﴿أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ ٱشۡتَرَوُا۟ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُوا۟ مُهۡتَدِینَ﴾ [البقرة ١٦]
﴿أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ ٱشۡتَرَوُا۟ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ﴾ - تفسير
٦٤٥- عن عبد الله بن مسعود، وناس من أصحاب النبي ﷺ -من طريق السدي، عن مرة الهمداني-= (ز)
٦٤٦- وعبد الله بن عباس -من طريق السدي، عن أبي مالك وأبي صالح- ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾، يقول: أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى(١). (١/١٦٩)
ابنُ جرير (١/٣٢٦) هذا الأثر بقوله: «فكأن الذين قالوا في تأويل ذلك: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، وجَّهوا معنى الشراء إلى أنه أخذ المشترِي المشترى مكان الثمن المشترى به، فكذلك المنافق والكافر، قد أخذا مكان الإيمان الكفر، فكان ذلك منهما شراءً للكفر والضلالة اللذَيْن أخَذاهما بتركهما ما تركا من الهدى، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عِوَضًا من الضلالة التي أخذاها».
وقد ابنُ جرير (١/٣٢٦) مُسْتَنِدًا إلى المعنى المعروف للشراء في لغة العرب قولَ ابن عباس، وابن مسعود أنّ معنى ﴿اشتروا الضلالة بالهدى﴾: أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى، بقوله: «وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدل بالإيمان كفرًا، باكتسابه الكفر الذي وُجِد منه بدلًا من الإيمان الذي أُمِرَ به، أوَما تسمعُ الله -جلَّ ثناؤُه- يقول فيمن اكتسب كفرًا به مكان الإيمان به وبرسوله: ﴿ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل﴾ [البقرة:١٠٨]! وذلك هو معنى الشراء؛ لأن كل مُشْتَرٍ شيئًا فإنّما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بديلًا منه. فكذلك المنافق والكافر استبدلا بالهدى الضلالة والنفاق، فأضَلَّهما الله، وسلبهما نور الهدى، فترك جميعهم في ظلمات لا يبصرون». وسيأتي أثر السدي بنفس قولهما.
٦٤٧- عن عبد الله بن عباس -من طريق ابن إسحاق بسنده- في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾، قال: الكفر بالإيمان(٢). (١/١٦٩)
٦٤٨- عن مجاهد -من طريق ابن أبي نَجِيح- في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾، قال: آمنوا ثم كفروا(٣). (١/١٦٩)
٦٤٩- عن الحسن البصري: ﴿اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾: اختاروا الضلالة على الهدى(٤). (ز)
٦٥٠- عن قتادة -من طريق مَعْمَر- في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾، قال: اسْتَحَبُّوا الضلالة على الهدى(٥). (١/١٦٩)
ذكر ابنُ جرير (١/٣٢٦-٣٢٧) أنّ القائلين بذلك القول وجَّهوا معنى الشراء إلى معنى الاختيار، فقال عن قائليه: «فإنهم لما وجدوا الله -جل ثناؤه- قد وصف الكفار في موضع آخر، فنسبهم إلى استحبابهم الكفر على الهدى، فقال: ﴿وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى﴾ [فصلت:١٧]؛ صرفوا قوله: ﴿اشتروا الضلالة بالهدى﴾ إلى ذلك، وقالوا: قد تدخل الباء مكان على، وعلى مكان الباء، كما يقال: مررت بفلان، ومررت على فلان، بمعنى واحد ...، فكان تأويل الآية على معنى هؤلاء: أولئك الذين اختاروا الضلالة على الهدى. وأُراهم وجَّهوا معنى قول الله -جل ثناؤه-: ﴿اشتروا﴾ إلى معنى: اختاروا؛ لأن العرب تقول: اشتريت كذا على كذا، يعنون اخترته عليه».
ثم ابنُ جرير (١/٣٢٨) مستندًا إلى مخالفته المعنى الأعرفَ والأشهرَ للشِّراء، مع دلالةِ السّياقِ على خلافِه، فقال: «وهذا، وإن كان وجهًا من التأويل، فلست له بمختار؛ لأن الله -جل ثناؤه- قال: ﴿فما ربحت تجارتهم﴾، فدلَّ بذلك على أن معنى قوله: ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾ معنى الشراء الذي يتعارفه الناس، من استبدال شيء مكان شيء، وأخذ عوض على عوض».
ابن عطية (١/١٣١) على قول قتادة بقوله: «كما قال تعالى: ﴿فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾ [فصلت:١٧]». ونقل قولين آخرين: الأول: «الشراء هنا استعارة وتشبيه، لما تركوا الهدى وهو معرض ووقعوا بدله في الضلالة، واختاروها، شُبِّهوا بمن اشتروا». ثم عليه بقوله: «فكأنهم دفعوا في الضلالة هداهم، إذ كان لهم أخذه». والثاني: «الآية فيمن كان آمن من المنافقين، ثم ارتد في باطنه وعقده». ثم عليه بقوله: «ويقرب الشراء من الحقيقة على هذا».
٦٥١- عن إسماعيل السدي -من طريق أسباط- ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾، يقول: أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى(٦). (ز)
جمع ابنُ كثير (١/٢٩٥) بين آثار السلف الواردة هنا بقوله: «وحاصل قول المفسرين: أنّ المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو معنى قوله تعالى: ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾، أي: بذلوا الهُدى ثمنًا للضلالة، وسواء في ذلك مَن كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر،كما قال تعالى فيهم: ﴿ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم﴾ [المنافقون:٣]، أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى، كما يكون حال فريق آخر منهم، فإنهم أنواع وأقسام».
٦٥٢- قال مقاتل بن سليمان: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾، وذلك أنّ اليهود وجدوا نعت محمد النبي ﷺ في التوراة قبل أن يُبْعث، فآمَنُوا به، وظَنُّوا أنه من ولَد إسحاق ﵇، فلما بُعِث محمد ﷺ من العرب من ولد إسماعيل ﵇ كفروا به حَسَدًا، واشتروا الضلالة بالهدى، يقول: باعوا الهدى الذي كانوا فيه من الإيمان بمحمد ﷺ قبل أن يُبْعث؛ بالضلالة التي دخلوا فيها بعد ما بُعث؛ من تكذيبهم بمحمد ﷺ، فبِئْس التجارة، فذلك قوله سبحانه: ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ من الضلالة(٧). (ز)
﴿فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُوا۟ مُهۡتَدِینَ ١٦﴾ - تفسير
٦٥٣- عن قتادة -من طريق سعيد- ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾، قال: قد -والله- رأيْتُموهم، خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السُّنَّة إلى البدعة(٨). (١/١٦٩)
نقل ابن عطية (١/١٣١) في معنى: ﴿وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ ثلاثة أقوال، فقال: «قيل: المعنى في شرائهم هذا. وقيل: على الإطلاق. وقيل: في سابق علم الله». ثم عليها بقوله: «وكل هذا يحتمله اللفظ».
٦٥٤- قال سفيان الثوري: كلكم تاجر، فلينظر امرؤٌ ما تجارتُه؟ قال الله: ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾، وقال: ﴿هل أدّلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم﴾ [الصف:١٠](٩). (ز)
(١) أخرجه ابن جرير ١/٣٢٥. وعزاه السيوطي إليه مقتصرًا على ابن مسعود.
(٢) أخرجه ابن إسحاق -كما في سيرة ابن هشام ١/٥٣٢-، وابن جرير ١/٣٢٥، وابن أبي حاتم ١/٤٩.
(٣) أخرجه ابن جرير ١/٣٢٦، وابن أبي حاتم ١/٥٠ (١٥٤). وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد.
(٤) ذكره يحيى بن سلام -كما في تفسير ابن أبي زمنين ١/١٢٤-.
(٥) أخرجه ابن جرير ١/٣٢٥ من طريق سعيد، وابن أبي حاتم ١/٤٩. وعزاه السيوطي إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد.
(٦) أخرجه ابن أبي حاتم ١/٥٠.
(٧) تفسير مقاتل بن سليمان ١/٩١.
(٨) أخرجه ابن جرير ١/٣٣٠، وابن أبي حاتم ١/٥٠. وعزاه السيوطي إلى عبد بن حميد.
(٩) تفسير الثعلبي ١/١٥٩.