الباحث القرآني

﴿بَدِيعُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾: لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ مالِكٌ لِجَمِيعِ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ، وأنَّهم كُلٌّ قانِتُونَ لَهُ، وهُمُ المَظْرُوفُ لِلسَّماواتِ والأرْضِ، ذَكَرَ الظَّرْفَيْنِ وخَصَّهُما بِالبَداعَةِ، لِأنَّهُما أعْظَمُ ما نُشاهِدُهُ مِنَ المَخْلُوقاتِ. وارْتِفاعُ ”بَدِيعُ“ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وهو مِن بابِ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الفاعِلِ. فالمَجْرُورُ مُشَبَّهٌ بِالمَفْعُولِ، وأصْلُهُ الأوَّلُ بَدِيعُ سَماواتِهِ، ثُمَّ شَبَّهَ الوَصْفَ فَأضْمَرَ فِيهِ، فَنَصَبَ السَّماواتِ، ثُمَّ جَرَّ مَن نَصَبَ. وفِيهِ أيْضًا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى اللَّهِ تَعالى، ويَكُونُ المَعْنى في الأصْلِ أنَّهُ تَعالى بُدِعَتْ سَماواتُهُ، أيْ جاءَتْ في الخَلْقِ عَلى شَكْلٍ مُبْتَدَعٍ لَمْ يَسْبِقْ نَظِيرُهُ. وهَذا الوَجْهُ ابْتَدَأ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، إلّا أنَّهُ قالَ: وبَدِيعُ السَّماواتِ مِن إضافَةِ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ إلى فاعِلِها، وهَذا لَيْسَ عِنْدَنا. كَذَلِكَ بَلْ مِن إضافَةِ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ إلى مَنصُوبِها. والصِّفَةُ عِنْدَنا لا تَكُونُ مُشَبَّهَةً حَتّى تَنْصِبَ أوْ تَخْفِضَ، وأمّا إذا رَفَعَتْ ما بَعْدَها فَلَيْسَ - عِنْدَنا - صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ؛ لِأنَّ عَمَلَ الرَّفْعِ في الفاعِلِ يَسْتَوِي فِيهِ الصِّفاتُ المُتَعَدِّيَةُ وغَيْرُ المُتَعَدِّيَةِ. فَإذا قُلْنا: زَيْدٌ قائِمٌ أبُوهُ، فَقائِمٌ رافِعٌ لِلْأبِ عَلى حَدِّ رَفْعِ ضارِبٍ لَهُ. إذا قُلْتَ: زَيْدٌ ضارِبٌ أبُوهُ عَمْرًا، لا تَقُولُ: إنَّ قائِمًا هُنا مِن حَيْثُ عَمِلَ الرَّفْعَ شُبِّهَ بِضارِبٍ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَإضافَةُ اسْمِ الفاعِلِ إلى مَرْفُوعِهِ لا يَجُوزُ لِما تَقَرَّرَ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ، إلّا إنْ أخَذْنا كَلامَ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلى التَّجَوُّزِ فَيُمْكِنُ، ويَكُونُ المَعْنى مِن إضافَةِ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ إلى ما كانَ فاعِلًا بِها قَبْلَ أنْ يُشَبَّهَ. وحَكى الزَّمَخْشَرِيُّ وجْهًا ثانِيًا قالَ: وقِيلَ البَدِيعُ بِمَعْنى المُبْدِعِ، كَما أنَّ السَّمِيعَ في قَوْلِ عَمْرٍو: ؎أمِن رَيْحانَةَ الدّاعِي السَّمِيعُ بِمَعْنى المُسْمِعِ، وفِيهِ نَظَرٌ. انْتَهى كَلامُهُ. وهَذا الوَجْهُ لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَطِيَّةَ غَيْرَهُ، قالَ: وبَدِيعٌ مَصْرُوفٌ مِن مُبْدِعٍ، كَبَصِيرٍ مِن مُبْصِرٍ، ومِنهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: ؎أمِن رَيْحانَةَ الدّاعِي السَّمِيعُ ∗∗∗ يُؤَرِّقُنِي وأصْحابِي هُجُوعُ يُرِيدُ: المُسْمِعُ والمُبْدِعُ والمُنْشِئُ، ومِنهُ أصْحابُ البِدَعِ، ومِنهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ في صَلاةِ رَمَضانَ: نِعْمَتِ البِدْعَةُ هَذِهِ، انْتَهى. والنَّظَرُ الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ - واللَّهُ أعْلَمُ - أنَّ فَعِيلًا بِمَعْنى مُفْعِلٍ لا يَنْقاسُ مَعَ أنَّ بَيْتَ عَمْرٍو مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ. وعَلى هَذا الوَجْهِ يَكُونُ مِن بابِ إضافَةِ اسْمِ الفاعِلِ لِمَفْعُولِهِ. وقَرَأ المَنصُورُ: بَدِيعًا بِالنَّصْبِ عَلى المَدْحِ، وقُرِئَ بِالجَرِّ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ في لَهُ. * * * ﴿وإذا قَضى أمْرًا فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾: لَمّا ذَكَرَ ما دَلَّ عَلى الِاخْتِراعِ، ذَكَرَ ما يَدُلُّ عَلى طَواعِيَةِ المُخْتَرِعِ وسُرْعَةِ تَكْوِينِهِ. ومَعْنى قَضى هُنا: أرادَ، أيْ إذا أرادَ إنْشاءَ أمْرٍ واخْتِراعَهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَضى: مَعْناهُ قَدَّرَ، وقَدْ يَجِيءُ بِمَعْنى: أمْضى. ويَتَّجِهُ في هَذِهِ الآيَةِ المَعْنَيانِ. فَعَلى مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ: قَدَّرَ في الأزَلِ وأمْضى فِيهِ، وعَلى مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ: أمْضى عِنْدَ الخَلْقِ والإيجادِ. والأمْرُ: واحِدُ الأُمُورِ، ولَيْسَ هُنا مَصْدَرَ أمَرَ يَأْمُرُ. والمُعْتَقَدُ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ آمِرًا لِلْمَعْدُوماتِ بِشَرْطِ وُجُودِها، قادِرًا مَعَ تَأخُّرِ المَقْدُوراتِ، عالِمًا مَعَ تَأخُّرِ وُقُوعِ المَعْلُوماتِ. وكُلُّ ما في الآيَةِ مِمّا يَقْتَضِي الِاسْتِقْبالَ فَهو بِحَسَبِ المَأْمُوراتِ، إذِ المُحْدَثاتُ تَجِيءُ بَعْدَ أنْ لَمْ تَكُنْ، وكُلُّ ما اسْتَنَدَ إلى اللَّهِ مِن قُدْرَةٍ وعِلْمٍ فَهو قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ. انْتَهى ما نَقَلْناهُ هُنا مِن كَلامِهِ. وقالَ الَمَهْدَوِيُّ: ﴿وإذا قَضى أمْرًا﴾، أيْ أتْقَنَهُ وأحْكَمَهُ وفَرَغَ مِنهُ. ومَعْنى: ﴿فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ يَقُولُ مِن أجْلِهِ. وقِيلَ: قالَ لَهُ كُنْ، وهو مَعْدُومٌ؛ لِأنَّهُ بِمَنزِلَةِ المَوْجُودِ، إذْ هو عِنْدَهُ مَعْلُومٌ. قالَ الطَّبَرِيُّ: أمْرُهُ لِلشَّيْءِ بِكُنْ لا يَتَقَدَّمُ الوُجُودَ ولا يَتَأخَّرُ عَنْهُ، فَلا يَكُونُ الشَّيْءُ مَأْمُورًا بِالوُجُودِ إلّا وهو مَوْجُودٌ بِالأمْرِ، ولا مَوْجُودًا (p-٣٦٥)بِالأمْرِ إلّا وهو مَأْمُورٌ بِالوُجُودِ. قالَ: ونَظِيرُهُ قِيامُ الأمْواتِ مِن قُبُورِهِمْ لا يَتَقَدَّمُ دُعاءَ اللَّهِ ولا يَتَأخَّرُ عَنْهُ، كَما قالَ: ﴿ثُمَّ إذا دَعاكم دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إذا أنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ [الروم: ٢٥] . فالهاءُ في لَهُ تَعُودُ عَلى الأمْرِ، أوْ عَلى القَضاءِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَضى، أوْ عَلى المُرادِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الكَلامُ. انْتَهى ما نَقَلْناهُ مِن كِتابِهِ. وقالَ مَكِّيٌّ: مَعْنى الآيَةِ أنَّهُ عالِمٌ بِما سَيَكُونُ وما هو كائِنٌ، فَقَوْلُهُ: كُنْ، إنَّما هو لِلْمَوْجُودِ في عِلْمِهِ لِيُخْرِجَهُ إلى العِيانِ لَنا. انْتَهى كَلامُهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كُنْ فَيَكُونُ، مِن كانَ التّامَّةِ، أيِ احْدُثْ فَيَحْدُثُ، وهَذا مَجازٌ مِنَ الكَلامِ وتَمْثِيلٌ ولا قَوْلٌ، ثُمَّ كَما لا قَوْلَ في قَوْلِهِ: ؎إذْ قالَتِ الأنْساعُ لِلْبَطْنِ الحَقِ وإنَّما المَعْنى: ما قَضاهُ مِنَ الأُمُورِ وأرادَ كَوْنَهُ، فَإنَّما يَتَكَوَّنُ ويَدْخُلُ تَحْتَ الوُجُودِ مِن غَيْرِ امْتِناعٍ ولا تَوَقُّفٍ. كَما أنَّ المَأْمُورَ المُطِيعَ الَّذِي يُؤْمَرُ فَيَمْتَثِلُ، لا يَتَوَقَّفُ ولا يَمْتَنِعُ، ولا يَكُونُ مِنهُ الإباءُ. أكَّدَ بِهَذا اسْتِبْعادَ الوِلادَةِ؛ لِأنَّ مَن كانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنَ القُدْرَةِ، كانَتْ حالُهُ مُبايِنَةً لِأحْوالِ الأجْسامِ في تَوالُدِها. انْتَهى كَلامُهُ. وقالَ السَّجاوَنْدِيُّ: كُنْ عَلى التَّمْثِيلِ لِنَفاذِ الأمْرِ، قالَ: ؎فَقالَتْ لَهُ العَيْنانُ سَمْعًا وطاعَةً ∗∗∗ وإلّا فالمَعْدُومُ كَيْفَ يُخاطَبُ أوْ عَلامَةٌ لِلْمَلائِكَةِ بِحُدُوثِ المَوْجُودِ، أوْ عَلى تَقْدِيرِ ما تُصُوِّرَ كَوْنُهُ في عِلْمِهِ، أوْ مَخْصُوصٍ في تَحْوِيلِ المَوْجُودِ مِن حالٍ إلى حالٍ، ولَوْ كانَ كُنْ مَخْلُوقًا، لاحْتاجَ إلى أُخْرى ولا يَتَناهى، فَدَلَّ عَلى أنَّ القُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. انْتَهى كَلامُهُ. قالَ الَمَهْدَوِيُّ: وفي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ كَلامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ مَخْلُوقًا لَكانَ قائِلًا لَهُ: كُنْ، ولَكانَ قائِلًا: لِكُنْ كُنْ، حَتّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إلى ما لا يَتَناهى، وذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ مَعَ ما يُؤَدِّي إلَيْهِ ذَلِكَ مِن أنَّهُ لا يُوجَدُ مِنَ اللَّهِ فِعْلٌ ألْبَتَّةَ، إذْ لا بُدَّ أنْ يُوجَدَ قَبْلَهُ أفْعالٌ، هي أقاوِيلُ لا غايَةَ لَها، وذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ. ولا يَجُوزُ أنْ يُحْمَلَ عَلى المَجازِ، إذْ ذَلِكَ إنَّما يَكُونُ في الجَماداتِ، ولا يَكُونُ فِيمَن يَصِحُّ مِنهُ القَوْلُ إلّا بِدَلِيلٍ. ويُقَوِّي ذَلِكَ أنَّ المَصْدَرَ فِيهِ الَّذِي هو ”قَوْلُنا“ مِن قَوْلِهِ: ﴿إنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إذا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠]، وُكِّدَ بِمَصْدَرٍ آخَرَ، وهو أنْ نَقُولَ، وأهْلُ العَرَبِيَّةِ مُجْمِعُونَ، عَلى أنَّهم إذا أكَّدُوا الفِعْلَ بِالمَصْدَرِ كانَ حَقِيقَةً، ولِذَلِكَ جاءَ قَوْلُهُ: ﴿وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: ١٦٤] إذْ كانَ اللَّهُ تَعالى مُتَوَلِّيَ تَكْلِيمِهِ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ مَعْنى فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بِكَوْنِهِ. انْتَهى كَلامُ الَمَهْدَوِيِّ. وقالَ في المُنْتَخَبِ: كُنْ فَيَكُونُ لَيْسَ المُرادُ أنَّهُ تَعالى يَقُولُ كُنْ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ، فَإنَّ ذَلِكَ فاسِدٌ مِن وُجُوهٍ، فَلا بُدَّ مِن تَأْوِيلِهِ، وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: - وهو الأقْوى - أنَّ المُرادَ نَفاذُ سُرْعَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ في تَكْوِينِ الأشْياءِ، وإنَّما يَخْلُقُها لا لِفِكْرَةٍ، ونَظِيرُهُ: ﴿قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾ [فصلت: ١١] . الثّانِي: أنَّها عَلامَةٌ يَعْقِلُها المَلائِكَةُ، إذا سَمِعُوها عَلِمُوا أنَّهُ أحْدَثَ أمْرًا، قالَهُ أبُو الهُذَيْلِ. الثّالِثُ: أنَّهُ جاءَ لِلْمَوْجُودِينَ الَّذِينَ قالَ لَهم: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥]، ومَن جَرى مَجْراهم، وهو قَوْلُ الأصَمِّ. الرّابِعُ: أنَّهُ أمْرٌ لِلْأحْياءِ بِالمَوْتِ، ولِلْمَوْتى بِالحَياةِ، والكُلُّ ضَعِيفٌ، والقَوِيُّ هو الأوَّلُ. انْتَهى كَلامُهُ. هَذا ما نَقَلْناهُ مِن كَلامِ أهْلِ التَّفْسِيرِ في الآيَةِ. وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى إذا أرادَ إحْداثَ شَيْءٍ قالَ لَهُ: كُنْ، تُبَيِّنُهُ الآيَةُ الأُخْرى: ﴿إنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إذا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠]، وقَوْلُهُ: ﴿وما أمْرُنا إلّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ﴾ [القمر: ٥٠] . لَكِنَّ دَلِيلَ العَقْلِ صَدَّ عَنِ اعْتِقادِ مُخاطَبَةِ المَعْدُومِ، وصَدَّ عَنْ أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى مَحَلًّا لِلْحَوادِثِ؛ لِأنَّ لَفْظَةَ كُنْ مُحْدَثَةٌ، ومَن يَعْقِلْ مَدْلُولَ اللَّفْظِ وكَوْنَهُ يَسْبِقُ بَعْضُ حُرُوفِهِ بَعْضًا لَمْ يَدْخُلْهُ شَكٌّ في حُدُوثِهِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَلا خِطابَ ولا قَوْلَ لَفْظِيًّا، وإنَّما ذَلِكَ عِبارَةٌ عَنْ سُرْعَةِ الإيجادِ وعَدَمِ اعْتِياصِهِ، فَهو مِن مَجازِ التَّمْثِيلِ، وكَأنَّهُ قَدَّرَ أنَّ المَعْدُومَ مَوْجُودٌ يَقْبَلُ الأمْرَ ويَمْتَثِلُهُ بِسُرْعَةٍ، بِحَيْثُ لا يَتَأخَّرُ عَنِ امْتِثالِ ما أُمِرَ بِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: فَيَكُونُ بِالرَّفْعِ، ووُجِّهَ عَلى أنَّهُ عَلى الِاسْتِئْنافِ، أيْ فَهو يَكُونُ، وعُزِيَ إلى سِيبَوَيْهِ. (p-٣٦٦)وقالَ غَيْرُهُ: فَيَكُونُ عَطْفًا عَلى يَقُولُ، واخْتارَهُ الطَّبَرِيُّ وقَرَّرَهُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهو خَطَأٌ مِن جِهَةِ المَعْنى؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي أنَّ القَوْلَ مَعَ التَّكْوِينِ حادِثٌ، وقَدِ انْتَهى ما رَدَّهُ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ. ومَعْنى رَدِّهِ: أنَّ الأمْرَ عِنْدَهُ قَدْ تَمَّ، والتَّكْوِينَ حادِثٌ، وقَدْ نَسَقَ عَلَيْهِ بِالفاءِ، فَهو مَعَهُ، أيْ يَعْتَقِبُهُ، فَلا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لِأنَّ القَدِيمَ لا يَعْتَقِبُهُ الحادِثُ. وتَقْرِيرُ الطَّبَرِيِّ لَهُ هو ما تَقَدَّمَ في أوائِلِ الكَلامِ عَلى هَذِهِ المَسْألَةِ، مِن أنَّ الأمْرَ لا يَتَقَدَّمُ الوُجُودَ ولا يَتَأخَّرُ عَنْهُ. وما رَدَّهُ بِهِ ابْنُ عَطِيَّةَ لا يَتِمُّ إلّا بِأنْ تُحْمَلَ الآيَةُ عَلى أنَّ ثَمَّ قَوْلًا وأمْرًا قَدِيمًا. أمّا إذا كانَ ذَلِكَ عَلى جِهَةِ المَجازِ، ومِن بابِ التَّمْثِيلِ، فَيَجُوزُ أنْ يُعْطَفَ عَلى نَقُولُ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: ”فَيَكُونَ“ بِالنَّصْبِ، وفي آلِ عِمْرانَ: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ ونُعَلِّمُهُ، وفي النَّحْلِ، وفي مَرْيَمَ، وفي يس، وفي المُؤْمِنِ. ووافَقَهُ الكِسائِيُّ في النَّحْلِ ويس، ولَمْ يَخْتَلِفْ في ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٥٩] ﴿الحَقُّ﴾ [آل عمران: ٦٠] في آلِ عِمْرانَ. ﴿كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحَقُّ﴾ [الأنعام: ٧٣] في الأنْعامِ أنَّهُ بِالرَّفْعِ، ووَجْهُ النَّصْبِ أنَّهُ جَوابٌ عَلى لَفْظِ كُنْ؛ لِأنَّهُ جاءَ بِلَفْظِ الأمْرِ، فَشُبِّهَ بِالأمْرِ الحَقِيقِيِّ. ولا يَصِحُّ نَصْبُهُ عَلى جَوابِ الأمْرِ الحَقِيقِيِّ؛ لِأنَّ ذَلِكَ إنَّما يَكُونُ عَلى فِعْلَيْنِ يَنْتَظِمُ مِنهُما شَرْطٌ وجَزاءٌ نَحْوُهُ: ائْتِنِي فَأُكْرِمْكَ، إذِ المَعْنى: إنْ تَأْتِنِي أُكْرِمْكَ. وهُنا لا يَنْتَظِمُ ذَلِكَ، إذْ يَصِيرُ المَعْنى: إنْ يَكُنْ يَكُنْ، فَلا بُدَّ مِنِ اخْتِلافٍ بَيْنَ الشَّرْطِ والجَزاءِ، إمّا بِالنِّسْبَةِ إلى الفاعِلِ، وإمّا بِالنِّسْبَةِ إلى الفِعْلِ في نَفْسِهِ، أوْ في شَيْءٍ مِن مُتَعَلِّقاتِهِ. وحَكى ابْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ أحْمَدَ بْنِ مُوسى، في قِراءَةِ ابْنِ عامِرٍ: أنَّها لَحْنٌ، وهَذا قَوْلٌ خَطَأٌ؛ لِأنَّ هَذِهِ القِراءَةَ في السَّبْعَةِ، فَهي قِراءَةٌ مُتَواتِرَةٌ، ثُمَّ هي بَعْدُ قِراءَةُ ابْنِ عامِرٍ، وهو رَجُلٌ عَرَبِيٌّ، لَمْ يَكُنْ لِيَلْحَنَ. وقِراءَةُ الكِسائِيِّ في بَعْضِ المَواضِعِ، وهو إمامُ الكُوفِيِّينَ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ، فالقَوْلُ بِأنَّها لَحْنٌ مِن أقْبَحِ الخَطَأِ المُؤَثِّمِ الَّذِي يَجُرُّ قائِلَهُ إلى الكُفْرِ، إذْ هو طَعَنٌ عَلى ما عُلِمَ نَقْلُهُ بِالتَّواتُرِ مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب