الباحث القرآني
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهم وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾، الِاشْتِراءُ والشِّراءُ بِمَعْنى: الِاسْتِبْدالِ بِالشَّيْءِ والِاعْتِياضِ مِنهُ، إلّا أنَّ الِاشْتِراءَ يُسْتَعْمَلُ في الِابْتِياعِ والبَيْعِ، وهو مِمّا جاءَ فِيهِ افْتَعَلَ بِمَعْنى الفِعْلِ المُجَرَّدِ، وهو أحَدُ المَعانِي الَّتِي جاءَ لَها افْتَعَلَ. الرِّبْحُ: هو ما يَحْصُلُ مِنَ الزِّيادَةِ عَلى رَأْسِ المالِ. التِّجارَةُ: هي صِناعَةُ التّاجِرِ، وهو الَّذِي يَتَصَرَّفُ في المالِ لِطَلَبِ النُّمُوِّ والزِّيادَةِ. المُهْتَدِي: اسْمُ فاعِلٍ مِنِ اهْتَدى وافْتَعَلَ فِيهِ لِلْمُطاوَعَةِ، هَدَيْتُهُ فاهْتَدى، نَحْوُ: سَوَّيْتُهُ فاسْتَوى، وغَمَمْتُهُ فاغْتَمَّ. والمُطاوَعَةُ أحَدُ المَعانِي الَّتِي جاءَتْ لَها أفْعَلُ، ولا تَكُونُ افْتَعَلَ لِلْمُطاوَعَةِ مَبْنِيَّةً إلّا مِنَ الفِعْلِ المُتَعَدِّي، وقَدْ وهِمَ مَن زَعَمَ أنَّها تَكُونُ مِنَ اللّازِمِ، وأنَّ ذَلِكَ قَلِيلٌ فِيها، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ الشّاعِرِ:
؎حَتّى إذا اشْتالَ سُهَيْلٌ في السَّحَرْ كَشُعْلَةِ القابِسِ تَرْمِي بِالشَّرَرْ
لِأنَّ افْتَعَلَ في البَيْتِ بِمَعْنى، فَعَلَ. تَقُولُ: شالَ يَشُولُ، واشْتالَ يَشْتالُ بِمَعْنًى واحِدٍ، ولا تَتَعَقَّلُ المُطاوَعَةُ، إلّا بِأنْ يَكُونَ المُطاوِعُ مُتَعَدِّيًا.
﴿وإذا قِيلَ لَهم لا تُفْسِدُوا﴾ [البقرة: ١١] جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مِن بابِ عَطْفِ الجُمَلِ اسْتِئْنافًا يَنْعِي عَلَيْهِمْ قَبائِحَ أفْعالِهِمْ وأقْوالِهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ كَلامًا، وفي الثّانِي جُزْءُ كَلامٍ لِأنَّها مِن تَمامِ الصِّلَةِ. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وأبُو البَقاءِ أنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلى يَكْذِبُونَ، فَإذْ ذاكَ يَكُونُ لَها مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ، وهو النَّصْبُ، لِأنَّها مَعْطُوفَةٌ عَلى خَبَرِ كانَ، والمَعْطُوفُ عَلى الخَبَرِ خَبَرٌ، وهي إذْ ذاكَ جُزْءٌ مِنَ السَّبَبِ الَّذِي اسْتَحَقَّوْا بِهِ العَذابَ الألِيمَ. وعَلى الِاحْتِمالَيْنِ الأوَّلَيْنِ لا تَكُونُ جُزْءًا مِنَ الكَلامِ، وهَذا الوَجْهُ الَّذِي أجازاهُ عَلى أحَدِ وجْهَيْ ما مِن قَوْلِهِ ﴿بِما كانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة: ١٠] خَطَأٌ، وهو أنْ تَكُونَ ما مَوْصُولَةً بِمَعْنى الَّذِي، وذَلِكَ أنَّ المَعْطُوفَ عَلى الخَبَرِ خَبَرٌ، فَيَكْذِبُونَ قَدْ حُذِفَ مِنهُ العائِدُ عَلى ما، وقَوْلُهُ: وإذا قِيلَ لَهم إلى آخِرِ الآيَةِ لا ضَمِيرَ فِيهِ يَعُودُ عَلى ما، فَبَطَلَ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، إذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ بِالَّذِي كانُوا.
﴿وإذا قِيلَ لَهم لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ قالُوا إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: ١١]، وهَذا كَلامٌ غَيْرُ مُنْتَظِمٍ لِعَدَمِ العائِدِ. وأمّا وجْهُها الآخَرُ، وهو أنْ تَكُونَ ما مَصْدَرِيَّةً، فَعَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ يَكُونُ هَذا الإعْرابُ أيْضًا خَطَأً، إذْ عِنْدَهُ أنَّ ما المَصْدَرِيَّةَ اسْمٌ يَعُودُ (p-٦٤)عَلَيْها مِن صِلَتِها ضَمِيرٌ، والجُمْلَةُ المَعْطُوفَةُ عارِيَةٌ مِنهُ. وأمّا عَلى مَذْهَبِ الجُمْهُورِ، فَهَذا الإعْرابُ شائِعٌ، ولَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ وأبُو البَقاءِ إعْرابَ هَذا سِوى أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى يَكْذِبُونَ، أوْ عَلى يَقُولُ، وزَعَما أنَّ الأوَّلَ وجْهٌ، وقَدْ ذَكَرْنا ما فِيهِ، والَّذِي نَخْتارُهُ الِاحْتِمالُ الأوَّلُ، وهو أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً، كَما قَرَّرْناهُ، إذْ هَذِهِ الجُمْلَةُ والجُمْلَتانِ بَعْدَها هي مِن تَفاصِيلِ الكَذِبِ ونَتائِجِ التَّكْذِيبِ. ألا تَرى قَوْلَهم: ﴿إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: ١١]، وقَوْلَهم: ﴿أنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ [البقرة: ١٣]، وقَوْلَهم عِنْدَ لِقاءِ المُؤْمِنِينَ: (آمَنّا) كَذِبٌ مَحْضٌ ؟ فَناسَبَ جَعَلَ ذَلِكَ جُمَلًا مُسْتَقِلَّةً ذُكِرَتْ لِإظْهارِ كَذِبِهِمْ ونِفاقِهِمْ ونِسْبَةِ السَّفَهِ لِلْمُؤْمِنِينَ واسْتِهْزائِهِمْ، فَكَثُرَ بِهَذِهِ الجُمَلِ واسْتِقْلالِها ذَمُّهم والرَّدُّ عَلَيْهِمْ، وهَذا أوْلى مِن جَعْلِها سِيقَتْ صِلَةَ جُزْءِ كَلامٍ لِأنَّها إذْ ذاكَ لا تَكُونُ مَقْصُودَةً لِذاتِها، إنَّما جِيءَ بِها مُعَرِّفَةً لِلْمَوْصُولِ إنْ كانَ اسْمًا، ومُتَمِّمَةً لِمَعْناهُ إنْ كانَ حَرْفًا. والجُمْلَةُ بَعْدَ إذا في مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالإضافَةِ، والعامِلُ فِيها عِنْدَ الجُمْهُورِ الجَوابُ، فَإذا في الآيَةِ مَنصُوبَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: ١١] . والَّذِي نَخْتارُهُ أنَّ الجُمْلَةَ بَعْدَها تَلِيها هي النّاصِبَةُ لِإذا لِأنَّها شَرْطِيَّةٌ، وأنَّ ما بَعْدَها لَيْسَ في مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالإضافَةِ، فَحُكْمُها حُكْمُ الظُّرُوفِ الَّتِي يُجازى بِها وإنْ قَصُرَتْ عَنْ عَمَلِها الجَزْمَ. عَلى أنَّ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَن أجازَ الجَزْمَ بِها حَمْلًا عَلى مَتى مَنصُوبًا بِفِعْلِ الشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ إذا مَنصُوبَةٌ بِفِعْلِ الشَّرْطِ بَعْدَها، والَّذِي يُفْسِدُ مَذْهَبَ الجُمْهُورِ جَوازًا إذا قُمْتَ فَعَمْرٌو قائِمٌ؛ لِأنَّ ما بَعْدَ الفاءِ لا يَعْمَلُ فِيما قَبْلَها، وجَوازُ وُقُوعِ إذا الفُجائِيَّةِ جَوابًا لِإذا الشَّرْطِيَّةِ، قالَ تَعالى: ﴿وإذا أذَقْنا النّاسَ رَحْمَةً مِن بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهم إذا لَهم مَكْرٌ في آياتِنا﴾ [يونس: ٢١]، وما بَعْدَ إذا الفُجائِيَّةِ لا يَعْمَلُ فِيما قَبْلَها، وحَذْفُ فاعِلِ القَوْلِ هُنا لِلْإبْهامِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ - تَعالى - أوِ الرَّسُولُ ﷺ أوْ بَعْضُ المُؤْمِنِينَ، وكُلٌّ مِن هَذا قَدْ قِيلَ، والمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، فَظاهِرُ الكَلامِ أنَّها الجُمْلَةُ المُصَدَّرَةُ بِحَرْفِ النَّهْيِ وهي: ﴿لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ﴾ [البقرة: ١١]، إلّا أنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ إلّا عَلى مَذْهَبِ مَن أجازَ وُقُوعَ الفاعِلِ جُمْلَةً، ولَيْسَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ. وقَدْ تَقَدَّمَتِ المَذاهِبُ في ذَلِكَ عِنْدَ الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ [البقرة: ٦]، والمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ في ذَلِكَ حُكْمُهُ حُكْمُ الفاعِلِ، وتَخْرِيجُهُ عَلى مَذْهَبِ جُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ أنَّ المَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ هو مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ هو، يُفَسِّرُهُ سِياقُ الكَلامِ كَما فَسَّرَ المُضْمَرَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى تَوارَتْ بِالحِجابِ﴾ [ص: ٣٢] سِياقُ الكَلامِ والمَعْنى، وإذا قِيلَ لَهم قَوْلٌ شَدِيدٌ فَأُضْمِرَ هَذا القَوْلُ المَوْصُوفُ وجاءَتِ الجُمْلَةُ بَعْدَهُ مُفَسِّرَةً، فَلا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ لِأنَّها مُفَسِّرَةٌ لِذَلِكَ المُضْمَرِ الَّذِي هو القَوْلُ الشَّدِيدُ، ولا جائِزٌ أنْ يَكُونَ لَهم في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ لِأنَّهُ لا يَنْتَظِمُ مِنهُ مَعَ ما قَبْلَهُ كَلامٌ؛ لِأنَّهُ يَبْقى لا تُفْسِدُوا لا ارْتِباطَ لَهُ، إذْ لا يَكُونُ مَعْمُولًا لِلْقَوْلِ مُفَسِّرًا لَهُ. وزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّ المَفْعُولَ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ هو الجُمْلَةُ الَّتِي هي: لا تُفْسِدُوا، وجَعَلَ ذَلِكَ مِن بابِ الإسْنادِ اللَّفْظِيِّ ونَظَّرَهُ بِقَوْلِكَ ألِفٌ حَرْفٌ مِن ثَلاثَةِ أحْرُفٍ، ومِنهُ زَعَمُوا مَطِيَّةَ الكَذِبِ، قالَ: كَأنَّهُ قِيلَ، وإذا قِيلَ لَهم هَذا القَوْلُ وهَذا الكَلامُ، انْتَهى. فَلَمْ يَجْعَلْهُ مِن بابِ الإسْنادِ إلى مَعْنى الجُمْلَةِ لِأنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ عَلى مَذْهَبِ جُمْهُورِ البَصْرِيِّينَ، فَعُدِلَ إلى الإسْنادِ اللَّفْظِيِّ، وهو الَّذِي لا يَخْتَصُّ بِهِ الِاسْمُ بَلْ يُوجَدُ في الِاسْمِ والفِعْلِ والحَرْفِ والجُمْلَةِ، وإذا أمْكَنَ الإسْنادُ المَعْنَوِيُّ لَمْ يُعْدَلْ إلى الإسْنادِ اللَّفْظِيِّ، وقَدْ أمْكَنَ ذَلِكَ بِالتَّخْرِيجِ الَّذِي ذَكَرْناهُ. واللّامُ في قَوْلِهِ: لَهم، لِلتَّبْلِيغِ، وهو أحَدُ المَعانِي السَّبْعَةَ عَشَرَ الَّتِي ذَكَرْناها لِلّامِ عِنْدَ كَلامِنا عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الفاتحة: ٢] . وإفْسادُهم في الأرْضِ بِالكُفْرِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، أوِ المَعاصِي، قالَهُ أبُو العالِيَةِ ومُقاتِلٌ، أوْ بِهِما، قالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أشْياخِهِ، أوْ بِتَرْكِ امْتِثالِ الأمْرِ واجْتِنابِ النَّهْيِ، قالَهُ مُجاهِدٌ، أوْ بِالنِّفاقِ الَّذِي صافَوْا بِهِ الكُفّارَ وأطْلَعُوهم عَلى أسْرارِ المُؤْمِنِينَ، ذَكَرَهُ عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أوْ بِإعْراضِهِمْ عَنِ الإيمانِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ والقُرْآنِ، (p-٦٥)أوْ بِقَصْدِهِمْ تَغْيِيرَ المِلَّةِ، قالَهُ الضَّحّاكَ، أوْ بِاتِّباعِهِمْ هَواهم وتَرْكِهِمُ الحَقَّ مَعَ وُضُوحِهِ، قالَهُ بَعْضُهم. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الإفْسادُ في الأرْضِ تَهْيِيجُ الحُرُوبِ والفِتَنِ، قالَ: لِأنَّ في ذَلِكَ فَسادُ ما في الأرْضِ وانْتِفاءُ الِاسْتِقامَةِ عَنْ أحْوالِ النّاسِ والزُّرُوعِ والمَنافِعِ الدِّينِيَّةِ والدُّنْيَوِيَّةِ، قالَ تَعالى: ﴿لِيُفْسِدَ فِيها ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ﴾ [البقرة: ٢٠٥]، ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ﴾ [البقرة: ٣٠]، ومِنهُ قِيلَ لِحَرْبٍ كانَتْ بَيْنَ طَيِّئٍ: حَرْبُ الفَسادِ، انْتَهى كَلامُهُ. وُوَجْهُ الفَسادِ بِهَذِهِ الأقْوالِ الَّتِي قِيلَتْ أنَّها كُلَّها كَبائِرُ عَظِيمَةٌ ومَعاصٍ جَسِيمَةٌ، وزادَها تَغْلِيظًا إصْرارُهم عَلَيْها، والأرْضُ مَتى كَثُرَتْ مَعاصِي أهْلَها وتَواتَرَتْ قَلَّتْ خَيْراتُها ونُزِعَتْ بَرَكاتُها ومُنِعَ عَنْها الغَيْثُ الَّذِي هو سَبَبُ الحَياةِ، فَكانَ فِعْلُهُمُ المَوْصُوفُ أقْوى الأسْبابِ لِفَسادِ الأرْضِ وخَرابِها. كَما أنَّ الطّاعَةَ والِاسْتِغْفارَ سَبَبٌ لِكَثْرَةِ الخَيْراتِ ونُزُولِ البَرَكاتِ ونُزُولِ الغَيْثِ، ألا تَرى قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ [نوح: ١٠]، ﴿وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلى الطَّرِيقَةِ﴾ [الجن: ١٦]، ﴿ولَوْ أنَّ أهْلَ القُرى آمَنُوا واتَّقَوْا﴾ [الأعراف: ٩٦]، ﴿ولَوْ أنَّهم أقامُوا التَّوْراةَ والإنْجِيلَ﴾ [المائدة: ٦٦]، الآياتِ. وقَدْ قِيلَ في تَفْسِيرِهِ ما رُوِيَ في الحَدِيثِ مِن أنَّ الفاجِرَ يَسْتَرِيحُ مِنهُ العِبادُ والبِلادُ والشَّجَرُ والدَّوابُّ، إنَّ مَعاصِيَهِ يَمْنَعُ اللَّهُ بِها الغَيْثَ، فَيَهْلِكُ البِلادُ والعِبادُ لِعَدَمِ النَّباتِ وانْقِطاعِ الأقْواتِ. والنَّهْيُ عَنِ الإفْسادِ في الأرْضِ مِن بابِ النَّهْيِ عَنِ المُسَبِّبِ، والمُرادُ النَّهْيُ عَنِ السَّبَبِ. فَمُتَعَلِّقُ النَّهْيِ حَقِيقَةً هو مُصافاةُ الكُفّارِ ومُمالَأتُهم عَلى المُؤْمِنِينَ بِإفْشاءِ السِّرِّ إلَيْهِمْ وتَسْلِيطِهِمْ عَلَيْهِمْ، لِإفْضاءِ ذَلِكَ إلى هَيْجِ الفِتَنِ المُؤَدِّي إلى الإفْسادِ في الأرْضِ، فَجَعَلَ ما رُتِّبَ عَلى المَنهِيِّ عَنْهُ حَقِيقَةً مَنهِيًّا عَنْهُ لَفْظًا. والنَّهْيُ عَنِ الإفْسادِ في الأرْضِ هُنا كالنَّهْيِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَعْثَوْا في الأرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: ٦٠] . ولَيْسَ ذِكْرُ الأرْضِ لِمُجَرَّدِ التَّوْكِيدِ بَلْ في ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ هَذا المَحَلَّ الَّذِي فِيهِ نَشْأتُكم وتَصَرُّفُكم، ومِنهُ مادَّةُ حَياتِكم، وهو سُتْرَةُ أمْواتِكم، جَدِيرٌ أنْ لا يُفْسَدَ فِيهِ، إذْ مَحَلُّ الإصْلاحِ لا يَنْبَغِي أنْ يُجْعَلَ مَحَلَّ الإفْسادِ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلاحِها﴾ [الأعراف: ٥٦] وقالَ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولًا فامْشُوا في مَناكِبِها وكُلُوا مِن رِزْقِهِ﴾ [الملك: ١٥]، وقالَ تَعالى: ﴿والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحاها﴾ [النازعات: ٣٠] ﴿أخْرَجَ مِنها ماءَها ومَرْعاها﴾ [النازعات: ٣١] ﴿والجِبالَ أرْساها﴾ [النازعات: ٣٢] ﴿مَتاعًا لَكم ولِأنْعامِكُمْ﴾ [النازعات: ٣٣]، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنّا صَبَبْنا الماءَ صَبًّا﴾ [عبس: ٢٥]، الآيَةَ. إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ المُنَبِّهَةِ عَلى الِامْتِنانِ عَلَيْنا بِالأرْضِ، وما أوْدَعَ اللَّهُ فِيها مِنَ المَنافِعِ الَّتِي لا تَكادُ تُحْصى. وقابَلُوا النَّهْيَ عَنِ الإفْسادِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: ١١]، فَأخْرَجُوا الجَوابَ جُمْلَةً اسْمِيَّةً لِتَدُلَّ عَلى ثُبُوتِ الوَصْفِ لَهم، وأكَّدُوها بِإنَّما دَلالَةً عَلى قُوَّةِ اتِّصافِهِمْ بِالإصْلاحِ. وفي المَعْنى الَّذِي اعْتَقَدُوا أنَّهم مُصْلِحُونَ أقْوالٌ: أحَدُها: قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: إنَّ مُمالَأتِنا الكُفّارَ إنَّما نُرِيدُ بِها الإصْلاحَ بَيْنَهم وبَيْنَ المُؤْمِنِينَ. والثّانِي: قَوْلُ مُجاهِدٍ وهو: أنَّ تِلْكَ المُمالَأةَ هُدًى وصَلاحٌ ولَيْسَتْ بِفَسادٍ. والثّالِثُ: أنَّ مُمالَأةَ النَّفْسِ والهَوى صَلاحٌ وهُدًى. والرّابِعُ: أنَّهم ظَنُّوا أنَّ في مُمالَأةِ الكُفّارِ صَلاحًا لَهم، ولَيْسَ كَذَلِكَ لِأنَّ الكُفّارَ لَوْ ظَفِرُوا بِهِمْ لَمْ يُبْقُوا عَلَيْهِمْ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿ألا إنَّهم هُمُ المُفْسِدُونَ ولَكِنْ لا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ١٢] . والخامِسُ: أنَّهم أنْكَرُوا أنْ يَكُونُوا فَعَلُوا ما نُهُوا عَنْهُ مِن مُمالَأةِ الكُفّارِ، وقالُوا: ﴿إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: ١١] بِاجْتِنابِ ما نُهِينا عَنْهُ. والَّذِي نَخْتارُهُ أنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ شَيْءٌ مِن هَذِهِ الأقْوالِ، بَلْ يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلى كُلِّ فَرْدٍ مِن أنْواعِ الإفْسادِ، وذَلِكَ أنَّهم لَمّا ادَّعَوُا الإيمانَ وأكْذَبَهُمُ اللَّهُ في ذَلِكَ وأعْلَمَ بِأنَّ إيمانَهم مُخادَعَةٌ، كانُوا يَكُونُونَ بَيْنَ حالَيْنِ، إحْداهُما: أنْ يَكُونُوا مَعَ عَدَمِ إيمانِهِمْ مُوادِعِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ولِلْمُؤْمِنِينَ، والحالَةُ الأُخْرى أنْ يَكُونُوا مَعَ عَدَمِ إيمانِهِمْ يَسْعَوْنَ بِالإفْسادِ بِالأرْضِ لِتَفَرُّقِ كَلِمَةِ الإسْلامِ وشَتاتِ نِظامِ المِلَّةِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وكَأنَّهم قِيلَ لَهم: إنْ كُنْتُمْ قَدْ قُنِعَ مِنكم بِالإقْرارِ بِالإيمانِ، وإنْ لَمْ تُؤْمِن قُلُوبُكم فَإيّاكم والإفْسادَ في الأرْضِ، فَلَمْ يُجِيبُوا بِالِامْتِناعِ مِنَ الإفْسادِ، بَلْ أثْبَتُوا لِأنْفُسِهِمْ أنَّهم مُصْلِحُونَ وأنَّهم لَيْسُوا (p-٦٦)مَحَلًّا لِلْإفْسادِ، فَلا يَتَوَجَّهُ النَّهْيُ عَنِ الإفْسادِ نَحْوَهم لِاتِّصافِهِمْ بِضِدِّهِ وهو الإصْلاحُ. كُلُّ ذَلِكَ بُهْتٌ مِنهم وكَذِبٌ صِرْفٌ عَلى عادَتِهِمْ في الكَذِبِ وقَوْلِهِمْ بِأفْواهِهِمْ ما لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ. ولَمّا كانُوا قَدْ قابَلُوا النَّهْيَ عَنِ الإفْسادِ بِدَعْوى الإصْلاحِ الكاذِبَةِ أكْذَبَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ألا إنَّهم هُمُ المُفْسِدُونَ﴾ [البقرة: ١٢]، فَأُثْبِتَ لَهم ضِدُّ ما ادَّعَوْهُ مُقابِلًا لَهم ذَلِكَ في جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بِأنْواعٍ مِنَ التَّأْكِيدِ مِنها التَّصْدِيرُ بِإنَّ وبِالمَجِيءِ بِهِمْ، وبِالمَجِيءِ بِالألِفِ واللّامِ الَّتِي تُفِيدُ الحَصْرَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. وقالَ الجُرْجانِيُّ: دَخَلَتِ الألِفُ واللّامُ في قَوْلِهِ المُفْسِدُونَ لَمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللَّفْظَةِ في قَوْلِهِ لا تُفْسِدُوا، فَكَأنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ العَهْدِ، ولَوْ جاءَ الخَبَرُ عَنْهم ولَمْ يَتَقَدَّمْ مِنَ اللَّفْظَةِ ذِكْرٌ لَكانَ ﴿ألا إنَّهم هُمُ المُفْسِدُونَ﴾ [البقرة: ١٢]، انْتَهى كَلامُهُ، وهو حَسَنٌ. واسْتُفْتِحَتِ الجُمْلَةُ بِألا مُنَبِّهَةً عَلى ما يَجِيءُ بَعْدَها لِتَكُونَ الأسْماعُ مُصْغِيَةً لِهَذا الإخْبارِ الَّذِي جاءَ في حَقِّهِمْ، ويَحْتَمِلُ هم أنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِلضَّمِيرِ في أنَّهم وإنْ كانَ فَصْلًا، فَعَلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ يَكُونُ المُفْسِدُونَ خَبَرًا لِأنَّ، وأنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً ويَكُونُ المُفْسِدُونَ خَبَرَهُ. والجُمْلَةُ خَبَرٌ لِإنَّ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ فائِدَةِ الفَصْلِ عِنْدَ الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: ٥] . وتَحْقِيقُ الِاسْتِدْراكِ هُنا في قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنْ لا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ١٢]، هو أنَّ الإخْبارَ عَنْهم أنَّهم هُمُ المُفْسِدُونَ يَتَضَمَّنُ عِلْمَ اللَّهِ ذَلِكَ، فَكانَ المَعْنى أنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أنَّهم هُمُ المُفْسِدُونَ، ولَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، فَوَقَعَتْ لَكِنْ إذْ ذاكَ بَيْنَ مُتَنافِيَيْنِ، وجِهَةُ الِاسْتِدْراكِ أنَّهم لَمّا نُهُوا عَنْ إيجادِ مِثْلِ ما كانُوا يَتَعاطَوْنَهُ مِنَ الإفْسادِ فَقابَلُوا ذَلِكَ بِأنَّهم مُصْلِحُونَ في ذَلِكَ، وأخْبَرَ اللَّهُ عَنْهم أنَّهم هُمُ المُفْسِدُونَ، كانُوا حَقِيقِينَ بِأنْ يَعْلَمُوا أنَّ ذَلِكَ كَما أخْبَرَ اللَّهُ - تَعالى - وأنَّهم لا يَدَّعُونَ أنَّهم مُصْلِحُونَ، فاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِمْ هَذا المَعْنى الَّذِي فاتَهم مِن عَدَمِ الشُّعُورِ بِذَلِكَ. تَقُولُ: زَيْدٌ جاهِلٌ ولَكِنْ لا يَعْلَمُ، وذَلِكَ أنَّهُ مِن حَيْثُ اتَّصَفَ بِالجَهْلِ وصارَ وصْفًا قائِمًا بِزَيْدٍ، كانَ يَنْبَغِي لِزَيْدٍ أنْ يَكُونَ عالِمًا بِهَذا الوَصْفِ الَّذِي قامَ بِهِ، إذِ الإنْسانُ يَنْبَغِي أنْ يَعْلَمَ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الأوْصافِ، فاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ بِلَكِنْ، لِأنَّهُ مِمّا كَثُرَ في القُرْآنِ ويَغْمُضُ في بَعْضِ المَواضِعِ إدْراكُهُ. قالُوا: ومَفْعُولُ يَشْعُرُونَ مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ المَعْنى تَقْدِيرُهُ أنَّهم مُفْسِدُونَ، أوْ أنَّهم مُعَذَّبُونَ، أوْ أنَّهم يَنْزِلُ بِهِمُ المَوْتُ فَتَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ، والأوْلى الأوَّلُ، ويُحْتَمَلُ أنْ لا يُنْوى مَحْذُوفٌ فَيَكُونُ قَدْ نُفِيَ عَنْهُمُ الشُّعُورُ مِن غَيْرِ ذِكْرِ مُتَعَلِّقِهِ ولا نِيَّةٍ، وهو أبْلَغُ في الذَّمِّ، جَعَلُوا لِدَعْواهم ما هو إفْسادٌ إصْلاحًا مِمَّنِ انْتَفى عَنْهُ الشُّعُورُ وكَأنَّهم مِنَ البَهائِمِ؛ لِأنَّ مَن كانَ مُتَمَكِّنًا مِن إدْراكِ شَيْءٍ فَأهْمَلَ الفِكْرَ والنَّظَرَ حَتّى صارَ يَحْكُمُ عَلى الأشْياءِ الفاسِدَةِ بِأنَّها صالِحَةٌ، فَقَدِ انْتَظَمَ في سِلْكِ مَن لا شُعُورَ لَهُ ولا إدْراكَ، أوْ مَن كابَرَ وعانَدَ فَجَعَلَ الحَقَّ باطِلًا، فَهو كَذَلِكَ أيْضًا. وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَكِنْ لا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ١٢] تَسْلِيَةً عَنْ كَوْنِهِمْ لا يُدْرِكُونَ الحَقَّ، إذْ مَن كانَ مِن أهْلِ الجَهْلِ فَيَنْبَغِي لِلْعالِمِ أنْ لا يَكْتَرِثَ بِمُخالَفَتِهِ. والكَلامُ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا قِيلَ لَهم آمِنُوا﴾ [البقرة: ١٣]، كالكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا قِيلَ لَهم لا تُفْسِدُوا﴾ [البقرة: ١١] مِن حَيْثُ عَطْفُ هَذِهِ الجُمْلَةِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِئْنافِ، أوْ عَطْفُها عَلى صِلَةٍ مِن قَوْلِهِ: مَن يَقُولُ، أوْ عَطْفُها عَلى يَكْذِبُونَ، ومِن حَيْثُ العامِلُ في إذا، ومِن حَيْثُ حُكْمُ الجُمْلَةِ بَعْدَ إذا، ومِن حَيْثُ المَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ. واخْتُلِفَ في القائِلِ لَهم آمِنُوا، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الصَّحابَةُ، ولَمْ يُعَيِّنْ أحَدًا مِنهم، وقالَ مُقاتِلٌ: قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ مِنهم وهم: سَعْدُ بْنُ مُعاذٍ وأبُو لُبابَةَ وأُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ. ولَمّا نَهاهم تَعالى عَنِ الإفْسادِ أمَرَهم بِالإيمانِ لِأنَّ الكَمالَ يَحْصُلُ بِتَرْكِ ما لا يَنْبَغِي وبِفِعْلِ ما يَنْبَغِي، وبُدِئَ بِالمَنهِيِّ عَنْهُ لِأنَّهُ الأهَمُّ، ولِأنَّ المَنهِيّاتِ عَنْها هي مِن بابِ التُّرُوكِ، والتُّرُوكُ أسْهَلُ في الِامْتِثالِ مِنِ امْتِثالِ المَأْمُوراتِ بِها. والكافُ مِن قَوْلِهِ: ﴿كَما آمَنَ النّاسُ﴾ [البقرة: ١٣] في مَوْضِعِ نَصْبٍ، وأكْثَرُ المُعْرِبِينَ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ عِنْدَهم: آمِنُوا إيمانًا كَما آمَنَ النّاسُ، وكَذَلِكَ يَقُولُونَ: في سِيرَ عَلَيْهِ شَدِيدًا، أوْ: سِرْتُ حَثِيثًا، إنَّ شَدِيدًا وحَثِيثًا نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: سِيرَ عَلَيْهِ سَيْرًا شَدِيدًا، وسِرْتُ (p-٦٧)سَيْرًا حَثِيثًا. ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنَعْتٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وإنَّما هو مَنصُوبٌ عَلى الحالِ مِنَ المَصْدَرِ المُضْمَرِ المَفْهُومِ مِنَ الفِعْلِ المُتَقَدِّمِ المَحْذُوفِ بَعْدَ الإضْمارِ عَلى طَرِيقِ الِاتِّساعِ، وإنَّما لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِأنَّهُ يُؤَدِّي إلى حَذْفِ المَوْصُوفِ وإقامَةِ الصِّفَةِ مَقامَهُ في غَيْرِ المَواضِعِ الَّتِي ذَكَرُوها. وتِلْكَ المَواضِعُ أنْ تَكُونَ الصِّفَةُ خاصَّةً بِجِنْسِ المَوْصُوفِ، نَحْوَ: مَرَرْتُ بِكاتِبٍ ومُهَنْدِسٍ، أوْ واقِعَةً خَبَرًا، نَحْوَ: زَيْدٌ قائِمٌ، أوْ حالًا، نَحْوَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ راكِبًا، أوْ وصْفًا لِظَرْفٍ، نَحْوَ: جَلَسْتُ قَرِيبًا مِنكَ، أوْ مُسْتَعْمَلَةً اسْتِعْمالَ الأسْماءِ، وهَذا يُحْفَظُ ولا يُقاسُ عَلَيْهِ، نَحْوَ: الأبْطَحِ والأبْرَقِ. وإذا خَرَجَتِ الصِّفَةُ عَنْ هَذِهِ المَواضِعِ لَمْ تَكُنْ إلّا تابِعَةً لِلْمَوْصُوفِ، ولا يُكْتَفى عَنِ المَوْصُوفِ، ألا تَرى أنَّ سِيبَوَيْهِ مَنَعَ: ألا ماءً ولَوْ بارِدًا، وإنْ تَقَدَّمَ ما يَدُلُّ عَلى حَذْفِ المَوْصُوفِ، وأجازَ: ولَوْ بارِدًا، لِأنَّهُ حالٌ، وتَقْرِيرُ هَذا في كُتُبِ النَّحْوِ.
وما مِن: ﴿كَما آمَنَ النّاسُ﴾ [البقرة: ١٣]، مَصْدَرِيَّةٌ التَّقْدِيرُ كَإيمانِ النّاسِ، فَيَنْسَبِكُ مِن ما والفِعْلِ بَعْدَها مَصْدَرٌ مَجْرُورٌ بِكافِ التَّشْبِيهِ الَّتِي هي نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أوْ حالٌ عَلى القَوْلَيْنِ السّابِقَيْنِ، وإذا كانَتْ ما مَصْدَرِيَّةً فَصِلَتُها جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ مُصَدَّرَةٌ بِماضٍ مُتَصَرِّفٍ أوْ مُضارِعٍ، وشَذَّ وصْلُها بِلَيَسَ في قَوْلِ الشّاعِرِ:
؎بِما لَسْتُما أهْلَ الخِيانَةِ والغَدْرِ
ولا تُوصَلُ بِالجُمْلَةِ الأسْمِيَةِ خِلافًا لِقَوْمٍ، مِنهم: أبُو الحَجّاجِ الأعْلَمِ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ:
؎وجَدْنا الحُمْرَ مِن شَرِّ المَطايا ∗∗∗ كَما الحَبِطاتُ شَرُّ بَنِي تَمِيمِ
وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وأبُو البَقاءِ في ما مِن قَوْلِهِ: كَما آمَنَ، أنْ تَكُونَ كافَّةً لِلْكافِ عَنِ العَمَلِ مِثْلَها في: رُبَّما قامَ زَيْدٌ، ويَنْبَغِي أنْ لا تُجْعَلَ كافَّةً إلّا في المَكانِ الَّذِي لا تَتَقَدَّرُ فِيهِ مَصْدَرِيَّةً، لِأنَّ إبْقاءَها مَصْدَرِيَّةً مُبْقٍ لِلْكافِ عَلى ما اسْتَقَرَّ فِيها مِنَ العَمَلِ، وتَكُونُ الكافُ إذْ ذاكَ مِثْلَ حُرُوفِ الجَرِّ الدّاخِلَةِ عَلى ما المَصْدَرِيَّةِ، وقَدْ أمْكَنَ ذَلِكَ في: كَما آمَنَ النّاسُ، فَلا يَنْبَغِي أنْ تُجْعَلَ كافَّةً. والألِفُ واللّامُ في النّاسِ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، فَكَأنَّهُ قالَ: الكامِلُونَ في الإنْسانِيَّةِ، أوْ عَبَّرَ بِالنّاسِ عَنِ المُؤْمِنِينَ لِأنَّهم هُمُ النّاسُ في الحَقِيقَةِ، ومَن عَداهم صُورَتُهُ صُورَةُ النّاسِ، ولَيْسَ مِنَ النّاسِ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِ، كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎لَيْسَ مِنَ النّاسِ ولَكِنَّهُ ∗∗∗ يَحْسَبُهُ النّاسُ مِنَ النّاسِ
ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الألِفُ واللّامُ لِلْعَهْدِ، ويُعْنى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأصْحابُهُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، أوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ، ونَحْوُهُ مِمَّنْ حَسُنَ إسْلامُهُ مِنَ اليَهُودِ، قالَهُ مُقاتِلٌ، أوْ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ، وسَعْدُ بْنُ مُعاذٍ، وأُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ، وجَماعَةٌ مِن وُجُوهِ الأنْصارِ عَدَّهُمُ الكَلْبِيُّ. والأوْلى حَمْلُها عَلى العَهْدِ، وأنْ يُرادَ بِهِ مَن سَبَقَ إيمانُهُ قَبْلَ قَوْلِ ذَلِكَ لَهم، فَيَكُونُ حَوالَةً عَلى مَن سَبَقَ إيمانُهُ لِأنَّهم مَعْلُومُونَ مَعْهُودُونَ عِنْدَ المُخاطَبِينَ بِالأمْرِ بِالإيمانِ. والتَّشْبِيهُ في: ﴿كَما آمَنَ النّاسُ﴾ [البقرة: ١٣] إشارَةٌ إلى الإخْلاصِ، وإلّا فَهم ناطِقُونَ بِكَلِمَتِي الشَّهادَةِ غَيْرَ مُعْتَقِدِيها. أنُؤْمِنُ: مَعْمُولٌ لِقالُوا، وهو اسْتِفْهامٌ مَعْناهُ الإنْكارُ أوِ الِاسْتِهْزاءِ. ولَمّا كانَ المَأْمُورُ بِهِ مُشَبَّهًا كانَ جَوابُهم مُشَبَّهًا في قَوْلِهِمْ: ﴿أنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ [البقرة: ١٣]، والقَوْلُ في الكافِ وما في هَذا كالقَوْلِ فِيهِما في: ﴿كَما آمَنَ النّاسُ﴾ [البقرة: ١٣] . والألِفُ واللّامُ في السُّفَهاءِ لِلْعَهْدِ، فَيُعْنى بِهِ الصَّحابَةُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، أوِ الصِّبْيانُ والنِّساءُ، قالَهُ الحَسَنُ، أوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ وأصْحابُهُ، قالَهُ مُقاتِلٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مَن فُسِّرَ بِهِ النّاسُ مِنَ المَعْهُودِينَ، أوِ الكامِلُونَ في السَّفَهِ، أوْ لِأنَّهُمُ انْحَصَرَ السَّفَهُ فِيهِمْ إذْ لا سَفِيهَ غَيْرُهم. وأبْعَدُ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ الألِفَ واللّامَ لِلصِّفَةِ الغالِبَةِ نَحْوِ: العَيُّوقِ والدَّبَرانِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُغَلِّبْ هَذا الوَصْفَ عَلَيْهِمْ، فَصارُوا إذا قِيلَ: السُّفَهاءُ، فَهم مِنهُ ناسٌ مَخْصُوصُونَ، كَما يُفْهَمُ مِنَ العَيُّوقِ نَجْمٌ مَخْصُوصٌ. ويُحْتَمَلُ قَوْلُهم: ﴿كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ [البقرة: ١٣] أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن بابِ التَّعَنُّتِ والتَّجَلُّدِ حَذَرًا مِنَ الشَّماتَةِ، وهم عالِمُونَ بِأنَّهم لَيْسُوا بِسُفَهاءَ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن بابِ الِاعْتِقادِ الجَزْمِ عِنْدَهم، فَيَكُونُوا قَدْ (p-٦٨)نَسَبُوهم لِلسَّفَهِ مُعْتَقِدِينَ أنَّهم سُفَهاءُ، وذَلِكَ لِما أخَلُّوا بِهِ مِنَ النَّظَرِ والفِكْرِ الصَّحِيحِ المُؤَدِّي إلى إدْراكِ الحَقِّ، وهم كانُوا في رِئاسَةٍ ويَسارٍ، وكانَ المُؤْمِنُونَ إذْ ذاكَ أكْثَرُهم فُقَراءُ وكَثِيرٌ مِنهم مُوالٍ، فاعْتَقَدُوا أنَّ مَن كانَ بِهَذِهِ المَثابَةِ كانَ مِنَ السُّفَهاءِ لِأنَّهُمُ اشْتَغَلُوا ما لا يُجْدِي عِنْدَهم وكَسِلُوا عَنْ طَلَبِ الرِّئاسَةِ والغِنى وما بِهِ السُّؤْدُدُ في الدُّنْيا، وذَلِكَ هو غايَةُ السَّفَهِ عِنْدَهم. وفي قَوْلِهِ: ﴿كَما آمَنَ السُّفَهاءُ﴾ [البقرة: ١٣] إثْباتٌ مِنهم في دَعْواهم بِسَفَهِ المُؤْمِنِينَ أنَّهم مَوْصُوفُونَ بِضِدِّ السَّفَهِ، وهو رَزانَةُ الأحْلامِ ورُجْحانُ العُقُولِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهم وأثْبَتَ أنَّهم هُمُ السُّفَهاءُ، وصَدَّرَ الجُمْلَةَ بِألا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ لِيُنادِي عَلَيْهِمُ المُخاطِبِينَ بِأنَّهُمُ السُّفَهاءُ، وأكَّدَ ذَلِكَ بِإنَّ وبِلَفْظِ هم. وإذا التَقَتِ الهَمْزَتانِ والأُولى مَضْمُومَةٌ والثّانِيَةُ مَفْتُوحَةٌ مِن كَلِمَتَيْنِ نَحْوُ: السُّفَهاءُ ألا، فَفي ذَلِكَ أوْجُهٌ. أحَدُها: تَحْقِيقُ الهَمْزَتَيْنِ، وبِذَلِكَ قَرَأ الكُوفِيُّونَ، وابْنُ عامِرٍ. والثّانِي: تَحْقِيقُ الأُولى وتَخْفِيفُ الثّانِيَةِ بِإبْدالِها واوًا كَحالِها إذا كانَتْ مَفْتُوحَةً قَبْلَها ضَمَّةٌ في كَلِمَةٍ نَحْوِ: أُؤاتِي مُضارِعُ آتى، فاعِلٌ مِن أتَيْتُ، وجُؤَنٍ تَقُولُ: أُواتِي وجُوَنٌ، وبِذَلِكَ قَرَأ الحَرَمِيّانِ وأبُو عَمْرٍو. والثّالِثُ: تَسْهِيلُ الأوْلى بِجَعْلِها بَيْنَ الهَمْزَةِ والواوِ، وتَحْقِيقُ الثّانِيَةِ. والرّابِعُ: تَسْهِيلُ الأُولى بِجَعْلِها بَيْنَ الهَمْزَةِ والواوِ وإبْدالُ الثّانِيَةِ واوًا. وأجازَ قَوْمٌ وجْهًا. خامِسًا: وهو جَعْلُ الأُولى بَيْنَ الهَمْزَةِ والواوِ، وجَعْلُ الثّانِيَةِ بَيْنَ الهَمْزَةِ والواوِ، ومَنَعَ بَعْضُهم ذَلِكَ لِأنَّ جَعْلَ الثّانِيَةَ بَيْنَ الهَمْزَةِ والواوِ تَقْرِيبًا لَها مِنَ الألِفِ، والألِفُ لا تَقَعُ بَعْدَ الضَّمَّةِ، والأعارِيبُ الثَّلاثَةُ الَّتِي جازَتْ في: هم، في قَوْلِهِ: ﴿هُمُ المُفْسِدُونَ﴾ [البقرة: ١٢]، جائِزَةٌ في: هم، مِن قَوْلِهِ: ﴿هُمُ السُّفَهاءُ﴾ [البقرة: ١٣] . والِاسْتِدْراكُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ لَكِنْ في قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنْ لا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٣]، مِثْلُهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَكِنْ لا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ١٢]، وإنَّما قالَ هُناكَ لا يَشْعُرُونَ وهُنا لا يَعْلَمُونَ لِأنَّ المُثْبَتَ لَهم هُناكَ هو الإفْسادُ، وهو مِمّا يُدْرَكُ بِأدْنى تَأمُّلٍ؛ لِأنَّهُ مِنَ المَحْسُوساتِ الَّتِي لا تَحْتاجُ إلى فِكْرٍ كَثِيرٍ، فَنَفى عَنْهم ما يُدْرَكُ بِالمَشاعِرِ، وهي الحَواسُّ، مُبالَغَةً في تَجْهِيلَهم، وهو أنَّ الشُّعُورَ الَّذِي قَدْ يَثْبُتُ لِلْبَهائِمِ مَنفِيٌّ عَنْهم، والمُثْبَتُ هُنا هو السَّفَهُ، والمُصَدَّرُ بِهِ هو الأمْرُ بِالإيمانِ، وذَلِكَ مِمّا يَحْتاجُ إلى إمْعانِ فِكْرٍ واسْتِدْلالٍ ونَظَرٍ تامٍّ يُفْضِي إلى الإيمانِ والتَّصْدِيقِ، ولَمْ يَقَعْ مِنهُمُ المَأْمُورُ بِهِ فَناسَبَ ذَلِكَ نَفْيُ العِلْمِ عَنْهم، ولِأنَّ السَّفَهَ هو خِفَّةُ العَقْلِ والجَهْلُ بِالمَأْمُورِ، قالَ السَّمَوْألُ:
؎نَخافُ أنْ تُسَفَّهَ أحْلامُنا ∗∗∗ فَنَجْهَلُ الجَهْلَ مَعَ الجاهِلِ
والعِلْمُ نَقِيضُ الجَهْلِ، فَقابَلَهُ بِقَوْلِهِ: لا يَعْلَمُونَ؛ لِأنَّ عَدَمَ العِلْمِ بِالشَّيْءِ جَهْلٌ بِهِ. قَرَأ ابْنُ السَّمَيْفَعِ اليَمانِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ: (وإذا لاقَوُا الَّذِينَ)، وهي فاعِلٌ بِمَعْنى الفِعْلِ المُجَرَّدِ، وهو أحَدُ مَعانِي فاعِلٍ الخَمْسَةِ، والواوُ المَضْمُومَةُ في هَذِهِ القِراءَةِ هي واوُ الضَّمِيرِ تَحَرَّكَتْ لِسُكُونِ ما بَعْدَها، ولَمْ تَعُدْ لامُ الكَلِمَةِ المَحْذُوفَةُ لِعُرُوضِ التَّحْرِيكِ في الواوِ، واللِّقاءُ يَكُونُ بِمَوْعِدٍ وبِغَيْرِ مَوْعِدٍ، فَإذا كانَ بِغَيْرِ مَوْعِدٍ سُمِّيَ مُفاجَأةً ومُصادَفَةً، وقَوْلُهم لِمَن لَقُوا مِنَ المُؤْمِنِينَ: آمَنّا، بِلَفْظِ مُطْلَقِ الفِعْلِ غَيْرَ مُؤَكَّدٍ بِشَيْءٍ تَوْرِيَةً مِنهم وإيهامًا، فَيُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدُوا بِهِ الإيمانَ بِمُوسى وبِما جاءَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وذَلِكَ مِن خُبْثِهِمْ وبُهْتِهِمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدُوا بِهِ الإيمانَ المُقَيَّدَ في قَوْلِهِمْ: ﴿آمَنّا بِاللَّهِ وبِاليَوْمِ الآخِرِ﴾ [البقرة: ٨]، ولَيْسُوا بِصادِقِينَ في ذَلِكَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ ما أظْهَرُوهُ بِألْسِنَتِهِمْ مِنَ الإيمانِ، ومِنِ اعْتِرافِهِمْ حِينَ اللِّقاءِ، وسَمَّوْا ذَلِكَ إيمانًا، وقُلُوبُهم عَنْ ذَلِكَ صارِفَةٌ مُعْرِضَةٌ.
* * *
وقَرَأ الجُمْهُورُ: خَلَوْا إلى بِسُكُونِ الواوِ وتَحْقِيقِ الهَمْزَةِ، وقَرَأ ورْشٌ: بِإلْقاءِ حَرَكَةِ الهَمْزَةِ عَلى الواوِ وحَذْفِ الهَمْزَةِ، ويَتَعَدّى خَلا بِالباءِ وبِإلى، والباءُ أكْثَرُ اسْتِعْمالًا، وعُدِلَ إلى إلى لِأنَّها إذا عُدِّيَتْ بِالباءِ احْتَمَلَتْ مَعْنَيَيْنِ، أحَدُهُما: الِانْفِرادُ، والثّانِي: السُّخْرِيَةُ، إذْ يُقالُ في اللُّغَةِ: خَلَوْتُ بِهِ، أيْ سَخِرْتُ مِنهُ، وإلى لا يَحْتَمِلُ إلّا مَعْنًى واحِدًا، وإلى هُنا عَلى مَعْناها مِنِ انْتِهاءِ الغايَةِ عَلى مَعْنى تَضْمِينَ الفِعْلِ، أيْ صَرَفُوا خَلاهم إلى شَياطِينِهِمْ، قالَ الأخْفَشُ: خَلَوْتُ إلَيْهِ، جَعَلْتُهُ غايَةَ حاجَتِي، وهَذا شَرْحُ مَعْنًى، وزَعَمَ قَوْمٌ، مِنهُمُ النَّضْرُ بْنُ (p-٦٩)شُمَيْلٍ، أنَّ إلى هُنا بِمَعْنى مَعَ، أيْ وإذا خَلَوْا مَعَ شَياطِينِهِمْ، كَما زَعَمُوا ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَهم إلى أمْوالِكُمْ﴾ [النساء: ٢]، ﴿مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٥٢]، أيْ مَعَ أمْوالِكم ومَعَ اللَّهِ، ومِنهُ قَوْلُ النّابِغَةِ:
؎فَلا تَتْرُكَنِّي بِالوَعِيدِ كَأنَّنِي إلى النّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ القارُ أجْرَبُ
ولا حُجَّةَ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ. وقِيلَ: إلى بِمَعْنى الباءِ؛ لِأنَّ حُرُوفَ الجَرِّ يَنُوبُ بَعْضُها عَنْ بَعْضٍ، وهَذا ضَعِيفٌ، إذْ نِيابَةُ الحَرْفِ عَنِ الحَرْفِ لا يَقُولُ بِها سِيبَوَيْهِ والخَلِيلُ، وتَقْرِيرُ هَذا في النَّحْوِ. وشَياطِينُهم: هُمُ اليَهُودُ الَّذِينَ كانُوا يَأْمُرُونَهم بِالتَّكْذِيبِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، أوْ رُؤَساؤُهم في الكُفْرِ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. ورُوِيَ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أوْ شَياطِينُ الجِنِّ، قالَهُ الكَلْبِيُّ، أوْ كَهَنَتُهم، قالَهُ الضَّحّاكُ وجَماعَةٌ. وكانَ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الكَهَنَةِ جَماعَةٌ مِنهم: كَعْبُ بْنُ الأشْرَفِ مِن بَنِي قُرَيْظَةَ، وأبُو بُرْدَةَ في بَنِي أسْلَمَ، وعَبْدُ الدّارِ في جُهَيْنَةَ، وعَوْفُ بْنُ عامِرٍ في بَنِي أسَدٍ، وابْنُ السَّوْداءِ في الشّامِ، وكانَتِ العَرَبُ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمُ الِاطِّلاعَ عَلى عِلْمِ الغَيْبِ، ويَعْرِفُونَ الأسْرارَ، ويُداوُونَ المَرْضى، وسُمُّوا شَياطِينَ لِتَمَرُّدِهِمْ وعُتُوِّهِمْ، أوْ بِاسْمِ قُرَنائِهِمْ مِنَ الشَّياطِينِ، إنْ فُسِّرُوا بِالكَهَنَةِ، أوْ لِشَبَهِهِمْ بِالشَّياطِينِ في وسْوَسَتِهِمْ، وغُرُورِهِمْ، وتَحْسِينِهِمْ لِلْفَواحِشِ وتَقْبِيحِهِمْ لِلْحَسَنِ. والجُمْهُورُ عَلى تَحْرِيكِ العَيْنِ مِن مَعَكم، وقُرِئَ في الشّاذِّ: إنّا مَعْكم، وهي لُغَةُ غَنْمٍ ورَبِيعَةَ، وقَدِ اخْتَلَفَ القَوْلانِ مِنهم، فَقالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: آمَنّا، ولِشَياطِينِهِمْ إنّا مَعَكم. فانْظُرْ إلى تَفاوُتِ القَوْلَيْنِ، فَحِينَ لَقُوا المُؤْمِنِينَ قالُوا آمَنّا، أخْبَرُوا بِالمُطْلَقِ، كَما تَقَدَّمَ، مِن غَيْرِ تَوْكِيدٍ؛ لِأنَّ مَقْصُودَهُمُ الإخْبارُ بِحُدُوثِ ذَلِكَ ونَشْئِهِ مِن قِبَلِهِمْ، لا في ادِّعاءِ أنَّهم أوْحَدِيُّونَ فِيهِ، أوْ لِأنَّهُ لا تُطَوِّعُ بِذَلِكَ ألْسِنَتُهم لِأنَّهُ لا باعِثَ لَهم عَلى الإيمانِ حَقِيقَةً، أوْ لِأنَّهُ لَوْ أكَّدُوهُ ما راجَ ذَلِكَ عَلى المُؤْمِنِينَ فاكْتَفَوْا بِمُطْلَقِ الإيمانِ، وذَلِكَ خِلافَ ما أخْبَرَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبَّنا إنَّنا آمَنّا﴾ [آل عمران: ١٦]، وحِينَ لَقُوا شَياطِينَهم، أوْ خَلَوْا إلَيْهِمْ قالُوا: إنّا مَعَكم، فَأخْبَرُوا أنَّهم مُوافِقُوهم، وأخْرَجُوا الأخْبارَ في جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بِإنَّ لِيَدُلُّوا بِذَلِكَ عَلى ثَباتِهِمْ في دِينِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنُوا أنَّ ما أخْبَرُوا بِهِ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّما كانَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ، فَلَمْ يَكْتَفُوا بِالإخْبارِ بِالمُوافَقَةِ، بَلْ بَيَّنُوا أنَّ سَبَبَ مَقالَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ إنَّما هو الِاسْتِهْزاءُ والِاسْتِخْفافُ، لا أنَّ ذَلِكَ صادِرٌ مِنهم عَنْ صِدْقٍ وجِدٍّ، وأبْرَزُوا هَذا في الإخْبارِ في جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ بِإنَّما مُخْبَرٌ عَنِ المُبْتَدَأِ فِيها بِاسْمِ الفاعِلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلى الثُّبُوتِ، وأنَّ الِاسْتِهْزاءَ وصْفٌ ثابِتٌ لَهم، لا أنَّ ذَلِكَ تَجَدُّدٌ عِنْدَهم، بَلْ ذَلِكَ مِن خُلُقِهِمْ وعادَتِهِمْ مَعَ المُؤْمِنِينَ، وكَأنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ وقَعَتْ جَوابًا لِمُنْكِرٍ عَلَيْهِمْ قَوْلَهم: إنّا مَعَكم، كَأنَّهُ قالَ: كَيْفَ تَدَّعُونَ أنَّكم مَعَنا وأنْتُمْ مُسالِمُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ تُصَدِّقُونَهم، وتُكَثِّرُونَ سَوادَهم، وتَسْتَقْبِلُونَ قِبْلَتَهم، وتَأْكُلُونَ ذَبائِحَهم ؟ فَأجابُوهم بِقَوْلِهِمْ: ﴿إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: ١٤]، أيْ مُسْتَخِفُّونَ بِهِمْ، نُصانِعُ بِما نُظْهِرُ مِن ذَلِكَ عَنْ دِمائِنا وأمْوالِنا وذُرِّيّاتِنا، فَنَحْنُ نُوافِقُهم ظاهِرًا ونُوافِقُكم باطِنًا، والقائِلُ إنّا مَعَكم، إمّا المُنافِقُونَ لِكِبارِهِمْ، وإمّا كُلُّ المُنافِقِينَ لِلْكافِرِينَ، وقُرِئَ: مُسْتَهْزِئُونَ، بِتَحْقِيقِ الهَمْزَةِ، وهو الأصْلُ، وبِقَلْبِها ياءً مَضْمُومَةً لِانْكِسارِ ما قَبْلَها، ومِنهم مَن يَحْذِفُ الياءَ تَشْبِيهًا بِالياءِ الأصْلِيَّةِ في نَحْوِ: يَرْمُونَ، فَيَضُمُّ الرّاءَ. ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تَحْقِيقِها: أنْ تُجْعَلَ بَيْنَ بَيْنَ. ومَذْهَبُ أبِي الحَسَنِ: أنْ تُقْلَبَ ياءً قَلْبًا صَحِيحًا. قالَ أبُو الفَتْحِ: حالُ الياءِ المَضْمُومَةِ مُنْكَرٌ، كَحالِ الهَمْزَةِ المَضْمُومَةِ. والعَرَبُ تَعافُ ياءً مَضْمُومَةً قَبْلَها كَسْرَةٌ، وأكْثَرُ القُرّاءِ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ، انْتَهى. وهَلِ الِاجْتِماعُ والمَعِيَّةُ في الدِّينِ أوْ في النُّصْرَةِ والمَعُونَةِ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأصْحابِهِ، أوْ في اتِّفاقِهِمْ مَعَ الكُفّارِ عَلى اطِّلاعِهِمْ عَلى أحْوالِ المُؤْمِنِينَ وإعْلامِهِمْ بِما أجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الأمْرِ وأخْفَوْهُ مِنَ المَكايِدِ، أوْ في اتِّفاقِهِمْ مَعَ الكُفّارِ عَلى أذى المُسْلِمِينَ وتَرَبُّصِهِمْ بِهِمُ الدَّوائِرَ وفَرَحِهِمْ بِما يَسُوءُ المُسْلِمِينَ وحُزْنِهِمْ بِما يَسُرُّهم وقَصْدِهِمْ إخْمادَ كَلِمَةِ اللَّهِ ؟ (p-٧٠)أقْوالٌ أرْبَعَةٌ، والدَّواعِي إلى الِاسْتِهْزاءِ: خَوْفُ الأذى، واسْتِجْلابُ النَّفْعِ، والهَزْلُ، واللَّعِبُ. واللَّهُ - تَعالى - مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، فَلا يَصِحُّ إضافَةُ الِاسْتِهْزاءِ الَّذِي هَذِهِ دَواعِيهِ إلى اللَّهِ - تَعالى - . فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الِاسْتِهْزاءُ المُسْنَدُ إلى اللَّهِ - تَعالى - كِنايَةً عَنْ مُجازاتِهِ لَهم، وأُطْلِقَ اسْمُ الِاسْتِهْزاءِ عَلى المُجازاةِ لِيُعْلَمَ أنَّ ذَلِكَ جَزاءُ الِاسْتِهْزاءِ، أوْ عَنْ مُعامَلَتِهِ لَهم بِمِثْلِ ما عامَلُوا بِهِ المُؤْمِنِينَ، فَأجْرى عَلَيْهِمْ أحْكامَ المُؤْمِنِينَ مِن حَقْنِ الدَّمِ وصَوْنِ المالِ والإشْراكِ في المَغْنَمِ مَعَ عِلْمِهِ بِكُفْرِهِمْ. وأُطْلِقَ عَلى الشَّيْءِ ما أشْبَهَهُ صُورَةً لا مَعْنًى، أوْ عَنِ التَّوْطِئَةِ والتَّجْهِيلِ، لِإقامَتِهِمْ عَلى كُفْرِهِمْ، وسَمّى التَّوْطِئَةَ لَهُمُ اسْتِهْزاءً لِأنَّهُ لَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ العُقُوبَةَ، بَلْ أمْلى وأخَّرَهم إلى الآخِرَةِ، أوْ عَنْ فَتْحِ بابِ الجَنَّةِ فَيُسْرِعُونَ إلَيْهِ فَيُغْلَقُ، فَيَضْحَكُ مِنهُمُ المُؤْمِنُونَ، أوْ عَنْ خُمُودِ النّارِ فَيَمْشُونَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ، أوْ عَنْ ضَرْبِ السُّورِ بَيْنَهم وبَيْنَ المُؤْمِنِينَ وهو السُّورُ المَذْكُورُ في الحَدِيدِ، أوْ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذُقْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ﴾ [الدخان: ٤٩]، أوْ عَنْ تَجْدِيدِ اللَّهِ لَهم نِعْمَةً كُلَّما أحْدَثُوا ذَنْبًا، فَيَظُنُّونَ أنَّ ذَلِكَ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهم، أوْ عَنِ الحَيْلُولَةِ بَيْنَ المُنافِقِينَ وبَيْنَ النُّورِ الَّذِي يُعْطاهُ المُؤْمِنُونَ، كَما ذَكَرُوا أنَّهُ رُوِيَ في الحَدِيثِ، أوْ عَنْ طَرْدِهِمْ عَنِ الجَنَّةِ، إذا أمَرَ بِناسٍ مِنهم إلى الجَنَّةِ ودَنَوْا مِنها ووَجَدُوا رِيحَها ونَظَرُوا إلى ما أعَدَّ اللَّهُ فِيها لِأهْلِها، وهو حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ، رُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ، ونَحا هَذا المَنحى ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ. وفي مُقابَلَةِ اسْتِهْزائِهِمْ بِالمُؤْمِنِينَ بِاسْتِهْزاءِ اللَّهِ بِهِمْ ما يَدُلُّ عَلى عِظَمِ شَأْنِ المُؤْمِنِينَ وعُلُوِّ مَنزِلَتِهِمْ، ولِيَعْلَمَ المُنافِقُونَ أنَّ اللَّهَ هو الَّذِي يَذُبُّ عَنْهم ويُحارِبُ مَن حارَبَهم. وفي افْتِتاحِ الجُمْلَةِ بِاسْمِ اللَّهِ التَّفْخِيمُ العَظِيمُ، حَيْثُ صُدِّرَتِ الجُمْلَةُ بِهِ، وجُعِلَ الخَبَرُ فِعْلًا مُضارِعًا يَدُلُّ عِنْدَهم عَلى التَّجَدُّدِ والتَّكَرُّرِ، فَهو أبْلَغُ في النِّسْبَةِ مِنَ الِاسْتِهْزاءِ المُخْبَرِ بِهِ في قَوْلِهِمْ، ثُمَّ في ذَلِكَ التَّنْصِيصِ عَلى الَّذِينَ يَسْتَهْزِئُ اللَّهُ بِهِمْ، إذْ عَدّى الفِعْلَ إلَيْهِمْ فَقالَ: يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وهم لَمْ يَنُصُّوا حِينَ نَسَبُوا الِاسْتِهْزاءَ إلَيْهِمْ عَلى مَن تَعَلَّقَ بِهِ الِاسْتِهْزاءُ، فَلَمْ يَقُولُوا: إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ بِهِمْ وذَلِكَ لِتَحَرُّجِهِمْ مِن إبْلاغِ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَيَنْقِمُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأبْقَوُا اللَّفْظَ مُحْتَمِلًا أنْ لَوْ حُوقِقُوا عَلى ذَلِكَ لَكانَ لَهم مَجالٌ في الذَّبِّ عَنْهم أنَّهم لَمْ يَسْتَهْزِئُوا بِالمُؤْمِنِينَ. ألا تَرى إلى مُداراتِهِمْ عَنْ أنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: آمَنّا بِاللَّهِ وبِاليَوْمِ الآخِرِ، وبِقَوْلِهِمْ: إذا لَقُوهم قالُوا آمَنّا، فَهم عِنْدَ لِقائِهِمْ لا يَسْتَطِيعُونَ إظْهارَ المُداراةِ، ولا مُشارَكَتِهِمْ بِما يَكْرَهُونَ، بَلْ يُظْهِرُونَ الطَّواعِيَةَ والِانْقِيادَ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وشِبْلٌ: يَمُدُّهم، وتُرْوى عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: ونِسْبَةُ المَدِّ إلى اللَّهِ حَقِيقَةٌ، إذْ هو مُوجِدُ الأشْياءِ والمُنْفَرِدُ بِاخْتِراعِها. والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ - تَعالى - يُطَوِّلُ لَهم في الطُّغْيانِ. وقَدْ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إلى تَأْوِيلِ المَدِّ المَنسُوبِ إلى اللَّهِ - تَعالى - بِأنَّهُ مَنعُ الألْطافِ وخُذْلانُهم بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وإصْرارِهِمْ، بَقِيَتْ قُلُوبُهم تَتَزايَدُ الظُّلْمَةُ فِيها تَزايُدَ النُّورِ في قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ التَّزايُدُ مَدًّا وأُسْنِدَ إلى اللَّهِ لِأنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ فِعْلِهِ بِهِمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، أوْ بِأنَّ المَدَّ هو عَلى مَعْنى القَسْرِ والإلْجاءِ. قالَ: أوْ عَلى أنْ يُسْنِدَ فِعْلَ الشَّيْطانِ إلى اللَّهِ لِأنَّهُ بِتَمْكِينِهِ وإقْدارِهِ والتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وبَيْنَ إغْواءِ عِبادِهِ، وإنَّما ذَهَبَ إلى التَّأْوِيلِ في المَدِّ لِأنَّ مَدَّ اللَّهِ لَهم في الطُّغْيانِ قَبِيحٌ، واللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ القَبِيحِ. والتَّأْوِيلُ الأوَّلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَوْلُ الكَعْبِيِّ وأبِي مُسْلِمٍ. وقالَ الجُبّائِيُّ: هو المَدُّ في العُمُرِ، وعِنْدَنا نَحْنُ أنَّ اللَّهَ خالِقُ الخَيْرِ والشَّرِّ، وهو الهادِي والمُضِلُّ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في نَحْوٍ مِن هَذا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة: ٧] ومَدُّ اللَّهِ في طُغْيانِهِمْ، التَّمْكِينُ مِنَ العِصْيانِ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، أوِ الإمْلاءُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، أوِ الزِّيادَةُ مِنَ الطُّغْيانِ، قالَهُ مُجاهِدٌ، أوِ الإمْهالُ، قالَهُ الزَّجّاجُ وابْنُ كَيْسانَ، أوْ تَكْثِيرُ الأمْوالِ والأوْلادِ وتَطْيِيبُ الحَياةِ أوْ تَطْوِيلُ الأعْمارِ ومُعافاةُ الأبْدانِ وصَرْفُ الرَّزايا وتَكْثِيرُ الأرْزاقِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: في طُغْيانِهِمْ بِكَسْرِ الطّاءِ، وهي لُغَةٌ، يُقالُ: طُغْيانٌ بِالضَّمِّ والكَسْرِ، كَما قالُوا: لُقْيانٌ، و: غِينانٌ، بِالضَّمِّ والكَسْرِ. وأمالَ الكِسائِيُّ في طُغْيانِهِمْ، وأضافَ الطُّغْيانَ إلَيْهِمْ لِأنَّهُ (p-٧١)فِعْلُهم وكَسْبُهم، وكُلُّ فِعْلٍ صَدَرَ مِنَ العَبْدِ صَحَّتْ إضافَتُهُ إلَيْهِ بِالمُباشَرَةِ، وإلى اللَّهِ بِالِاخْتِراعِ. وما فُسِّرَ بِهِ العَمَهُ يَحْتَمِلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَعْمَهُونَ﴾ [البقرة: ١٥]، فَيَكُونُ المَعْنى: يَتَرَدَّدُونَ ويَتَحَيَّرُونَ، أوْ يَعْمَوْنَ عَنْ رُشْدِهِمْ، أوْ يَرْكَبُونَ رُءُوسَهم ولا يُبْصِرُونَ. قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: وهَذا التَّفْسِيرُ الأخِيرُ أقْرَبُ إلى الصَّوابِ لِأنَّهم لَمْ يَكُونُوا مُتَرَدِّدِينَ في كُفْرِهِمْ، بَلْ كانُوا مُصِرِّينَ عَلَيْهِ، مُعْتَقِدِينَ أنَّهُ الحَقُّ، وما سِواهُ الباطِلُ. يَعْمَهُونَ: جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الحالِ، نَصْبٌ عَلى الحالِ، إمّا مِنَ الضَّمِيرِ في يَمُدُّهم وإمّا مِنَ الضَّمِيرِ في طُغْيانِهِمْ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ مُضافٌ لِلْفاعِلِ، وفي طُغْيانِهِمْ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِيَمُدُّهم، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِيَعْمَهُونَ. ومَنَعَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ في طُغْيانِهِمْ ويَعْمَهُونَ حالَيْنِ مِنَ الضَّمِيرِ في يَمُدُّهم، قالَ: لِأنَّ العامِلَ لا يَعْمَلُ في حالَيْنِ. انْتَهى كَلامُهُ.
وهَذا الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ يَحْتاجُ إلى تَقْيِيدٍ، وهو أنْ تَكُونَ الحالانِ لِذِي حالٍ واحِدٍ، فَإنْ كانا لِذَوِي حالٍ جازَ، نَحْوَ: لَقِيتُ زَيْدًا مُصْعِدًا مُنْحَدِرًا، فَأمّا إذا كانا لِذِي حالٍ واحِدٍ، كَما ذَكَرْناهُ، فَفي إجازَةِ ذَلِكَ خِلافٌ. ذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ كَما لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِلْعامِلِ أنْ يَقْضِيَ مَصْدَرَيْنِ، ولا ظَرْفَيْ زَمانٍ، ولا ظَرْفَيْ مَكانٍ، فَكَذَلِكَ لا يَقْضِي حالَيْنِ. وخَصَّصَ أهْلُ هَذا المَذْهَبِ هَذا القَوْلَ بِأنْ لا يَكُونَ الثّانِي عَلى جِهَةِ البَدَلِ أوْ مَعْطُوفًا، فَإنَّهُ إذا كانا كَذَلِكَ جازَتِ المَسْألَةُ. قالَ بَعْضُهم: إلّا أفْعَلُ التَّفْضِيلِ، فَإنَّها تَعْمَلُ في ظَرْفَيْ زَمانٍ، وظَرْفَيْ مَكانٍ، وحالَيْنِ لِذِي حالٍ، فَإنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ، وهَذا المَذْهَبُ اخْتارَهُ أبُو الحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ. وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّهُ يَجُوزُ لِلْعامِلِ أنْ يَعْمَلَ في حالَيْنِ لِذِي حالٍ واحِدٍ، وإلى هَذا أذْهَبُ؛ لِأنَّ الفِعْلَ الصّادِرَ مِن فاعِلٍ أوِ الواقِعَ بِمَفْعُولٍ، يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ في زَمانَيْنِ وفي مَكانَيْنِ. وأمّا الحالانِ فَلا يَسْتَحِيلُ قِيامُهُما بِذِي حالٍ واحِدٍ، إلّا إنْ كانا ضِدَّيْنِ أوْ نَقِيضَيْنِ. فَيَجُوزُ أنْ تَقُولَ: جاءَ زَيْدٌ ضاحِكًا راكِبًا؛ أنَّهُ لا يَسْتَحِيلُ مَجِيئُهُ وهو مُلْتَبِسٌ بِهَذَيْنِ الحالَيْنِ. فَعَلى هَذا الَّذِي قَرَّرْناهُ مِنَ الفَرْقِ يَجُوزُ أنْ يَجِيءَ الحالانِ لِذِي حالٍ واحِدٍ، والعامِلُ فِيهِما واحِدٌ.
أُولَئِكَ: اسْمٌ أُشِيرَ، إلى الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهم الجامِعِينَ لِلْأوْصافِ بِهِ الذَّمِيمَةِ مِن دَعْوى الإصْلاحِ، وهُمُ المُفْسِدُونَ، ونِسْبَةُ السَّفَهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وهُمُ السُّفَهاءُ، والِاسْتِخْفافُ بِالمُؤْمِنِينَ بِإظْهارِ المُوافَقَةِ وهم مَعَ الكُفّارِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ، بِضَمِّ الواوِ. وقَرَأ أبُو السِّماكِ قَعْنَبٌ العَدَوِيُّ: اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ، بِالفَتْحِ. ولِاعْتِلالِ ضَمَّةِ الواوِ وُجُوهٌ أرْبَعَةٌ مَذْكُورَةٌ في النَّحْوِ، ووَجْهُ الكَسْرِ أنَّهُ الأصْلُ في التِقاءِ السّاكِنَيْنِ، نَحْوُ: ﴿وأنْ لَوِ اسْتَقامُوا﴾ [الجن: ١٦]، ووَجْهُ الفَتْحِ اتِّباعُها لِحَرَكَةِ الفَتْحِ قَبْلَها. وأمالَ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ الهُدى، وهي لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، والباقُونَ بِالفَتْحِ، وهي لُغَةُ قُرَيْشٍ. والِاشْتِراءُ هُنا مَجازٌ كَنّى بِهِ عَنِ الِاخْتِيارِ؛ لِأنَّ المُشْتَرِيَ لِلشَّيْءِ مُخْتارٌ لَهُ مُؤْثِرٌ، فَكَأنَّهُ قالَ: اخْتارُوا الضَّلالَةَ عَلى الهُدى، وجَعَلَ تَمَكُّنَهم مِنِ اتِّباعِ الهُدى كالثَّمَنِ المَبْذُولِ في المُشْتَرى، وإنَّما ذَهَبَ في الِاشْتِراءِ إلى المَجازِ لِعَدَمِ المُعاوَضَةِ، إذْ هي اسْتِبْدالُ شَيْءٍ في يَدِكَ لِشَيْءٍ في يَدِ غَيْرِكَ، وهَذا مَفْقُودٌ هُنا. وقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ الِاشْتِراءَ هُنا حَقِيقَةٌ لا مَجازٌ، والمُعاوَضَةُ مُتَحَقِّقَةٌ، ثُمَّ رامُوا يُقَرِّرُونَ ذَلِكَ، ولا يُمْكِنُ أنْ يَتَقَرَّرَ لِأنَّهُ عَلى كُلِّ تَقْدِيرٍ يُئَوَّلُ الشِّراءُ فِيهِ إلى المَجازِ، قالُوا: إنْ كانَ أرادَ بِالآيَةِ المُنافِقِينَ كَما قالَ مُجاهِدٌ، فَقَدْ كانَ لَهم هُدًى ظاهِرٌ مِنَ التَّلَفُّظِ بِالشَّهادَةِ، وإقامَةِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والصَّوْمِ، والغَزْوِ، والقِتالِ. فَلَمّا لَمْ تُصَدِّقْ بَواطِنُهم ظَواهِرَهم واخْتارُوا الكُفْرَ، اسْتَبْدَلُوا بِالهُدى الضَّلالَ، فَتَحَقَّقَتِ المُعاوَضَةُ، وحَصَلَ البَيْعُ والشِّراءُ حَقِيقَةً، وكانَ مِن بُيُوعِ المُعاطاةِ الَّتِي لا تَفْتَقِرُ إلى اللَّفْظِ، وقالُوا: لَمّا وُلِدُوا عَلى الفِطْرَةِ واسْتَمَرَّ لَهم حُكْمُها إلى البُلُوغِ وحَدِّ التَّكْلِيفِ، اسْتَبْدَلُوا عَنْها بِالكُفْرِ والنِّفاقِ فَتَحَقَّقَتِ المُعاوَضَةُ، وقالُوا: لَمّا كانُوا ذَوِي عُقُولٍ مُتَمَكِّنِينَ مِنَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ المُؤَدِّي إلى مَعْرِفَةِ الصَّوابِ مِنَ الخَطَأِ، اسْتَبْدَلُوا بِهَذا الِاسْتِعْدادِ النَّفِيسِ اتِّباعَ الهَوى والتَّقْلِيدَ لِلْآباءِ، مَعَ قِيامِ الدَّلِيلِ الواضِحِ، فَتَحَقَّقَتِ المُعاوَضَةُ. قالُوا: وإنْ كانَ أرادَ بِالآيَةِ أهْلَ الكِتابِ، كَما قالَ (p-٧٢)قَتادَةُ، فَقَدْ كانُوا مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ، ومُصَدِّقِينَ بِبَعْثِ النَّبِيِّ ﷺ ومُسْتَفْتِحِينَ بِهِ، ويَدْعُونَ بِحُرْمَتِهِ، ويُهَدِّدُونَ الكُفّارَ بِخُرُوجِهِ، فَكانُوا مُؤْمِنِينَ حَقًا. فَلَمّا بُعِثَ ﷺ وهاجَرَ إلى المَدِينَةِ، خافُوا عَلى رِئاسَتِهِمْ ومَآكِلِهِمْ وانْصِرافِ الِاتِّباعِ عَنْهم، فَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ وقالُوا: لَيْسَ هَذا المَذْكُورَ عِنْدَنا، وغَيَّرُوا صِفَتَهُ، واسْتَبْدَلُوا بِذَلِكَ الإيمانِ الكُفْرَ الَّذِي حَصَلَ لَهم، فَتَحَقَّقَتِ المُعاوَضَةُ. قالُوا: وإنْ كانَ أرادَ سائِرَ الكُفّارِ، كَما قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ابْنُ عَبّاسٍ، فالمُعاوَضَةُ أيْضًا مُتَحَقِّقَةٌ، إمّا بِالمُدَّةِ الَّتِي كانُوا عَلَيْها عَلى الفِطْرَةِ ثُمَّ كَفَرُوا، أوْ لِأنَّ الكُفّارَ كانَ في مَحْصُولِهِمُ المَدارِكُ الثَّلاثَةُ: الحِسِّيُّ والنَّظَرِيُّ والسَّمْعِيُّ، وهَذِهِ الَّتِي تُفِيدُ العِلْمَ القَطْعِيَّ، فاسْتَبْدَلُوا بِها الجَرْيَ عَلى سُنَنِ الآباءِ في الكُفْرِ. وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: خَلَقَهم لِطاعَتِهِ، فاسْتَبْدَلُوا عَنْ هَذِهِ الخِلْقَةِ المُرْضِيَةِ كُفْرَهم وضَعْفَ قَوْلِهِ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَوْ بَرَّأهم لِطاعَتِهِ، لَما كَفَرَ أحَدٌ مِنهم لِاسْتِحالَةِ أنْ يَخْلُقَ شَيْئًا لِشَيْءٍ ويَتَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ. وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، وعَلى ﴿ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: ١١٩] إنْ شاءَ اللَّهُ.
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ: الضَّلالَةُ: الكُفْرُ، والهُدى: الإيمانُ، وقِيلَ الشَّكُّ واليَقِينُ، وقِيلَ: الجَهْلُ والعِلْمُ، وقِيلَ: الفِرْقَةُ والجَماعَةُ، وقِيلَ: الدُّنْيا والآخِرَةُ، وقِيلَ: النّارُ والجَنَّةُ. وعَطْفُ: فَما رَبِحَتْ، بِالفاءِ، يَدُلُّ عَلى تَعَقُّبِ نَفْيِ الرِّبْحِ لِلشِّراءِ، وأنَّهُ بِنَفْسِ ما وقَعَ الشِّراءُ تَحَقَّقَ عَدَمُ الرِّبْحِ. وزَعَمَ بَعْضُ النّاسِ أنَّ الفاءَ في قَوْلِهِ: ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾ دَخَلَتْ لِما في الكَلامِ مِن مَعْنى الجَزاءِ، والتَّقْدِيرُ أنِ اشْتَرَوْا. والَّذِينَ إذا كانَ في صِلَةِ فِعْلٍ كانَ في مَعْنى الشَّرْطِ، ومِثْلُهُ ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٦١]، وقَعَ الجَوابُ بِالفاءِ في قَوْلِهِ: ﴿فَلَهم أجْرُهُمْ﴾ [البقرة: ٦٢]، وكَذَلِكَ الَّذِي يَدْخُلُ الدّارَ فَلَهُ دِرْهَمٌ، انْتَهى. وهَذا خَطَأٌ لِأنَّ الَّذِينَ لَيْسَ مُبْتَدَأً، فَيُشَبَّهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي يَكُونُ مُبْتَدَأً، فَتَدْخُلُ الفاءُ في خَبَرِهِ، كَما تَدَخُلُ في جَوابِ الشَّرْطِ. وأمّا الَّذِينَ خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ، وقَوْلُهُ: فَما رَبِحَتْ لَيْسَ بِخَبَرٍ، فَتَدْخُلُهُ الفاءُ، وإنَّما هي جُمْلَةٌ فَعَلَيْةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى صِلَةِ الَّذِينَ، فَهي صِلَةٌ لِأنَّ المَعْطُوفَ عَلى الصِّلَةِ صِلَةٌ، وقَوْلُهُ وقَعَ الجَوابُ بِالفاءِ في قَوْلِهِ: ﴿فَلَهم أجْرُهُمْ﴾ [البقرة: ٦٢] خَطَأٌ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ بِجَوابٍ، إنَّما الجُمْلَةُ خَبَرُ المُبْتَدَأِ الَّذِي هو يُنْفِقُونَ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مُبْتَدَأٌ، والَّذِينَ اشْتَرَوْا مُبْتَدَأٌ، وفَما رَبِحَتْ تِجارَتُهم خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ، والَّذِينَ وخَبَرُهُ خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ لِعَدَمِ الرّابِطِ في هَذِهِ الجُمْلَةِ الواقِعَةِ خَبَرًا لِأُولَئِكَ. ولِتَحَقُّقِ مُضِيِّ الصِّلَةِ، وإذا كانَتِ الصِّلَةُ ماضِيَةً مَعْنًى لَمْ تَدْخُلِ الفاءُ في خَبَرِ مَوْصُولِها المُبْتَدَأِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً، والَّذِينَ بَدَلٌ مِنهُ، وفَما رَبِحَتْ خَبَرٌ لِأنَّ الخَبَرَ إنَّما تَدْخُلُهُ الفاءُ لِعُمُومِ المَوْصُولِ، ولِإبْدالِ الَّذِينَ مِن أُولَئِكَ، صارَ الَّذِينَ مَخْصُوصًا لِأنَّهُ بَدَلٌ مِن مَخْصُوصٍ، وخَبَرُ المَخْصُوصِ لا تُدْخُلُهُ الفاءُ، ولِأنَّ مَعْنى الآيَةِ لَيْسَ إلّا عَلى كَوْنِ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً والَّذِينَ خَبَرًا عَنْهُ. ونِسْبَةُ الرِّبْحِ إلى التِّجارَةِ مِن بابِ المَجازِ لِأنَّ الَّذِي يَرْبَحُ أوْ يَخْسَرُ إنَّما هو التّاجِرُ لا التِّجارَةُ، ولَمّا صَوَّرَ الضَّلالَةَ والهُدى مُشْتَرًى وثَمَنًا، رَشَّحَ هَذا المَجازَ البَدِيعَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾، وهَذا مِن بابِ تَرْشِيحِ المَجازِ، وهو أنْ يُبْرِزَ المَجازَ في صُورَةِ الحَقِيقَةِ، ثُمَّ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِبَعْضِ أوْصافِ الحَقِيقَةِ، فَيَنْضافُ مَجازٌ إلى مَجازٍ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎بَكى الخَزُّ مِن رَوْحٍ وأنْكَرَ جِلْدَهُ ∗∗∗ وعَجَّتْ عَجِيجًا مِن جُذامَ المَطارِفُ
أقامَ الخَزَّ مَقامَ شَخْصٍ حِينَ باشَرَ رَوْحًا بَكى مِن عَدَمِ مَلامَتِهِ، ثُمَّ رَشَّحَهُ بِقَوْلِهِ: وأنْكَرَ جِلْدَهُ، ثُمَّ زادَ في تَرْشِيحِ المَجازِ بِقَوْلِهِ: وعَجَّتْ، أيْ وصاحَتْ مَطارِفُ الخَزِّ مِن قَبِيلِ رَوْحٍ هَذا، وهي: جُذامُ. ومَعْنى البَيْتِ: أنَّ رَوْحًا وقَبِيلَتَهُ جُذامَ لا يَصْلُحُ لَهم لِباسُ الخَزِّ ومَطارِفُهُ؛ لِأنَّهم لا عادَةَ لَهم بِذَلِكَ، فَكَنّى عَنِ التَّبايُنِ بَيْنَهُما بِما كَنّى فِيهِ في البَيْتِ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
؎أيا بُومَةً قَدْ عَشَّشَتْ فَوْقَ هامَتِي ∗∗∗ عَلى الرَّغْمِ مِنِّي حِينَ طارَ غُرابُها
(p-٧٣)لَمّا كَنّى عَنِ الشَّيْبِ بِالبُومَةِ فَأقْبَلَ عَلَيْها وناداها، رَشَّحَ هَذا المَجازَ بِقَوْلِهِ: قَدْ عَشَّشَتْ؛ لِأنَّ الطّائِرَ مِن أفْعالِهِ اتِّخاذُ العَشَّةِ، وقَدْ أوْرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ في تَرْشِيحِ المَجازِ في كَشّافِهِ مَثَلًا.
وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: تِجاراتُهم، عَلى الجَمْعِ، ووَجْهُهُ أنَّ لِكُلِّ واحِدٍ تِجارَةً، ووَجْهُ قِراءَةِ الجُمْهُورِ عَلى الإفْرادِ أنَّهُ اكْتَفى بِهِ عَنِ الجَمْعِ لِفَهْمِ المَعْنى، وفي قَوْلِهِ: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهم، إشْعارٌ بِأنَّ رَأْسَ المالِ لَمْ يَذْهَبْ بِالكُلِّيَّةِ؛ لِأنَّهُ إنَّما نَفى الرِّبْحَ، ونَفْيُ الرِّبْحِ لا يَدُلُّ عَلى انْتِقاصِ رَأْسِ المالِ. وأُجِيبَ عَنْ هَذا بِأنَّهُ اكْتَفى بِذِكْرِ عَدَمِ الرِّبْحِ عَنْ ذِكْرِ ذَهابِ المالِ لِما في الكَلامِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّ الضَّلالَ نَقِيضُ الهُدى، والنَّقِيضانِ لا يَجْتَمِعانِ، فاسْتِبْدالُهُمُ الضَّلالَةَ بِالهُدى دَلَّ عَلى ذَهابِ الهُدى بِالكُلِّيَّةِ، ويَتَخَرَّجُ عِنْدِي عَلى أنْ يَكُونَ مِن بابِ قَوْلِهِ:
؎عَلى لاحِبٍ لا يَهْتَدِي بِمَنارِهِ
أيْ لا مَنارَ لَهُ فَيَهْتَدِي بِهِ، فَنَفى الهِدايَةَ، وهو يُرِيدُ نَفْيَ المَنارِ، ويَلْزَمُ مِن نَفْيِ المَنارِ نَفْيُ الهِدايَةِ بِهِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الآيَةُ لَمّا ذَكَرَ شِراءَ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، تَوَهَّمَ أنَّ هَذا الَّذِي فَعَلُوهُ هو مِن بابِ التِّجارَةِ، إذِ التِّجارَةُ لَيْسَ نَفْسُ الِاشْتِراءِ فَقَطْ، ولَيْسَ بِتاجِرٍ، إنَّما التِّجارَةُ التَّصَرُّفُ في المالِ لِتَحْصِيلِ النُّمُوِّ والزِّيادَةِ فَنَفى الرِّبْحَ. والمَقْصُودُ نَفْيُ التِّجارَةِ أيْ لا يُتَوَهَّمُ أنَّ هَذا الشِّراءَ الَّذِي وقَعَ هو تِجارَةٌ فَلَيْسَ بِتِجارَةٍ، وإذا لَمْ يَكُنْ تِجارَةً انْتَفى الرِّبْحَ فَكَأنَّهُ قالَ: فَلا تِجارَةَ لَهم ولا رِبْحَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْناهُ أنَّ الَّذِي يَطْلُبُهُ التُّجّارُ في مُتَصَرَّفاتِهِمْ شَيْئانِ: سَلامَةُ رَأْسِ المالِ والرِّبْحُ، وهَؤُلاءِ قَدْ أضاعُوا الطِّلْبَتَيْنِ مَعًا؛ لِأنَّ رَأْسَ المالِ مالُهم كانَ هو الهُدى، فَلَمْ يَبْقَ لَهم مَعَ الضَّلالَةِ، وحِينَ لَمْ يَبْقَ في أيْدِيهِمْ إلّا الضَّلالَةُ لَمْ يُوصَفُوا بِإصابَةِ الرِّبْحِ، وإنْ ظَفِرُوا بِما ظَفِرُوا بِهِ مِنَ الأعْراضِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ لِأنَّ الضَّلالَ خاسِرٌ دامِرٌ، ولِأنَّهُ لا يُقالُ لِمَن لَمْ يَسْلَمْ لَهُ رَأْسُ مالِهِ قَدْ رَبِحَ، انْتَهى كَلامُهُ. ومَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُخْلَصٍ في الجَوابِ لِأنَّ نَفْيَ الرِّبْحِ عَنِ التِّجارَةِ لا يَدُلُّ عَلى ذَهابِ كُلِّ المالِ، ولا عَلى الخُسْرانِ فِيهِ؛ لِأنَّ الرِّبْحَ هو الفَضْلُ عَلى رَأْسِ المالِ، فَإذا نَفى الفَضْلَ لَمْ يَدُلَّ عَلى ذَهابِ رَأْسِ المالِ بِالكُلِّيَّةِ، ولا عَلى الِانْتِقاصِ مِنهُ، وهو الخُسْرانُ. قِيلَ: لَمّا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾ مُفِيدًا لِذَهابِ رُءُوسِ أمْوالِهِمْ، أتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾، فَكَمَّلَ المَعْنى بِذَلِكَ، وتَمَّ بِهِ المَقْصُودُ، وهَذا النَّوْعُ مِنَ البَيانِ يُقالُ لَهُ: التَّتْمِيمُ، ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ:
؎كَأنَّ عُيُونَ الوَحْشِ حَوْلَ خِبائِنا ∗∗∗ وأرْجُلِنا الجَزْعُ الَّذِي لَمْ يُثَقَّبِ
تَمَّمَ المَعْنى بِقَوْلِهِ: الَّذِي لَمْ يُثَقَّبِ، وكَمَّلَ الوَصْفَ وسَمّى اللَّهُ - تَعالى - اعْتِياضَهُمُ الضَّلالَةَ عَنِ الهُدى تِجارَةً، وإنْ كانَتِ التِّجارَةُ هي البَيْعُ والشِّراءُ المُتَحَقِّقُ مِنهُ الفائِدَةُ، أوِ المُتَرَجّى ذَلِكَ مِنهُ. وهَذا الِاعْتِياضُ مَنفِيٌّ عَنْهُ ذَلِكَ؛ لِأنَّ الكُفْرَ مُحْبِطٌ لِلْأعْمالِ. قالَ تَعالى: ﴿وقَدِمْنا إلى ما عَمِلُوا﴾ [الفرقان: ٢٣] الآيَةَ. وفي الحَدِيثِ أنَّهُ ﷺ سُئِلَ عَنِ ابْنِ جُدْعانَ وهَلْ يَنْفَعُهُ وصْلُهُ الرَّحِمَ وإطْعامُ المَساكِينِ ؟ فَقالَ: ”لا، إنَّهُ لَمْ يَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ“؛ لِأنَّهم لَمْ يَعْتاضُوا ذَلِكَ إلّا لَمّا تَحَقَّقُوا وارْتَجَوْا مِنَ الفَوائِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ والأُخْرَوِيَّةِ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِمْ: نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ، وقَوْلِهِمْ: ﴿وما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [الشعراء: ١٣٨] . وكانَتِ اليَهُودُ تَزْعُمُ أنَّهم لا يُعَذَّبُونَ إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً، وبَعْضُهم يَقُولُ يَوْمًا واحِدًا، وبَعْضُهم عَشْرًا، وكُلُّ طائِفَةٍ مِنَ الكُفّارِ تَزْعُمُ أنَّها عَلى الحَقِّ وأنَّ غَيْرَها عَلى الباطِلِ. فَلِحُصُولِ الرّاحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ ورَجاءَ الرّاحَةِ الأُخْرَوِيَّةِ، سَمّى اشْتِراءَهُمُ الضَّلالَةَ بِالهُدى تِجارَةً، ونَفى اللَّهُ - تَعالى - عَنْهم كَوْنَهم مُهْتَدِينَ. وهَلِ المَعْنى ما كانُوا في عِلْمِ اللَّهِ مُهْتَدِينَ، أوْ مُهْتَدِينَ مِنَ الضَّلالَةِ، أوْ لِلتِّجارَةِ الرّابِحَةِ، أوْ في اشْتِراءِ الضَّلالَةِ، أوْ نَفى عَنْهُمُ الهِدايَةَ والرِّبْحَ ؟ لِأنَّ مِنَ التُّجّارِ مَن لا يَرْبَحُ في تِجارَتِهِ ويَكُونُ عَلى هُدًى، وعَلى اسْتِقامَةٍ، وهَؤُلاءِ جَمَعُوا بَيْنَ نَفْيِ الرِّبْحِ والهِدايَةِ. والَّذِي أخْتارُهُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ إخْبارٌ بِأنَّ هَؤُلاءِ ما سَبَقَتْ لَهم هِدايَةٌ بِالفِعْلِ لِئَلّا يُتَوَهَّمَ مِن قَوْلِهِ: بِالهُدى، أنَّهم كانُوا عَلى هُدًى فِيما مَضى، فَبَيَّنَ قَوْلُهُ: ﴿وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ مَجازَ قَوْلِهِ: بِالهُدى، ودَلَّ عَلى أنَّ الَّذِي (p-٧٤)اعْتاضُوا الضَّلالَةَ بِهِ إنَّما هو التَّمَكُّنُ مِن إدْراكِ الهُدى، فالمُثْبَتُ في الِاعْتِياضِ غَيْرُ المَنفِيِّ أخِيرًا؛ لِأنَّ ذاكَ بِالقُوَّةِ وهَذا بِالفِعْلِ. وانْتِصابُ مُهْتَدِينَ عَلى أنَّهُ خَبَرُ كانَ، فَهو مَنصُوبٌ بِها وحْدَها خِلافًا لِمَن زَعَمَ أنَّهُ مَنصُوبٌ بَكانَ والِاسْمِ مَعًا، وخِلافًا لِمَن زَعَمَ أنَّ أصْلَ انْتِصابِهِ عَلى الحالِ، وهو الفَرّاءُ، قالَ: لِشَغْلِ الِاسْمِ بِرَفْعِ كانَ، إلّا أنَّهُ لَمّا حَصَلَتِ الفائِدَةُ مِن جِهَتِهِ كانَ حالًا خَبَرًا فَأتى مَعْرِفَةً، فَقِيلَ: كانَ أخُوكَ زَيْدًا تَغْلِيبًا لِلْخَبَرِ لا لِلْحالِ.
وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآياتِ أقْوالًا، أحَدُها: أنَّها نَزَلَتْ في المُنافِقِينَ. الثّانِي: في قَوْمٍ أعْلَمَ اللَّهُ بِوَصْفِهِمْ قَبْلَ وُجُودِهِمْ، وفِيهِ إعْلامٌ بِالمُغَيَّباتِ. الثّالِثُ: في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وأصْحابِهِ نَزَلَ: ﴿وإذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ١٤] والَّتِي قَبْلَها في جَمِيعِ المُنافِقِينَ، وذَكَرُوا ما مَعْناهُ أنَّهُ لَقِيَ نَفَرًا مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَقالَ لِأصْحابِهِ: انْظُرُوا كَيْفَ أرُدُّ هَؤُلاءِ السُّفَهاءَ عَنْكم، فَذَكَرَ أنَّهُ مَدَحَ وأثْنى عَلى أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ وعَلِيٍّ، فَوَبَّخَهُ عَلِيٌّ وقالَ لَهُ: لا تُنافِقْ، فَقالَ: إلَيَّ تَقُولُ هَذا ؟ واللَّهِ إنَّ إيمانَنا كَإيمانِكم، ثُمَّ افْتَرَقُوا، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ لِأصْحابِهِ: كَيْفَ رَأيْتُمُونِي فَعَلْتُ ؟ فَأثْنَوْا عَلَيْهِ خَيْرًا. وقَدْ تَقَدَّمَتْ أقاوِيلُ غَيْرُ هَذِهِ الثَّلاثَةِ في غُضُونِ الكَلامِ قَبْلَ هَذا.
{"ayah":"أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ ٱشۡتَرَوُا۟ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُوا۟ مُهۡتَدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق