الباحث القرآني

﴿أُولَئِكَ﴾: إشارَةٌ إلى المَذْكُورِينَ؛ بِاعْتِبارِ اتِّصافِهِمْ بِما ذُكِرَ مِنَ الصِّفاتِ الشَّنِيعَةِ المُمَيِّزَةِ لَهم عَمَّنْ عَداهم أكْمَلَ تَمْيِيزٍ؛ بِحَيْثُ صارُوا كَأنَّهم حُضّارٌ؛ مُشاهِدُونَ عَلى ما هم عَلَيْهِ وما فِيهِ مِن مَعْنى البُعْدِ؛ لِلْإيذانِ بِبُعْدِ مَنزِلَتِهِمْ في الشَّرِّ؛ وسُوءِ الحالِ؛ ومَحَلُّهُ الرَّفْعُ؛ عَلى الِابْتِداءِ؛ خَبَرُهُ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾؛ والجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ ما قَبْلَها؛ وبَيانٌ لِكَمالِ جَهالَتِهِمْ فِيما حُكِيَ عَنْهم مِنَ الأقْوالِ؛ والأفْعالِ؛ بِإظْهارِ غايَةِ سَماجَتِها؛ وتَصْوِيرِها بِصُورَةِ ما لا يَكادُ يَتَعاطاهُ مَن لَهُ أدْنى تَمْيِيزٍ؛ فَضْلًا عَنِ العُقَلاءِ. والضَّلالَةُ: الجَوْرُ عَنِ القَصْدِ؛ والهُدى: التَّوَجُّهُ إلَيْهِ؛ وقَدِ اسْتُعِيرَ الأوَّلُ لِلْعُدُولِ عَنِ الصَّوابِ في الدِّينِ؛ والثّانِي لِلِاسْتِقامَةِ عَلَيْهِ. والِاشْتِراءُ: اسْتِبْدالُ السِّلْعَةِ بِالثَّمَنِ؛ أيْ أخْذُها بِهِ؛ لا بَذْلُهُ لِتَحْصِيلِها؛ كَما قِيلَ؛ وإنْ كانَ مُسْتَلْزِمًا لَهُ؛ فَإنَّ المُعْتَبَرَ في عَقْدِ الشِّراءِ ومَفْهُومِهِ هو الجَلْبُ؛ دُونَ السَّلْبِ؛ الَّذِي هو المُعْتَبَرُ في عَقْدِ البَيْعِ؛ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِأخْذِ شَيْءٍ بِإعْطاءِ ما في يَدِهِ - عَيْنًا كانَ كُلٌّ مِنهُما أوْ مَعْنًى -؛ لا لِلْإعْراضِ عَمّا في يَدِهِ مُحَصِّلًا بِهِ غَيْرَهُ؛ كَما قِيلَ؛ وإنِ اسْتَلْزَمَهُ؛ لِما مَرَّ سِرُّهُ؛ ومِنهُ قَوْلُهُ: أخَذْتُ بِالجُمَّةِ رَأْسًا أزْعَرا ... وبِالثَّنايا الواضِحاتِ الدُّرْدُرا وَبِالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْرًا جَيْدَرا ... كَما اشْتَرى المُسْلِمُ إذْ تَنَصَّرا فاشْتِراءُ الضَّلالَةِ بِالهُدى مُسْتَعارٌ لِأخْذِها بَدَلًا مِنهُ أخْذًا مَنُوطًا بِالرَّغْبَةِ فِيها؛ والإعْراضِ عَنْهُ؛ ولَمّا اقْتَضى ذَلِكَ أنْ يَكُونَ ما يُجْرى مُجْرى الثَّمَنِ حاصِلًا لِلْكَفَرَةِ قَبْلَ العَقْدِ؛ وما يُجْرى مُجْرى المَبِيعِ غَيْرَ حاصِلٍ لَهم إذْ ذاكَ؛ حَسْبَما هو في البَيْتِ؛ ولا رَيْبَ في أنَّهم بِمَعْزِلٍ مِنَ الهُدى؛ مُسْتَمِرُّونَ عَلى الضَّلالَةِ؛ اسْتَدْعى الحالُ تَحْقِيقَ ما جَرى مُجْرى العِوَضَيْنِ؛ فَنَقُولُ - وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ -: لَيْسَ المُرادُ بِما تُعَلِّقَ بِهِ الِاشْتِراءُ هَهُنا جِنْسَ الضَّلالَةِ الشّامِلَةِ لِجَمِيعِ أصْنافِ الكَفَرَةِ؛ حَتّى تَكُونَ حاصِلَةً لَهم مِن قَبْلُ؛ بَلْ هو فَرْدُها الكامِلُ الخاصُّ بِهَؤُلاءِ؛ عَلى أنَّ اللّامَ لِلْعَهْدِ؛ وهو عَمَهُهُمُ المَقْرُونُ بِالمَدِّ في الطُّغْيانِ؛ المُتَرَتِّبُ عَلى ما حُكِيَ عَنْهم مِنَ القَبائِحِ؛ وذَلِكَ إنَّما يَحْصُلُ لَهم عِنْدَ اليَأْسِ مِنَ اهْتِدائِهِمْ؛ والخَتْمِ عَلى قُلُوبِهِمْ؛ وكَذا لَيْسَ المُرادُ بِما في حَيِّزِ الثَّمَنِ نَفْسَ الهُدى؛ بَلْ هو التَّمَكُّنُ التّامُّ مِنهُ؛ بِتَعاضُدِ الأسْبابِ؛ وتَأْخُذُ المُقَدِّماتُ المُسْتَتْبِعَةُ لَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ؛ كَأنَّهُ نَفْسُ الهُدى؛ بِجامِعِ المُشارَكَةِ في اسْتِتْباعِ الجَدْوى؛ ولا مِرْيَةَ في أنَّ هَذِهِ المَرْتَبَةَ مِنَ التَّمَكُّنِ كانَتْ حاصِلَةً لَهم بِما شاهَدُوهُ مِنَ الآياتِ الباهِرَةِ؛ والمُعْجِزاتِ القاهِرَةِ؛ مِن جِهَةِ الرَّسُولِ ﷺ؛ وبِما سَمِعُوهُ مِن نَصائِحِ المُؤْمِنِينَ؛ الَّتِي مِن جُمْلَتِها ما حُكِيَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الإفْسادِ في الأرْضِ؛ والأمْرِ بِالإيمانِ الصَّحِيحِ؛ وقَدْ نَبَذُوها وراءَ ظُهُورِهِمْ؛ وأخَذُوا بَدَلَها الضَّلالَةَ الهائِلَةَ الَّتِي هي العَمَهُ في تِيهِ الطُّغْيانِ؛ وحَمْلُ الهُدى عَلى الفِطْرَةِ الأصْلِيَّةِ الحاصِلَةِ لِكُلِّ أحَدٍ يَأْباهُ أنَّ إضاعَتَها غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِهَؤُلاءِ؛ ولَئِنْ حُمِلَتْ عَلى الإضاعَةِ التّامَّةِ الواصِلَةِ إلى حَدِّ الخَتْمِ عَلى القُلُوبِ المُخْتَصَّةِ (p-49)بِهِمْ فَلَيْسَ في إضاعَتِها فَقَطْ مِنَ الشَّناعَةِ ما في إضاعَتِها مَعَ مُؤَيِّدِها مِنَ المُؤَيِّداتِ العَقْلِيَّةِ؛ والنَّقْلِيَّةِ؛ عَلى أنَّ ذَلِكَ يَقْضِي إلى كَوْنِ ذِكْرِ ما فُصِّلَ مِن أوَّلِ السُّورَةِ إلى هُنا ضائِعًا؛ وأبْعَدُ مِنهُ حَمْلُ اشْتِراءِ الضَّلالَةِ بِالهُدى عَلى مُجَرَّدِ اخْتِيارِها عَلَيْهِ؛ مِن غَيْرِ اعْتِبارِ كَوْنِهِ في أيْدِيهِمْ؛ بِناءً عَلى أنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اتِّساعًا في إيثارِ أحَدِ الشَّيْئَيْنِ الكائِنَيْنِ في شَرَفِ الوُقُوعِ عَلى الآخَرِ؛ فَإنَّهُ - مَعَ خُلُوِّهِ عَنِ المَزايا المَذْكُورَةِ بِالمَرَّةِ - مُخِلٌّ بِرَوْنَقِ التَّرْشِيحِ الآتِي؛ هَذا عَلى تَقْدِيرِ جَعْلِ الِاشْتِراءِ المَذْكُورِ عِبارَةً عَنْ مُعامَلَتِهِمُ السّابِقَةِ المَحْكِيَّةِ؛ وهو الأنْسَبُ بِتَجاوُبِ أطْرافِ النَّظْمِ الكَرِيمِ؛ وأمّا إذا جُعِلَ تَرْجَمَةً عَنْ جِنايَةٍ أُخْرى مِن جِناياتِهِمْ فالمُرادُ بِالهُدى ما كانُوا عَلَيْهِ مِن مَعْرِفَةِ صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ ﷺ وحَقِيقَةِ دِينِهِ؛ بِما كانُوا يُشاهِدُونَهُ مِن نُعُوتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - في التَّوْراةِ؛ وقَدْ كانُوا عَلى يَقِينٍ مِنهُ؛ حَتّى كانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلى المُشْرِكِينَ؛ ويَقُولُونَ: اللَّهُمَّ انْصُرْنا بِالنَّبِيِّ المَبْعُوثِ في آخِرِ الزَّمانِ؛ الَّذِي نَجِدُ نَعْتَهُ في التَّوْراةِ؛ ويَقُولُونَ لَهُمْ: قَدْ أظَلَّ زَمانُ نَبِيٍّ يَخْرُجُ بِتَصْدِيقِ ما قُلْنا؛ فَنَقْتُلُكم مَعَهُ قَتْلَ عادٍ وإرَمٍ؛ فَلَمّا جاءَهم ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ؛ كَما سَيَأْتِي؛ ولا مَساغَ لِحَمْلِ الهُدى عَلى ما كانُوا يُظْهِرُونَهُ عِنْدَ لِقاءِ المُؤْمِنِينَ؛ فَإنَّها ضَلالَةٌ مُضاعَفَةٌ. ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾: عَطْفٌ عَلى الصِّلَةِ؛ داخِلٌ في حَيِّزِها؛ والفاءُ لِلدَّلالَةِ عَلى تَرَتُّبِ مَضْمُونِهِ عَلَيْها؛ والتِّجارَةُ: صِناعَةُ التُّجّارِ؛ وهو التَّصَدِّي لِلْبَيْعِ والشِّراءِ؛ لِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ؛ وهو الفَضْلُ؛ عَلى رَأْسِ المالِ؛ يُقالُ: رَبِحَ فُلانٌ في تِجارَتِهِ؛ أيِ اسْتَشَفَّ فِيها؛ وأصابَ الرِّبْحَ؛ وإسْنادُ عَدَمِهِ - الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنِ الخُسْرانِ - إلَيْها؛ وهو لِأرْبابِها؛ بِناءً عَلى التَّوَسُّعِ المَبْنِيِّ عَلى ما بَيْنَهُما مِنَ المُلابَسَةِ؛ وفائِدَتُهُ المُبالَغَةُ في تَخْسِيرِهِمْ؛ لِما فِيهِ مِنَ الإشْعارِ بِكَثْرَةِ الخَسارِ وعُمُومِهِ المُسْتَتْبِعِ لِسَرايَتِهِ إلى ما يُلابِسُهُمْ؛ وإيرادُهُما إثْرَ الِاشْتِراءِ المُسْتَعارِ لِلِاسْتِبْدالِ المَذْكُورِ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعارَةِ؛ وتَصْوِيرٌ لِما فاتَهم مِن فَوائِدِ الهُدى؛ بِصُورَةِ خَسارِ التِّجارَةِ؛ الَّذِي يَتَحاشا عَنْهُ كُلُّ أحَدٍ؛ لِلْإشْباعِ في التَّخْسِيرِ؛ والتَّحْسِيرِ؛ ولا يُنافِي ذَلِكَ أنَّ التِّجارَةَ في نَفْسِها اسْتِعارَةٌ لِانْهِماكِهِمْ فِيما هم عَلَيْهِ مِن إيثارِ الضَّلالَةِ عَلى الهُدى؛ وتَمَرُّنِهِمْ عَلَيْهِ؛ مُعْرِبَةٌ عَنْ كَوْنِ ذَلِكَ صِناعَةً لَهم راسِخَةً؛ إذْ لَيْسَ مِن ضَرُورِيّاتِ التَّرْشِيحِ أنْ يَكُونَ باقِيًا عَلى الحَقِيقَةِ؛ تابِعًا لِلِاسْتِعارَةِ؛ لا يُقْصَدُ بِهِ إلّا تَقْوِيَتُها؛ كَما في قَوْلِكَ: رَأيْتُ أسَدًا وافِيَ البَراثِنِ؛ فَإنَّكَ لا تُرِيدُ بِهِ إلّا زِيادَةَ تَصْوِيرٍ لِلشُّجاعِ؛ وأنَّهُ أسَدٌ كامِلٌ مِن غَيْرِ أنْ تُرِيدَ بِلَفْظِ البَراثِنِ مَعْنًى آخَرَ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ مُسْتَعارًا مِن مُلائِمِ المُسْتَعارِ مِنهُ؛ لِمُلائِمِ المُسْتَعارِ لَهُ؛ ومَعَ ذَلِكَ يَكُونُ تَرْشِيحًا لِأصْلِ الِاسْتِعارَةِ؛ كَما في قَوْلِهِ: ؎ فَلَمّا رَأيْتُ النَّسْرَ عَزَّ ابْنَ دَأْيَةٍ ∗∗∗ وعَشَّشَ في وكْرَيْهِ جاشَ لَهُ صَدْرِي فَإنَّ لَفْظَ الوَكْرَيْنِ - مَعَ كَوْنِهِ مُسْتَعارًا مِن مَعْناهُ الحَقِيقِيِّ؛ الَّذِي هو مَوْضِعٌ يَتَّخِذُهُ الطّائِرُ لِلتَّفْرِيخِ؛ لِلرَّأْسِ واللِّحْيَةِ؛ أوْ لِلْفَوْدَيْنِ؛ أعْنِي جانِبَيِ الرَّأْسِ - تَرْشِيحٌ بِاعْتِبارِ مَعْناهُ الأصْلِيِّ لِاسْتِعارَةِ لَفْظِ النَّسْرِ لِلشَّيْبِ؛ ولَفْظِ ابْنِ دَأْيَةٍ لِلشَّعْرِ الأسْوَدِ؛ وكَذا لَفْظُ التَّعْشِيشِ - مَعَ كَوْنِهِ مُسْتَعارًا لِلْحُلُولِ والنُّزُولِ المُسْتَمِرَّيْنِ - تَرْشِيحٌ لِتَيْنِكَ الِاسْتِعارَتَيْنِ؛ بِالِاعْتِبارِ المَذْكُورِ؛ وقُرِئَ: "تِجاراتُهُمْ"؛ وتَعَدُّدُها لِتَعَدُّدِ المُضافِ إلَيْهِمْ؛ ﴿وَما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾؛ أيْ إلى طُرُقِ التِّجارَةِ؛ فَإنَّ المَقْصُودَ مِنها سَلامَةُ رَأْسِ المالِ مَعَ حُصُولِ الرِّبْحِ؛ ولَئِنْ فاتَ الرِّبْحُ في صَفْقَةٍ فَرُبَّما يُتَدارَكُ في صَفْقَةٍ أُخْرى؛ لِبَقاءِ الأصْلِ؛ وأمّا إتْلافُ الكُلِّ بِالمَرَّةِ فَلَيْسَ مِن بابِ التِّجارَةِ قَطْعًا؛ فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ كانَ رَأْسُ مالِهِمُ الهُدى قَدِ اسْتَبْدَلُوا بِها الضَّلالَةَ؛ فَأضاعُوا كِلْتا الطِّلْبَتَيْنِ؛ فَبَقُوا خائِبِينَ؛ خاسِرِينَ؛ نائِينَ عَنْ طَرِيقِ التِّجارَةِ بِألْفِ مَنزِلٍ؛ فالجُمْلَةُ راجِعَةٌ إلى التَّرْشِيحِ؛ مَعْطُوفَةٌ عَلى ما قَبْلَها؛ مُشارِكَةٌ لَهُ في التَّرْتِيبِ عَلى الِاشْتِراءِ (p-50) المَذْكُورِ؛ والأوْلى عَطْفُها عَلى "اشْتَرَوُا"؛ إلَخْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب