الباحث القرآني

(p-٦٨٦)﴿بَدِيعُ السَّماواتِ والأرْضِ وإذا قَضى أمْرًا فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ هُوَ بِالرَّفْعِ خَبْرٌ لِمَحْذُوفٍ عَلى طَرِيقَةِ حَذْفِ المُسْنَدِ إلَيْهِ لِاتِّباعِ الِاسْتِعْمالِ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ”﴿صُمٌّ بُكْمٌ﴾ [البقرة: ١٨]“ وذَلِكَ مِن جِنْسِ ما يُسَمُّونَهُ بِالنَّعْتِ المَقْطُوعِ. والبَدِيعُ مُشْتَقٌّ مِنَ الإبْداعِ وهو الإنْشاءُ عَلى غَيْرِ مِثالٍ فَهو عِبارَةٌ عَنْ إنْشاءِ المُنْشَآتِ عَلى غَيْرِ مِثالٍ سابِقٍ وذَلِكَ هو خَلْقُ أُصُولِ الأنْواعِ وما يَتَوَلَّدُ مِن مُتَوَلِّداتِها، فَخَلْقُ السَّماواتِ إبْداعٌ وخَلْقُ الأرْضِ إبْداعٌ وخَلْقُ آدَمَ إبْداعٌ وخَلْقُ نِظامِ التَّناسُلِ إبْداعٌ، وهو فَعِيلٌ بِمَعْنى فاعِلٍ فَقِيلَ هو مُشْتَقٌّ مِن بَدَعَ المُجَرَّدِ مِثْلَ قَدَرَ إذا صَحَّ ووَرَدَ بَدَعَ بِمَعْنى قَدَرَ بِقِلَّةٍ أوْ هو مُشْتَقٌّ مِن أبْدَعَ ومَجِيءُ فَعِيلٍ مِن أفْعَلَ قَلِيلٌ، ومِنهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كْرِبَ: ؎أمِن رَيْحانَةَ الدّاعِي السَّمِيعُ يُؤَرِّقُنِي وأصْحابِي هُجُوعُ يُرِيدُ المَسْمَعَ. ومِنهُ أيْضًا قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ: ؎سَقاكَ بِها المَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيَّةً ∗∗∗ فَأنْهَلَكَ المَأْمُونُ مِنها وعَلَّكَ أيْ كَأْسًا مَرْوِيَّةً. فَيَكُونُ هُنا مِمّا جاءَ قَلِيلًا وقَدْ قَدَّمْنا الكَلامَ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ تَعالى إنَّكَ أنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ ويَأْتِي في قَوْلِهِ ”بَشِيرًا ونَذِيرًا“ وقَدْ قِيلَ في البَيْتِ تَأْوِيلاتٌ مُتَكَلَّفَةٌ، والحَقُّ أنَّهُ اسْتِعْمالٌ قَلِيلٌ حُفِظَ في ألْفاظٍ مِنَ الفَصِيحِ غَيْرِ قَلِيلَةٍ مِثْلِ النَّذِيرِ والبَشِيرِ إلّا أنَّ قِلَّتَهُ لا تُخْرِجُهُ عَنِ الفَصاحَةِ لِأنَّ شُهْرَتَهُ تَمْنَعُ مِن جَعْلِهِ غَرِيبًا. وأمّا كَوْنُهُ مُخالِفًا لِلْقِياسِ فَلا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِعْمالِهِ إلّا بِالنِّسْبَةِ إلى المُوَلَّدِ إذا أرادَ أنْ يَقِيسَ عَلَيْهِ في مادَّةٍ أُخْرى. (p-٦٨٧)وذَهَبَ صاحِبُ الكَشّافِ إلى أنَّ بَدِيعَ هُنا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مَأْخُوذٌ مِن بَدُعَ بِضَمِّ الدّالِّ أيْ كانَتِ البَداعَةُ صِفَةً ذاتِيَّةً لَهُ بِتَأْوِيلِ بَداعَةِ السَّماواتِ والأرْضِ الَّتِي هي مِن مَخْلُوقاتِهِ فَأُضِيفَتْ إلى فاعِلِها الحَقِيقِيِّ عَلى جَعْلِهِ مُشَبَّهًا بِالمَفْعُولِ بِهِ وأجْرِيَتِ الصِّفَةُ عَلى اسْمِ الجَلالَةِ لِيَكُونَ ضَمِيرُهُ فاعِلًا لَفْظًا عَلى نَحْوِ: زَيْدٌ حَسَنُ الوَجْهِ كَما يُقالُ: فُلانٌ بَدِيعُ الشِّعْرِ، أيْ بَدِيعَةٌ سَماواتُهُ. وأمّا بَيْتُ عَمْرٍو فَإنَّما عَيَّنُوهُ لِلتَّنْظِيرِ ولَمْ يُجَوِّزُوا فِيهِ احْتِمالَ أنْ يَكُونَ السَّمِيعُ بِمَعْنى المَسْمُوعِ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهُ لَمْ يَرِدْ سَمِيعٌ بِمَعْنى مَسْمُوعٍ مَعَ أنَّ فَعِيلًا بِمَعْنى مَفْعُولٍ غَيْرُ مُطَّرِدٍ. الثّانِي: أنَّ سَمِيعٌ وقَعَ وصْفًا لِلذّاتِ وهو الدّاعِي، وحُكْمُ سَمِعَ إذا دَخَلَتْ عَلى ما لا يَسْمَعُ أنْ تَصِيرَ مِن أخَوات ظَنَّ فَيَلْزَمُ مَجِيءُ مَفْعُولٍ ثانٍ بَعْدَ النّائِبِ المُسْتَتِرِ وهو مَفْقُودٌ. الثّالِثُ: أنَّ المَعْنى لَيْسَ عَلى وصْفِ الدّاعِي بِأنَّهُ مَسْمُوعٌ بَلْ عَلى وصْفِهِ بِأنَّهُ مُسْمِعٌ أيِ الدّاعِي القاصِدُ لِلْإسْماعِ المُعْلِنُ لِصَوْتِهِ وذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِأنَّهُ داعٍ في أمْرٍ مُهِمٍّ. ووَصْفُ اللَّهِ تَعالى بِبَدِيعِ السَّماواتِ والأرْضِ مُرادٌ بِهِ أنَّهُ بَدِيعُ السَّماواتِ والأرْضِ مِنَ المَخْلُوقاتِ وفي هَذا الوَصْفِ اسْتِدْلالٌ عَلى نَفْيِ بُنُوَّةِ مَن جَعَلُوهُ ابْنًا لِلَّهِ تَعالى لِأنَّهُ تَعالى لَمّا كانَ خالِقَ السَّماواتِ والأرْضِ وما فِيهِما. فَلا شَيْءَ مِن تِلْكَ المَوْجُوداتِ أهْلٌ لِأنْ يَكُونَ ولَدًا لَهُ، بَلْ جَمِيعُ ما بَيْنَهُما عَبِيدٌ لِلَّهِ تَعالى كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ بَلْ لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ ولِهَذا رُتِّبَ نَفْيُ الوَلَدِ عَلى كَوْنِهِ بَدِيعُ السَّماواتِ والأرْضِ في سُورَةِ الأنْعامِ بِقَوْلِهِ ﴿بَدِيعُ السَّماواتِ والأرْضِ أنّى يَكُونُ لَهُ ولَدٌ ولَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٠١] وقَوْلُهُ ﴿وإذا قَضى أمْرًا فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ إلَخْ كَشْفٌ لِشُبْهَةِ النَّصارى واسْتِدْلالٌ عَلى أنَّهُ لا يَتَّخِذُ ولَدًا بَلْ يُكَوِّنُ الكائِناتِ كُلَّها بِتَكْوِينٍ واحِدٍ وكُلُّها خاضِعَةٌ لِتَكْوِينِهِ وذَلِكَ أنّالنَّصارى تَوَهَّمُوا أنَّ مَجِيءَ المَسِيحِ مِن غَيْرِ أبٍ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ ابْنُ اللَّهِ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّ تَكْوِينَ أحْوالِ المَوْجُوداتِ مِن لا شَيْءَ أعْجَبُ مِن ذَلِكَ وأنَّ كُلَّ ذَلِكَ راجِعٌ إلى التَّكْوِينِ والتَّقْدِيرِ سَواءٌ في ذَلِكَ ما وُجِدَ بِواسِطَةٍ تامَّةٍ أوْ ناقِصَةٍ أوْ بِلا واسِطَةٍ قالَ تَعالى ﴿إنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٥٩] فَلَيْسَ تَخَلُّقُ عِيسى مِن أُمٍّ دُونَ أبٍ بِمُوجِبِ كَوْنِهِ ابْنَ اللَّهِ تَعالى. وكانَ في الآيَةِ تامَّةٌ لا تَطْلُبُ خَبَرًا أيْ يَقُولُ لَهُ: إيجَدْ فَيُوجَدُ والظّاهِرُ أنَّ القَوْلَ والمَقُولَ. والمُسَبَّبُ هُنا تَمْثِيلٌ لِسُرْعَةِ وُجُودِ الكائِناتِ عِنْدَ تَعَلُّقِ الإرادَةِ والقُدْرَةِ بِهِما بِأنْ شَبَّهَ فِعْلَ اللَّهِ (p-٦٨٨)تَعالى بِتَكْوِينِ شَيْءٍ وحُصُولِ المُكَوَّنِ عَقِبَ ذَلِكَ بِدُونِ مُهْلَةٍ بِتَوَجُّهِ الآمِرِ لِلْمَأْمُورِ بِكَلِمَةِ الأمْرِ وحُصُولِ امْتِثالِهِ عَقِبَ ذَلِكَ لِأنَّ تِلْكَ أقْرَبُ الحالاتِ المُتَعارَفَةِ الَّتِي يُمْكِنُ التَّقْرِيبُ بِها في الأُمُورِ الَّتِي لا تَتَّسِعُ اللُّغَةُ لِلتَّعْبِيرِ عَنْها وإلى نَحْوِ هَذا مالَ صاحِبُ الكَشّافِ ونَظَرَهُ بِقَوْلِ أبِي النَّجْمِ: ؎إذْ قالَتِ الأنْساعُ لِلْبَطْنِ الحَقِ ∗∗∗ قُدُمًا فَآضَتْ كالفَنِيقِ المُحْنَقِ والَّذِي يُعَيِّنُ كَوْنَ هَذا تَمْثِيلًا أنَّهُ لا يُتَصَوَّرُ خِطابُ مَن لَيْسَ بِمَوْجُودٍ بِأنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فَلَيْسَ هَذا التَّقْرِيرُ الصّادِرُ مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ مَبْنِيًّا عَلى مَنعِ المُعْتَزِلَةِ قِيامَ صِفَةِ الكَلامِ بِذاتِهِ تَعالى إذْ لَيْسَ في الآيَةِ ما يُلْجِئُهم إلى اعْتِبارِ قِيامِ صِفَةِ الكَلامِ إذْ كانَ يُمْكِنُهم تَأْوِيلُهُ بِما تَأوَّلُوا بِهِ آياتٍ كَثِيرَةً ولِذَلِكَ سَكَتَ عَنْهُ ابْنُ المُنِيرِ خِلافًا لِما يُوهِمُهُ كَلامُ ابْنِ عَطِيَّةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب