الباحث القرآني

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾ إشارَةٌ إلى المُنافِقِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمُ الجامِعِينَ لِلْأوْصافِ الذَّمِيمَةِ مِن دَعْوى الصَّلاحِ، وهُمُ المُفْسِدُونَ، ونِسْبَةِ السَّفَهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وهُمُ السُّفَهاءُ، والِاسْتِهْزاءِ وهُمُ المُسْتَهْزَأُ بِهِمْ، ولِبُعْدِ مَنزِلَتِهِمْ في الشَّرِّ وسُوءِ الحالِ أشارَ إلَيْهِمْ بِما يَدُلُّ عَلى البُعْدِ، والكَلامُ هُنا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ واقِعًا مَوْقِعَ ﴿أُولَئِكَ عَلى هُدًى مِن رَبِّهِمْ﴾ فَإنَّ السّامِعَ بَعْدَ سَماعِ ذِكْرِهِمْ وإجْراءِ تِلْكَ الأوْصافِ عَلَيْهِمْ، كَأنَّهُ يَسْألُ: مِن أيْنَ دَخَلَ عَلى هَؤُلاءِ هَذِهِ الهَيْئاتُ؟ فَيُجابُ بِأنَّ أُولَئِكَ المُسْتَبْعَدِينَ إنَّما جَسَرُوا عَلَيْها، لِأنَّهُمُ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى حَتّى خَسِرَتْ صَفْقَتُهُمْ، وفَقَدُوا الِاهْتِداءَ لِلطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ، ووَقَعُوا في تِيهِ الحَيْرَةِ والضَّلالِ، وقِيلَ: هو فَذْلَكَةٌ وإجْمالٌ لِجَمِيعِ ما تَقَدَّمَ مِن حَقِيقَةِ حالِهِمْ، أوْ تَعْلِيلٌ لِاسْتِحْقاقِهِمُ الِاسْتِهْزاءَ الأبْلَغَ، والمَدَّ في الطُّغْيانِ، أوْ مُقَرِّرٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَمُدُّهم في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ وفِيهِ حَصْرُ المُسْنَدِ عَلى المُسْنَدِ إلَيْهِ، لِكَوْنِ تَعْرِيفِ المَوْصُولِ لِلْجِنْسِ بِمَنزِلَةِ تَعْرِيفِ اللّامِ الجِنْسِيِّ، وهو ادِّعائِيٌّ بِاعْتِبارِ كَمالِهِمْ في ذَلِكَ الِاشْتِراءِ (p-161)وإنْ كانَ الكُفّارُ الآخَرُونَ مُشارِكِينَ لَهم في ذَلِكَ لِجَمْعِهِمْ هاتِيكَ المَساوِيَ الشَّنِيعَةَ والخِلالَ الفَظِيعَةَ، فَبِذَلِكَ الِاعْتِبارِ صَحَّ تَخْصِيصُهم بِذَلِكَ، والضَّلالَةُ الجَوْرُ عَنِ القَصْدِ، والهُدى التَّوَجُّهُ إلَيْهِ، ويُطْلَقانِ عَلى العُدُولِ عَنِ الصَّوابِ في الدِّينِ والِاسْتِقامَةِ عَلَيْهِ، والِاشْتِراءُ كالشِّراءِ اسْتِبْدالُ السِّلْعَةِ بِالثَّمَنِ، أيْ أخْذُها بِهِ، وبَعْضُهم يَجْعَلُهُ مِنَ الأضْدادِ، لِأنَّ المُتَبايِعَيْنِ تَبايَعا الثَّمَنَ والمُثَمَّنَ، فَكُلٌّ مِنَ العِوَضَيْنِ مُشْتَرًى مِن جانِبٍ مَبِيعٌ مِن جانِبٍ، ويُطْلَقُ مَجازًا عَلى أخْذِ شَيْءٍ بِإعْطاءِ ما في يَدِهِ عَيْنًا كانَ كُلٌّ مِنهُما، أوْ مَعْنًى، وهَذا يَسْتَدْعِي بِظاهِرِهِ أنْ يَكُونَ ما يَجْرِي مَجْرى الثَّمَنِ وهو الهُدى حاصِلًا لِهَؤُلاءِ قَبْلُ، ولا رَيْبَ أنَّهم بِمَعْزِلِ عَنْهُ، فَأمّا أنْ يُقالَ: إنَّ الِاشْتِراءَ مَجازٌ عَنِ الأخْيارِ لِأنَّ المُشْتَرِيَ لِلشَّيْءِ مُخْتارٌ لَهُ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: اخْتارُوا الضَّلالَةَ عَلى الهُدى، ولِكَوْنِ الِاسْتِبْدالِ مَلْحُوظًا جِيءَ بِالباءِ عَلى أنَّهُ قِيلَ: إنَّ التَّوافُقَ مَعْنًى لا يَقْتَضِي التَّوافُقَ مُتَعَلِّقًا، ولا يَرُدُّ عَلى هَذا الحَمْلِ كَوْنُهُ مُخِلًّا بِالتَّرْشِيحِ الآتِي كَما زَعَمَهُ مَوْلانا مُفْتِي الدِّيارِ الرُّومِيَّةِ، لِأنَّ التَّرْشِيحَ المَذْكُورَ يَكْفِي لَهُ وُجُودُ لَفْظِ الِاشْتِراءِ، وإنْ كانَ المَعْنى المَقْصُودُ غَيْرَ مُرَشَّحٍ كَما هو العادَةُ في أمْثالِهِ، أوْ يُقالُ: لَيْسَ المُرادُ بِما في حَيِّزِ الثَّمَنِ نَفْسَ الهُدى، بَلْ هو التَّمَكُّنُ التّامُّ مِنهُ، بِتَعاضُدِ الأسْبابِ، وبِأخْذِ المُقَدِّماتِ المُسْتَتْبِعَةِ لَهُ، بِطَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ، كَأنَّهُ نَفْسُ الهُدى بِجامِعِ المُشارَكَةِ في اسْتِتْباعِ الجَدْوى، ولا مِرْيَةَ في أنَّ ذَلِكَ كانَ حاصِلًا لِأُولَئِكَ المُنافِقِينَ بِما شاهَدُوهُ مِنَ الآياتِ الباهِرَةِ، والمُعْجِزاتِ القاهِرَةِ، والإرْشادِ العَظِيمِ والنُّصْحِ والتَّعْلِيمِ، لَكِنَّهم نَبَذُوا ذَلِكَ، فَوَقَعُوا في مَهاوِي المَهالِكِ، أوْ يُقالُ: المُرادُ بِالهُدى الهُدى الجِبِلِّيُّ، وقَدْ كانَ حاصِلًا لَهم حَقِيقَةً، فَإنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ، وقَوْلُ مَوْلانا مُفْتِي الدِّيارِ الرُّومِيَّةِ: إنَّ حَمْلَ الهُدى عَلى الفِطْرَةِ الأصْلِيَّةِ الحاصِلَةِ لِكُلِّ أحَدٍ يَأْباهُ أنَّ إضاعَتَها غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِهَؤُلاءِ، ولَئِنْ حُمِلَتْ عَلى الإضاعَةِ التّامَّةِ الواصِلَةِ إلى حَدِّ الخَتْمِ المُخْتَصَّةِ بِهِمْ، فَلَيْسَ في إضاعَتِها فَقَطْ مِنَ الشَّناعَةِ ما في إضاعَتِها مَعَ ما يُؤَيِّدُها مِنَ المُؤَيِّداتِ النَّقْلِيَّةِ والعَقْلِيَّةِ، عَلى أنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلى كَوْنِ ما فَصَلَ مِن أوَّلِ السُّورَةِ إلى هُنا ضائِعًا، كَلامٌ ناشِئٌ عَنِ الغَفْلَةِ عَنْ مَعْنى الإشارَةِ، فَإنَّها تَقْتَضِي مُلاحَظَتَهم بِجَمِيعِ ما مَرَّ مِنَ الصِّفاتِ، والمَعْنى أنَّ المَوْصُوفِينَ بِالنِّفاقِ المَذْكُورِ هُمُ الَّذِينَ ضَيَّعُوا الفِطْرَةَ أشَدَّ تَضْيِيعٍ بِتَهْوِيدِ الآباءِ، ثُمَّ بَعْدَ ما ظَفِرُوا بِها أضاعُوها بِالنِّفاقِ مَعَ تَحْرِيضِهِمْ عَلى المُحافَظَةِ، والنُّصْحِ شِفاهًا، ونَحْوَ ذَلِكَ مِمّا لا يُوجَدُ في غَيْرِهِمْ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ التَّعْرِيفُ أوْ يُقالُ: هَذِهِ تَرْجَمَةٌ عَنْ جِنايَةٍ أُخْرى مِن جِناياتِهِمْ، والمُرادُ بِالهُدى ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّصْدِيقِ بِبَعْثَتِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وحَقِّيَّةِ دِينِهِ بِما وجَدُوهُ عِنْدَهم في التَّوْراةِ، ولِهَذا كانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ ويَدْعُونَ بِحُرْمَتِهِ، ويُهَدِّدُونَ الكُفّارَ بِخُرُوجِهِ، ﴿فَلَمّا جاءَهم ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الكافِرِينَ﴾ وأمّا حَمْلُ الهُدى عَلى ما كانَ عِنْدَهم ظاهِرًا مِنَ التَّلَفُّظِ بِالشَّهادَةِ وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والصَّوْمِ والغَزْوِ فَمِمّا لا يَرْتَضِيهِ مَن هُدِيَ إلى سَواءِ السَّبِيلِ، وما ذَكَرْناهُ مِن أنَّ أُولَئِكَ، إشارَةٌ إلى المُنافِقِينَ هو الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ، والمَرْوِيُّ عَنْ مُجاهِدٍ، وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظْمُ الكَرِيمُ، وبِهِ أقُولُ، ورُوِيَ عَنْ قَتادَةَ أنَّهم أهْلُ الكِتابِ مُطْلَقًا، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم أنَّهُمُ الكُفّارُ مُطْلَقًا، والكُلُّ عِنْدِي بَعِيدٌ، ولَعَلَّ مُرادَ مَن قالَ ذَلِكَ أنَّ الآيَةَ بِظاهِرِ مَفْهُومِها تُصَدِّقُ عَلى مَن أرادُوا لا أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، وقَرَأ يَحْيى بْنُ يَعْمَرَ، وابْنُ إسْحاقَ (اشْتَرَوِا الضَّلالَةَ) بِالكَسْرِ لِأنَّهُ الأصْلُ في التِقاءِ السّاكِنَيْنِ، وأبُو السِّماكِ: (اشْتَرَوْا) بِالفَتْحِ إتْباعًا لِما قَبْلُ، وأمالَ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ الهُدى، وهي لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، وعَدَمُ الإمالَةِ لُغَةُ قُرَيْشٍ. ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهم وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ عَطْفٌ عَلى الصِّلَةِ، وأتى بِالفاءِ لِلْإشارَةِ إلى تَعَقُّبِ نَفْيِ الرِّبْحِ لِلشِّراءِ، وأنَّهُ بِنَفْسِ ما وقَعَ الشِّراءُ تَحَقَّقَ عَدَمُ الرِّبْحِ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ الفاءَ دَخَلَتْ لِما في الكَلامِ مِن مَعْنى الجَزاءِ لِمَكانِ (p-162)المَوْصُولِ، فَهو عَلى حَدِّ: الَّذِي يَدْخُلُ الدّارَ فَلَهُ دِرْهَمٌ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّ المَوْصُولَ هُنا لَيْسَ بِمُبْتَدَإٍ كَما في المِثالِ بَلْ هو خَبَرٌ عَنْ أُولَئِكَ، وما بَعْدَ الفاءِ لَيْسَ بِخَبَرٍ، بَلْ هو مَعْطُوفٌ عَلى الصِّلَةِ، فَهو صِلَةٌ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً والَّذِينَ مُبْتَدَأً، و﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾ خَبَرٌ عَنِ الثّانِي، وهو وخَبَرُهُ خَبَرٌ عَنِ الأوَّلِ لِعَدَمِ الرّابِطِ في الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ، ولِتَحَقُّقِ مَعْنى الصِّلَةِ، وإذا كانَتِ الصِّلَةُ ماضِيَةً مَعْنًى لَمْ تَدْخُلِ الفاءُ في خَبَرِ مَوْصُولِها، ولا أنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مُبْتَدَأً والَّذِينَ بَدَلًا مِنهُ، والجُمْلَةُ خَبَرًا، لِأنَّ الفاءَ إنَّما تَدْخُلُ الخَبَرَ لِعُمُومِ المَوْصُولِ، والمُبْدَلُ مِنَ المَخْصُوصِ مَخْصُوصٌ، فالحَقُّ ما ذَكَرْناهُ، ومَعْنى الآيَةِ عَلَيْهِ لَيْسَ غَيْرُ، كَما في البَحْرِ، والتِّجارَةُ التَّصَرُّفُ في رَأْسِ المالِ طَلَبًا لِلرِّبْحِ، ولا يَكادُ يُوجَدُ تاءٌ أصْلِيَّةٌ بَعْدَها جِيمٌ إلّا نَتَجَ، وتَجِرَ ورَتَجَ، وأرْتَجَ، وأمّا تُجاهَ، ونَحْوُهُ فَأصْلُها الواوُ، والرِّبْحُ تَحْصِيلُ الزِّيادَةِ عَلى رَأْسِ المالِ، وشاعَ في الفَضْلِ عَلَيْهِ، والمُهْتَدِي اسْمُ فاعِلٍ مِنَ اهْتَدى مُطاوِعُ هَدى، ولا يَكُونُ افْتَعَلَ المُطاوِعُ إلّا مِنَ المُتَعَدِّي، وأمّا قَوْلُهُ: ؎حَتّى إذا اشْتالَ سُهَيْلٌ في السَّحَرِ كَشُعْلَةِ القابِسِ تَرْمِي بِالشَّرَرِ فافْتَعَلَ فِيهِ بِمَعْنى فَعَلَ، تَقُولُ: شالَ يَشُولُ، واشْتالَ يَشْتالُ بِمَعْنًى، وفي الآيَةِ تَرْشِيحٌ لِما سَمِعْتَ مِنَ المَجازِ فِيما قَبْلَها، والمَقْصِدُ الأصْلِيُّ تَصْوِيرُ خَسارَهم بِفَوْتِ الفَوائِدِ المُتَرَتِّبَةِ عَلى الهُدى الَّتِي هي كالرِّبْحِ، وإضاعَةِ الهُدى الَّذِي هو كَرَأْسِ المالِ بِصُورَةِ خَسارَةِ التّاجِرِ الفائِتِ لِلرِّبْحِ المُضَيِّعِ لِرَأْسِ المالِ، حَتّى كَأنَّهُ هو عَلى سَبِيلِ الِاسْتِعارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ مُبالَغَةٌ في تَخْسِيرِهِمْ، ووُقُوعِهِمْ في أشْنَعِ الخَسارِ الَّذِي يَتَحاشى عَنْهُ أُولُو الأبْصارِ، وإسْنادُ الرِّبْحِ إلى التِّجارَةِ، وهو لِأرْبابِها مَجازٌ لِلْمُلابَسَةِ، وكَنّى في مَقامِ الذَّمِّ بِنَفْيِ الرِّبْحِ عَنِ الخُسْرانِ لِأنَّ فَوْتَ الرِّبْحِ يَسْتَلْزِمُهُ في الجُمْلَةِ، ولا أقَلَّ مِن قَدْرِ ما يُصْرَفُ مِنَ القُوَّةِ، وفائِدَةُ الكِنايَةِ التَّصْرِيحُ بِانْتِفاءِ مَقْصِدِ التِّجارَةِ مَعَ حُصُولِ ضِدِّهِ بِخِلافِ ما لَوْ قِيلَ: خَسِرَتْ تِجارَتُهُمْ، فَلا يُتَوَهَّمُ إنَّ نَفْيَ أحَدِ الضِّدَّيْنِ إنَّما يُوجِبُ إثْباتَ الآخَرِ، إذا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُما واسِطَةٌ، وهي مَوْجُودَةٌ هُنا، فَإنَّ التّاجِرَ قَدْ لا يَرْبَحُ، ولا يَخْسَرُ، وقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ إنَّما يَكُونُ إذا كانَ المَحَلُّ قابِلًا لِلْكُلِّ، كَما في التِّجارَةِ الحَقِيقِيَّةِ، أمّا إذا كانَ لا يَقْبَلُ إلّا اثْنَيْنِ مِنها فَنَفْيُ أحَدِهِما يَكُونُ إثْباتًا لِلْآخَرِ، والرِّبْحُ والخُسْرانُ في الدِّينِ لا واسِطَةَ بَيْنَهُما، عَلى أنَّهُ قَدْ قامَتِ القَرِينَةُ هُنا عَلى الخُسْرانِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ وقَدْ جَعَلَهُ غَيْرُ واحِدٍ كِنايَةً عَنْ إضاعَةِ رَأْسِ المالِ، فَإنْ لَمْ يَهْتَدِ بِطُرُقِ التِّجارَةِ تَكْثُرُ الآفاتُ عَلى أمْوالِهِ، واخْتِيرَ طَرِيقُ الكِنايَةِ نِكايَةً لَهم بِتَجْهِيلِهِمْ، وتَسْفِيهِهِمْ، ويَحْتَمِلُ عَلى بُعْدٍ أنْ يَكُونَ النَّفْيُ هُنا مِن بابِ قَوْلِهِ: عَلى لاحِبٍ لا يُهْتَدى بِمَنارِهِ، أيْ لا مَنارَ فَيُهْتَدى بِهِ، فَكَأنَّهُ قالَ: لا تِجارَةَ، ولا رِبْحَ، والظّاهِرُ أنَّ ﴿وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ عَطْفٌ عَلى ”ما رَبِحَتْ“ لِلْقُرْبِ مَعَ التَّناسُبِ والتَّفَرُّعِ بِاعْتِبارِ المَعْنى الكِنائِيِّ، وبِتَقْدِيرِ المُتَعَلِّقِ لِطُرُقِ الهِدايَةِ، يَنْدَفِعُ تَوَهُّمُ أنَّ عَدَمَ الِاهْتِداءَ قَدْ فُهِمَ مِمّا قَبْلُ، فَيَكُونُ تَكْرارًا لِما مَضى، وهو إمّا مِن بابِ التَّكْمِيلِ، والِاحْتِراسِ كَقَوْلِهِ: ؎فَسَقى دِيارَكَ غَيْرَ مُفْسِدِها صَوْبُ ∗∗∗ الغَمامِ ودِيمَةٌ تَهْمِي أوْ مِن بابِ التَّنْعِيمِ كَقَوْلِهِ: ؎كَأنَّ عُيُونَ الوَحْشِ حَوْلَ خِبائِنا ∗∗∗ وأرْحُلِنا الجَزْعُ الَّذِي لَمْ يُثْقَبِ وقالَ الشَّرِيفُ قُدِّسَ سِرُّهُ: إنَّ العَطْفَ عَلى ﴿اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾ أوْلى، لِأنَّ عَطْفَهُ عَلى ”ما رَبِحَتْ“ يُوجِبُ تَرَتُّبَهُ عَلى ما قَبْلَهُ بِالفاءِ فَيَلْزَمُ تَأخُّرُهُ عَنْهُ، والأمْرُ بِالعَكْسِ، إلّا أنْ يُقالَ: تَرْتِيبُهُ بِاعْتِبارِ الحُكْمِ، والإخْبارِ، وفِيهِ أنَّهُ لَوْ كانَ مَعْطُوفًا عَلى (اشْتَرَوْا) كانَ الظّاهِرُ تَقْدِيمُهُ لِما في التَّأْخِيرِ مِنَ الإيهامِ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ الأحْسَنُ تَرْكَ العَطْفِ احْتِياطًا، كَما ذُكِرَ في نَحْوِ قَوْلِهِ: ؎(p-163)وتَظُنُّ سَلْمى أنَّنِي أبْغِي بِها ∗∗∗ بَدَلًا أُراها في الضَّلالِ تَهِيمُ عَلى أنَّ بَيْنَ مَعْنى اشْتَرَوْا إلَخْ، ومَعْنى وما كانُوا إلَخْ، تَقارُبًا يَمْنَعُ حُسْنَ العَطْفِ كَما لا يَخْفى عَلى مَن لَمْ يُضِعْ فِطْرَتَهُ السَّلِيمَةَ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ حالًا، ولا يَخْفى سُوءُ حالِهِ عَلى مَن حَسُنَ تَمْيِيزُهُ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ (تِجاراتُهُمْ) عَلى الجَمْعِ ووَجْهُهُ أنَّ لِكُلِّ واحِدٍ تِجارَةً، ووَجْهُ الإفْرادِ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ فَهْمُ المَعْنى مَعَ الإشارَةِ أنَّ تِجاراتِهِمْ، وإنْ تَعَدَّدَتْ فَهي مِن سُوقٍ واحِدَةٍ، وهم شُرَكاءُ فِيها،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب