الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا أحَسَّ عِيسى مِنهُمُ الكُفْرَ قالَ مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ قالَ الحَوارِيُّونَ نَحْنُ أنْصارُ اللَّهِ آمَنّا بِاللَّهِ واشْهَدْ بِأنّا مُسْلِمُونَ﴾ ﴿رَبَّنا آمَنّا بِما أنْزَلْتَ واتَّبَعْنا الرَّسُولَ فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ﴾ ﴿ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى بِشارَةَ مَرْيَمَ بِوَلَدٍ مِثْلِ عِيسى، واسْتَقْصى في بَيانِ صِفاتِهِ، وشَرْحِ مُعْجِزاتِهِ وتَرَكَ (p-٥٤)هاهُنا قِصَّةَ وِلادَتِهِ، وقَدْ ذَكَرَها في سُورَةِ مَرْيَمَ عَلى الِاسْتِقْصاءِ، شَرَعَ في بَيانِ أنَّ عِيسى لَمّا شَرَحَ لَهم تِلْكَ المُعْجِزاتِ، وأظْهَرَ لَهم تِلْكَ الدَّلائِلَ فَهم بِماذا عامَلُوهُ فَقالَ تَعالى: ﴿فَلَمّا أحَسَّ عِيسى مِنهُمُ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: الإحْساسُ عِبارَةٌ عَنْ وِجْدانِ الشَّيْءِ بِالحاسَّةِ وهاهُنا وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ يُجْرى اللَّفْظُ عَلى ظاهِرِهِ، وهو أنَّهم تَكَلَّمُوا بِالكُفْرِ، فَأحَسَّ ذَلِكَ بِأُذُنِهِ.
والثّانِي: أنْ نَحْمِلَهُ عَلى التَّأْوِيلِ، وهو أنَّ المُرادَ أنَّهُ عَرَفَ مِنهم إصْرارَهم عَلى الكُفْرِ، وعَزْمَهم عَلى قَتْلِهِ، ولَمّا كانَ ذَلِكَ العِلْمُ عِلْمًا لا شُبْهَةَ فِيهِ، مِثْلَ العِلْمِ الحاصِلِ مِنَ الحَواسِّ، لا جَرَمَ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ العِلْمِ بِالإحْساسِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في السَّبَبِ الَّذِي بِهِ ظَهَرَ كُفْرُهم عَلى وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: قالَ السُّدِّيُّ: إنَّهُ تَعالى لَمّا بَعَثَهُ رَسُولًا إلى بَنِي إسْرائِيلَ جاءَهم ودَعاهم إلى دِينِ اللَّهِ فَتَمَرَّدُوا وعَصَوْا فَخافَهم واخْتَفى عَنْهم، وكانَ أمْرُ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - في قَوْمِهِ كَأمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ وهو بِمَكَّةَ فَكانَ مُسْتَضْعَفًا، وكانَ يَخْتَفِي مِن بَنِي إسْرائِيلَ كَما اخْتَفى النَّبِيُّ ﷺ في الغارِ، وفي مَنازِلِ مَن آمَنَ بِهِ لَمّا أرادُوا قَتْلَهُ، ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ خَرَجَ مَعَ أُمِّهِ يَسِيحانِ في الأرْضِ، فاتُّفِقَ أنَّهُ نَزَلَ في قَرْيَةٍ عَلى رَجُلٍ فَأحْسَنَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ضِيافَتَهُ وكانَ في تِلْكَ المَدِينَةِ مَلِكٌ جَبّارٌ فَجاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَوْمًا حَزِينًا، فَسَألَهُ عِيسى عَنِ السَّبَبِ فَقالَ: مَلِكُ هَذِهِ المَدِينَةِ رَجُلٌ جَبّارٌ ومِن عادَتِهِ أنَّهُ جَعَلَ عَلى كُلِّ رَجُلٍ مِنّا يَوْمًا يُطْعِمُهُ ويَسْقِيهِ هو وجُنُودَهُ، وهَذا اليَوْمُ نَوْبَتِي والأمْرُ مُتَعَذِّرٌ عَلَيَّ، فَلَمّا سَمِعَتْ مَرْيَمُ عَلَيْها السَّلامُ ذَلِكَ، قالَتْ: يا بُنَيَّ ادْعُ اللَّهَ لِيَكْفِيَ ذَلِكَ، فَقالَ: يا أُمّاهُ إنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ كانَ شَرًّا، فَقالَتْ: قَدْ أحْسَنَ وأكْرَمَ ولا بُدَّ مِن إكْرامِهِ، فَقالَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -: إذا قَرُبَ مَجِيءُ المَلِكِ فامْلَأْ قُدُورَكَ وخَوابِيَكَ ماءً ثُمَّ أعْلِمْنِي، فَلَمّا فَعَلَ ذَلِكَ دَعا اللَّهَ تَعالى فَتَحَوَّلَ ما في القُدُورِ طَبِيخًا، وما في الخَوابِي خَمْرًا، فَلَمّا جاءَهُ المَلِكُ أكَلَ وشَرِبَ وسَألَهُ مِن أيْنَ هَذا الخَمْرُ ؟ فَتَعَلَّلَ الرَّجُلُ في الجَوابِ فَلَمْ يَزَلِ المَلِكُ يُطالِبُهُ بِذَلِكَ حَتّى أخْبَرَهُ بِالواقِعَةِ فَقالَ: إنَّ مَن دَعا اللَّهَ حَتّى جَعَلَ الماءَ خَمْرًا إذا دَعا أنْ يُحْيِيَ اللَّهُ تَعالى ولَدِي لا بُدَّ وأنْ يُجابَ، وكانَ ابْنُهُ قَدْ ماتَ قَبْلَ ذَلِكَ بِأيّامٍ، فَدَعا عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وطَلَبَ مِنهُ ذَلِكَ، فَقالَ عِيسى: لا تَفْعَلْ، فَإنَّهُ إنْ عاشَ كانَ شَرًّا، فَقالَ: ما أُبالِي ما كانَ إذا رَأيْتُهُ، وإنْ أحْيَيْتَهُ تَرَكْتُكَ عَلى ما تَفْعَلُ، فَدَعا اللَّهَ عِيسى، فَعاشَ الغُلامُ، فَلَمّا رَآهُ أهْلُ مَمْلَكَتِهِ قَدْ عاشَ تَبادَرُوا بِالسِّلاحِ واقْتَتَلُوا، وصارَ أمْرُ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَشْهُورًا في الخَلْقِ، وقَصَدَ اليَهُودُ قَتْلَهُ، وأظْهَرُوا الطَّعْنَ فِيهِ والكُفْرَ بِهِ.
والقَوْلُ الثّانِي: إنَّ اليَهُودَ كانُوا عارِفِينَ بِأنَّهُ هو المَسِيحُ المُبَشَّرُ بِهِ في التَّوْراةِ، وأنَّهُ يَنْسَخُ دِينَهم، فَكانُوا مِن أوَّلِ الأمْرِ طاعِنِينَ فِيهِ، طالِبِينَ قَتْلَهُ، فَلَمّا أظْهَرَ الدَّعْوَةَ اشْتَدَّ غَضَبُهم، وأخَذُوا في إيذائِهِ وإيحاشِهِ وطَلَبُوا قَتْلَهُ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: إنَّ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ظَنَّ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ دَعاهم إلى الإيمانِ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وأنَّ دَعْوَتَهُ لا تَنْجَعُ فِيهِمْ فَأحَبَّ أنْ يَمْتَحِنَهم لِيَتَحَقَّقَ ما ظَنَّهُ بِهِمْ فَقالَ لَهم: ﴿مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ﴾ فَما أجابَهُ إلّا الحَوارِيُّونَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أحَسَّ بِأنَّ مَن سِوى الحَوارِيِّينَ كافِرُونَ مُصِرُّونَ عَلى إنْكارِ دِينِهِ وطَلَبِ قَتْلِهِ.
* * *
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ:
(p-٥٥)المَسْألَةُ الأُولى: في الآيَةِ أقْوالٌ:
الأوَّلُ: أنَّ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا دَعا بَنِي إسْرائِيلَ إلى الدِّينِ، وتَمَرَّدُوا عَلَيْهِ فَرَّ مِنهم وأخَذَ يَسِيحُ في الأرْضِ فَمَرَّ بِجَماعَةٍ مِن صَيّادِي السَّمَكِ، وكانَ فِيهِمْ شَمْعُونُ ويَعْقُوبُ ويُوحَنّا ابْنا زَيْدِي وهم مِن جُمْلَةِ الحَوارِيِّينَ الِاثْنَيْ عَشَرَ فَقالَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ -: الآنَ تَصِيدُ السَّمَكَ، فَإنْ تَبِعْتَنِي صِرْتَ بِحَيْثُ تَصِيدُ النّاسُ لِحَياةِ الأبَدِ، فَطَلَبُوا مِنهُ المُعْجِزَةَ، وكانَ شَمْعُونُ قَدْ رَمى شَبَكَتَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ في الماءِ فَما اصْطادَ شَيْئًا فَأمَرَهُ عِيسى بِإلْقاءِ شَبَكَتِهِ في الماءِ مَرَّةً أُخْرى، فاجْتَمَعَ في تِلْكَ الشَّبَكَةِ مِنَ السَّمَكِ ما كادَتْ تَتَمَزَّقُ مِنهُ، واسْتَعانُوا بِأهْلِ سَفِينَةٍ أُخْرى، ومَلَأُوا السَّفِينَتَيْنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ آمَنُوا بِعِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - .
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ﴾ إنَّما كانَ في آخِرِ أمْرِهِ حِينَ اجْتَمَعَ اليَهُودُ عَلَيْهِ طَلَبًا لِقَتْلِهِ، ثُمَّ هاهُنا احْتِمالاتٌ.
الأوَّلُ: أنَّ اليَهُودَ لَمّا طَلَبُوهُ لِلْقَتْلِ وكانَ هو في الهَرَبِ عَنْهم قالَ لِأُولَئِكَ الِاثْنَيْ عَشَرَ مِنَ الحَوارِيِّينَ: أيُّكم يُحِبُّ أنْ يَكُونَ رَفِيقِي في الجَنَّةِ عَلى أنْ يُلْقى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلَ مَكانِي ؟ .
فَأجابَهُ إلى ذَلِكَ بَعْضُهم وفِيما تَذْكُرُهُ النَّصارى في إنْجِيلِهِمْ: أنَّ اليَهُودَ لَمّا أخَذُوا عِيسى سَلَّ شَمْعُونُ سَيْفَهُ فَضَرَبَ بِهِ عَبْدًا كانَ فِيهِمْ لِرَجُلٍ مِنَ الأحْبارِ عَظِيمٍ فَرَمى بِأُذُنِهِ، فَقالَ لَهُ عِيسى: حَسْبُكَ ثُمَّ أخَذَ أُذُنَ العَبْدِ فَرَدَّها إلى مَوْضِعِها، فَصارَتْ كَما كانَتْ، والحاصِلُ أنَّ الغَرَضَ مِن طَلَبِ النُّصْرَةِ إقْدامُهم عَلى دَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُ.
والِاحْتِمالُ الثّانِي: أنَّهُ دَعاهم إلى القِتالِ مَعَ القَوْمِ لِقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةٍ أُخْرى: ﴿فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ وكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأيَّدْنا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأصْبَحُوا ظاهِرِينَ﴾ [الصف: ١٤] .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: (إلى اللَّهِ) فِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: التَّقْدِيرُ: مَن أنْصارِي حالَ ذَهابِي إلى اللَّهِ أوْ حالَ التِجائِي إلى اللَّهِ.
والثّانِي: التَّقْدِيرُ: مَن أنْصارِي إلى أنْ أُبَيِّنَ أمْرَ اللَّهِ تَعالى، وإلى أنْ أُظْهِرَ دِينَهُ ويَكُونُ ”إلى“ هاهُنا غايَةً كَأنَّهُ أرادَ مَن يَثْبُتُ عَلى نُصْرَتِي إلى أنْ تَتِمَّ دَعْوَتِي، ويَظْهَرَ أمْرُ اللَّهِ تَعالى.
الثّالِثُ: قالَ الأكْثَرُونَ مِن أهْلِ اللُّغَةِ ”إلى“ هاهُنا بِمَعْنى ”مَعَ“ قالَ تَعالى: ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَهم إلى أمْوالِكُمْ﴾ [النساء: ٢] أيْ مَعَها، وقالَ ﷺ: ”«الذَّوْدُ إلى الذَّوْدِ إبِلٌ» “ أيْ مَعَ الذَّوْدِ.
قالَ الزَّجّاجُ: كَلِمَةُ ”إلى“ لَيْسَتْ بِمَعْنى ”مَعَ“ فَإنَّكَ لَوْ قُلْتَ ذَهَبَ زَيْدٌ إلى عَمْرٍو لَمْ يَجُزْ أنْ تَقُولَ: ذَهَبَ زَيْدٌ مَعَ عَمْرٍو؛ لِأنَّ ”إلى“ تُفِيدُ الغايَةَ و”مَعَ“ تُفِيدُ ضَمَّ الشَّيْءِ إلى الشَّيْءِ، بَلِ المُرادُ مِن قَوْلِنا: إنَّ ”إلى“ هاهُنا بِمَعْنى ”مَعَ“ هو أنَّهُ يُفِيدُ فائِدَتَها مِن حَيْثُ إنَّ المُرادَ مَن يُضِيفُ نُصْرَتَهُ إلى نُصْرَةِ اللَّهِ إيّايَ، وكَذَلِكَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَهم إلى أمْوالِكُمْ﴾ [النساء: ٢] أيْ لا تَأْكُلُوا أمْوالَهم مَضْمُومَةً إلى أمْوالِكم، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ”«الذَّوْدُ إلى الذَّوْدِ إبِلٌ» “ مَعْناهُ: الذَّوْدُ مَضْمُومًا إلى الذَّوْدِ إبِلٌ.
والرّابِعُ: أنْ يَكُونَ المَعْنى مَن أنْصارِي فِيما يَكُونُ قُرْبَةً إلى اللَّهِ ووَسِيلَةً إلَيْهِ، وفي الحَدِيثِ «أنَّهُ ﷺ كانَ يَقُولُ إذا ضَحّى ”اللَّهُمَّ مِنكَ وإلَيْكَ“» أيْ تَقَرُّبًا إلَيْكَ، ويَقُولَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ عِنْدَ دُعائِهِ إيّاهُ ”إلَيَّ“ أيِ انْضَمَّ إلَيَّ، فَكَذا هاهُنا المَعْنى مَن أنْصارِي فِيما يَكُونُ قُرْبَةً إلى اللَّهِ تَعالى.
الخامِسُ: أنْ يَكُونَ ”إلى“ بِمَعْنى اللّامِ كَأنَّهُ قالَ: مَن أنْصارِي لِلَّهِ. نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكائِكم مَن يَهْدِي إلى الحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ [يونس: ٣٥] .
والسّادِسُ: تَقْدِيرُ الآيَةِ: مَن أنْصارِي في سَبِيلِ اللَّهِ؛ و”إلى“ بِمَعْنى ”فِي“ جائِزٌ، وهَذا قَوْلُ الحَسَنِ.
* * *
(p-٥٦)أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ الحَوارِيُّونَ نَحْنُ أنْصارُ اللَّهِ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرُوا في لَفْظِ ”الحَوارِيِّ“ وُجُوهًا:
الأوَّلُ: أنَّ الحَوارِيَّ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِخاصَّةِ الرَّجُلِ، وخالِصَتِهِ، ومِنهُ يُقالُ لِلدَّقِيقِ حُوّارى، لِأنَّهُ هو الخالِصُ مِنهُ، «وقالَ ﷺ لِلزُّبَيْرِ: ”إنَّهُ ابْنُ عَمَّتِي، وحَوارِيَّ مِن أُمَّتِي“» والحَوارِيّاتُ مِنَ النِّساءِ النَّقِيّاتُ الألْوانِ والجُلُودِ، فَعَلى هَذا الحَوارِيُّونَ هم صَفْوَةُ الأنْبِياءِ الَّذِينَ خَلَصُوا وأخْلَصُوا في التَّصْدِيقِ بِهِمْ وفي نُصْرَتِهِمْ.
القَوْلُ الثّانِي: الحَوارِيُّ أصْلُهُ مِنَ الحَوَرِ، وهو شِدَّةُ البَياضِ، ومِنهُ قِيلَ لِلدَّقِيقِ حُوّارى، ومِنهُ الأحْوَرُ، والحَوَرُ نَقاءُ بَياضِ العَيْنِ، وحَوَّرْتُ الثِّيابَ: بَيَّضْتُها، وعَلى هَذا القَوْلِ اخْتَلَفُوا في أنَّ أُولَئِكَ لِمَ سُمُّوا بِهَذا الِاسْمِ ؟ فَقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لِبَياضِ ثِيابِهِمْ، وقِيلَ كانُوا قَصّارِينَ، يُبَيِّضُونَ الثِّيابَ، وقِيلَ لِأنَّ قُلُوبَهم كانَتْ نَقِيَّةً طاهِرَةً مِن كُلِّ نِفاقٍ ورِيبَةٍ فَسُمُّوا بِذَلِكَ مَدْحًا لَهم، وإشارَةً إلى نَقاءِ قُلُوبِهِمْ، كالثَّوْبِ الأبْيَضِ، وهَذا كَما يُقالُ فُلانٌ نَقِيُّ الجَيْبِ، طاهِرُ الذَّيْلِ، إذا كانَ بَعِيدًا عَنِ الأفْعالِ الذَّمِيمَةِ، وفُلانٌ دَنِسُ الثِّيابِ: إذا كانَ مُقْدِمًا عَلى ما لا يَنْبَغِي.
القَوْلُ الثّالِثُ: قالَ الضَّحّاكُ: مَرَّ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِقَوْمٍ مِنَ الَّذِينَ كانُوا يَغْسِلُونَ الثِّيابَ، فَدَعاهم إلى الإيمانِ فَآمَنُوا، والَّذِي يَغْسِلُ الثِّيابَ يُسَمّى بِلُغَةِ النَّبْطِ هَوارِيَّ، وهو القَصّارُ، فَعُرِّبَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فَصارَتْ حَوارِيَّ، وقالَ مُقاتِلُ بْنُ سُلَيْمانَ: الحَوارِيُّونَ: هُمُ القَصّارُونَ، وإذا عَرَفْتَ أصْلَ هَذا اللَّفْظِ فَقَدْ صارَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمالِ دَلِيلًا عَلى خَواصِّ الرَّجُلِ وبِطانَتِهِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّ هَؤُلاءِ الحَوارِيِّينَ مَن كانُوا ؟ .
فالقَوْلُ الأوَّلُ: إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَرَّ بِهِمْ وهم يَصْطادُونَ السَّمَكَ فَقالَ لَهم: ”تَعالَوْا نَصْطادُ النّاسَ“ قالُوا: مَن أنْتَ ؟ قالَ: ”أنا عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ، عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ“ فَطَلَبُوا مِنهُ المُعْجِزَ عَلى ما قالَ فَلَمّا أظْهَرَ المُعْجِزَ آمَنُوا بِهِ، فَهُمُ الحَوارِيُّونَ.
القَوْلُ الثّانِي: قالُوا: سَلَّمَتْهُ أُمُّهُ إلى صَبّاغٍ، فَكانَ إذا أرادَ أنْ يُعَلِّمَهُ شَيْئًا كانَ هو أعْلَمَ بِهِ مِنهُ وأرادَ الصَّبّاغُ أنْ يَغِيبَ لِبَعْضِ مُهِمّاتِهِ، فَقالَ لَهُ: هاهُنا ثِيابٌ مُخْتَلِفَةٌ، وقَدْ عَلَّمْتُ عَلى كُلِّ واحِدٍ عَلامَةً مُعَيَّنَةً، فاصْبُغْها بِتِلْكَ الألْوانِ، بِحَيْثُ يَتِمُّ المَقْصُودُ عِنْدَ رُجُوعِي، ثُمَّ غابَ فَطَبَخَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - جُبًّا واحِدًا، وجَعَلَ الجَمِيعَ فِيهِ وقالَ: ”كُونِي بِإذْنِ اللَّهِ كَما أُرِيدُ“ فَرَجَعَ الصَّبّاغُ فَأخْبَرَهُ بِما فَعَلَ فَقالَ: قَدْ أفْسَدْتَ عَلَيَّ الثِّيابَ، قالَ: ”قُمْ فانْظُرْ“ فَكانَ يُخْرِجُ ثَوْبًا أحْمَرَ، وثَوْبًا أخْضَرَ، وثَوْبًا أصْفَرَ كَما كانَ يُرِيدُ، إلى أنْ أخْرَجَ الجَمِيعَ عَلى الألْوانِ الَّتِي أرادَها، فَتَعَجَّبَ الحاضِرُونَ مِنهُ وآمَنُوا بِهِ فَهُمُ الحَوارِيُّونَ.
القَوْلُ الثّالِثُ: كانُوا الحَوارِيُّونَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا اتَّبَعُوا عِيسى -عَلَيْهِ السَّلامُ -، وكانُوا إذا قالُوا: يا رُوحَ اللَّهِ جُعْنا، فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ إلى الأرْضِ، فَيَخْرُجُ لِكُلِّ واحِدٍ رَغِيفانِ، وإذا عَطِشُوا قالُوا:يا رُوحَ اللَّهِ عَطِشْنا، فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ إلى الأرْضِ، فَيَخْرُجُ الماءُ فَيَشْرَبُونَ، فَقالُوا: مَن أفْضَلُ مِنّا إذا شِئْنا أطْعَمْتَنا، وإذا شِئْنا سَقَيْتَنا، وقَدْ آمَنّا بِكَ فَقالَ: ”أفْضَلُ مِنكم مَن يَعْمَلُ بِيَدِهِ، ويَأْكُلُ مِن كَسْبِهِ“ فَصارُوا يَغْسِلُونَ الثِّيابَ بِالكِراءِ، فَسُمُّوا حَوارِيِّينَ.
القَوْلُ الرّابِعُ: أنَّهم كانُوا مُلُوكًا، قالُوا وذَلِكَ أنَّ واحِدًا مِنَ المُلُوكِ صَنَعَ طَعامًا، وجَمَعَ النّاسَ عَلَيْهِ، وكانَ (p-٥٧)عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلى قَصْعَةٍ مِنها، فَكانَتِ القَصْعَةُ لا تَنْقُصُ، فَذَكَرُوا هَذِهِ الواقِعَةَ لِذَلِكَ المَلِكَ، فَقالَ: تَعْرِفُونَهُ، قالُوا: نَعَمْ، فَذَهَبُوا بِعِيسى -عَلَيْهِ السَّلامُ -، قالَ: مَن أنْتَ ؟ قالَ: أنا عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ، قالَ فَإنِّي أتْرُكُ مُلْكِي وأتْبَعُكَ فَتَبِعَهُ ذَلِكَ المَلِكُ مَعَ أقارِبِهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الحَوارِيُّونَ قالَ القَفّالُ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَعْضُ هَؤُلاءِ الحَوارِيِّينَ الِاثْنَيْ عَشَرَ مِنَ المُلُوكِ، وبَعْضُهم مِن صَيّادِي السَّمَكِ، وبَعْضُهم مِنَ القَصّارِينَ، والكُلُّ سُمُّوا بِالحَوارِيِّينَ لِأنَّهم كانُوا أنْصارَ عِيسى -عَلَيْهِ السَّلامُ -، وأعْوانَهُ، والمُخْلِصِينَ في مَحَبَّتِهِ، وطاعَتِهِ، وخِدْمَتِهِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿نَحْنُ أنْصارُ اللَّهِ﴾ أيْ نَحْنُ أنْصارُ دِينِ اللَّهِ وأنْصارُ أنْبِيائِهِ؛ لِأنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ تَعالى في الحَقِيقَةِ مُحالٌ، فالمُرادُ مِنهُ ما ذَكَرْناهُ.
أمّا قَوْلُهُ: (آمَنّا بِاللَّهِ) فَهَذا يَجْرِي مَجْرى ذِكْرِ العِلَّةِ، والمَعْنى يَجِبُ عَلَيْنا أنْ نَكُونَ مِن أنْصارِ اللَّهِ، لِأجْلِ أنّا آمَنّا بِاللَّهِ، فَإنَّ الإيمانَ بِاللَّهِ يُوجِبُ نُصْرَةَ دِينِ اللَّهِ، والذَّبَّ عَنْ أوْلِيائِهِ، والمُحارَبَةَ مَعَ أعْدائِهِ.
ثُمَّ قالُوا: ﴿واشْهَدْ بِأنّا مُسْلِمُونَ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ إشْهادَهم عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلى أنْفُسِهِمْ، إشْهادٌ لِلَّهِ تَعالى أيْضًا، ثُمَّ فِيهِ قَوْلانِ.
الأوَّلُ: المُرادُ واشْهَدْ أنّا مُنْقادُونَ لِما تُرِيدُهُ مِنّا في نُصْرَتِكَ، والذَّبِّ عَنْكَ، مُسْتَسْلِمُونَ لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى فِيهِ.
الثّانِي: أنَّ ذَلِكَ إقْرارٌ مِنهم بِأنَّ دِينَهُمُ الإسْلامُ، وأنَّهُ دِينُ كُلِّ الأنْبِياءِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
واعْلَمْ أنَّهم لَمّا أشْهَدُوا عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلى إيمانِهِمْ، وعَلى إسْلامِهِمْ تَضَرَّعُوا إلى اللَّهِ تَعالى، وقالُوا: ﴿رَبَّنا آمَنّا بِما أنْزَلْتَ واتَّبَعْنا الرَّسُولَ فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ القَوْمَ آمَنُوا بِاللَّهِ حِينَ قالُوا في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ: (آمَنّا بِاللَّهِ) ثُمَّ آمَنُوا بِكُتُبِ اللَّهِ تَعالى حَيْثُ قالُوا: ﴿آمَنّا بِما أنْزَلْتَ﴾ وآمَنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ حَيْثُ، قالُوا: ﴿واتَّبَعْنا الرَّسُولَ﴾ فَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبُوا الزُّلْفَةَ والثَّوابَ، فَقالُوا: ﴿فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ﴾ وهَذا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ لِلشّاهِدِينَ فَضْلٌ يَزِيدُ عَلى فَضْلِ الحَوارِيِّينَ، ويَفْضُلُ عَلى دَرَجَتِهِ، لِأنَّهم هُمُ المَخْصُوصُونَ بِأداءِ الشَّهادَةِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكم شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣] . الثّانِي: وهو مَنقُولٌ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ﴾ أيِ اكْتُبْنا في زُمْرَةِ الأنْبِياءِ؛ لِأنَّ كُلَّ نَبِيٍّ شاهِدٌ لِقَوْمِهِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَلَنَسْألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ ولَنَسْألَنَّ المُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٦] .
وقَدْ أجابَ اللَّهُ تَعالى دُعاءَهم وجَعَلَهم أنْبِياءَ ورُسُلًا، فَأحْيَوُا المَوْتى، وصَنَعُوا كُلَّ ما صَنَعَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - .
والقَوْلُ الثّالِثُ: ﴿فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ﴾ أيِ اكْتُبْنا في جُمْلَةِ مَن شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ ولِأنْبِيائِكَ بِالتَّصْدِيقِ، والمَقْصُودُ مِن هَذا أنَّهم لَمّا أشْهَدُوا عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - عَلى إسْلامِ أنْفُسِهِمْ، حَيْثُ قالُوا: ﴿واشْهَدْ بِأنّا مُسْلِمُونَ﴾ فَقَدْ أشْهَدُوا اللَّهَ تَعالى عَلى ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِلْأمْرِ، وتَقْوِيَةً لَهُ، وأيْضًا طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ مِثْلَ ثَوابِ كُلِّ مُؤْمِنٍ شَهِدَ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ ولِأنْبِيائِهِ بِالنُّبُوَّةِ.
القَوْلُ الرّابِعُ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ كِتابَ الأبْرارِ إنَّما يَكُونُ في السَّماواتِ مَعَ المَلائِكَةِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿كَلّا إنَّ كِتابَ الأبْرارِ لَفي عِلِّيِّينَ﴾ [المطففين: ١٨] فَإذا كَتَبَ اللَّهُ ذِكْرَهم مَعَ الشّاهِدِينَ المُؤْمِنِينَ كانَ ذِكْرُهم مَشْهُورًا في المَلَأِ الأعْلى وعِنْدَ المَلائِكَةِ المُقَرَّبِينَ.
(p-٥٨)القَوْلُ الخامِسُ: إنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو والمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ﴾ [آل عمران: ١٨] فَجَعَلَ أُولِي العِلْمِ مِنَ الشّاهِدِينَ، وقَرَنَ ذِكْرَهم بِذِكْرِ نَفْسِهِ، وذَلِكَ دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ، ومَرْتَبَةٌ عالِيَةٌ، فَقالُوا: ﴿فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ﴾ أيِ اجْعَلْنا مِن تِلْكَ الفِرْقَةِ الَّذِينَ قَرَنْتَ ذِكْرَهم بِذِكْرِكَ.
والقَوْلُ السّادِسُ: «إنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا سَألَ مُحَمَّدًا ﷺ عَنِ الإحْسانِ فَقالَ: ”أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ“» وهَذا غايَةُ دَرَجَةِ العَبْدِ في الِاشْتِغالِ بِالعُبُودِيَّةِ، وهو أنْ يَكُونَ العَبْدُ في مَقامِ الشُّهُودِ، لا في مَقامِ الغَيْبَةِ، فَهَؤُلاءِ القَوْمُ لَمّا صارُوا كامِلِينَ في دَرَجَةِ الِاسْتِدْلالِ أرادُوا التَّرَقِّيَ مِن مَقامِ الِاسْتِدْلالِ، إلى مَقامِ الشُّهُودِ والمُكاشَفَةِ، فَقالُوا: ﴿فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ﴾ .
القَوْلُ السّابِعُ: إنَّ كُلَّ مَن كانَ في مَقامِ شُهُودِ الحَقِّ لَمْ يُبالِ بِما يَصِلُ إلَيْهِ مِنَ المَشاقِّ والآلامِ، فَلَمّا قَبِلُوا مِن عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنْ يَكُونُوا ناصِرِينَ لَهُ، ذابِّينَ عَنْهُ، قالُوا: ﴿فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ﴾ أيِ اجْعَلْنا مِمَّنْ يَكُونُ في شُهُودِ جَلالِكَ، حَتّى نَصِيرَ مُسْتَحْقِرِينَ لِكُلِّ ما يَصِلُ إلَيْنا مِنَ المَشاقِّ والمَتاعِبِ، فَحِينَئِذٍ يَسْهُلُ عَلَيْنا الوَفاءُ بِما التَزَمْناهُ مِن نُصْرَةِ رَسُولِكَ ونَبِيِّكَ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ واللَّهُ خَيْرُ الماكِرِينَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: أصْلُ المَكْرِ في اللُّغَةِ السَّعْيُ بِالفَسادِ في خُفْيَةٍ ومُداجاةٍ، قالَ الزَّجّاجُ: يُقالُ مَكْرُ اللَّيْلِ، وأمْكَرَ إذا أظْلَمَ، وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنفال: ٣٠] وقالَ: ﴿وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ أجْمَعُوا أمْرَهم وهم يَمْكُرُونَ﴾ [يوسف: ١٠٢] وقِيلَ أصْلُهُ مِنَ اجْتِماعِ الأمْرِ وإحْكامِهِ، ومِنهُ امْرَأةٌ مَمْكُورَةٌ؛ أيْ مُجْتَمِعَةُ الخَلْقِ. وإحْكامُ الرَّأْيِ يُقالُ لَهُ: الإجْماعُ والجَمْعُ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَأجْمِعُوا أمْرَكم وشُرَكاءَكُمْ﴾ [يونس: ٧١] فَلَمّا كانَ المَكْرُ رَأْيًا مُحْكَمًا قَوِيًّا مَصُونًا عَنْ جِهاتِ النَّقْصِ والفُتُورِ، لا جَرَمَ سُمِّيَ مَكْرًا.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أمّا مَكْرُهم بِعِيسى -عَلَيْهِ السَّلامُ -، فَهو أنَّهم هَمُّوا بِقَتْلِهِ، وأمّا مَكْرُ اللَّهِ تَعالى بِهِمْ، فَفِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: مَكْرُ اللَّهِ تَعالى بِهِمْ هو أنَّهُ رَفَعَ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - إلى السَّماءِ، وذَلِكَ أنَّ يَهُودا مَلِكَ اليَهُودِ، أرادَ قَتْلَ عِيسى -عَلَيْهِ السَّلامُ -، وكانَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلامُ -، لا يُفارِقُهُ ساعَةً، وهو مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وأيَّدْناهُ بِرُوحِ القُدُسِ﴾ [البقرة: ٨٧] فَلَمّا أرادُوا ذَلِكَ أمَرَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنْ يَدْخُلَ بَيْتًا فِيهِ رَوْزَنَةٌ، فَلَمّا دَخَلُوا البَيْتَ أخْرَجَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِن تِلْكَ الرَّوْزَنَةِ، وكانَ قَدْ ألْقى شَبَهَهُ عَلى غَيْرِهِ، فَأُخِذَ وصُلِبَ فَتَفَرَّقَ الحاضِرُونَ ثَلاثَ فِرَقٍ، فِرْقَةٌ قالَتْ: كانَ اللَّهَ فِينا فَذَهَبَ، وأُخْرى قالَتْ: كانَ ابْنَ اللَّهِ، والأُخْرى قالَتْ: كانَ عَبْدَ اللَّهِ ورَسُولَهُ، فَأكْرَمَهُ بِأنْ رَفَعَهُ إلى السَّماءِ، وصارَ لِكُلِّ فِرْقَةٍ جَمْعٌ؛ فَظَهَرَتِ الكافِرَتانِ عَلى الفِرْقَةِ المُؤْمِنَةِ إلى أنْ بَعَثَ اللَّهُ تَعالى مُحَمَّدًا ﷺ . وفي الجُمْلَةِ، فالمُرادُ مِن مَكْرِ اللَّهِ بِهِمْ أنْ رَفَعَهُ إلى السَّماءِ وما مَكَّنَهم مِن إيصالِ الشَّرِّ إلَيْهِ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ الحَوارِيِّينَ كانُوا اثْنَيْ عَشَرَ، وكانُوا مُجْتَمِعِينَ في بَيْتٍ فَنافَقَ رَجُلٌ مِنهم، ودَلَّ اليَهُودَ عَلَيْهِ، فَألْقى اللَّهُ شَبَهَهُ عَلَيْهِ ورَفَعَ عِيسى، فَأخَذُوا ذَلِكَ المُنافِقَ الَّذِي كانَ فِيهِمْ، وقَتَلُوهُ وصَلَبُوهُ عَلى ظَنِّ أنَّهُ عِيسى -عَلَيْهِ السَّلامُ -، فَكانَ ذَلِكَ هو مَكْرَ اللَّهِ بِهِمْ.
الوَجْهُ الثّالِثُ: ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ أنَّ اليَهُودَ عَذَّبُوا الحَوارِيِّينَ بَعْدَ أنْ رُفِعَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ (p-٥٩)فَشَمَّسُوهم وعَذَّبُوهم، فَلَقُوا مِنهُمُ الجَهْدَ فَبَلَغَ ذَلِكَ مَلِكَ الرُّومِ، وكانَ مَلِكُ اليَهُودِ مِن رَعِيَّتِهِ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ رَجُلًا مِن بَنِي إسْرائِيلَ مِمَّنْ تَحْتَ أمْرِكَ كانَ يُخْبِرُهم أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وأراهم إحْياءَ المَوْتى وإبْراءَ الأكْمَهِ والأبْرَصِ فَقُتِلَ، فَقالَ: لَوْ عَلِمْتُ ذَلِكَ لَحُلْتُ بَيْنَهُ وبَيْنَهم، ثُمَّ بَعَثَ إلى الحَوارِيِّينَ، فانْتَزَعَهم مِن أيْدِيهِمْ وسَألَهم عَنْ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَأخْبَرُوهُ فَتابَعَهم عَلى دِينِهِمْ، وأنْزَلَ المَصْلُوبَ فَغَيَّبَهُ، وأخَذَ الخَشَبَةَ فَأكْرَمَها وصانَها، ثُمَّ غَزا بَنِي إسْرائِيلَ وقَتَلَ مِنهم خَلْقًا عَظِيمًا، ومِنهُ ظَهَرَ أصْلُ النَّصْرانِيَّةِ في الرُّومِ، وكانَ اسْمُ هَذا المَلِكِ طَبارِيسَ، وهو صارَ نَصْرانِيًّا، إلّا أنَّهُ ما أظْهَرَ ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُ جاءَ بَعْدَهُ مَلِكٌ آخَرُ، يُقالُ لَهُ: مَطْلِيسُ، وغَزا بَيْتَ المَقْدِسِ بَعْدَ ارْتِفاعِ عِيسى بِنَحْوٍ مِن أرْبَعِينَ سَنَةً، فَقَتَلَ وسَبى ولَمْ يَتْرُكْ في مَدِينَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ حَجَرًا عَلى حَجَرٍ فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ قُرَيْظَةُ والنَّضِيرُ إلى الحِجازِ، فَهَذا كُلُّهُ مِمّا جازاهُمُ اللَّهُ تَعالى عَلى تَكْذِيبِ المَسِيحِ والهَمِّ بِقَتْلِهِ.
القَوْلُ الرّابِعُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَلِكَ فارِسَ حَتّى قَتَلَهم، وسَباهم، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَعَثْنا عَلَيْكم عِبادًا لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ [الإسراء: ٥] فَهَذا هو مَكْرُ اللَّهِ تَعالى بِهِمْ.
القَوْلُ الخامِسُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهم مَكَرُوا في إخْفاءِ أمْرِهِ، وإبْطالِ دِينِهِ، ومَكَرَ اللَّهُ بِهِمْ حَيْثُ أعْلى دِينَهُ وأظْهَرَ شَرِيعَتَهُ وقَهَرَ بِالذُّلِّ والدَّناءَةِ أعْداءَهُ وهُمُ اليَهُودُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: المَكْرُ عِبارَةٌ عَنِ الِاحْتِيالِ في إيصالِ الشَّرِّ، والِاحْتِيالُ عَلى اللَّهِ تَعالى مُحالٌ فَصارَ لَفْظُ المَكْرِ في حَقِّهِ مِنَ المُتَشابِهاتِ، وذَكَرُوا في تَأْوِيلِهِ وُجُوهًا:
أحَدُها: أنَّهُ تَعالى سَمّى جَزاءَ المَكْرِ بِالمَكْرِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠] وسَمّى جَزاءَ المُخادَعَةِ بِالمُخادَعَةِ، وجَزاءَ الِاسْتِهْزاءِ بِالِاسْتِهْزاءِ.
والثّانِي: أنَّ مُعامَلَةَ اللَّهِ مَعَهم كانَتْ شَبِيهَةً بِالمَكْرِ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ.
الثّالِثُ: أنَّ هَذا اللَّفْظَ لَيْسَ مِنَ المُتَشابِهاتِ؛ لِأنَّهُ عِبارَةٌ عَنِ التَّدْبِيرِ المُحْكَمِ الكامِلِ ثُمَّ اخْتَصَّ في العُرْفِ بِالتَّدْبِيرِ في إيصالِ الشَّرِّ إلى الغَيْرِ، وذَلِكَ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":52,"ayahs":["۞ فَلَمَّاۤ أَحَسَّ عِیسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِیۤ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِیُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ","رَبَّنَاۤ ءَامَنَّا بِمَاۤ أَنزَلۡتَ وَٱتَّبَعۡنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِینَ","وَمَكَرُوا۟ وَمَكَرَ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَیۡرُ ٱلۡمَـٰكِرِینَ"],"ayah":"وَمَكَرُوا۟ وَمَكَرَ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَیۡرُ ٱلۡمَـٰكِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق