الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية، أي: خالقها وموجدها [[في (ش): (خالقهما وموجدهما).]] لا على مثالٍ تقدّم [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 199، "تفسير الثعلبي" 1/ 1141.]]، وهو عند الأكثرين فعيل بمعنى مُفعلٍ، كأليم ووجيع وسميع في قوله: أَمِنْ ريحَانة الداعي السميعُ [[عجز البيت: يؤرقني وأصحابي هجوع وهو لعمرو بن معد يكرب، وقد تقدم البيت.]] أي: المسمع. فالبديع: الذي يُبْدِعُ الأشياءَ، أي: يحدثها مما لم يكن. ابن السكيت قال: البدعة: كل محدثة، وسقاء بديع: أي: جديد [[نقله عنه في "تهذيب اللغة" 1/ 293، "لسان العرب" 1/ 230 (بدع).]]. وقال أبو إسحاق: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ منشئُهما [[في "معاني القرآن": يعني أنشأهما.]] على غير حذاء ولا مثال، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل: أبدعت؛ ولهذا قيل لمن خالف السنة [[في "معاني القرآن" للزجاج: السنة والإجماع.]]: مبتدع؛ لأنه أحدث في الإسلام [[في "معاني القرآن" للزجاج: لأنه يأتي في دين الإسلام.]] ما لم يسبقه إليه السلف [[في "معاني القرآن" للزجاج: بما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون.]] [[من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 199 وقد نقله بحروفه من "تهذيب اللغة" 1/ 293 ولذلك اختلفت العبارات مادة (بدع).]]. قال الأزهري: قول الله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ بمعنى مبدعهما، إلا أن بديعًا من بَدَعَ لا من أَبْدَع، وأَبْدَع أكثر في الكلام من بَدَع، ولو استُعْمِل بَدَع لم يكن خطأ، فبديع: فعيل بمعنى فاعل، مثل: قدير بمعنى قادر، وهو [[في "تهذيب اللغة": وهو صفة من صفات الله.]] من صفات الله؛ لأنه بدأ الخلق على ما أراد على غير مثالٍ تقدمه [[ذكره في "تهذيب اللغة" 1/ 293، ونقله في "اللسان" 1/ 230 (بدع).]]. وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ أي: قدره وأراد خلقه [["تفسير الثعلبي" 1/ 1141.]]. قال أبو إسحاق في قوله: ﴿وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾ [الأنعام: 8]: قضى في اللغة على وجوه، كلها يرجع إلى معنى انقطاع الشيء وتمامه، ومنه قول الله تعالى: ﴿قَضَى أَجَلًا﴾ [الأنعام: 2]. معناه: ثم حتم بذلك [[في "معاني القرآن": بعد ذلك.]] وأتمه، ومنه: الأمر، وهو قوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23]، معناه: أمر، إلا أنه أمرٌ قاطع حتم. ومنه الإعلام، وهو قوله: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الإسراء: 4]، أي: أعلمناهم إعلامًا قاطعًا، ومنه: القضاء الفصل فى الحكم، وهو قوله: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 14] [[وردت الآية في نسخ "البسيط" كلها، وفي "معاني القرآن" للزجاج ناقصة هكذا، (ولولا أجل مسمى لقضي بينهم).]] أي: قطع بينهم في الحكم، قال: ومن ذلك قضى فلان دينه، تأويله: أنه قطع ما لغريمه عليه، وأداه إليه، وقطع ما بينه وبينه. وكل ما أحكم فقد قُضِيَ. تقول: قد قضيت هذا الثوب، وقد قضيت هذه الدار، إذا عملتها وأحكمت عملها، تقول: قد قضيت هذا الثوب، وقد قضيت هذه الدار، إذا عملتها وأحكمت عملها، وقال أبو ذؤيب [[هو: خويلد بن خالد بن محرث أبو ذؤيب الهذيلي، تقدمت ترجمته.]]: وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهما ... داودُ أو صنعَ السوابغَ تُبّعُ [[البيت لأبي ذؤيب، في "ديوانه": 19، "شرح أشعار الهذليين" 1/ 39، "مجاز القرآن" 1/ 52 "تأويل مشكل القرآن" ص 441، "تفسير الطبري" 1/ 509 "تفسير الثعلبي" 1/ 1141، "لسان العرب" 6/ 3662 مادة (قضض)، 6/ 3665 مادة (قضى)، 4/ 2508 مادة (صنع). وتفسير "القرطبي" 2/ 87 "الدر المصون" 1/ 353. والبيت من قصيدته التي يرثي فيها أولاده، ومسرودتان يعني: درعين، من السرد، وهو الخرز أو النسج وقضاهما أي: أحكمهما. وداود هو النبي المعروف ﷺ، والصَّنَع الحاذق بالعمل، والصَّنَع هاهنا: تبع، يقال: رجلٌ صَنَعٌ، وامرأة صَنَاع. سمع بأن داود-عليه السلام- كان سخر له الحديد فكان يصنع ما أراد، وسمع بأن تبعًا ملك اليمن عملهما، فقال: عملهما تبع، وظن أنه عملهما، وإنما أمر بها أن تعمل، وكان تبع أعظم شأنًا من أن يصنع شيئًا بيده ينظر: "شرح أشعار الهذليين" 1/ 39.]] [[بتصرف يسير من "معاني القرآن" للزجاج 2/ 230.]] ومنه قول الله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [فصلت: 12]، أي: خَلَقَهن وعملهن وصنعهن. وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، القول هاهنا عند كثيرٍ من النحويين لا يكونُ المراد به النطق، قالوا: لأن المعدوم الذي ليس بكائن لا يخاطَبُ، وتأويله: إذا قضى أمرًا فإنما يكوِّنُه فيكونُ، والقولُ قد يَرِدُ ولا يرادُ به النطقُ والكلام، كما قال: امتلأ الحوضُ وقال قَطْني [[عجز البيت: مهلا رويدًا قد ملأت بطني وهذا البيت لم يعرف قائله، والبيت في "تفسير الطبري" 1/ 510، و"معاني القرآن" للزجاج 1/ 36، و"الأمالي الشجرية"1/ 313، و"المقاصد النحوية" 1/ 36، و"الخصائص" 1/ 23، ومعنى قطني: أي: حسبي. وروي: سلَّا رويدًا.]] [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 199.]] وكقول أبي النجم [[هو الفضل بن قدامة، تقدم 2/ 10.]]: يَقُلْنَ للرائد: أعشبت، انزل [[سبق تخريجه تحت الآية رقم 93.]] والذبّانُ لا قولَ لها، وقال آخرون: إن ما قدّر الله وجوده وعلم فهو كالموجود [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 199 ففيه: قال بعض أهل اللغة (إنما يقول له كن فيكون) يقول له وإن لم يكن حاضرًا (كن)، لأن ما هو معلوم عنده بمنزلة الحاضر، وينظر: "البحر المحيط" 1/ 364.]]. قال أبو بكر بن الأنباري: يحتمل أن تكون اللام في (له) لام أجْل، والتأويل: ﴿وَإِذَا قَضَى أَمْرًا﴾ فإنما يقول من أجْل إرادته: كن، فيكون، كقوله: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ﴾ [آل عمران: 193] أي: من أجله [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 199.]]، وكقوله: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: 8]، معناه: إنه من أجل حبّ المال لبخيل. قال: ولا يعجبني أن يُلغى القول، ويبطل معناه؛ لأنا لا نجعل حرفًا من كتاب الله مُطَّرَحًا إذا وجدنا له من وجه من الوجوه معنى. فإن قيل: كيف قال (كن) للشيء الذي يكونه، وذلك الشيء لا يكون نفسه حتى يقال له: كن؟ قلنا: على مذهب النحويين هذا لا يلزم؛ لأن التقدير عندهم فإنما يكوِّنه فيكون، ولفظ الأمر هاهنا المراد منه الخبر، ونذكره فيما بعد. وأما من جعل هذا أمرًا حقيقيًّا فإنه يقول هذا من الأمر الحتم الذي لا انفكاكَ للمأمور منه، ولا قدرة له على دفعه والانصراف عنه، ومشهورٌ في كلام العرب أن يرى الرجلُ منهم الرجلَ فيقول له: كن أبا فلان، أي: أنت أبو فلان. فكذلك قوله: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ معناه: كن بتكويننا إياك، فالمأمور بهذا لا قدرة له على دفعِه، ولا صنع له فيه، كما أن الذي يقال له: كن أبا فلان، لا صنع له في ذلك بفعل ولا عزم ولا غير ذلك مما يكون من الفاعلين [[ينظر تفصيل المسألة في: "تفسير الطبري" 1/ 508 - 511، "البحر المحيط" 1/ 364 - 366 وقد رجح الطبري في "تفسيره" أن الأمر هنا عام في كل ماقضاه الله وبرأه مما هو موجود، فيقال له: كن قال: فغير جائز أن يكون الشيء مأمورًا بالوجود مرادًا كذلك إلا وهو موجود، ولا أن يكون موجوداً إلا وهو مأمور بالوجود مراد كذلك.]]. وقوله تعالى: ﴿فَيَكُونُ﴾ قال الفراء [["معاني القرآن" للفراء 1/ 74.]]: والكسائي [["معاني القرآن" للفراء 1/ 75.]] وأبو إسحاق [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 199.]]: رفعه من وجهين: أحدهما: العطف على (يقول)، ومثله ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ﴾ [[وهذا الذي اختاره الطبري في "تفسيره" 1/ 511.]] [إبراهيم: 44]. الثاني: أن يكون رفعه على الاستئناف، المعنى: فهو يكون؛ لأنَّ الكلامَ تمَّ عند قوله: (كن) ثم قال: فسيكون [[في (م): (فيكون).]] ما أراد الله. قال الفرَّاءُ: وإنه لأحبُّ الوجهين إلي [["معاني القرآن" للفراء 1/ 75.]]، وقرأ ابن عامر وحده (فيكونَ) بنصب النون [[ينظر كتاب: "السبعة" 168، "الحجة" 2/ 203.]]. قال أبو علي [[في "الحجة" للفراء السبعة 2/ 203.]]: قوله: (كُنْ) وإن كان على لفظ الأمر فليس بأمر، ولكنَّ المرادَ به الخبرُ، كأنَّ التقديرَ: يُكَوَّن [[في (ش): (فكون).]] فيكون، وقد يَرِدُ لفظ الأمر والمرادُ منه الخبر، كقولهم: أكرمْ بزيدٍ، تأويلُه: ما أكرمَ زيدًا [[في الأصل: زيد، والمثبت من "الحجة".]]، والجار والمجرور في موضع رفع بالفعل. وفي التنزيل: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾ [مريم: 75] فالتقدير: مدَّه الرحمن. وإذا لم يكن قوله: ﴿كُنْ﴾ خبرًا في المعنى وإن [[في (م): (وإذا).]] كان على لفظ الأمر لم يَجُزْ أن ينصبَ الفعلُ بعد الفاء بأنه [[في (ش): (لأنه).]] جواب. ويدل على امتناع النصب في قوله: ﴿فَيَكوُنُ﴾ أن الجواب بالفاء مضارع للجزاء، يدلُّ على ذلك أنه يؤولُ في المعنى إليه. ألا ترى أن قولك: اذهب فأعطيَكَ، معناه إن تذهب أعطيتُك [[من قوله: معناه .. ساقطة من (ش).]] ولا يجوز: اذهب فتذهب؛ لأن المعنى يصير: إن ذهبتَ ذهبتَ، وهذا كلامٌ لا يفيد كما يفيد إذا اختلف الفاعلان والفعلان، نحو: قُمْ فأُعطيَك؛ لأنَّ المعنى: إن قُمتَ أعطيتُك، ولو جعلتَ الفاعل في الفعل الثاني فاعِل الفعل الأول، فقلت: قُم فتقومَ، أو أعطِني فتعطيني، على قياس قراءة ابن عامر، لكان المعنى: إن قمت تقم، وإن تُعطِني تعطِني، وهذا كلامٌ في قلةِ الفائدة على ما تراه. فأمَّا مَنِ احتج له فإنه يقول: اللفظ لما كان على لفظ الأمر وإن لم يكن المعنى عليه حملته على صورة اللفظ. وقد حمل أبو الحسن نحو قوله: ﴿قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [إبراهيم: 31]، ونحوه من الآي على أنه أجري مجرى جواب الأمر، وإن لم يكن جوابًا له في الحقيقة. وقد يكونُ اللفظُ على شيء والمعنى على غيره، ألا ترى أنهم قالوا: ما أنت وزيد [[في " الحجة": وزيدًا.]]، والمعنى: لِمَ تؤذيه، وليس ذلك في اللفظ. قال: ومن رفع فإنه عطف على قوله: ﴿كُنْ﴾ لأن معناه: يكوّنه فيكون، وهذا أولى من حمله على (يقول) [[في (ش): (على ما يقول).]]؛ لأنه لا يطرد في سورة آل عمران في قوله: ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59]، لأن قال ماضي، ويكون مضارع، فلا يحسن عطفه عليه لاختلافهما، قال: ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف، كأنه قال: فهو يكون [[إلى هنا انتهى كلام أبي علي الفارسي 1/ 208 بتصرف واختصار.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب