الباحث القرآني

(المَسْألَةُ السّابِعَةُ): قَوْلُهُ: ﴿ولا تَقْرَبا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ لا شُبْهَةَ في أنَّهُ نَهْيٌ ولَكِنْ فِيهِ بَحْثانِ. (الأوَّلُ): أنَّ هَذا نَهْيُ تَحْرِيمٍ أوْ نَهْيُ تَنْزِيهٍ ؟ فِيهِ خِلافٌ، فَقالَ قائِلُونَ: هَذِهِ الصِّيغَةُ لِنَهْيِ التَّنْزِيهِ، وذَلِكَ لِأنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ ورَدَتْ تارَةً في التَّنْزِيهِ وأُخْرى في التَّحْرِيمِ، والأصْلُ عَدَمُ الِاشْتِراكِ فَلا بُدَّ مِن جَعْلِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً في القَدْرِ المُشْتَرَكِ بَيْنَ القِسْمَيْنِ، وما ذَلِكَ إلّا أنْ يُجْعَلَ حَقِيقَةً في تَرْجِيحِ جانِبِ التَّرْكِ عَلى جانِبِ الفِعْلِ مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى المَنعِ مِنَ الفِعْلِ أوْ عَلى الإطْلاقِ فِيهِ، لَكِنَّ الإطْلاقَ فِيهِ كانَ ثابِتًا بِحُكْمِ الأصْلِ، فَإنَّ الأصْلَ في المَنافِعِ الإباحَةُ، فَإذا ضَمَمْنا مَدْلُولَ اللَّفْظِ إلى هَذا الأصْلِ صارَ المَجْمُوعُ دَلِيلًا عَلى التَّنْزِيهِ، قالُوا: وهَذا هو الأوْلى بِهَذا المَقامِ؛ لِأنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَرْجِعُ حاصِلُ مَعْصِيَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى تَرْكِ الأوْلى، ومَعْلُومٌ أنَّ كُلَّ مَذْهَبٍ كانَ أفْضى إلى عِصْمَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ كانَ أوْلى بِالقَبُولِ. وقالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذا النَّهْيُ نَهْيُ (p-٦)تَحْرِيمٍ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأُمُورٍ. (أحَدُها): أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولا تَقْرَبا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٢] وقَوْلِهِ: ﴿ولا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلّا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [الأنعام: ١٥٢] فَكَما أنَّ هَذا لِلتَّحْرِيمِ فَكَذا الأوَّلُ. (وثانِيها): أنَّهُ قالَ: ﴿فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٣٥] مَعْناهُ إنْ أكَلْتُما مِنها فَقَدْ ظَلَمْتُما أنْفُسَكُما ألا تَراهُما لَمّا أكَلا ﴿قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا﴾ [الأعراف: ٢٣] . وثالِثُها: أنَّ هَذا النَّهْيَ لَوْ كانَ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَما اسْتَحَقَّ آدَمُ بِفِعْلِهِ الإخْراجَ مِنَ الجَنَّةِ ولَما وجَبَتِ التَّوْبَةُ عَلَيْهِ، والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ نَقُولُ: إنَّ النَّهْيَ وإنْ كانَ في الأصْلِ لِلتَّنْزِيهِ ولَكِنَّهُ قَدْ يُحْمَلُ عَلى التَّحْرِيمِ لِدَلالَةٍ مُنْفَصِلَةٍ، وعَنِ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ﴾ أيْ فَتَظْلِما أنْفُسَكُما بِفِعْلِ ما الأوْلى بِكُما تَرْكُهُ؛ لِأنَّكُما إذا فَعَلْتُما ذَلِكَ أُخْرِجْتُما مِنَ الجَنَّةِ الَّتِي لا تَظْمَآنِ فِيها ولا تَجُوعانِ ولا تَضْحَيانِ ولا تَعْرَيانِ إلى مَوْضِعٍ لَيْسَ لَكُما فِيهِ شَيْءٌ مِن هَذا، وعَنِ الثّالِثِ: أنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ الإخْراجَ مِنَ الجَنَّةِ كانَ لِهَذا السَّبَبِ وسَيَأْتِي بَيانُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. (البَحْثُ الثّانِي): قالَ قائِلُونَ قَوْلُهُ: ﴿ولا تَقْرَبا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ يُفِيدُ بِفَحْواهُ النَّهْيَ عَنِ الأكْلِ، وهَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ النَّهْيَ عَنِ القُرْبِ لا يُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ الأكْلِ؛ إذْ رُبَّما كانَ الصَّلاحُ في تَرْكِ قُرْبِها مَعَ أنَّهُ لَوْ حُمِلَ إلَيْهِ لَجازَ لَهُ أكْلُهُ، بَلْ هَذا الظّاهِرُ يَتَناوَلُ النَّهْيَ عَنِ القُرْبِ. وأمّا النَّهْيُ عَنِ الأكْلِ فَإنَّما عُرِفَ بِدَلائِلَ أُخْرى، وهي قَوْلُهُ تَعالى في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ: ﴿فَلَمّا ذاقا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما﴾ [الأعراف: ٢٢] ولِأنَّهُ صَدَّرَ الكَلامَ في بابِ الإباحَةِ بِالأكْلِ، فَقالَ: ﴿وكُلا مِنها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما﴾ [البقرة: ٣٥] فَصارَ ذَلِكَ كالدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ تَعالى نَهاهُما عَنْ أكْلِ ثَمَرَةِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ لَكِنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ بِهَذا القَوْلِ يَعُمُّ الأكْلَ وسائِرَ الِانْتِفاعاتِ ولَوْ نَصَّ عَلى الأكْلِ ما كانَ يَعُمُّ كُلَّ ذَلِكَ فَفِيهِ مَزِيدُ فائِدَةٍ. * * * (المَسْألَةُ الثّامِنَةُ): اخْتَلَفُوا في الشَّجَرَةِ ما هي ؟ فَرَوى مُجاهِدٌ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ما: أنَّها البُرُّ والسُّنْبُلَةُ. ورُوِيَ «أنَّ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَألَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الشَّجَرَةِ فَقالَ: هي الشَّجَرَةُ المُبارَكَةُ السُّنْبُلَةُ» . ورَوى السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ مَسْعُودٍ أنَّها الكَرْمُ، وعَنْ مُجاهِدٍ وقَتادَةَ أنَّها التِّينُ، وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: كانَتْ شَجَرَةً مَن أكَلَ مِنها أحْدَثَ ولا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ في الجَنَّةِ حَدَثٌ. واعْلَمْ أنَّهُ لَيْسَ في الظّاهِرِ ما يَدُلُّ عَلى التَّعْيِينِ فَلا حاجَةَ أيْضًا إلى بَيانِهِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ المَقْصُودُ مِن هَذا الكَلامِ أنْ يُعَرِّفَنا عَيْنَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ وما لا يَكُونُ مَقْصُودًا في الكَلامِ لا يَجِبُ عَلى الحَكِيمِ أنْ يُبَيِّنَهُ، بَلْ رُبَّما كانَ بَيانُهُ عَبَثًا؛ لِأنَّ أحَدَنا لَوْ أرادَ أنْ يُقِيمَ العُذْرَ لِغَيْرِهِ في التَّأخُّرِ فَقالَ: شُغِلْتُ بِضَرْبِ غِلْمانِي لِإساءَتِهِمُ الأدَبَ لَكانَ هَذا القَدْرُ أحْسَنَ مِن أنْ يَذْكُرَ عَيْنَ هَذا الغُلامِ ويَذْكُرَ اسْمَهُ وصِفَتَهُ، فَلَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَظُنَّ أنَّهُ وقَعَ هَهُنا تَقْصِيرٌ في البَيانِ. ثُمَّ قالَ بَعْضُهُمُ: الأقْرَبُ في لَفْظِ الشَّجَرَةِ أنْ يَتَناوَلَ ما لَهُ ساقٌ وأغْصانٌ، وقِيلَ: لا حاجَةَ إلى ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِن يَقْطِينٍ﴾ [الصافات: ١٤٦] مَعَ أنَّها كالزَّرْعِ والبِطِّيخِ فَلَمْ يُخْرِجْهُ ذَهابُهُ عَلى وجْهِ الأرْضِ مِن أنْ يَكُونَ شَجَرًا، قالَ المُبَرِّدُ: وأحْسَبُ أنَّ كُلَّ ما تَفَرَّعَتْ لَهُ أغْصانٌ وعِيدانٌ فالعَرَبُ تُسَمِّيهِ شَجَرًا في وقْتِ تَشَعُّبِهِ، وأصْلُ هَذا أنَّهُ كُلُّ ما شَجَرَ أيْ أخَذَ يُمْنَةً ويُسْرَةً، يُقالُ: رَأيْتُ فُلانًا قَدْ شَجَرَتُهُ الرِّماحُ. وقالَ تَعالى: ﴿حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: ٦٥] وتَشاجَرَ الرَّجُلانِ في أمْرِ كَذا. (المَسْألَةُ التّاسِعَةُ): اتَّفَقُوا عَلى أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ﴾ هو أنَّكُما إنْ أكَلْتُما فَقَدْ ظَلَمْتُما أنْفُسَكُما؛ لِأنَّ الأكْلَ مِنَ الشَّجَرَةِ ظُلْمُ الغَيْرِ، وقَدْ يَكُونُ ظالِمًا بِأنْ يَظْلِمَ نَفْسَهُ وبِأنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ (p-٧)فَظُلْمُ النَّفْسِ أعَمُّ وأعْظَمُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ النّاسُ هَهُنا عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ: الأوَّلُ: قَوْلُ الحَشَوِيَّةِ الَّذِينَ قالُوا: إنَّهُ أقْدَمَ عَلى الكَبِيرَةِ فَلا جَرَمَ كانَ فِعْلُهُ ظُلْمًا. الثّانِي: قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ قالُوا: إنَّهُ أقْدَمَ عَلى الصَّغِيرَةِ ثُمَّ لِهَؤُلاءِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: قَوْلُ أبِي عَلِيٍّ الجُبّائِيِّ وهو أنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِأنْ ألْزَمَها ما يَشُقُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْبَةِ والتَّلافِي. وثانِيهِما: قَوْلُ أبِي هاشِمٍ وهو أنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ مِن حَيْثُ أحْبَطَ بَعْضَ ثَوابِهِ الحاصِلِ، فَصارَ ذَلِكَ نَقْصًا فِيما قَدِ اسْتَحَقَّهُ. الثّالِثُ: قَوْلُ مَن يُنْكِرُ صُدُورَ المَعْصِيَةِ مِنهم مُطْلَقًا، وحَمَلَ هَذا الظُّلْمَ عَلى أنَّهُ فَعَلَ ما الأوْلى لَهُ أنْ لا يَفْعَلَهُ، ومِثالُهُ: إنْسانٌ طَلَبَ الوِزارَةَ ثُمَّ إنَّهُ تَرَكَها واشْتَغَلَ بِالحِياكَةِ، فَإنَّهُ يُقالُ لَهُ: يا ظالِمَ نَفْسِهِ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ ؟ فَإنْ قِيلَ: هَلْ يَجُوزُ وصْفُ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بِأنَّهم كانُوا ظالِمِينَ أوْ بِأنَّهم كانُوا ظالِمِي أنْفُسَهم ؟ والجَوابُ أنَّ الأوْلى أنَّهُ لا يُطْلَقُ ذَلِكَ لِما فِيهِ مِن إيهامِ الذَّمِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب