الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ﴿بديع السموات والأرض﴾ ، مبدعها. * * * وإنما هو"مُفْعِل" صرف إلى"فعيل" كما صرف"المؤلم" إلى"أليم"، و"المسمع" إلى"سميع". [[انظر ما سلف ١: ٢٥١، وهذا الجزء ٢: ١٤٠، ٣٧٧، ٥٠٦.]] ومعنى"المبدع": المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد. ولذلك سمي المبتدع في الدين"مبتدعا"، لإحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره. وكذلك كل محدث فعلا أو قولا لم يتقدمه فيه متقدم، فإن العرب تسميه مبتدعا. ومن ذلك قول أعشى بني ثعلبة، [[في المطبوعة: "الأعشى بن ثعلبة"، وهو خطأ محض.]] في مدح هَوْذَة بن علي الحنفي: يُرعي إلى قول سادات الرجال إذا ... أبدوا له الحزم، أو ما شاءه ابتدعا [[سلف تخريجه في هذا الجزء: ٢: ٤٦٤.]] أي يحدث ما شاء، ومنه قول رؤبة بن العجاج: فأيها الغاشي القِذَافَ الأتْيَعَا ... إن كنت لله التقي الأطوعا فليس وجه الحق أن تَبَدَّعا [[ديوانه: ٨٧، واللسان (بدع) من رجز طويل يفخر فيه برهطه بني تميم. ورواية الديوان"القذاف الأتبعا"، وليس لها معنى يدرك، ورواية الطبري لها مخرج في العربية. "الغاشي" من قولهم: غشي الشيء: أي قصده وباشره أو نزل به. والقذاف: سرعة السير والإبعاد فيه، أو كأنه أراد الناحية البعيدة، وإن لم أجده في كتب العربية. والأتيع: لم أجده في شيء، ولعله أخذه من قولهم: تتايع القوم في الأرض: إذا تباعدوا فيها على عمى وشدة. يقول: يا أيها الذاهب في المسالك البعيدة عن سنن الطريق- يعني به: من ابتدع من الأمور ما لا عهد للناس به، فسلك في ابتداعه المسالك الغريبة.]] يعني: أن تحدث في الدين ما لم يكن فيه. * * * فمعنى الكلام: سبحان الله أنى يكون له ولد وهو مالك ما في السموات والأرض، تشهد له جميعا بدلالتها عليه بالوحدانية، وتقر له بالطاعة، وهو بارئها وخالقها، وموجدها من غير أصل، ولا مثال احتذاها عليه؟ * * * وهذا إعلام من الله جل ثناؤه عباده، أن مما يشهد له بذلك: المسيح، الذي أضافوا إلى الله جل ثناؤه بنوته، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال، هو الذي ابتدع المسيح من غير والد بقدرته. [[نقل ابن كثير في تفسيره ١: ٢٩٤، عبارة الطبري ثم قال: "وهذا من ابن جرير رحمه الله كلام جيد، وعبارة صحيحة"، فاستحسن ابن كثير ما خف محمله، ولكن ما ثقل عليه آنفًا (انظر ص: ٥٢٢ تعليق: ١) كان مثارا لاعتراضه، مع أنه أعلى وأجود وأدق وألطف، وأصح عبارة، وأعمق غورا. وهذا عجب من العجب فيما ناله ابن جرير من قلة معرفة الناس بسلامة فهمه، ولطف إدراكه.]] وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ١٨٥٨- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: ﴿بديع السموات والأرض﴾ ، يقول: ابتدع خلقها، ولم يشركه في خلقها أحد. ١٨٥٩- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿بديع السموات والأرض﴾ ، يقول: ابتدعها فخلقها، ولم يُخلق قبلها شيء فيتمثل به. [[الأثر: ١٨٥٩- كان في المطبوعة: "ولم يخلق مثلها شيئا فتتمثل به"، وهو كلام فاسد. والصواب في الدر المنثور ١: ١١٠.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) ﴾ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ﴿وإذا قضى أمرا﴾ ، وإذا أحكم أمرا وحتمه. [[حتم الأمر: قضاه قضاء لازما.]] * * * وأصل كل"قضاء أمر" الإحكام، والفراغ منه. [[كان في المطبوعة: "قضاء الإحكام"، والصواب ما أثبت.]] ومن ذلك قيل للحاكم بين الناس:"القاضي" بينهم، لفصله القضاء بين الخصوم، وقطعه الحكم بينهم وفراغه منه به. [[في المطبوعة"فراغه" وزيادة"منه" واجبة.]] ومنه قيل للميت:"قد قضى"، يراد به قد فرغ من الدنيا، وفصل منها. ومنه قيل:"ما ينقضي عجبي من فلان"، يراد: ما ينقطع. ومنه قيل:"تقضي النهار"، إذا انصرم، ومنه قول الله عز وجل: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ﴾ [سورة الإسراء: ٢٣] أي: فصل الحكم فيه بين عباده، بأمره إياهم بذلك، وكذلك قوله: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ﴾ [سورة الإسراء: ٤] ، أي أعلمناهم بذلك وأخبرناهم به، ففرغنا إليهم منه. ومنه قول أبي ذؤيب: وعليهما مسرودتان، قضاهما ... داود أو صَنَعَ السوابغِ تُبَّعُ [[ديوانه: ١٩، والمفضليات: ٨٨١ وتأويل مشكل القرآن: ٣٤٢، وسيأتي في تفسير الطبري ١١: ٦٥، ٢٢: ٤٧ (بولاق) ، من قصيدته التي فاقت كل شعر، يرثى أولاده حين ماتوا بالطاعون. والضمير في قوله: "وعليهما" إلى بطلين وصفهما في شعره قبل، كل قد أعد عدته: فتناديا فتواقفت خيلاهما ... وكلاهما بطل اللقاء مخدع متحاميين المجد، كل واثق ... ببلائه، واليوم يوم أشنع وعليهما مسرودتان. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . "مسرودتان"، يعني درعين، من السرد، وهو الخرز أو النسج، قد نسجت حلقهما نسجا محكما. وداود: هو نبي الله ﷺ. وتبع: اسم لكل ملك من ملوك حمير (انظر ما سلف ٢: ٢٣٧) . قال ابن الأنباري: "سمع بأن الحديد سخر لداود عليه السلام، وسمع بالدروع التبعية، فظن أن تبعا عملها. وكان تبع أعظم من أن يصنع شيئا بيده، وإنما صنعت في عهده وفي ملكه". والصنع: الحاذق بعمله، والمرأة: صناع. ويروى: "وعليهما ماذيتان"، يعني درعين. والماذية: الدرع الخالصة الحديد، اللينة السهلة.]] ويروى: * وتعاورا مسرودتين قضاهما * [["تعاورا"، يعني - كما قالوا: تعاورا بالطعن، مسرودتين. من قولهم: تعاورنا فلانا بالضرب: إذا ضربته أنت ثم صاحبك. ورأيي أنها رواية مرفوضة، لا تساوق لشعر فإنه يقول بعده: وكلاهما في كفه يزنية ... فيها سنان، كالمنارة أصلع وكلاهما متوشح ذارونق ... عضبا، إذا مس الضريبة يقطع فتخالسا نفسيهما بنوافذ ... كنوافذ العُبُط التي لا ترفع فهو يصف، ثم يخبر أنهما قد تضاربا ضربا مهلكا، ولا معنى لتقديم الطعن ثم العود إلى صفة السلاح، إلا على بعد واستكراه.]] ويعني بقوله:"قضاهما"، أحكمهما. ومنه قول الآخر في مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [[هو جزء بن ضرار، أخو الشماخ بن ضرار. وقد اختلف في نسبتها. نسبت للشماخ، ولغيره، حتى نسبوها إلى الجن (انظر طبقات فحول الشعراء: ١١١، وحماسة أبي تمام ٣: ٦٥، وابن سعد ٣: ٢٤١، والأغاني ٩: ١٥٩، ونهج البلاغة ٣: ١٤٧، والبيان والتبيين ٣: ٣٦٤، وتأويل مشكل القرآن: ٣٤٣، وغيرها كثير) . هذا والصواب أن يقول: "في رثاء عمر بن الخطاب".]] قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بَوائِق في أكمامها لم تَفَتَّقِ [[البوائق جمع بائقة: وهي الداهية المنكرة التي فتحت ثغرة لا تسد. والأكمام جمع كم _ (بضم الكاف وكسرها) . وهو غلاف الثمرة قبل أن ينشق عنه. وقوله: "لم تفتق"، أصلها: تتفتق، حذف إحدى التاءين. وتفتق الكم عن زهرته: انشق وانفطر. ورحم الله عمر من إمام جمع أمور الناس حياته، حتى إذا قضى انتشرت أمورهم.]] ويروى:"بوائج". [[بوائج جمع بائجة: وهي الداهية التي تنفتق انفتاقا منكرا فتعم الناس، وتتابع عليهم شرورها من قولهم: باج البرق وانباج وتبوج: إذا لمع وتكشف وعم السحاب، وانتشر ضوؤه.]] * * * وأما قوله: ﴿فإنما يقول له كن فيكون﴾ ، فإنه يعني بذلك: وإذا أحكم أمرا فحتمه، فإنما يقول لذلك الأمر"كن"، فيكون ذلك الأمر على ما أمره الله أن يكون وأراده. * * * قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: ﴿وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون﴾ ؟ وفي أي حال يقول للأمر الذي يقضيه:"كن"؟ أفي حال عدمه، وتلك حال لا يجوز فيها أمره، [[في المطبوعة: "وتلك حال لا يجوز أمره"، بإسقاط"فيها"، وهي واجبة، واستظرتها من السياق ومن الشطر الآتي من السؤال.]] إذْ كان محالا أن يأمر إلا المأمور، فإذا لم يكن المأمور استحال الأمر،؛ وكما محالٌ الأمر من غير آمر، فكذلك محال الأمر من آمر إلا لمأمور. [[في المطبوعة: "كما محال الأمر"، بإسقاط الواو، وهي واجب إثباتها. ويعنى بقوله: "المأمور"، أي الموجود المأمور.]] أم يقول له ذلك في حال وجوده؟ = وتلك حال لا يجوز أمره فيها بالحدوث، لأنه حادث موجود، ولا يقال للموجود:"كن موجودا" إلا بغير معنى الأمر بحدوث عينه؟ قيل: قد تنازع المتأولون في معنى ذلك، ونحن مخبرون بما قالوا فيه، والعلل التي اعتل بها كل فريق منهم لقوله في ذلك: [[أحب أن أنبه قارئ هذا التفسير، أن يلقى باله إلى سياق أقوال القائلين، وكيف يخلص هو المعاني بعضها من بعض، وكيف يصيب الحجة بعقل ولطف إدراك، وصحة بيان عن معاني الكلام، وعن تأويل آيات كتاب ربنا سبحانه وتعالى ثم لينظر بعد ذلك أقوال المفسرين، وكيف تجنبوا الإيغال فيما توغل هو فيه، ثقة بعون الله له، ثم اتباعا لأهدى السبل في طلب المقاصد.]] * * * قال بعضهم: ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أمره المحتوم - على وجه القضاء لمن قضى عليه قضاء من خلقه الموجودين أنه إذا أمره بأمر نفذ فيه قضاؤه، ومضى فيه أمره، نظير أمره من أمر من بني إسرائيل بأن يكونوا قردة خاسئين، وهم موجودون في حال أمره إياهم بذلك، وحتم قضائه عليهم بما قضى فيهم، وكالذي خسف به وبداره الأرض، وما أشبه ذلك من أمره وقضائه فيمن كان موجودا من خلقه في حال أمره المحتوم عليه. فوجه قائلو هذا القول قوله: ﴿وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون﴾ ، إلى الخصوص دون العموم * * * وقال آخرون: بل الآية عام ظاهرها، فليس لأحد أن يحيلها إلى باطن بغير حجة يجب التسليم لها. [[انظر معنى: "الظاهر، والباطن" فيما سلف: ٢: ١٥ والمراجع.]] وقال: إن الله عالم بكل ما هو كائن قبل كونه. فلما كان ذلك كذلك، كانت الأشياء التي لم تكن وهي كائنة لعلمه بها قبل كونها، نظائر التي هي موجودة، فجاز أن يقول لها:"كوني"، ويأمرها بالخروج من حال العدم إلى حال الوجود، لتصور جميعها له، ولعلمه بها في حال العدم. * * * وقال آخرون: بل الآية وإن كان ظاهرها ظاهرَ عمومٍ، فتأويلها الخصوص، لأن الأمر غير جائز إلا لمأمور، على ما وصفت قبل. قالوا: وإذ كان ذلك كذلك، فالآية تأويلها: وإذا قضى أمرا من إحياء ميت، أو إماتة حي، ونحو ذلك، فإنما يقول لحي:"كن ميتا، أو لميت: كن حيا"، وما أشبه ذلك من الأمر. * * * وقال آخرون: بل ذلك من الله عز وجل خبر عن جميع ما ينشئه ويكونه، أنه إذا قضاه وخلقه وأنشأه، كان ووجد - ولا قول هنالك عند قائلي هذه المقالة، إلا وجود المخلوق وحدوث المقضي -. وقالوا: إنما قول الله عز وجل: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) ، نظير قول القائل:"قال فلان برأسه" و"قال بيده"، إذا حرك رأسه، أو أومأ بيده ولم يقل شيئا، وكما قال أبو النجم: وقالت للبَطْنِ الْحَقِ الحق ... قِدْمًا فآضت كالفَنِيقِ المحنِق [[لم أجد الرجز كاملا، والبيتان في اللسان (حنق) . يصف ناقة أنضاها السير. والأنساع جمع نسع (بكسر فسكون) ، وهو سير يضفر عريضا تشد به الرحال. ولحق البطن يلحق لحوقا: ضمر. أي قالت سيور التصدير لبطن الناقة: كن ضامرا. يعني بذلك ما أضناها من السير. وقدما: أي منذ القدم قال بشامة بن الغدير. لا تظلمونا، ولا تنسوا قرابتنا ... إطوا إلينا، فقدما تعطف الرحم ويعني أبو النجم: أن الضمور قد طال بها، فإن الأنساع قالت ذلك منذ زمن بعيد. وآض: صار ورجع. والفنيق الجمل الفحل المودع للفحلة، لا يركب ولا يهان لكرامته عليهم، فهو ضخم شديد التركيب. والمحنق: الضامر القليل اللحم. والإحناق: لزوق البطن بالصلب.]] ولا قول هنالك، وإنما عنى أن الظهر قد لحق بالبطن. وكما قال عمرو بن حممة الدوسي: [[يقال له أيضًا: كعب بن حممة، وهو أحد المعمرين، زعموا عاش أربعمائة سنة غير عشر سنين. وهو أحد حكام العرب، ويقال إنه هو"ذو الحلم" الذي قرعت له العصا، فضرب به المثل.]] فأصبحت مثل النسر طارت فراخه ... إذا رام تطيارا يقال له: قعِ [[كتاب المعمرين: ٢٢، وحماسة البحتري: ٢٠٥ ومعجم الشعراء: ٢٠٩، وهي أبيات.]] ولا قول هناك، وإنما معناه: إذا رام طيرانا وقع، وكما قال الآخر: امتلأ الحوض وقال: قطني ... سلا رويدا، قد ملأت بطني [[أمالي ابن الشجري ١: ٣١٣، ٢: ١٤٠، واللسان (قطط) . وفي المطبوعة: "سيلا"، والصواب في اللسا وأمالي ابن الشجري، والرواية المشهورة"مهلا رويدا". وقطني: حسبي وكفاني وللنحاة كلام كثير في"قطني". وقوله"سلا": كأنه من قولهم: انسل السيل: وذلك أول ما يبتدئ حين يسيل، قبل أن يشتد. كأنه يقول: صبا رويدا.]] * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في قوله: (وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) ، أن يقال: هو عام في كل ما قضاه الله وبرأه، لأن ظاهر ذلك ظاهر عموم، وغير جائزة إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان لما قد بينا في كتابنا:"كتاب البيان عن أصول الأحكام". وإذ كان ذلك كذلك، فأمر الله جل وعز لشيء إذا أراد تكوينه موجودا بقوله: ﴿كن﴾ في حال إرادته إياه مكوَّنا، لا يتقدم وجود الذي أراد إيجاده وتكوينه، [[في المطبوعة: "وجوده" الذي أراد إيجاده" وزيادة الهاء في"وجوده" لا مكان لها.]] إرادته إياه، ولا أمره بالكون والوجود، ولا يتأخر عنه. [[يقول: إن وجود الشيء، لا يتقدم إرادة الله وأمره، ولا يتأخر عنهما.]] فغير جائز أن يكون الشيء مأمورا بالوجود مرادا كذلك إلا وهو موجود، ولا أن يكون موجودا إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك. ونظير قوله: ﴿وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون﴾ قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ [سورة الروم: ٢٥] بأن خروج القوم من قبورهم لا يتقدم دعاء الله، ولا يتأخر عنه. * * * ويسألُ من زعم أن قوله: ﴿وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون﴾ خاص في التأويل اعتلالا بأن أمر غير الموجود غير جائز، [[يقول: "يسأل من زعم. . عن دعوة أهل القبور".]] عن دعوة أهل القبور قبل خروجهم من قبورهم، أم بعده؟ أم هي في خاص من الخلق؟ فلن يقول في ذلك قولا إلا أُلزم في الآخر مثله. ويسألُ الذين زعموا أن معنى قوله جل ثناؤه: ﴿فإنما يقول له كن فيكون﴾ ، نظير قول القائل:"قال فلان برأسه أو بيده"، إذا حركه وأومأ، ونظير قول الشاعر: [[هو المثقب العبدي.]] تقول إذا درأت لها وضيني: ... أهذا دينه أبدا وديني [[المفضليات: ٥٨٦، والكامل ١: ١٩٣ وطبقات فحول الشعراء: ٢٣١، وسيأتي في تفسيره ٤: ١١٢ (بولاق) من قصيدة جيدة، يقول قبله في ناقته: إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين ودرأ الوضين لناقته: بسطه على الأرض، ثم أبركها عليه ليشد عليها رحلها. والوضين: حزام عريض من جلد منسوج يشد به رحل البعير. والدين: الدأب والعادة.]] وما أشبه ذلك-: فإنهم لا صواب اللغة أصابوا، ولا كتاب الله، وما دلت على صحته الأدلة اتبعوا - فيقال لقائلي ذلك: إن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه إذا قضى أمرا قال له:"كن"، أفتنكرون أن يكون قائلا ذلك؟ فإن أنكروه كذبوا بالقرآن، وخرجوا من الملة. وإن قالوا: بل نقر به، ولكنا نزعم أن ذلك نظير قول القائل:"قال الحائط فمال" ولا قول هنالك، وإنما ذلك خبر عن ميل الحائط. قيل لهم: أفتجيزون للمخبر عن الحائط بالميل أن يقول: إنما قول الحائط إذا أراد أن يميل أن يقول هكذا فيميل؟ فإن أجازوا ذلك خرجوا من معروف كلام العرب، وخالفوا منطقها وما يعرف في لسانها. وإن قالوا: ذلك غير جائز. قيل لهم: إن الله تعالى ذكره أخبرهم عن نفسه أن قوله للشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون، فأعلم عباده قوله الذي يكون به الشيء ووصفه ووكده. وذلك عندكم غير جائز في العبارة عما لا كلام له ولا بيان في مثل قول القائل:"قال الحائط فمال"، فكيف لم يعلموا بذلك فرق ما بين معنى قول الله: ﴿وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون﴾ ، وقول القائل:"قال الحائط فمال"؟ وللبيان عن فساد هذه المقالة موضع غير هذا نأتي فيه على القول بما فيه الكفاية إن شاء الله. * * * وإذا كان الأمر في قوله جل ثناؤه: ﴿وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون﴾ ، هو ما وصفنا من أن حال أمره الشيء بالوجود حال وجود المأمور بالوجود، فبَيِّنٌ بذلك أن الذي هو أولى بقوله: ﴿فيكون﴾ [[في المطبوعة: "فتبين"، والصواب ما أثبت.]] الرفع على العطف على قوله [[في المطبوعة: "فيكون على العطف" سقط من الناسخ قوله: الرفع".]] ﴿يقول﴾ لأن"القول" و"الكون" حالهما واحد. وهو نظير قول القائل:"تاب فلان فاهتدى"، و"اهتدى فلان فتاب"، لأنه لا يكون تائبا إلا وهو مهتد، ولا مهتديا إلا وهو تائب. فكذلك لا يمكن أن يكون الله آمرا شيئا بالوجود إلا وهو موجود، ولا موجودا إلا وهو آمره بالوجود. ولذلك استجاز من استجاز نصب"فيكون" من قرأ: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠] ، بالمعنى الذي وصفنا على معنى: أن نقول فيكونَ. وأما رفع من رفع ذلك، [[وهذه هي قراءة مصحفنا اليوم.]] فإنه رأى أن الخبر قد تم عند قوله: ﴿إذا أردناه أن نقول له كن﴾ . إذ كان معلوما أن الله إذا حتم قضاءه على شيء كان المحتوم عليه موجودا، ثم ابتدأ بقوله: فيكون، كما قال جل ثناؤه: ﴿لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ﴾ ، [سورة الحج: ٥] وكما قال ابن أحمر: يعالج عاقرا أعيت عليه ... ليُلْقِحَها فيَنْتِجُها حُوارا [[المعاني الكبير: ٨٤٦، ١١٣٤، وسيبويه ١: ٣٤١، من أبيات يذكر صديقا كان له، يقول: أرانا لا يزال لنا حميم ... كداء البطن سِلا أو صُفارا يعالج عاقرا أعيت عليه ... ليلقحها، فينتجها حوارا ويزعم أنه ناز علينا ... بشرته فتاركنا تبارا جعل هذا الصديق كداء البطن لا يدري من أين يهج ولا كيف يتأتى له. وهو يعالج من الشر ما لا يقدر عليه، فكأنه يطلب الولد من عاقر. جعل ذلك مثلا. والحوار: ولد البقرة. والشرة: حدة الشر، والتبار: الهلاك.]] يريد: فإذا هو يَنتجها حُوارا. * * * فمعنى الآية إذًا: وقالوا اتخذ الله ولدا، سبحانه أن يكون له ولد! بل هو مالك السموات والأرض وما فيهما، كل ذلك مقر له بالعبودية بدلالته على وحدانيته. وأنى يكون له ولد، وهو الذي ابتدع السموات والأرض من غير أصل، كالذي ابتدع المسيح من غير والد بمقدرته وسلطانه، الذي لا يتعذر عليه به شيء أراده! بل إنما يقول له إذا قضاه فأراد تكوينه:"كن"، فيكون موجودا كما أراده وشاءه. فكذلك كان ابتداعه المسيح وإنشاؤه، إذْ أراد خلقه من غير والد.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب