الباحث القرآني

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾ الإشارَةُ إلى ﴿مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللَّهِ وبِاليَوْمِ الآخِرِ﴾ [البقرة: ٨] وما عُطِفَ عَلى صِلَتِهِ مِن صِفاتِهِمْ وجِيءَ بِاسْمِ إشارَةِ الجَمْعِ لِأنَّ ماصَدَقَ‌ (مَن) هو فَرِيقٌ مِنَ النّاسِ، وفُصِلَتِ الجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَها لِتُفِيدَ تَقْرِيرَ مَعْنى ﴿ويَمُدُّهم في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥] فَمَضْمُونُها بِمَنزِلَةِ التَّوْكِيدِ، وذَلِكَ مِمّا يَقْتَضِي الفَصْلَ، ولِتُفِيدَ تَعْلِيلَ مَضْمُونِ جُمْلَةِ ﴿ويَمُدُّهم في طُغْيانِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] فَتَكُونُ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا لِسائِلٍ عَنِ العِلَّةِ، وهي أيْضًا فَذْلَكَةٌ لِلْجُمَلِ السّابِقَةِ الشّارِحَةِ لِأحْوالِهِمْ، وشَأْنُ الفَذْلَكَةِ عَدَمُ العَطْفِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٦] وكُلُّ هَذِهِ الِاعْتِباراتِ مُقْتَضٍ لِعَدَمِ العَطْفِ فَفِيها ثَلاثَةُ مُوجِباتٍ لِلْفَصْلِ. ومَوْقِعُ هَذِهِ الجُمْلَةِ مِن نَظْمِ الكَلامِ مُقابِلُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٥] ومُقابِلُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة: ٧] الآيَةَ، واسْمُ الإشارَةِ هُنا غَيْرُ مُشارٍ بِهِ إلى ذَواتٍ ولَكِنْ إلى صِنْفٍ اجْتَمَعَتْ فِيهِمُ الصِّفاتُ الماضِيَةُ فانْكَشَفَتْ أحْوالُهم حَتّى صارُوا كالحاضِرِينَ تُجاهَ السّامِعِ بِحَيْثُ يُشارُ إلَيْهِمْ، وهَذا اسْتِعْمالٌ كَثِيرُ الوُرُودِ في الكَلامِ البَلِيغِ. ولَيْسَ في هَذِهِ الإشارَةِ إشْعارٌ بِبُعْدٍ أوْ قُرْبٍ حَتّى تُفِيدَ تَحْقِيرًا ناشِئًا عَنِ البُعْدِ لِأنَّ هَذا مِن أسْماءِ الإشارَةِ الغالِبَةِ في كَلامِ العَرَبِ فَلا عُدُولَ فِيها حَتّى يَكُونَ العُدُولُ لِمَقْصِدٍ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ [البقرة: ٢] ولِأنَّ المُشارَ إلَيْهِ هُنا غَيْرُ مَحْسُوسٍ حَتّى يَكُونَ لَهُ مَرْتَبَةٌ مُعَيَّنَةٌ فَيَكُونُ العُدُولُ عَنْ لَفْظِها لِقَصْدِ مَعْنًى ثانٍ، فَإنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ [البقرة: ٢] مَعَ قُرْبِ الكِتابِ لِلنّاطِقِ بِآياتِهِ عُدُولٌ عَنْ إشارَةِ القَرِيبِ إلى البَعِيدِ فَأفادَ التَّعْظِيمَ. وعَكْسُ هَذا قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الخَطِيمِ: ؎مَتّى يَأْتِ هَذا المَوْتُ لا يُلْفِ حاجَةً لِنَفْسِيَ إلّا قَدْ قَضَيْتُ قَضاءَها فَإنَّ المَوْتَ بَعِيدٌ عَنْهُ فَحَقُّهُ أنْ يُشِيرَ إلَيْهِ بِاسْمِ البَعِيدِ، وعَدَلَ عَنْهُ إلى إشارَةِ القَرِيبِ لِإظْهارِ اسْتِخْفافِهِ بِهِ. (p-٢٩٨)والِاشْتِراءُ افْتِعالٌ مِنَ الشَّرْيِ وفِعْلُهُ شَرى الَّذِي هو بِمَعْنى باعَ كَما أنَّ اشْتَرى بِمَعْنى ابْتاعَ، فاشْتَرى وابْتاعَ كِلاهُما مُطاوِعٌ لِفِعْلِهِ المُجَرَّدِ. أشارَ أهْلُ اللِّسانِ إلى أنَّ فاعِلَ هَذِهِ المُطاوَعَةِ هو الَّذِي قَبِلَ الفِعْلَ والتَزَمَهُ فَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلى أنَّهُ آخِذٌ شَيْئًا لِرَغْبَةٍ فِيهِ، ولَمّا كانَ مَعْنى البَيْعِ مُقْتَضِيًا آخِذِينَ وباذِلِينَ كانَ كُلٌّ مِنهُما بائِعًا ومُبْتاعًا بِاخْتِلافِ الِاعْتِبارِ، فَفِعْلُ باعَ مَنظُورٌ فِيهِ ابْتِداءً إلى مَعْنى البَذْلِ، والفِعْلُ ابْتاعَ مَنظُورٌ فِيهِ ابْتِداءً إلى مَعْنى الأخْذِ فَإنِ اعْتَبَرَهُ المُتَكَلِّمُ آخِذًا لِما صارَ بِيَدِهِ عَبَّرَ عَنْهُ بِمُبْتاعٍ ومُشْتَرٍ، وإنِ اعْتَبَرَهُ باذِلًا لِما خَرَجَ مِن يَدِهِ مِنَ العِوَضِ، عَبَّرَ عَنْهُ بِبائِعٍ وشارٍ، وبِهَذا يَكُونُ الفِعْلانِ جارِيَيْنِ عَلى سَنَنٍ واحِدٍ. وقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ أنَّ شَرى يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنى اشْتَرى والَّذِي جَرَّأهم عَلى ذَلِكَ سُوءُ التَّأمُّلِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ [يوسف: ٢٠] فَتَوَهَّمُوا الضَّمِيرَ عائِدًا إلى المِصْرِيِّينَ مَعَ أنَّ مَعادَهُ واضِحٌ قَرِيبٌ وهو سَيّارَةٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى ﴿وجاءَتْ سَيّارَةٌ﴾ [يوسف: ١٩] أيْ باعُوهُ، وحَسْبُكَ شاهِدًا عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿وكانُوا فِيهِ مِنَ الزّاهِدِينَ﴾ [يوسف: ٢٠] أمّا الَّذِي اشْتَراهُ فَهو فِيهِ مِنَ الرّاغِبِينَ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ لِامْرَأتِهِ ﴿أكْرِمِي مَثْواهُ﴾ [يوسف: ٢١] وعَلى ذَيْنِكَ الاعْتِبارَيْنِ في فِعْلَيِ الشِّراءِ والبَيْعِ كانَتْ تَعْدِيَتُهُما إلى المَفْعُولِ فَهُما يَتَعَدَّيانِ إلى المَقْصُودِ الأصْلِيِّ بِأنْفُسِهِما وإلى غَيْرِهِ بِالباءِ فَيُقالُ باعَ فَرَسَهُ بِألْفٍ وابْتاعَ فَرَسَ فُلانٍ بِألْفٍ لِأنَّ الفَرَسَ هو الَّذِي كانَتِ المُعاقَدَةُ لِأجْلِهِ لِأنَّ الَّذِي أخْرَجَهُ لِيَبِيعَهُ عَلِمَ أنَّ النّاسَ يَرْغَبُونَ فِيهِ والَّذِي جاءَ لِيَشْتَرِيَهُ كَذَلِكَ. وإطْلاقُ الِاشْتِراءِ هُنا مَجازٌ مُرْسَلٌ بِعَلاقَةِ اللُّزُومِ، أطْلَقَ الِاشْتِراءَ عَلى لازِمِهِ الثّانِي وهو الحِرْصُ عَلى شَيْءٍ والزُّهْدُ في ضِدِّهِ أيْ حَرَصُوا عَلى الضَّلالَةِ، وزَهِدُوا في الهُدى إذْ لَيْسَ في ما وقَعَ مِنَ المُنافِقِينَ اسْتِبْدالُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ إذْ لَمْ يَكُونُوا مِن قَبْلُ مُهْتَدِينَ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الِاشْتِراءُ مُسْتَعْمَلًا في الِاسْتِبْدالِ وهو لازِمُهُ الأوَّلُ واسْتِعْمالُهُ في هَذا اللّازِمِ مَشْهُورٌ. قالَ بَشامَةُ بْنُ حَزْنٍ: ؎إنّا بَنِي نَهْشَلٍ لا نَدَّعِي لِأبٍ ∗∗∗ عَنْهُ ولا هو بِالأبْناءِ يَشْرِينا أيْ يَبِيعُنا أيْ يُبَدِّلُنا، وقالَ عَنْتَرَةُ بْنُ الأخْرَسِ المَعْنِيُّ مِن شُعَراءِ الحَماسَةِ: ؎ومَن إنْ بِعْتَ مَنزِلَةً بِأُخْرى ∗∗∗ حَلَلْتَ بِأمْرِهِ وبِهِ تَسِيرُ (p-٢٩٩)أيْ إذا اسْتَبْدَلْتَ دارًا بِأُخْرى. وهَذا بِخِلافِ قَوْلِ أبِي النَّجْمِ: ؎أخَذْتُ بِالجَمَّةِ رَأْسًا أزْعَرًا ؎وبِالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْرا جَيْدَرا ∗∗∗ كَما اشْتَرى المُسْلِمُ إذْ تَنَصَّرا فَيَكُونُ الحَمْلُ عَلَيْهِ هُنا أنَّ اخْتِلاطَهم بِالمُسْلِمِينَ وإظْهارَهُمُ الإيمانَ حالَةٌ تُشْبِهُ حالَ المُهْتَدِي تَلَبَّسُوا بِها، فَإذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ طَرَحُوها واسْتَبْدَلُوها بِحالَةِ الضَّلالِ، وعَلى هَذا الوَجْهِ الثّانِي يَصِحُّ أيْضًا أنْ يَكُونَ الِاشْتِراءُ اسْتِعارَةً بِتَشْبِيهِ تَيْنِكَ الحالَتَيْنِ بِحالِ المُشْتَرِي لِشَيْءٍ كانَ غَيْرَ جائِزٍ لَهُ وارْتَضاهُ في الكَشّافِ. والمَوْصُولُ في قَوْلِهِ: (﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾) بِمَعْنى العُرْفِ بِلامِ الجِنْسِ فَيُفِيدُ التَّرْكِيبُ قَصْرَ المُسْنَدِ عَلى المُسْنَدِ إلَيْهِ وهو قَصْرٌ ادِّعائِيٌّ بِاعْتِبارِ أنَّهم بَلَغُوا الغايَةَ في اشْتِراءِ الضَّلالَةِ والحِرْصِ عَلَيْها إذْ جَمَعُوا الكُفْرَ والسَّفَهَ والخِداعَ والإفْسادَ والِاسْتِهْزاءَ بِالمُهْتَدِينَ. * * * ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهم وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ رَتَّبَتِ الفاءُ عَدَمَ الرِّبْحِ المَعْطُوفِ بِها وعَدَمَ الِاهْتِداءِ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ عَلى اشْتِراءِ الضَّلالَةِ بِالهُدى لِأنَّ كِلَيْهِما ناشِئٌ عَنِ الِاشْتِراءِ المَذْكُورِ في الوُجُودِ والظُّهُورِ؛ لِأنَّهم لَمّا اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى فَقَدِ اشْتَرَوْا ما لا يَنْفَعُ وبَذَلُوا ما يَنْفَعُ فَلا جَرَمَ أنْ يَكُونُوا خاسِرِينَ وأنْ يَتَحَقَّقَ أنَّهم لَمْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ، فَعَدَمُ الِاهْتِداءِ وإنْ كانَ سابِقًا عَلى اشْتِراءِ الضَّلالَةِ بِالهُدى أوْ هو عَيْنُهُ أوْ هو سَبَبُهُ إلّا أنَّهُ لِكَوْنِهِ عَدَمًا فَظُهُورُهُ لِلنّاسِ في الوُجُودِ لا يَكُونُ إلّا عِنْدَ حُصُولِ أثَرِهِ وهو ذَلِكَ الِاشْتِراءُ، فَإذا ظَهَرَ أثَرُهُ تَبَيَّنَ لِلنّاسِ المُؤَثِّرُ؛ فَلِذَلِكَ صَحَّ تَرْتِيبُهُ بِفاءِ التَّرْتِيبِ فَأشْبَهَ العِلَّةَ الغائِيَّةَ، ولِهَذا عَبَّرَ بِـ (﴿ما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾) دُونَ ما اهْتَدَوْا لِأنَّ ”ما كانُوا“ أبْلَغُ في النَّفْيِ لِإشْعارِهِ بِأنَّ انْتِفاءَ الِاهْتِداءِ عَنْهم أمْرٌ مُتَأصِّلٌ سابِقٌ قَدِيمٌ، لِأنَّ كانَ تَدُلُّ عَلى اتِّصافِ اسْمِها بِخَبَرِها مُنْذُ المُضِيِّ فَكانَ نَفْيُ الكَوْنِ في الزَّمَنِ الماضِي أنْسَبَ بِهَذا التَّفْرِيعِ. والرِّبْحُ هو نَجاحُ التِّجارَةِ ومُصادَفَةُ الرَّغْبَةِ في السِّلَعِ بِأكْثَرَ مِنَ الأثْمانِ الَّتِي اشْتَراها بِها التّاجِرُ ويُطْلَقُ الرِّبْحُ عَلى المالِ الحاصِلِ لِلتّاجِرِ زائِدًا عَلى رَأْسِ مالِهِ. والتِّجارَةُ بِكَسْرِ أوَّلِهِ عَلى وزْنِ فِعالَةٍ وهي زِنَةُ الصَّنائِعِ ومَعْنى التِّجارَةِ التَّصَدِّي لِاشْتِراءِ الأشْياءِ لِقَصْدِ بَيْعِها بِثَمَنٍ (p-٣٠٠)أوْفَرَ مِمّا اشْتَرى بِهِ لِيَكْتَسِبَ مِن ذَلِكَ الوَفْرِ ما يُنْفِقُهُ أوْ يَتَأثَّلُهُ. ولَمّا كانَ ذَلِكَ لا يَنْجَحُ إلّا بِالمُثابَرَةِ والتَّجْدِيدِ صِيغَ لَهُ وزْنُ الصَّنائِعِ، ونَفْيُ الرِّبْحِ في الآيَةِ تَشْبِيهٌ لِحالِ المُنافِقِينَ - إذْ قَصَدُوا مِنَ النِّفاقِ غايَةً فَأخْفَقَتْ مَساعِيهِمْ وضاعَتْ مَقاصِدُهم - بِحالِ التُّجّارِ الَّذِينَ لَمْ يَحْصُلُوا مِن تِجارَتِهِمْ عَلى رِبْحٍ، فَلا التِفاتَ إلى رَأْسِ مالٍ في التِّجارَةِ حَتّى يُقالَ إنَّهم إذا لَمْ يَرْبَحُوا فَقَدْ بَقِيَ لَهم نَفْعُ رَأْسِ المالِ، ويُجابُ بِأنَّ نَفْيَ الرِّبْحِ يَسْتَلْزِمُ ضَياعَ رَأْسِ المالِ لِأنَّهُ يَتْلَفُ في النَّفَقَةِ مِنَ القُوتِ والكُسْوَةِ لِأنَّ هَذا كُلَّهُ غَيْرُ مَنظُورٍ إلَيْهِ؛ إذِ الِاسْتِعارَةُ تَعْتَمِدُ عَلى ما يُقْصَدُ مِن وجْهِ الشَّبَهِ فَلا تَلْزَمُ المُشابِهَةُ في الأُمُورِ كُلِّها كَما هو مُقَرَّرٌ في فَنِّ البَيانِ. وإنَّما أُسْنِدَ الرِّبْحُ إلى التِّجارَةِ حَتّى نُفِيَ عَنْها، لِأنَّ الرِّبْحَ لَمّا كانَ مُسَبَّبًا عَنِ التِّجارَةِ وكانَ الرّابِحُ هو التّاجِرُ صَحَّ إسْنادُهُ لِلتِّجارَةِ لِأنَّها سَبَبُهُ فَهو مَجازٌ عَقْلِيٌّ، وذَلِكَ أنَّهُ لَوْلا الإسْنادُ المَجازِيُّ لَما صَحَّ أنْ يُنْفى عَنِ الشَّيْءِ ما يَعْلَمُ كُلُّ أحَدٍ أنَّهُ لَيْسَ مِن صِفاتِهِ لِأنَّهُ يَصِيرُ مِن بابِ الإخْبارِ بِالمَعْلُومِ ضَرُورَةً، فَلا تَظُنَّنَّ أنَّ النَّفْيَ في مِثْلِ هَذا حَقِيقَةٌ فَتَتْرُكَهُ، إنَّ انْتِفاءَ الرِّبْحِ عَنِ التِّجارَةِ واقِعٌ ثابِتٌ لِأنَّها لا تُوصَفُ بِالرِّبْحِ وهَكَذا تَقُولُ في نَحْوِ قَوْلِ جَرِيرٍ ؎ونِمْتُ وما لَيْلُ المَطِيِّ بِنائِمِ بِخِلافِ قَوْلِكَ ما لَيْلُهُ بِطَوِيلٍ، بَلِ النَّفْيُ هُنا مَجازٌ عَقْلِيٌّ لِأنَّهُ فَرْعٌ عَنِ اعْتِبارِ وصْفِ التِّجارَةِ بِأنَّها إلى الخُسْرِ، ووَصْفُها بِالرِّبْحِ مَجازٌ، وقاعِدَةُ ذَلِكَ أنْ تَنْظُرَ في النَّفْيِ إلى المَنفِيِّ لَوْ كانَ مُثْبَتًا فَإنْ وجَدْتَ إثْباتَهُ مَجازًا عَقْلِيًّا فاجْعَلْ نَفْيَهُ كَذَلِكَ وإلّا فاجْعَلْ نَفْيَهُ حَقِيقَةً لِأنَّهُ لا يُنْفى إلّا ما يَصِحُّ أنْ يُثْبَتَ. وهَذِهِ هي الطَّرِيقَةُ الَّتِي انْفَصَلَ عَلَيْها المُحَقِّقُ التَّفْتَزانِيُّ في المُطَوَّلِ، وعَدَلَ عَنْها في حَواشِي الكَشّافِ وهي أمْثَلُ مِمّا عَدَلَ إلَيْهِ. وقَدْ أفادَ قَوْلُهُ ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعارَةِ في ”اشْتَرَوُا“، فَإنَّ مَرْجِعَ التَّرْشِيحِ إلى أنْ يُقَفِّيَ المَجازَ بِما يُناسِبُهُ سَواءً كانَ ذَلِكَ التَّرْشِيحُ حَقِيقَةً بِحَيْثُ لا يُسْتَفادُ مِنهُ إلّا تَقْوِيَةُ المَجازِ - كَما تَقُولُ: لَهُ يَدٌ طُولى أوْ: هو أسَدٌ دامِي البَراثِنِ - أمْ كانَ التَّرْشِيحُ مُتَمَيِّزًا بِهِ أوْ مُسْتَعارًا لِمَعْنًى آخَرَ هو مِن مُلائَماتِ المَجازِ الأوَّلِ، سَواءٌ حَسُنَ مَعَ ذَلِكَ اسْتِقْلالُهُ بِالِاسْتِعارَةِ، كَما في هَذِهِ الآيَةِ، فَإنَّ نَفْيَ الرِّبْحِ تُرَشِّحَ بِهِ ”اشْتَرَوُا“ . ومِثْلُهُ قَوْلُ الشّاعِرِ - أنْشَدَهُ ابْنُ الأعْرابِيِّ - كَما في أساسِ البَلاغَةِ لِلزَّمَخْشَرِيِّ ولَمْ يَعْزُهُ:(p-٣٠١) ؎ولَمّا رَأيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنَ دايَةٍ ∗∗∗ وعَشَّشَ في وكْرَيْهِ جاشَ لَهُ صَدْرِي فَإنَّهُ لَمّا شَبَّهَ الشَّيْبَ بِالنَّسْرِ والشَّعْرَ الأسْوَدَ بِالغُرابِ صَحَّ تَشْبِيهُ حُلُولِ الشَّيْبِ في مَحَلَّيِ السَّوادِ وهُما الفَوْدانِ بِتَعْشِيشِ الطّائِرِ في مَوْضِعِ طائِرٍ آخَرَ؛ أمْ لَمْ يَحْسُنْ إلّا مَعَ المَجازِ الأوَّلِ كَقَوْلِ بَعْضِ فُتّاكِ العَرَبِ في أُمِّهِ - أنْشَدَهُ في الكَشّافِ ولَمْ أقِفْ عَلى تَعْيِينِ قائِلِهِ -: ؎وما أُمُّ الرُّدَيْنِ وإنْ أدَلَّتْ ∗∗∗ بِعالِمَةٍ بِأخْلاقِ الكِرامِ ؎إذا الشَّيْطانُ قَصَّعَ في قَفاها ∗∗∗ تَنَفَّقْناهُ بِالحَبْلِ التُّؤامِ فَإنَّهُ لَمّا اسْتَعارَ ”قَصَّعَ“ لِدُخُولِ الشَّيْطانِ أيْ وسْوَسَتِهِ، وهي اسْتِعارَةٌ حَسَنَةٌ لِأنَّهُ شَبَّهَ الشَّيْطانَ بِضَبٍّ يَدْخُلُ لِلْوَسْوَسَةِ، ودُخُولُهُ مِن مَدْخَلِهِ المُتَعارَفِ لَهُ وهو القاصِعاءُ. وجَعَلَ عِلاجَهم وإزالَةَ وسْوَسَتِهِ كالتَّنَفُّقِ أيْ تَطَلُّبِ خُرُوجِ الضَّبِّ مِن نافِقائِهِ بَعْدَ أنْ يُسَدَّ عَلَيْهِ القاصِعاءُ ولا تَحْسُنُ هَذِهِ الثّانِيَةُ إلّا تَبَعًا لِلْأُولى. والآيَةُ لَيْسَتْ مِن هَذا القَبِيلِ. وقَوْلُهُ ﴿وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ قَدْ عُلِمَ مِن قَوْلِهِ ﴿اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾ إلى ﴿وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ فَتَعَيَّنَ أنَّ الِاهْتِداءَ المَنفِيَّ هو الِاهْتِداءُ بِالمَعْنى الأصْلِيِّ في اللُّغَةِ وهو مَعْرِفَةُ الطَّرِيقِ المُوَصِّلِ لِلْمَقْصُودِ، ولَيْسَ هو بِالمَعْنى الشَّرْعِيِّ المُتَقَدِّمِ في قَوْلِهِ ﴿اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾ فَلا تَكْرِيرَ في المَعْنى، فَلا يَرِدُ أنَّهم لَمّا أخْبَرَ عَنْهم بِأنَّهُمُ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى كانَ مِنَ المَعْلُومِ أنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ هُدًى. ومَعْنى نَفْيِ الِاهْتِداءِ كِنايَةٌ عَنْ إضاعَةِ القَصْدِ، أيْ أنَّهم أضاعُوا ما سَعَوْا لَهُ ولَمْ يَعْرِفُوا ما يُوَصِّلُ لِخَيْرِ الآخَرِ ولا ما يَضُرُّ المُسْلِمِينَ. وهَذا نِداءٌ عَلَيْهِمْ بِسَفَهِ الرَّأْيِ والخَرْقِ وهو كَما عَلِمْتَ فِيما تَقَدَّمَ يَجْرِي مَجْرى العِلَّةِ لِعَدَمِ رِبْحِ التِّجارَةِ، فَشُبِّهَ سُوءُ تَصَرُّفِهِمْ - حَتّى في كُفْرِهِمْ بِسُوءِ تَصَرُّفِ مَن يُرِيدُ الرِّبْحَ، فَيَقَعُ في الخُسْرانِ. فَقَوْلُهُ ﴿وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ تَمْثِيلِيَّةٌ ويَصِحُّ أنْ يُؤْخَذَ مِنها كِنايَةٌ عَنِ الخُسْرانِ وإضاعَةِ كُلِّ شَيْءٍ لِأنَّ مَن لَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا أضاعَ الرِّبْحَ وأضاعَ رَأْسَ المالِ بِسُوءِ سُلُوكِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب