حِكايَةِ القَصَصِ في القُرْآنِ إنَّما هو المَعانِي فَلا يَضُرُّ اخْتِلافُ اللَّفْظِ إذا أدّى جَمِيعَ المَعْنى أوْ بَعْضَهُ ولَمْ يَكُنْ هُناكَ مُناقَضَةٌ فَإنَّ القِصَّةَ كانَتْ حِينَ وُقُوعِها بِأوْفى المَعانِي الوارِدَةِ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى يُعَبِّرُ لَنا في كُلِّ سُورَةٍ تُذْكَرُ القِصَّةُ فِيها بِما يُناسِبُ ذَلِكَ المَقامَ في الألْفاظِ عَمّا يَلِيقُ مِنَ المَعانِي ويَتْرُكُ ما لا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ المَقامُ، وسَأُبَيِّنُ ما يُطْلِعُنِي اللَّهُ عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ في مَواضِعِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. ولَمّا أباحَ لَهُما سُبْحانَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ أتْبَعَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ شَجَرَةٍ واحِدَةٍ. قالَ الحَرالِّيُّ: وأطْلَقَ لَهُ الرَّغَدَ إطْلاقًا وجَعَلَ النَّهْيَ عَطْفًا ولَمْ يَجْعَلْهُ اسْتِثْناءً لِيَكُونَ آدَمُ أعْذَرَ في النِّسْيانِ لِأنَّ الِاسْتِثْناءَ أهَمُّ في الخِطابِ مِنَ التَّخْصِيصِ وقالَ: ﴿ولا تَقْرَبا﴾ ولَمْ يُقَلْ: ولا تَأْكُلا، نَهْيًا عَنْ حِماها (p-٢٨٥)لِيَكُونَ ذَلِكَ أشَدَّ في النَّهْيِ. انْتَهى. ”هَذِهِ“ ولَمّا كانَ اسْمُ الإشارَةِ لا دَلالَةَ لَهُ عَلى حَقِيقَةِ الذّاتِ افْتَقَرَ إلى بَيانِ ذاتِ المُشارِ إلَيْهِ فَقالَ: ﴿الشَّجَرَةَ﴾ أيْ فَإنَّكُما إنْ قَرَبْتُماها تَأْكُلا مِنها ﴿فَتَكُونا﴾ أيْ بِذَلِكَ ﴿مِنَ الظّالِمِينَ﴾ أيِ الواضِعِينَ الشَّيْءَ في غَيْرِ مَوْضِعِهِ كَمَن يَمْشِي في (p-٢٨٦)الظَّلامِ؛ وفي هَذا النَّهْيِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ هَذِهِ السُّكْنى لا تَدُومُ، لِأنَّ المُخَلَّدَ لا يُناسِبُ أنْ يُعَرَّضَ لِلْحَظْرِ بِأنْ يُحْظَرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ولا أنْ يُؤْمَرَ ولا يُنْهى، ولِذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْهِ الشَّيْطانُ مِن جِهَةِ الخُلْدِ، ولا داعِيَ لِبَيانِ نَوْعِ الشَّجَرَةِ لِأنَّ السِّياقَ لِبَيانِ شُؤْمِ المُخالَفَةِ وبَرَكَةِ التَّوْبَةِ لا لِتَعْيِينِ المَنهِيِّ عَنْهُ فَلَيْسَ بَيانُهُ حِينَئِذٍ مِنَ الحِكْمَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب