الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[١٦ ] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهم وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾
"أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى" إشارَةٌ إلى المَذْكُورِينَ بِاعْتِبارِهِ اتِّصافَهم بِما ذَكَرَ مِنَ الصِّفاتِ الشَّنِيعَةِ المُمَيِّزَةِ لَهم عَمَّنْ عَداهم أكْمَلَ تَمْيِيزٍ، بِحَيْثُ صارُوا كَأنَّهم حُضّارٌ مُشاهِدُونَ عَلى ما هم عَلَيْهِ. وما فِيهِ مِن مَعْنى البُعْدِ لِلْإيذانِ بِبُعْدِ مَنزِلَتِهِمْ في الشَّرِّ وسُوءِ الحالِ، ومَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلى الِابْتِداءِ، خَبَرُهُ قَوْلُهُ تَعالى "الَّذِينَ اشْتَرَوُا" إلَخْ. والجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ ما قَبْلَها، وبَيانٌ لِكَمالِ جَهالَتِهِمْ - فِيما حُكِيَ عَنْهم مِنَ الأقْوالِ والأفْعالِ - بِإظْهارِ غايَةِ سَماجَتِها، وتَصْوِيرِها بِصُورَةِ ما لا يَكادُ يَتَعاطاهُ مَن لَهُ أدْنى تَمْيِيزٍ - فَضْلًا عَنِ العُقَلاءِ - . و"الضَّلالَةَ" الجَوْرُ عَنِ القَصْدِ؛ و"الهُدى" التَّوَجُّهُ إلَيْهِ. وقَدِ اسْتُعِيرَ الأوَّلُ: لِلْعُدُولِ عَنِ الصَّوابِ في الدِّينِ، والثّانِي: لِلِاسْتِقامَةِ عَلَيْهِ. و"الِاشْتِراءُ" اسْتِبْدالُ السِّلْعَةِ بِالثَّمَنِ -أيْ: أخْذُها بِهِ- (p-٥٢)فاشْتِراءُ الضَّلالَةِ بِالهُدى مُسْتَعارٌ لِأخْذِها بَدَلًا مِنهُ أخْذًا مَنُوطًا بِالرَّغْبَةِ فِيها والإعْراضِ عَنْهُ.
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى، وما كانُوا عَلى هُدًى؟
قُلْتُ: جَعَلُوا لِتَمَكُّنِهِمْ مِنهُ -بِتَيْسِيرِ أسْبابِهِ- كَأنَّهُ في أيْدِيهِمْ، فَإذا تَرَكُوهُ إلى الضَّلالَةِ قَدْ عَطَّلُوهُ، واسْتَبْدَلُوها بِهِ؛ فاسْتُعِيرَ ثُبُوتُهُ لِتَمَكُّنِهِمْ بِجامِعِ المُشارَكَةِ في اسْتِتْباعِ الجَدْوى، ولا مِرْيَةَ في أنَّ هَذِهِ المَرْتَبَةَ -مِنَ التَّمَكُّنِ- كانَتْ حاصِلَةً لَهم بِما شاهَدُوهُ- مِنَ الآياتِ الباهِرَةِ، والمُعْجِزاتِ القاهِرَةِ- مِن جِهَةِ النَّبِيِّ ﷺ .
"فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ" عَطْفٌ عَلى الصِّلَةِ داخِلٌ في حَيِّزِها. والفاءُ لِلدَّلالَةِ عَلى تَرَتُّبِ مَضْمُونِهِ عَلَيْها. والتِّجارَةُ صِناعَةُ التُّجّارِ، وهو التَّصَدِّي لِلْبَيْعِ والشِّراءِ، لِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ وهو الفَضْلُ عَلى رَأْسِ المالِ، وإسْنادُ عَدَمِهِ - الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنِ الخُسْرانِ- إلَيْها؛ وهو لِأصْحابِها، مِنَ الإسْنادِ المَجازِيِّ وهو: أنْ يُسْنَدَ الفِعْلُ إلى شَيْءٍ يَتَلَبَّسُ بِالَّذِي هو في الحَقِيقَةِ لَهُ -كَما تَلَبَّسَتِ التِّجارَةُ بِالمُشْتَرِينَ- . وفائِدَتُهُ: المُبالَغَةُ في تَخْسِيرِهِمْ، لِما فِيهِ مِنَ الإشْعارِ بِكَثْرَةِ الخَسارِ، وعُمُومُهُ المُسْتَتْبَعُ، لِسِرايَتِهِ إلى ما يُلابِسُهم.
فَإنْ قُلْتَ: هَبْ أنَّ شِراءَ الضَّلالَةِ بِالهُدى وقَعَ مَجازًا في مَعْنى الِاسْتِبْدالِ، فَما مَعْنى ذِكْرِ الرِّبْحِ، والتِّجارَةِ كَأنَّ ثَمَّ مُبايَعَةً عَلى الحَقِيقَةِ ؟
قُلْتُ: هَذا مِنَ الصَّنْعَةِ البَدِيعَةِ الَّتِي تَبْلُغُ بِالمَجازِ الذُّرْوَةَ العُلْيا، وهو أنْ تُساقَ كَلِمَةٌ مَساقَ المَجازِ، ثُمَّ تُقَفّى بِأشْكالٍ لَها، وأخَواتٍ إذا تَلاحَقْنَ- لَمْ تَرَ كَلامًا أحْسَنَ مِنهُ دِيباجَةً، وأكْثَرَ ماءً ورَوْنَقًا، وهو المَجازُ المُرَشَّحُ؛ فَإيرادُهُما - إثْرَ الِاشْتِراءِ -تَصْوِيرٌ لِما فاتَهم مِن فَوائِدِ الهُدى بِصُورَةِ خَسارِ التِّجارَةِ -الَّذِي يَتَحاشى عَنْهُ كُلُّ أحَدٍ- لِلْإشْباعِ في التَّخْسِيرِ والتَّحْسِيرِ. وهَذا النَّوْعُ قَرِيبٌ مِنَ التَّتْمِيمِ الَّذِي يُمَثِّلُهُ أهْلُ صِناعَةِ البَدِيعِ بِقَوْلِ الخَنْساءِ:
؎وإنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الهُداةُ بِهِ كَأنَّهُ عَلَمٌ في رَأْسِهِ نارُ. . !
لَمّا شَبَّهَتْهُ - في الِاهْتِداءِ بِهِ- بِالعَلَمِ المُرْتَفِعِ، أتْبَعَتْ ذَلِكَ ما يُناسِبُهُ ويُحَقِّقُهُ، فَلَمْ تَقْنَعْ بِظُهُورِ الِارْتِفاعِ حَتّى أضافَتْ إلى ذَلِكَ ظُهُورًا آخَرَ، بِاشْتِعالِ النّارِ في رَأْسِهِ.
(p-٥٣)وقَوْلُهُ: "وما كانُوا مُهْتَدِينَ" أيْ: لِزَوالِ اسْتِعْدادِهِمْ، وتَكْدِيرِ قُلُوبِهِمْ بِالرَّيْنِ المُوجِبِ لِلْحِجابِ والحِرْمانِ الأبَدِيِّ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قِيلَ: لِمَ عَطَفَ بِالواوِ عَدَمَ اهْتِدائِهِمْ عَلى انْتِفاءِ رِبْحِ تِجارَتِهِمْ، ورُتِّبا مَعًا بِالفاءِ عَلى اشْتِراءِ الضَّلالَةِ بِالهُدى ؟ وما وجْهُ الجَمْعِ بَيْنَهُما -مَعَ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ- عَلى أنَّ عَدَمَ الِاهْتِداءِ قَدْ فُهِمَ مِنِ اسْتِبْدالِ الضَّلالَةِ بِالهُدى، فَيَكُونُ تَكْرارًا لِما مَضى ؟ فالجَوابُ: أنَّ رَأْسَ مالِهِمْ هو الهُدى، فَلَمّا اسْتَبْدَلُوا بِهِ ما يُضادُّهُ - ولا يُجامِعُهُ أصْلًا - انْتَفى رَأْسُ المالِ بِالكُلِّيَّةِ، وحِينَ لَمْ يَبْقَ في أيْدِيهِمْ إلّا ذَلِكَ الضِّدُّ - أعْنِي الضَّلالَةَ - وُصِفُوا بِانْتِفاءِ الرِّبْحِ والخَسارَةِ. لِأنَّ الضّالَّ في دِينِهِ خاسِرٌ هالِكٌ - وإنْ أصابَ فَوائِدَ دُنْيَوِيَّةً- ولِأنَّ مَن لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ رَأْسَ مالِهِ لَمْ يُوصَفْ بِالرِّبْحِ، بَلْ بِانْتِفائِهِ؛ فَقَدْ أضاعُوا سَلامَةَ رَأْسِ المالِ بِالِاسْتِبْدالِ، وتَرَتَّبَ عَلى ذَلِكَ إضاعَةُ الرِّبْحِ.
وأمّا قَوْلُهُ: "وما كانُواْ مُهْتَدِينَ" فَلَيْسَ مَعْناهُ عَدَمَ اهْتِدائِهِمْ في الدِّينِ - فَيَكُونُ تَكْرارًا لِما سَبَقَ - بَلْ لِما وُصِفُوا بِالخَسارَةِ في هَذِهِ التِّجارَةِ أُشِيرَ إلى عَدَمِ اهْتِدائِهِمْ لِطُرُقِ التِّجارَةِ - كَما يَهْتَدِي إلَيْهِ التُّجّارُ البُصَراءُ بِالأُمُورِ الَّتِي يَرْبَحُ فِيها ويَخْسَرُ - فَهَذا راجِعٌ إلى التَّرْشِيحِ.
{"ayah":"أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ ٱشۡتَرَوُا۟ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُوا۟ مُهۡتَدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











