الباحث القرآني

﴿بَدِيعُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ مُبْدِعُهُما، فَهو فَعِيلٌ مِن أفْعَلَ، وكانَ الأصْمَعِيُّ يُنْكِرُ فَعِيلًا بِمَعْنى مُفْعِلٍ، وقالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَدْ جاءَ كَثِيرًا نَحْوَ: مُسْخِنٍ، وسَخِينٍ، ومُقْعِدٍ، وقَعِيدٍ، ومُوصِي ووَصِيٍّ، ومُحْكِمٍ، وحَكِيمٍ، ومُبْرِمٍ، وبَرِيمٍ ومُونِقٍ، وأنِيقٍ، في أخَواتٍ لَهُ، ومِن ذَلِكَ السَّمِيعُ في بَيْتِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ السّابِقِ، والِاسْتِشْهادُ بِناءً عَلى الظّاهِرِ المُتَبادِرِ عَلى ما هو الألْيَقُ بِمَباحِثِ العَرَبِيَّةِ، فَلا يَرُدُّ ما قِيلَ في البَيْتِ، لِأنَّهُ عَلى خِلافِهِ، كَما لا يَخْفى عَلى المُنْصِفِ، وقِيلَ: هو مِن إضافَةِ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ إلى فاعِلِها، لِلتَّخْفِيفِ، أيْ بَدِيعُ سَماواتِهِ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ أنَّ الصِّفَةَ إذا أُضِيفَتْ إلى الفاعِلِ يَكُونُ فِيها ضَمِيرٌ يَعُودُ إلى المَوْصُوفِ، فَلا تَصِحُّ الإضافَةُ إلّا إذا صَحَّ اتِّصافُ المَوْصُوفِ بِها نَحْوَ: حَسَنُ الوَجْهِ، حَيْثُ يَصِحُّ اتِّصافُ الرَّجُلِ بِالحُسْنِ لِحُسْنِ وجْهِهِ، بِخِلافِ حَسَنُ الجارِيَةِ، وإنَّما صَحَّ: زَيْدٌ كَثِيرُ الإخْوانِ، لِاتِّصافِهِ بِأنَّهُ مُتَقَوٍّ بِهِمْ، وفِيما نَحْنُ فِيهِ، وإنِ امْتَنَعَ اتِّصافُهُ بِالصِّفَةِ المَذْكُورَةِ لَكِنْ يَصِحُّ اتِّصافُهُ بِما دَلَّتْ عَلَيْهِ، وهو كَوْنُهُ مُبْدِعًا لَهُما، وهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الأوْلى بَقاءَ المُبْدِعِ عَلى ظاهِرِهِ، وهو الَّذِي عَلَيْهِ أساطِينُ أهْلِ اللُّغَةِ، والإبْداعُ اخْتِراعُ الشَّيْءِ لا عَنْ مادَّةٍ، ولا في زَمانٍ، ويُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ في إيجادِهِ تَعالى لِلْمَبادِي كَما قالَهُ الرّاغِبُ، وهو غَيْرُ الصُّنْعِ، إذْ هو تَرْكِيبُ الصُّورَةِ بِالعُنْصُرِ، ويُسْتَعْمَلُ في إيجادِ الأجْسامِ وغَيْرِ التَّكْوِينِ، فَإنَّهُ ما يَكُونُ بِتَغَيُّرٍ، وفي زَمانٍ غالِبًا، وإذا أُرِيدَ مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ جَمِيعُ ما سِواهُ تَعالى مِنَ المُبْدَعاتِ والمَصْنُوعاتِ والمُكَوَّناتِ لِاحْتِوائِها عَلى عالَمِ المُلْكِ والمَلَكُوتِ فَبَعْدَ اعْتِبارِ التَّغْلِيبِ يَصِحُّ إطْلاقُ كُلٍّ مِنَ الثَّلاثَةِ، إلّا أنَّ لَفْظَ الإبْداعِ ألْيَقُ، لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ تَعالى، والقَوْلُ بِتَعَيُّنِ حَمْلِ الإبْداعِ عَلى التَّكْوِينِ مِن مادَّةٍ، أوْ أجْزاءٍ لِأنَّ إيجادَ السَّماواتِ مِن شَيْءٍ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: (p-368)﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ﴾ ناشِئٌ مِنَ الغَفْلَةِ عَمّا ذَكَرْنا، والآيَةُ حُجَّةٌ أُخْرى لِإبْطالِ تِلْكَ المَقالَةِ الشَّنْعاءِ، وتَقْرِيرُها أنَّهُ تَعالى مُبْدِعٌ لِكُلِّ ما سِواهُ، فاعِلٌ عَلى الإطْلاقِ، ولا شَيْءَ مِنَ الوالِدِ، كَذَلِكَ ضَرُورَةُ انْفِعالِهِ بِانْفِصالِ مادَّةِ الوَلَدِ عَنْهُ، فالله تَعالى لَيْسَ بِوالِدٍ، وقَرَأ المَنصُورُ (بَدِيعَ) بِالنَّصْبِ عَلى المَدْحِ، وقُرِئَ بِالجَرِّ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ في (لَهُ) عَلى رَأْيِ مَن يُجَوِّزُ ذَلِكَ، ﴿وإذا قَضى أمْرًا﴾ أيْ أرادَ شَيْئًا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما أمْرُهُ إذا أرادَ شَيْئًا﴾ وجاءَ القَضاءُ عَلى وُجُوهٍ تَرْجِعُ كُلُّها إلى إتْمامِ الشَّيْءِ قَوْلًا أوْ فِعْلًا، وإطْلاقُهُ عَلى الإرادَةِ مَجازٌ مِنَ اسْتِعْمالِ اللَّفْظِ المُسَبَّبِ في السَّبَبِ، فَإنَّ الإيجادَ الَّذِي هو إتْمامُ الشَّيْءِ مُسَبَّبٌ عَنْ تَعَلُّقِ الإرادَةِ، لِأنَّهُ يُوجِبُهُ، وساوى ابْنُ السَّيِّدِ بَيْنَهُ وبَيْنَ القَدَرِ، والمَشْهُورُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُما بِجَعْلِ القَدَرِ تَقْدِيرًا لِأُمُورٍ قَبْلَ أنْ تَقَعَ، والقَضاءُ إنْفاذُ ذَلِكَ القَدَرِ وخُرُوجُهُ مِنَ العَدَمِ إلى حَدِّ الفِعْلِ، وصَحَّحَ ذَلِكَ الجُمْهُورُ، لِأنَّهُ قَدْ جاءَ في الحَدِيثِ «أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَرَّ بِكَهْفٍ مائِلٍ لِلسُّقُوطِ، فَأسْرَعَ المَشْيَ حَتّى جاوَزَهُ، فَقِيلَ لَهُ: أتَفِرُّ مِن قَضاءِ اللَّهِ تَعالى؟ فَقالَ: (أفِرُّ مِن قَضائِهِ تَعالى إلى قَدَرِهِ)،» فَفَرَّقَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَيْنَ القَضاءِ والقَدَرِ. ﴿فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ الظّاهِرُ أنَّ الفِعْلَيْنِ مِن كانَ التّامَّةِ لِعَدَمِ ذِكْرِ الخَبَرِ، مَعَ أنَّها الأصْلُ، أيْ أحْدَثَ فَيَحْدُثُ، وهي تَدُلُّ عَلى مَعْنى النّاقِصَةِ، لِأنَّ الوُجُودَ المُطْلَقَ أعَمُّ مِن وُجُودِهِ في نَفْسِهِ، أوْ في غَيْرِهِ، والأمْرُ مَحْمُولٌ عَلى حَقِيقَتِهِ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ مُحَقِّقُو ساداتِنا الحَنَفِيَّةِ، واللَّهُ تَعالى قَدْ أجْرى سُنَّتَهُ في تَكْوِينِ الأشْياءِ أنْ يُكَوِّنَها بِهَذِهِ الكَلِمَةِ، وإنْ لَمْ يَمْتَنِعْ تَكْوِينُها بِغَيْرِها، والمُرادُ الكَلامُ الأزَلِيُّ، لِأنَّهُ يَسْتَحِيلُ قِيامُ اللَّفْظِ المُرَتَّبِ بِذاتِهِ تَعالى، ولِأنَّهُ حادِثٌ فَيَحْتاجُ إلى خِطابٍ آخَرَ، فَيَتَسَلْسَلُ، وتَأخُّرُهُ عَنِ الإرادَةِ، وتَقَدُّمُهُ عَلى وُجُودِ الكَوْنِ بِاعْتِبارِ التَّعَلُّقِ، ولَمّا لَمْ يَشْتَمِلْ خِطابُ التَّكْوِينِ عَلى الفَهْمِ، واشْتَمَلَ عَلى أعْظَمِ الفَوائِدِ، جازَ تَعَلُّقُهُ بِالمَعْدُومِ، وذَهَبَ المُعْتَزِلَةُ وكَثِيرٌ مِن أهْلِ السُّنَّةِ إلى أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ بِهِ حَقِيقَةَ الأمْرِ، والِامْتِثالَ، وإنَّما هو تَمْثِيلٌ لِحُصُولِ ما تَعَلَّقَ بِهِ الإرادَةُ بِلا مُهْلَةٍ بِطاعَةِ المَأْمُورِ المُطِيعِ بِلا تَوَقُّفٍ، فَهُناكَ اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ حَيْثُ شُبِّهَتْ هَيْئَةُ حُصُولِ المُرادِ بَعْدَ تَعَلُّقِ الإرادَةِ بِلا مُهْلَةٍ، وامْتِناعٍ بِطاعَةِ المَأْمُورِ المُطِيعِ عَقِيبَ أمْرِ المُطاعِ بِلا تَوَقُّفٍ وإباءٍ تَصْوِيرًا لِحالِ الغائِبِ بِصُورَةِ الشّاهِدِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ الكَلامُ المَوْضُوعِ لِلْمُشَبَّهِ في المُشَبَّهِ بِهِ مِن غَيْرِ اعْتِبارِ اسْتِعارَةٍ في مُفْرَداتِهِ، وكانَ أصْلُ الكَلامِ إذا قَضى أمْرًا فَيَحْصُلُ عَقِيبَهُ دَفْعَةٌ، فَكَأنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، ثُمَّ حُذِفَ المُشَبَّهُ، واسْتُعْمِلَ المُشَبَّهُ بِهِ مَقامَهُ، وبَعْضُهم يَجْعَلُ في الكَلامِ اسْتِعارَةً تَحْقِيقِيَّةً تَصْرِيحِيَّةً مَبْنِيَّةً عَلى تَشْبِيهِ حالٍ بَقالٍ، ولَعَلَّ الَّذِي دَعى هَؤُلاءِ إلى العُدُولِ عَنِ الظّاهِرِ زَعْمُ امْتِناعِهِ لِوُجُوهِ ذَكَرَها بَعْضُ أئِمَّتِهِمُ الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿كُنْ﴾ إمّا أنْ يَكُونَ قَدِيمًا أوْ مُحْدَثًا، لا جائِزَ أنْ يَكُونَ قَدِيمًا لِتَأخُّرِ النُّونِ ولِتَقَدُّمِ الكافِ، والمَسْبُوقُ مُحْدَثٌ لا مَحالَةَ، وكَذا المُتَقَدِّمُ عَلَيْهِ بِزَمانٍ مُقَدَّرٍ أيْضًا، ولِأنَّ (إذا) لِلِاسْتِقْبالِ، فالقَضاءُ مُحْدَثٌ (وكُنْ) مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ بِفاءِ التَّعْقِيبِ، والمُتَأخِّرُ عَنِ المُحْدَثِ مُحْدَثٌ، ولا جائِزَ أنْ يَكُونَ مُحْدَثًا، وإلّا لَدارَ، أوْ تَسَلْسَلَ، والثّانِي: إمّا أنْ يُخاطَبَ المَخْلُوقُ (بِكُنْ) قَبْلَ دُخُولِهِ في الوُجُودِ، وخِطابُ المَعْدُومِ سَفَهٌ، وإمّا بَعْدَ دُخُولِهِ، ولا فائِدَةَ فِيهِ. الثّالِثُ: المَخْلُوقُ قَدْ يَكُونُ جَمادًا وتَكْلِيفُهُ لا يَلِيقُ بِالحِكْمَةِ، الرّابِعُ إذا فَرَضْنا القادِرَ المُرِيدَ مُنْفَكًّا عَنْ قَوْلِهِ كُنْ، فَإنْ تَمَكَّنَ مِنَ الإيجادِ، فَلا حاجَةَ إلَيْها، وإنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ، فَلا يَكُونُ القادِرُ قادِرًا عَلى الفِعْلِ إلّا عِنْدَ تَكَلُّمِهِ بِكُنْ، فَيَلْزَمُ عَجْزُهُ بِالنَّظَرِ إلى ذاتِهِ، الخامِسُ أنّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ إنَّهُ لا تَأْثِيرَ لِهَذِهِ الكَلِمَةِ إذا تَكَلَّمْنا بِها، فَكَذا إذا تَكَلَّمَ بِها غَيْرُنا. (p-369)السّادِسُ المُؤَثِّرُ إمّا مَجْمُوعُ الكافِ والنُّونِ، ولا وُجُودَ لَهُما مَجْمُوعَيْنِ، أمْ أحَدُهُما، وهو خِلافُ المَفْرُوضِ انْتَهى، وأنْتَ إذا تَأمَّلْتَ ما ذَكَرْنا ظَهَرَ لَكَ انْدِفاعُ جَمِيعِ هَذِهِ الوُجُوهِ، ويا عَجَبًا لِمَن يَقُولُ بِالكَلامِ النَّفْسِيِّ ويَجْعَلُ هَذا دالًّا عَلَيْهِ، كَيْفَ تُرَوِّعُهُ هَذِهِ القَعاقِعُ أمْ كَيْفَ تَغُرُّهُ هَذِهِ الفَقاقِعُ !؟ نَعَمْ لَوْ ذَهَبَ ذاهِبٌ إلى هَذا القَوْلِ لِما فِيهِ مِن مَزِيدِ إثْباتِ العَظَمَةِ لِلَّهِ تَعالى، ما لَيْسَ في الأوَّلِ، لا لِأنَّ الأوَّلَ باطِلٌ في نَفْسِهِ كانَ حَرِيًّا بِالقَبُولِ، ولَعَلِّي أقُولُ بِهِ، والآيَةُ مَسُوقَةٌ لِبَيانِ كَيْفِيَّةِ الإبْداعِ، ومَعْطُوفَةٌ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَدِيعُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ مُشْتَمِلَةٌ عَلى تَقْرِيرِ مَعْنى الإبْداعِ، وفِيها تَلْوِيحٌ بِحُجَّةٍ أُخْرى لِإبْطالِ ذَلِكَ الهَذَيانِ، بِأنَّ اتِّخاذَ الوَلَدِ مِنَ الوالِدِ إنَّما يَكُونُ بَعْدَ قَصْدِهِ بِأطْوارٍ، ومُهْلَةٍ، لِما أنَّ ذَلِكَ لا يُمْكِنُ إلّا بَعْدَ انْفِصالِ مادَّتِهِ عَنْهُ، وصَيْرُورَتِهِ حَيَوانًا، وفِعْلُهُ تَعالى بَعْدَ إرادَتِهِ، أوْ تَعَلُّقُ قَوْلِهِ مُسْتَغْنٍ عَنِ المُهْلَةِ، فَلا يَكُونُ اتِّخاذُ الوَلَدِ فِعْلَهُ تَعالى، وكَأنَّ السَّبَبَ في هَذِهِ الضَّلالَةِ أنَّهُ ورَدَ إطْلاقُ الأبِ عَلى اللَّهِ تَعالى في الشَّرائِعِ المُتَقَدِّمَةِ بِاعْتِبارِ أنَّهُ السَّبَبُ الأوَّلُ، وكَثُرَ هَذا الإطْلاقُ في إنْجِيلِ يُوحَنّا، ثُمَّ ظَنَّتِ الجَهَلَةُ أنَّ المُرادَ بِهِ مَعْنى الوِلادَةِ، فاعْتَقَدُوا ذَلِكَ تَقْلِيدًا، وكَفَرُوا، ولَمْ يُجَوِّزِ العُلَماءُ اليَوْمَ إطْلاقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ تَعالى مَجازًا قَطْعًا لِمادَّةِ الفَسادِ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ (فَيَكُونَ) بِالنَّصْبِ، وقَدْ أشْكَلَتْ عَلى النُّحاةِ، حَتّى تَجَرَّأ أحْمَدُ بْنُ مُوسى فَحَكَمَ بِخَطَئِها، وهو سُوءُ أدَبٍ، بَلْ مِن أقْبَحِ الخَطَإ، ووَجْهُها أنْ تَكُونَ حِينَئِذٍ جَوابَ الأمْرِ حَمْلًا عَلى صُورَةِ اللَّفْظِ، وإنْ كانَ مَعْناهُ الخَبَرَ، إذْ لَيْسَ مَعْناهُ تَعْلِيقُ مَدْلُولِ مَدْخُولِ الفاءِ بِمَدْلُولِ صِيغَةِ الأمْرِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ سَبَبِيَّةُ ما قَبْلَ الفاءِ، لِما بَعْدَها، اللّازِمَةِ لِجَوابِ الأمْرِ بِالفاءِ، إذْ لا مَعْنى لِقَوْلِنا لِيَكُنْ مِنكَ كَوْنٌ فَكَوْنٌ، وقِيلَ: الدّاعِي إلى الحَمْلِ عَلى اللَّفْظِ أنَّ الأمْرَ لَيْسَ حَقِيقِيًّا، فَلا يُنْصَبُ جَوابُهُ، وإنَّ مِن شَرْطِ ذَلِكَ أنْ يَنْعَقِدَ مِنهُما شَرْطٌ وجَزاءٌ نَحْوَ: ائْتِنِي فَأُكْرِمْكَ، إذْ تَقْدِيرُهُ: إنْ تَأْتِنِي أُكْرِمْكَ، وهُنا يَصِحُّ أنْ يَكُنْ يَكُنْ، وإلّا لَزِمَ كَوْنُ الشَّيْءِ سَبَبًا لِنَفْسِهِ، وأُجِيبَ بِأنَّ المُرادَ إنْ يَكُنْ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى وإرادَتِهِ يَكُنْ في الخارِجِ، فَهو عَلى حَدِّ: «(مَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ)،» وبِأنَّ كَوْنَ الأمْرِ غَيْرِ الحَقِيقِيِّ يُنْصَبُ في جَوابِهِ مَمْنُوعٌ، فَإنْ كانَ بِلَفْظٍ فَظاهِرٌ، ولَكِنَّهُ مَجازٌ عَنْ سُرْعَةِ التَّكْوِينِ، وإنْ لَمْ يُعْتَبَرْ، فَهو مَجازٌ عَنْ إرادَةِ سُرْعَتِهِ، فَيُؤَوَّلُ إلى أنْ يُرادَ سُرْعَةُ وُجُودِ شَيْءٍ، يُوجَدُ في الحالِ، فَلا مَحْذُورَ لِلتَّغايُرِ الظّاهِر،ِ ولا يَخْفى ما فِيهِ، ووَجْهُ الرَّفْعِ الِاسْتِئْنافُ أيْ فَهو يَكُونُ، وهو مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وذَهَبَ الزَّجّاجُ إلى عَطْفِهِ عَلى (يَقُولُ)، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ، لا يَكُونُ يَكُونُ داخِلًا في المَقُولِ، ومِن تَتِمَّتِهِ لِيُوَجَّهَ العُدُولُ عَنِ الخِطابِ بِأنَّهُ مِن بابِ الِالتِفاتِ تَحْقِيرًا لِشَأْنِ الأمْرِ في سُهُولَةِ تَكَوُّنِهِ، ووَجَّهَهُ بِهِ غَيْرُ واحِدٍ عَلى تَقْدِيرِ الدُّخُولِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب