الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ ﴿ولا تَكُونُوا كالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ البَيِّناتُ وأُولَئِكَ لَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأمّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهم أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكم فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ ﴿وأمّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهم فَفي رَحْمَةِ اللَّهِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ ﴿تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالحَقِّ وما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ﴾ ﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى في الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ عابَ أهْلَ الكِتابِ عَلى شَيْئَيْنِ. أحَدُهُما: أنَّهُ عابَهم عَلى الكُفْرِ، فَقالَ: ﴿قُلْ ياأهْلَ الكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ﴾ [آل عمران: ٧٠] ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عابَهم عَلى سَعْيِهِمْ في إلْقاءِ الغَيْرِ في الكُفْرِ، فَقالَ: ﴿قُلْ ياأهْلَ الكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٩٩] فَلَمّا انْتَقَلَ مِنهُ إلى مُخاطَبَةِ المُؤْمِنِينَ أمَرَهم أوَّلًا بِالتَّقْوى والإيمانِ، فَقالَ: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ﴿واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ ثُمَّ أمَرَهم بِالسَّعْيِ في إلْقاءِ الغَيْرِ في الإيمانِ والطّاعَةِ، فَقالَ: ﴿ولْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ﴾ وهَذا هو التَّرْتِيبُ الحَسَنُ المُوافِقُ لِلْعَقْلِ، وفي الآيَةِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: في قَوْلِهِ: (مِنكم) قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّ (مِن) هاهُنا لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ لِدَلِيلَيْنِ. الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى أوْجَبَ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ عَلى كُلِّ الأُمَّةِ في قَوْلِهِ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١١٠] والثّانِي: هو أنَّهُ لا مُكَلَّفَ إلّا ويَجِبُ عَلَيْهِ الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، إمّا بِيَدِهِ، أوْ بِلِسانِهِ، أوْ بِقَلْبِهِ، ويَجِبُ عَلى كُلِّ أحَدٍ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ كُونُوا أُمَّةً دُعاةً إلى الخَيْرِ آمِرِينَ بِالمَعْرُوفِ ناهِينَ عَنِ المُنْكَرِ، وأمّا كَلِمَةُ (مِن) فَهي هُنا لِلتَّبْيِينِ لا لِلتَّبْعِيضِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثانِ﴾ [الحج: ٣٠] ويُقالُ أيْضًا: لِفُلانٍ مِن أوْلادِهِ جُنْدٌ ولِلْأمِيرِ مِن غِلْمانِهِ عَسْكَرٌ يُرِيدُ بِذَلِكَ جَمِيعَ أوْلادِهِ وغِلْمانِهِ لا بَعْضَهم، كَذا هاهُنا، ثُمَّ قالُوا: إنَّ (p-١٤٦)ذَلِكَ وإنْ كانَ واجِبًا عَلى الكُلِّ إلّا أنَّهُ مَتى قامَ بِهِ قَوْمٌ سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنِ الباقِينَ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿انْفِرُوا خِفافًا وثِقالًا﴾ [التوبة: ٤١] وقَوْلُهُ: ﴿إلّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكم عَذابًا ألِيمًا﴾ [التوبة: ٣٩] فالأمْرُ عامٌّ، ثُمَّ إذا قامَتْ بِهِ طائِفَةٌ وقَعَتِ الكِفايَةُ وزالَ التَّكْلِيفُ عَنِ الباقِينَ.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ (مِن) هاهُنا لِلتَّبْعِيضِ، والقائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ اخْتَلَفُوا أيْضًا عَلى قَوْلَيْنِ. أحَدُهُما: أنَّ فائِدَةَ كَلِمَةِ (مِن) هي أنَّ في القَوْمِ مَن لا يَقْدِرُ عَلى الدَّعْوَةِ ولا عَلى الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ مِثْلُ النِّساءِ والمَرْضى والعاجِزِينَ. والثّانِي: أنَّ هَذا التَّكْلِيفَ مُخْتَصٌّ بِالعُلَماءِ ويَدُلُّ عَلَيْهِ وجْهانِ. الأوَّلُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلى الأمْرِ بِثَلاثَةِ أشْياءَ: الدَّعْوَةُ إلى الخَيْرِ، والأمْرُ بِالمَعْرُوفِ، والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الدَّعْوَةَ إلى الخَيْرِ مَشْرُوطَةٌ بِالعِلْمِ بِالخَيْرِ وبِالمَعْرُوفِ وبِالمُنْكَرِ فَإنَّ الجاهِلَ رُبَّما عادَ إلى الباطِلِ وأمَرَ بِالمُنْكَرِ ونَهى عَنِ المَعْرُوفِ، ورُبَّما عَرَفَ الحُكْمَ في مَذْهَبِهِ وجَهِلَهُ في مَذْهَبِ صاحِبِهِ فَنَهاهُ عَنْ غَيْرِ مُنْكَرٍ، وقَدْ يُغْلِظُ في مَوْضِعِ اللِّينِ ويَلِينُ في مَوْضِعِ الغِلْظَةِ، ويُنْكِرُ عَلى مَن لا يَزِيدُهُ إنْكارُهُ إلّا تَمادِيًا، فَثَبَتَ أنَّ هَذا التَّكْلِيفَ مُتَوَجِّهٌ عَلى العُلَماءِ، ولا شَكَّ أنَّهم بَعْضُ الأُمَّةِ، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنهم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ﴾ [التوبة: ١٢٢] . والثّانِي: أنّا أجْمَعْنا عَلى أنَّ ذَلِكَ واجِبٌ عَلى سَبِيلِ الكِفايَةِ بِمَعْنى أنَّهُ مَتى قامَ بِهِ البَعْضُ سَقَطَ عَنِ الباقِينَ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ المَعْنى لِيَقُمْ بِذَلِكَ بَعْضُكم، فَكانَ في الحَقِيقَةِ هَذا إيجابًا عَلى البَعْضِ لا عَلى الكُلِّ، واللَّهُ أعْلَمُ.
وفِيهِ قَوْلٌ رابِعٌ: وهو قَوْلُ الضَّحّاكِ: إنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الآيَةِ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِأنَّهم كانُوا يَتَعَلَّمُونَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ ويُعَلِّمُونَ النّاسَ، والتَّأْوِيلُ عَلى هَذا الوَجْهِ كُونُوا أُمَّةً مُجْتَمِعِينَ عَلى حِفْظِ سُنَنِ الرَّسُولِ ﷺ وتَعَلُّمِ الدِّينِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَذِهِ الآيَةُ اشْتَمَلَتْ عَلى التَّكْلِيفِ بِثَلاثَةِ أشْياءَ، أوَّلُها: الدَّعْوَةُ إلى الخَيْرِ ثُمَّ الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ، ثُمَّ النَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، ولِأجْلِ العَطْفِ يَجِبُ كَوْنُ هَذِهِ الثَّلاثَةِ مُتَغايِرَةً، فَنَقُولُ: أمّا الدَّعْوَةُ إلى الخَيْرِ فَأفْضَلُها الدَّعْوَةُ إلى إثْباتِ ذاتِ اللَّهِ وصِفاتِهِ وتَقْدِيسِهِ عَنْ مُشابَهَةِ المُمْكِناتِ وإنَّما قُلْنا إنَّ الدَّعْوَةَ إلى الخَيْرِ تَشْتَمِلُ عَلى ما ذَكَرْنا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ﴾ [النحل: ١٢٥] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدْعُو إلى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أنا ومَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: ١٠٨] .
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: الدَّعْوَةُ إلى الخَيْرِ جِنْسٌ تَحْتَهُ نَوْعانِ. أحَدُهُما: التَّرْغِيبُ في فِعْلِ ما يَنْبَغِي وهو بِالمَعْرُوفِ. والثّانِي: التَّرْغِيبُ في تَرْكِ ما لا يَنْبَغِي وهو النَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، فَذَكَرَ الجِنْسَ أوَّلًا ثُمَّ أتْبَعَهُ بِنَوْعَيْهِ مُبالَغَةً في البَيانِ، وأمّا شَرائِطُ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، فَمَذْكُورَةٌ في كُتُبِ الكَلامِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ وقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ، وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: مِنهم مَن تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الآيَةِ في أنَّ الفاسِقَ لَيْسَ لَهُ أنْ يَأْمُرَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهى عَنِ المُنْكَرِ، قالَ: لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ الآمِرَ بِالمَعْرُوفِ والنّاهِيَ عَنِ المُنْكَرِ مِنَ المُفْلِحِينَ، والفاسِقُ لَيْسَ مِنَ المُفْلِحِينَ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الآمِرُ بِالمَعْرُوفِ لَيْسَ بِفاسِقٍ، وأُجِيبَ عَنْهُ بِأنَّ هَذا ورَدَ عَلى سَبِيلِ الغالِبِ فَإنَّ الظّاهِرَ أنَّ مَن أمَرَ بِالمَعْرُوفِ ونَهى عَنِ المُنْكَرِ لَمْ يَشْرَعْ فِيهِ إلّا بَعْدَ صَلاحِ أحْوالِ نَفْسِهِ، لِأنَّ العاقِلَ يُقَدِّمُ مُهِمَّ (p-١٤٧)نَفْسِهِ عَلى مُهِمِّ الغَيْرِ، ثُمَّ إنَّهم أكَّدُوا هَذا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٤٤] قَوْلُهُ: ﴿لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢، ٣] ولِأنَّهُ لَوْ جازَ ذَلِكَ لَجازَ لِمَن يَزْنِي بِامْرَأةٍ أنْ يَأْمُرَها بِالمَعْرُوفِ في أنَّها لِمَ كَشَفَتْ وجْهَها ؟ ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ في غايَةِ القُبْحِ، والعُلَماءُ قالُوا: الفاسِقُ لَهُ أنْ يَأْمُرَ بِالمَعْرُوفِ لِأنَّهُ وجَبَ عَلَيْهِ تَرْكُ ذَلِكَ المُنْكَرِ ووَجَبَ عَلَيْهِ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ المُنْكَرِ، فَبِأنَّ تَرْكَ أحَدِ الواجِبَيْنِ لا يُلْزِمُهُ تَرْكَ الواجِبِ الآخَرِ، وعَنِ السَّلَفِ: مُرُوا بِالخَيْرِ وإنْ لَمْ تَفْعَلُوا، وعَنِ الحَسَنِ أنَّهُ سَمِعَ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: لا أقُولُ ما لا أفْعَلُ، فَقالَ: وأيُّنا يَفْعَلُ ما يَقُولُ ؟ ودَّ الشَّيْطانُ لَوْ ظَفِرَ بِهَذِهِ الكَلِمَةِ مِنكم فَلا يَأْمُرُ أحَدٌ بِمَعْرُوفٍ ولا يَنْهى عَنِ المُنْكَرِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ”«مَن أمَرَ بِالمَعْرُوفِ ونَهى عَنِ المُنْكَرِ كانَ خَلِيفَةَ اللَّهِ في أرْضِهِ وخَلِيفَةَ رَسُولِهِ وخَلِيفَةَ كِتابِهِ» “ وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أفْضَلُ الجِهادِ الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، وقالَ أيْضًا: مَن لَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ مَعْرُوفًا ولَمْ يُنْكِرْ مُنْكَرًا نُكِّسَ وجُعِلَ أعْلاهُ أسْفَلَهُ، ورَوى الحَسَنُ عَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: يا أيُّها النّاسُ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ وانْتَهُوا عَنِ المُنْكَرِ تَعِيشُوا بِخَيْرٍ، وعَنِ الثَّوْرِيِّ: إذا كانَ الرَّجُلُ مُحَبَّبًا في جِيرانِهِ مَحْمُودًا عِنْدَ إخْوانِهِ فاعْلَمْ أنَّهُ مُداهِنٌ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإنْ بَغَتْ إحْداهُما عَلى الأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إلى أمْرِ﴾ [الحجرات: ٩] قُدِّمَ الإصْلاحُ عَلى القِتالِ، وهَذا يَقْتَضِي أنْ يُبْدَأ في الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ بِالأرْفَقِ مُتَرَقِّيًا إلى الأغْلَظِ فالأغْلَظِ، وكَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واهْجُرُوهُنَّ في المَضاجِعِ واضْرِبُوهُنَّ﴾ [النساء: ٣٤] يَدُلُّ عَلى ما ذَكَرْناهُ، ثُمَّ إذا لَمْ يَتِمَّ الأمْرُ بِالتَّغْلِيظِ والتَّشْدِيدِ وجَبَ عَلَيْهِ القَهْرُ بِاليَدِ، فَإنْ عَجَزَ فَبِاللِّسانِ، فَإنْ عَجَزَ فَبِالقَلْبِ، وأحْوالُ النّاسِ مُخْتَلِفَةٌ في هَذا البابِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولا تَكُونُوا كالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ البَيِّناتُ﴾ .
وفِي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في النَّظْمِ وجْهانِ. الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ أنَّهُ بَيَّنَ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ ما يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ دِينِ الإسْلامِ وصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ أهْلَ الكِتابِ حَسَدُوا مُحَمَّدًا ﷺ واحْتالُوا في إلْقاءِ الشُّكُوكِ والشُّبُهاتِ في تِلْكَ النُّصُوصِ الظّاهِرَةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِالإيمانِ بِاللَّهِ والدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ، ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِأنْ حَذَّرَ المُؤْمِنِينَ مِن مِثْلِ فِعْلِ أهْلِ الكِتابِ، وهو إلْقاءُ الشُّبُهاتِ في هَذِهِ النُّصُوصِ واسْتِخْراجُ التَّأْوِيلاتِ الفاسِدَةِ الرّافِعَةِ لِدَلالَةِ هَذِهِ النُّصُوصِ فَقالَ: ﴿ولا تَكُونُوا﴾ أيُّها المُؤْمِنُونَ عِنْدَ سَماعِ هَذِهِ البَيِّناتِ ﴿كالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا﴾ مِن أهْلِ الكِتابِ ﴿مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ﴾ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ تِلْكَ النُّصُوصُ الظّاهِرَةُ، فَعَلى هَذا الوَجْهِ تَكُونُ الآيَةُ مِن تَتِمَّةِ جُمْلَةِ الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ. والثّانِي: وهو أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ بِالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وذَلِكَ مِمّا لا يَتِمُّ إلّا إذا كانَ الآمِرُ بِالمَعْرُوفِ قادِرًا عَلى تَنْفِيذِ هَذا التَّكْلِيفِ عَلى الظَّلَمَةِ والمُتَغالِينَ، ولا تَحْصُلُ هَذِهِ القُدْرَةُ إلّا إذا حَصَلَتِ الأُلْفَةُ والمَحَبَّةُ بَيْنَ أهْلِ الحَقِّ والدِّينِ، لا جَرَمَ حَذَّرَهم تَعالى مِنَ الفُرْقَةِ والِاخْتِلافِ لِكَيْ لا يَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعَجْزِهِمْ عَنِ القِيامِ بِهَذا التَّكْلِيفِ، وعَلى هَذا الوَجْهِ تَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ مِن تَتِمَّةِ الآيَةِ السّابِقَةِ فَقَطْ.
(p-١٤٨)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا﴾ فِيهِ وُجُوهٌ. الأوَّلُ: تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا بِسَبَبِ اتِّباعِ الهَوى وطاعَةِ النَّفْسِ والحَسَدِ، كَما أنَّ إبْلِيسَ تَرَكَ نَصَّ اللَّهِ تَعالى بِسَبَبِ حَسَدِهِ لِآدَمَ. الثّانِي: تَفَرَّقُوا حَتّى صارَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنهم يُصَدِّقُ مِنَ الأنْبِياءِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، فَصارُوا بِذَلِكَ إلى العَداوَةِ والفُرْقَةِ. الثّالِثُ: صارُوا مِثْلَ مُبْتَدِعَةِ هَذِهِ الأُمَّةِ، مِثْلَ المُشَبِّهَةِ والقَدَرِيَّةِ والحَشْوِيَّةِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ بَعْضُهم ﴿تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا﴾ مَعْناهُما واحِدٌ وذَكَرَهُما لِلتَّأْكِيدِ وقِيلَ: بَلْ مَعْناهُما مُخْتَلِفٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: تَفَرَّقُوا بِالعَداوَةِ واخْتَلَفُوا في الدِّينِ، وقِيلَ: تَفَرَّقُوا بِسَبَبِ اسْتِخْراجِ التَّأْوِيلاتِ الفاسِدَةِ مِن تِلْكَ النُّصُوصِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِأنْ حاوَلَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم نُصْرَةَ قَوْلِهِ ومَذْهَبِهِ. والثّالِثُ: تَفَرَّقُوا بِأبْدانِهِمْ بِأنْ صارَ كُلُّ واحِدٍ مِن أُولَئِكَ الأحْبارِ رَئِيسًا في بَلَدٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِأنْ صارَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم يَدَّعِي أنَّهُ عَلى الحَقِّ وأنَّ صاحِبَهُ عَلى الباطِلِ، وأقُولُ: إنَّكَ إذا أنْصَفْتَ عَلِمْتَ أنَّ أكْثَرَ عُلَماءِ هَذا الزَّمانِ صارُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَنَسْألُ اللَّهَ العَفْوَ والرَّحْمَةَ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: إنَّما قالَ: ﴿مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ البَيِّناتُ﴾ ولَمْ يَقُلْ (جاءَتْهم) لِجَوازِ حَذْفِ عَلامَةٍ مِنَ الفِعْلِ إذا كانَ فِعْلُ المُؤَنَّثِ مُتَقَدِّمًا.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأُولَئِكَ لَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ يَعْنِي الَّذِينَ تَفَرَّقُوا لَهم عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخِرَةِ بِسَبَبِ تَفَرُّقِهِمْ، فَكانَ ذَلِكَ زَجْرًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَنِ التَّفَرُّقِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ اليَهُودَ بِبَعْضِ الأشْياءِ ونَهاهم عَنْ بَعْضٍ، ثُمَّ أمَرَ المُسْلِمِينَ بِالبَعْضِ ونَهاهم عَنِ البَعْضِ أتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ أحْوالِ الآخِرَةِ، تَأْكِيدًا لِلْأمْرِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في نَصْبِ (يَوْمَ) وجْهانِ. الأوَّلُ: أنَّهُ نُصِبَ عَلى الظَّرْفِ، والتَّقْدِيرُ: ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ في هَذا اليَوْمِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ فائِدَتانِ. إحْداهُما: أنَّ ذَلِكَ العَذابَ في هَذا اليَوْمِ، والأُخْرى أنَّ مِن حُكْمِ هَذا اليَوْمِ أنْ تَبْيَضَّ فِيهِ وُجُوهٌ وتَسْوَدَّ وُجُوهٌ. والثّانِي: أنَّهُ مَنصُوبٌ بِإضْمارِ (اذْكُرْ) .
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَذِهِ الآيَةُ لَها نَظائِرُ مِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَوْمَ القِيامَةِ تَرى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى اللَّهِ وُجُوهُهم مُسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر: ٦٠] ومِنها قَوْلُهُ: ﴿ولا يَرْهَقُ وُجُوهَهم قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ﴾ [يونس: ٢٦] ومِنها قَوْلُهُ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ ﴿ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ ﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ﴾ ﴿تَرْهَقُها قَتَرَةٌ﴾ [عبس: ٣٩] ومِنها قَوْلُهُ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ﴾ ﴿إلى رَبِّها ناظِرَةٌ﴾ ﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ﴾ ﴿تَظُنُّ أنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢] ومِنها قَوْلُهُ: ﴿تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطففين: ٢٤] ومِنها قَوْلُهُ: ﴿يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ﴾ [الرحمن: ٤١] .
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: في هَذا البَياضِ والسَّوادِ والغَبَرَةِ والقَتَرَةِ والنَّضْرَةِ لِلْمُفَسِّرِينَ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّ البَياضَ مَجازٌ عَنِ الفَرَحِ والسُّرُورِ، والسَّوادَ عَنِ الغَمِّ، وهَذا مَجازٌ مُسْتَعْمَلٌ، قالَ تَعالى: ﴿وإذا بُشِّرَ أحَدُهم بِالأُنْثى ظَلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا وهو كَظِيمٌ﴾ [النحل: ٥٨] ويُقالُ: لِفُلانٍ عِنْدِي يَدٌ بَيْضاءُ، أيْ جَلِيَّةٌ سارَّةٌ، ولَمّا سَلَّمَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الأمْرَ لِمُعاوِيَةَ قالَ لَهُ بَعْضُهم: يا مُسَوِّدَ وُجُوهِ المُؤْمِنِينَ. ولِبَعْضِهِمْ في الشَّيْبِ:(p-١٤٩)
؎يا بَياضَ القُرُونِ سَوَّدْتَ وجْهِي عِنْدَ بِيضِ الوُجُوهِ سُودِ القُرُونِ
؎فَلَعَمْرِي لَأُخْفِيَنَّكَ جَهْدِي ∗∗∗ عَنْ عِيانِي وعَنْ عِيانِ العُيُونِ
؎بِسَوادٍ فِيهِ بَياضٌ لِوَجْهِي ∗∗∗ وسَوادٌ لِوَجْهِكَ المَلْعُونِ
وتَقُولُ العَرَبُ لِمَن نالَ بُغْيَتَهُ وفازَ بِمَطْلُوبِهِ: ابْيَضَّ وجْهُهُ ومَعْناهُ الِاسْتِبْشارُ والتَّهَلُّلُ وعِنْدَ التَّهْنِئَةِ بِالسُّرُورِ يَقُولُونَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَيَّضَ وجْهَكَ، ويُقالُ لِمَن وصَلَ إلَيْهِ مَكْرُوهٌ: ارْبَدَّ وجْهُهُ واغْبَرَّ لَوْنُهُ وتَبَدَّلَتْ صُورَتُهُ، فَعَلى هَذا مَعْنى الآيَةِ أنَّ المُؤْمِنَ يَرِدُ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى ما قَدَّمَتْ يَداهُ فَإنْ كانَ ذَلِكَ مِنَ الحَسَناتِ ابْيَضَّ وجْهُهُ بِمَعْنى اسْتَبْشَرَ بِنِعَمِ اللَّهِ وفَضْلِهِ، وعَلى ضِدِّ ذَلِكَ إذا رَأى الكافِرُ أعْمالَهُ القَبِيحَةَ مُحْصاةً اسْوَدَّ وجْهُهُ بِمَعْنى شِدَّةِ الحُزْنِ والغَمِّ وهَذا قَوْلُ أبِي مُسْلِمِ الأصْفَهانِيِّ.
والقَوْلُ الثّانِي: إنَّ هَذا البَياضَ والسَّوادَ يَحْصُلانِ في وُجُوهِ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ، وذَلِكَ لِأنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِيهِما، ولا دَلِيلَ يُوجِبُ تَرْكَ الحَقِيقَةِ، فَوَجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ، قُلْتُ: ولِأبِي مُسْلِمٍ أنْ يَقُولَ: الدَّلِيلُ دَلَّ عَلى ما قُلْناهُ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ ﴿ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ ﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ﴾ ﴿تَرْهَقُها قَتَرَةٌ﴾ [عبس: ٣٩] فَجَعَلَ الغَبَرَةَ والقَتَرَةَ في مُقابَلَةِ الضَّحِكِ والِاسْتِبْشارِ فَلَوْ لَمْ يَكُنِ المُرادُ بِالغَبَرَةِ والقَتَرَةِ ما ذَكَرْنا مِنَ المَجازِ لَما صَحَّ جَعْلُهُ مُقابِلًا، فَعَلِمْنا أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الغَبَرَةِ والقَتَرَةِ الغَمُّ والحُزْنُ حَتّى يَصِحَّ هَذا التَّقابُلُ، ثُمَّ قالَ القائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ: الحِكْمَةُ في ذَلِكَ أنَّ أهْلَ المَوْقِفِ إذا رَأوُا البَياضَ في وجْهِ إنْسانٍ عَرَفُوا أنَّهُ مِن أهْلِ الثَّوابِ فَزادُوا في تَعْظِيمِهِ فَيَحْصُلُ لَهُ الفَرَحُ بِذَلِكَ مِن وجْهَيْنِ. أحَدُهُما: أنَّ السَّعِيدَ يَفْرَحُ بِأنْ يُعْلِمَ قَوْمَهُ أنَّهُ مِن أهْلِ السَّعادَةِ، قالَ تَعالى مُخْبِرًا عَنْهم ﴿قالَ يالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾ ﴿بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ﴾ [يس: ٢٧] . الثّانِي: أنَّهم إذا عَرَفُوا ذَلِكَ خَصُّوهُ بِمَزِيدِ التَّعْظِيمِ فَثَبَتَ أنَّ ظُهُورَ البَياضِ في وجْهِ المُكَلَّفِ سَبَبٌ لِمَزِيدِ سُرُورِهِ في الآخِرَةِ، وبِهَذا الطَّرِيقِ يَكُونُ ظُهُورُ السَّوادِ في وجْهِ الكُفّارِ سَبَبًا لِمَزِيدِ غَمِّهِمْ في الآخِرَةِ، فَهَذا وجْهُ الحِكْمَةِ في الآخِرَةِ، وأمّا في الدُّنْيا فالمُكَلَّفُ حِينَ يَكُونُ في الدُّنْيا إذا عَرَفَ حُصُولَ هَذِهِ الحالَةِ في الآخِرَةِ صارَ ذَلِكَ مُرَغِّبًا لَهُ في الطّاعاتِ وتَرْكِ المُحَرَّماتِ لِكَيْ يَكُونَ في الآخِرَةِ مِن قَبِيلِ مَن يَبْيَضُّ وجْهُهُ لا مِن قَبِيلِ مَن يَسْوَدُّ وجْهُهُ، فَهَذا تَقْرِيرُ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ المُكَلَّفَ إمّا مُؤْمِنٌ وإمّا كافِرٌ، وأنَّهُ لَيْسَ هاهُنا مَنزِلَةٌ بَيْنَ المَنزِلَتَيْنِ كَما يَذْهَبُ إلَيْهِ المُعْتَزِلَةُ، فَقالُوا: إنَّهُ تَعالى قَسَمَ أهْلَ القِيامَةِ إلى قِسْمَيْنِ مِنهم مَن يَبْيَضُّ وجْهُهُ وهُمُ المُؤْمِنُونَ، ومِنهم مَن يَسْوَدُّ وجْهُهُ وهُمُ الكافِرُونَ ولَمْ يَذْكُرِ الثّالِثَ، فَلَوْ كانَ هاهُنا قِسْمٌ ثالِثٌ لَذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى قالُوا: وهَذا أيْضًا مُتَأكِّدٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ ﴿ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ﴾ ﴿ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ﴾ ﴿تَرْهَقُها قَتَرَةٌ﴾ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الكَفَرَةُ الفَجَرَةُ﴾ [عبس: ٣٩] .
أجابَ القاضِي عَنْهُ بِأنَّ عَدَمَ ذِكْرِ القِسْمِ الثّالِثِ لا يَدُلُّ عَلى عَدَمِهِ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أنَّهُ تَعالى إنَّما قالَ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ فَذَكَرَهُما عَلى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ، وذَلِكَ لا يُفِيدُ العُمُومَ، وأيْضًا المَذْكُورُ في الآيَةِ المُؤْمِنُونَ والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ الإيمانِ ولا شُبْهَةَ أنَّ الكافِرَ الأصْلِيَّ مِن أهْلِ النّارِ مَعَ أنَّهُ غَيْرُ داخِلٍ تَحْتِ هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ، فَكَذا القَوْلُ في الفُسّاقِ.
(p-١٥٠)واعْلَمْ أنَّ وجْهَ الِاسْتِدْلالِ بِالآيَةِ هو أنّا نَقُولُ: الآياتُ المُتَقَدِّمَةُ ما كانَتْ إلّا في التَّرْغِيبِ في الإيمانِ بِالتَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ وفي الزَّجْرِ عَنِ الكُفْرِ بِهِما ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أتْبَعَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَظاهِرُها يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ ابْيِضاضُ الوَجْهِ نَصِيبًا لِمَن آمَنَ بِالتَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ، واسْوِدادُ الوَجْهِ يَكُونُ نَصِيبًا لِمَن أنْكَرَ ذَلِكَ، ثُمَّ دَلَّ ما بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ صاحِبَ البَياضِ مِن أهْلِ الجَنَّةِ، وصاحِبَ السَّوادِ مِن أهْلِ النّارِ، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ نَفْيُ المَنزِلَةِ بَيْنَ المَنزِلَتَيْنِ، وأمّا قَوْلُهُ يُشْكِلُ هَذا بِالكافِرِ الأصْلِيِّ فَجَوابُنا عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ. الأوَّلُ: أنْ نَقُولَ لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ أنَّ كُلَّ أحَدٍ أسْلَمَ وقْتَ اسْتِخْراجِ الذُّرِّيَّةِ مِن صُلْبِ آدَمَ ؟ وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ الكُلُّ داخِلًا فِيهِ. والثّانِي: وهو أنَّهُ تَعالى قالَ في آخِرِ الآيَةِ: ﴿فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ فَجَعَلَ مُوجِبَ العَذابِ هو الكُفْرُ مِن حَيْثُ إنَّهُ كُفْرٌ، لا الكُفْرُ مِن حَيْثُ إنَّهُ بَعْدَ الإيمانِ، وإذا وقَعَ التَّعْلِيلُ بِمُطْلَقِ الكُفْرِ دَخَلَ كُلُّ الكُفّارِ فِيهِ سَواءٌ كَفَرَ بَعْدَ الإيمانِ، أوْ كانَ كافِرًا أصْلِيًّا واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿فَأمّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهم أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ﴾ وفي الآيَةِ سُؤالاتٌ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ القِسْمَيْنِ أوَّلًا فَقالَ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ فَقَدَّمَ البَياضَ عَلى السَّوادِ في اللَّفْظِ، ثُمَّ لَمّا شَرَعَ في حُكْمِ هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ قَدَّمَ حُكْمَ السَّوادِ، وكانَ حَقُّ التَّرْتِيبِ أنْ يُقَدَّمَ حُكْمُ البَياضِ.
والجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ الواوَ لِلْجَمْعِ المُطْلَقِ لا لِلتَّرْتِيبِ. وثانِيها: أنَّ المَقْصُودَ مِنَ الخَلْقِ إيصالُ الرَّحْمَةِ لا إيصالُ العَذابِ «قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حاكِيًا عَنْ رَبِّ العِزَّةِ سُبْحانَهُ: ”خَلَقْتُهم لِيَرْبَحُوا عَلَيَّ لا لِأرْبَحَ عَلَيْهِمْ“» وإذا كانَ كَذَلِكَ فَهو تَعالى ابْتَدَأ بِذِكْرِ أهْلِ الثَّوابِ وهم أهْلُ البَياضِ، لِأنَّ تَقْدِيمَ الأشْرَفِ عَلى الأخَسِّ في الذِّكْرِ أحْسَنُ، ثُمَّ خَتَمَ بِذِكْرِهِمْ أيْضًا تَنْبِيهًا عَلى أنَّ إرادَةَ الرَّحْمَةِ أكْثَرُ مِن إرادَةِ الغَضَبِ كَما قالَ: ”«سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» “ . وثالِثُها: أنَّ الفُصَحاءَ والشُّعَراءَ قالُوا: يَجِبُ أنْ يَكُونَ مَطْلَعُ الكَلامِ ومَقْطَعُهُ شَيْئًا يُسِرُّ الطَّبْعَ ويَشْرَحُ الصَّدْرَ، ولا شَكَّ أنَّ ذِكْرَ رَحْمَةِ اللَّهِ هو الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ فَلا جَرَمَ وقَعَ الِابْتِداءُ بِذِكْرِ أهِلِ الثَّوابِ والِاخْتِتامِ بِذِكْرِهِمْ.
السُّؤالُ الثّانِي: أيْنَ جَوابُ (أما) ؟
والجَوابُ: هو مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ فَيُقالُ لَهم: أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكم، وإنَّما حَسُنَ الحَذْفُ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ ومِثْلُهُ في التَّنْزِيلِ كَثِيرٌ قالَ تَعالى: ﴿والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ﴾ ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الرعد: ٢٣، ٢٤] وقالَ: ﴿وإذْ يَرْفَعُ إبْراهِيمُ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا﴾ [البقرة: ١٢٧] وقالَ: ﴿ولَوْ تَرى إذِ المُجْرِمُونَ ناكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا﴾ [السجدة: ١٢] .
السُّؤالُ الثّالِثُ: مَنِ المُرادُ بِهَؤُلاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ ؟
والجَوابُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أقْوالٌ. أحَدُها: قالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: الكُلُّ آمَنُوا حالَ ما اسْتَخْرَجَهم مِن صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَكُلُّ مَن كَفَرَ في الدُّنْيا، فَقَدْ كَفَرَ بَعْدَ الإيمانِ، ورَواهُ الواحِدِيُّ في ”البَسِيطِ“ بِإسْنادِهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ . وثانِيها: أنَّ المُرادَ: أكَفَرْتُمْ بَعْدَ ما ظَهَرَ لَكم ما يُوجِبُ الإيمانَ وهو الدَّلائِلُ الَّتِي نَصَبَها اللَّهُ تَعالى عَلى التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ، والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ هَذا التَّأْوِيلِ، قَوْلُهُ تَعالى فِيما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ياأهْلَ الكِتابِ لِمَ﴾ (p-١٥١)﴿تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [آل عمران: ٧٠] فَذَمَّهم عَلى الكُفْرِ بَعْدَ وُضُوحِ الآياتِ، وقالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: ﴿ولا تَكُونُوا كالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ البَيِّناتُ﴾ .
ثُمَّ قالَ هاهُنا: ﴿أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ﴾ فَكانَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلى ما ذَكَرْناهُ حَتّى تَصِيرَ هَذِهِ الآيَةُ مُقَرِّرَةً لِما قَبْلَها، وعَلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ تَكُونُ الآيَةُ عامَّةً في حَقِّ كُلِّ الكُفّارِ، وأمّا الَّذِينَ خَصَّصُوا هَذِهِ الآيَةَ بِبَعْضِ الكُفّارِ فَلَهم وُجُوهٌ. الأوَّلُ: قالَ عِكْرِمَةُ والأصَمُّ والزَّجّاجُ: المُرادُ أهْلُ الكِتابِ فَإنَّهم قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ ﷺ كانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ، فَلَمّا بُعِثَ ﷺ كَفَرُوا بِهِ. الثّانِي: قالَ قَتادَةُ: المُرادُ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ الإيمانِ بِسَبَبِ الِارْتِدادِ. الثّالِثُ: قالَ الحَسَنُ: الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ الإيمانِ بِالنِّفاقِ. الرّابِعُ: قِيلَ هم أهْلُ البِدَعِ والأهْواءِ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ. الخامِسُ: قِيلَ هُمُ الخَوارِجُ، فَإنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ فِيهِمْ: ”«إنَّهم يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ» “ وهَذانَ الوَجْهانِ الأخِيرانِ في غايَةِ البُعْدِ لِأنَّهُما لا يَلِيقانِ بِما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ، ولِأنَّهُ تَخْصِيصٌ لِغَيْرِ دَلِيلٍ، ولِأنَّ الخُرُوجَ عَلى الإمامِ لا يُوجِبُ الكُفْرَ ألْبَتَّةَ.
السُّؤالُ الرّابِعُ: ما الفائِدَةُ في هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ في قَوْلِهِ: ﴿أكَفَرْتُمْ﴾ ؟
الجَوابُ: هَذا اسْتِفْهامٌ بِمَعْنى الإنْكارِ، وهو مُؤَكِّدٌ لِما ذُكِرَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ وهو قَوْلُهُ: ﴿قُلْ ياأهْلَ الكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ واللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ﴾ ﴿قُلْ ياأهْلَ الكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٩٨] .
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ .
وفِيهِ فَوائِدُ. الأُولى: أنَّهُ لَوْ لَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ لَكانَ الوَعِيدُ مُخْتَصًّا بِمَن كَفَرَ بَعْدَ إيمانِهِ، فَلَمّا ذُكِرَ هَذا ثَبَتَ الوَعِيدُ لِمَن كَفَرَ بَعْدَ إيمانِهِ ولِمَن كانَ كافِرًا أصْلِيًّا. الثّانِيَةُ: قالَ القاضِي قَوْلُهُ: ﴿أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ الكُفْرَ مِنهُ لا مِنَ اللَّهِ وكَذا قَوْلُهُ: ﴿فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ . الثّالِثَةُ: قالَتِ المُرْجِئَةُ: الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِن أنْواعِ العَذابِ وقَعَ مُعَلَّلًا بِالكُفْرِ، وهَذا يَنْفِي حُصُولَ العَذابِ لِغَيْرِ الكافِرِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأمّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهم فَفي رَحْمَةِ اللَّهِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ وفِيهِ سُؤالاتٌ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: ما المُرادُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ ؟
الجَوابُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المُرادُ الجَنَّةُ، وقالَ المُحَقِّقُونَ مِن أصْحابِنا: هَذا إشارَةٌ إلى أنَّ العَبْدَ وإنْ كَثُرَتْ طاعَتُهُ فَإنَّهُ لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وكَيْفَ لا نَقُولُ ذَلِكَ والعَبْدُ ما دامَتْ داعِيَتُهُ إلى الفِعْلِ وإلى التَّرْكِ عَلى السَّوِيَّةِ يَمْتَنِعُ مِنهُ الفِعْلُ ؟ فَإذَنْ ما لَمْ يَحْصُلْ رُجْحانُ داعِيَةِ الطّاعَةِ امْتَنَعَ أنْ يَحْصُلَ مِنهُ الطّاعَةُ، وذَلِكَ الرُّجْحانُ لا يَكُونُ إلّا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى، فَإذَنْ صُدُورُ تِلْكَ الطّاعَةِ مِنَ العَبْدِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ في حَقِّ العَبْدِ فَكَيْفَ يَصِيرُ ذَلِكَ مُوجِبًا عَلى اللَّهِ شَيْئًا، فَثَبَتَ أنَّ دُخُولَ الجَنَّةِ لا يَكُونُ إلّا بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ وبِكَرَمِهِ لا بِاسْتِحْقاقِنا.
السُّؤالُ الثّانِي: كَيْفَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: ﴿هم فِيها خالِدُونَ﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ ؟
الجَوابُ: كَأنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُونَ فِيها ؟ فَقِيلَ: هم فِيها خالِدُونَ لا يَظْعَنُونَ عَنْها ولا يَمُوتُونَ.
السُّؤالُ الثّالِثُ: الكُفّارُ مُخَلَّدُونَ في النّارِ كَما أنَّ المُؤْمِنِينَ مُخَلَّدُونَ في الجَنَّةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمْ يَنُصَّ عَلى خُلُودِ أهْلِ النّارِ في هَذِهِ الآيَةِ مَعَ أنَّهُ نَصَّ عَلى خُلُودِ أهْلِ الجَنَّةِ فِيها فَما الفائِدَةُ ؟
(p-١٥٢)والجَوابُ: كُلُّ ذَلِكَ إشْعاراتٌ بِأنَّ جانِبَ الرَّحْمَةِ أغْلَبُ، وذَلِكَ لِأنَّهُ ابْتَدَأ في الذِّكْرِ بِأهْلِ الرَّحْمَةِ وخَتَمَ بِأهْلِ الرَّحْمَةِ، ولَمّا ذَكَرَ العَذابَ ما أضافَهُ إلى نَفْسِهِ، بَلْ قالَ: ﴿فَذُوقُوا العَذابَ﴾ مَعَ أنَّهُ ذَكَرَ الرَّحْمَةَ مُضافَةً إلى نَفْسِهِ حَيْثُ قالَ: ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ ولَمّا ذَكَرَ العَذابَ ما نَصَّ عَلى الخُلُودِ مَعَ أنَّهُ نَصَّ عَلى الخُلُودِ في جانِبِ الثَّوابِ، ولَمّا ذَكَرَ العَذابَ عَلَّلَهُ بِفِعْلِهِمْ فَقالَ: ﴿فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ ولَمّا ذَكَرَ الثَّوابَ عَلَّلَهُ بِرَحْمَتِهِ فَقالَ: ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ ثُمَّ قالَ في آخِرِ الآيَةِ: ﴿وما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ﴾ وهَذا جارٍ مَجْرى الِاعْتِذارِ عَنِ الوَعِيدِ بِالعِقابِ، وكُلُّ ذَلِكَ مِمّا يُشْعِرُ بِأنَّ جانِبَ الرَّحْمَةِ مُغَلَّبٌ، يا أرْحَمَ الرّاحِمِينَ لا تَحْرِمْنا مِن بَرْدِ رَحْمَتِكَ ومِن كَرامَةِ غُفْرانِكَ وإحْسانِكَ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالحَقِّ﴾ فَقَوْلُهُ: (تِلْكَ) فِيهِ وجْهانِ. الأوَّلُ: المُرادُ أنَّ هَذِهِ الآياتِ الَّتِي ذَكَرْناها هي دَلائِلُ اللَّهِ، وإنَّما جازَ إقامَةُ (تِلْكَ) مَقامَ (هَذِهِ) لِأنَّ هَذِهِ الآياتِ المَذْكُورَةَ قَدِ انْقَضَتْ بَعْدَ الذِّكْرِ، فَصارَ كَأنَّها بَعُدَتْ فَقِيلَ فِيها: (تِلْكَ) . والثّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعالى وعَدَهُ أنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِ كِتابًا مُشْتَمِلًا عَلى كُلِّ ما لا بُدَّ مِنهُ في الدِّينِ، فَلَمّا أنْزَلَ هَذِهِ الآياتِ قالَ: تِلْكَ الآياتُ المَوْعُودَةُ هي الَّتِي نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالحَقِّ، وتَمامُ الكَلامِ في هَذِهِ المَسْألَةِ قَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ . وقَوْلُهُ: (بِالحَقِّ) فِيهِ وجْهانِ. الأوَّلُ: أيْ مُلْتَبِسَةٌ بِالحَقِّ والعَدْلِ مِن إجْزاءِ المُحْسِنِ والمُسِيءِ بِما يَسْتَوْجِبانِهِ. الثّانِي: بِالحَقِّ، أيْ بِالمَعْنى الحَقِّ، لِأنَّ مَعْنى التَّلْوِ حَقٌّ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: إنَّما حَسُنَ ذِكْرُ الظُّلْمِ هاهُنا لِأنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ العُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ وهو سُبْحانَهُ وتَعالى أكْرَمُ الأكْرَمِينَ، فَكَأنَّهُ تَعالى يَعْتَذِرُ عَنْ ذَلِكَ وقالَ: إنَّهم ما وقَعُوا فِيهِ إلّا بِسَبَبِ أفْعالِهِمُ المُنْكَرَةِ فَإنَّ مَصالِحَ العالَمِ لا تَسْتَقِيمُ إلّا بِتَهْدِيدِ المُذْنِبِينَ، وإذا حَصَلَ هَذا التَّهْدِيدُ فَلا بُدَّ مِنَ التَّحْقِيقِ دَفْعًا لِلْكَذِبِ، فَصارَ هَذا الِاعْتِذارُ مِن أدَلِّ الدَّلائِلِ، عَلى أنَّ جانِبَ الرَّحْمَةِ غالِبٌ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ (عَمَّ) بَعْدَ أنْ ذَكَرَ وعِيدَ الكُفّارِ: ﴿إنَّهم كانُوا لا يَرْجُونَ حِسابًا﴾ ﴿وكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذّابًا﴾ [النبأ: ٢٨] أيْ هَذا الوَعِيدُ الشَّدِيدُ إنَّما حَصَلَ بِسَبَبِ هَذِهِ الأفْعالِ المُنْكَرَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ الجُبّائِيُّ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ لا يُرِيدُ شَيْئًا مِنَ القَبائِحِ لا مِن أفْعالِهِ ولا مِن أفْعالِ عِبادِهِ، ولا يَفْعَلُ شَيْئًا مِن ذَلِكَ، وبَيانُهُ: وهو أنَّ الظُّلْمَ إمّا أنْ يُفْرَضَ صُدُورُهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى، أوْ مِنَ العَبْدِ، وبِتَقْدِيرِ صُدُورِهِ مِنَ العَبْدِ، فَإمّا أنْ يَظْلِمَ نَفْسَهُ وذَلِكَ بِسَبَبِ إقْدامِهِ عَلى المَعاصِي أوْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ، فَأقْسامُ الظُّلْمِ هي هَذِهِ الثَّلاثَةُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ﴾ نَكِرَةٌ في سِياقِ النَّفْيِ، فَوَجَبَ أنْ لا يُرِيدَ شَيْئًا مِمّا يَكُونُ ظُلْمًا، سَواءٌ كانَ ذَلِكَ صادِرًا عَنْهُ أوْ صادِرًا عَنْ غَيْرِهِ، فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يُرِيدُ شَيْئًا مِن هَذِهِ الأقْسامِ الثَّلاثَةِ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ وجَبَ أنْ لا يَكُونَ فاعِلًا لِشَيْءٍ مِن هَذِهِ الأقْسامِ، ويَلْزَمُ مِنهُ أنْ لا يَكُونَ فاعِلًا لِلظُّلْمِ أصْلًا ويَلْزَمُ أنْ لا يَكُونَ فاعِلًا لِأعْمالِ العِبادِ، لِأنَّ مِن جُمْلَةِ أعْمالِهِمْ ظُلْمُهم لِأنْفُسِهِمْ وظُلْمُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وإنَّما قُلْنا: إنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ تَعالى غَيْرَ فاعِلٍ لِلظُّلْمِ ألْبَتَّةَ لِأنَّها دَلَّتْ عَلى أنَّهُ غَيْرُ مُرِيدٍ لِشَيْءٍ مِنها، ولَوْ كانَ فاعِلًا لِشَيْءٍ مِن أقْسامِ الظُّلْمِ لَكانَ مُرِيدًا لَها، وقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ، قالُوا: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ تَعالى غَيْرُ فاعِلٍ لِلظُّلْمِ، وغَيْرُ فاعِلٍ لِأعْمالِ العِبادِ، وغَيْرُ مُرِيدٍ لِلْقَبائِحِ مِن أفْعالِ العِبادِ، ثُمَّ قالُوا: إنَّهُ (p-١٥٣)تَعالى تَمَدَّحَ بِأنَّهُ لا يُرِيدُ ذَلِكَ، والتَّمَدُّحُ إنَّما يَصِحُّ لَوْ صَحَّ مِنهُ فِعْلُ ذَلِكَ الشَّيْءِ وصَحَّ مِنهُ كَوْنُهُ مُرِيدًا لَهُ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى كَوْنِهِ تَعالى قادِرًا عَلى الظُّلْمِ وعِنْدَ هَذا تَبَجَّحُوا وقالُوا: هَذِهِ الآيَةُ الواحِدَةُ وافِيَةٌ بِتَقْرِيرِ جَمِيعِ أُصُولِ المُعْتَزِلَةِ في مَسائِلِ العَدْلِ، ثُمَّ قالُوا: ولَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ لا يُرِيدُ الظُّلْمَ ولا يَفْعَلُ الظُّلْمَ قالَ بَعْدَهُ: ﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ وإنَّما ذَكَرَ هَذِهِ الآيَةَ عَقِيبَ ما تَقَدَّمَ لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ لا يُرِيدُ الظُّلْمَ والقَبائِحَ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأنَّ فاعِلَ القَبِيحِ إنَّما يَفْعَلُ القَبِيحَ إمّا لِلْجَهْلِ، أوِ العَجْزِ، أوِ الحاجَةِ، وكُلُّ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ مُحالٌ لِأنَّهُ مالِكٌ لِكُلِّ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ، وهَذِهِ المالِكِيَّةُ تُنافِي الجَهْلَ والعَجْزَ والحاجَةَ، وإذا امْتَنَعَ ثُبُوتُ هَذِهِ الصِّفاتِ في حَقِّهِ تَعالى امْتَنَعَ كَوْنُهُ فاعِلًا لِلْقَبِيحِ. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ لا يُرِيدُ الظُّلْمَ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ كانَ لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنّا نُشاهِدُ وُجُودَ الظُّلْمِ في العالَمِ، فَإذا لَمْ يَكُنْ وُقُوعُهُ بِإرادَتِهِ كانَ عَلى خِلافِ إرادَتِهِ، فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ ضَعِيفًا عاجِزًا مَغْلُوبًا وذَلِكَ مُحالٌ.
فَأجابَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ أيْ أنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى أنْ يَمْنَعَ الظَّلَمَةَ مِنَ الظُّلْمِ عَلى سَبِيلِ الإلْجاءِ والقَهْرِ، ولَمّا كانَ قادِرًا عَلى ذَلِكَ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ عاجِزًا ضَعِيفًا لا أنَّهُ تَعالى أرادَ مِنهم تَرْكَ المَعْصِيَةِ اخْتِيارًا وطَوْعًا لِيَصِيرُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ مُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوابِ فَلَوْ قَهَرَهم عَلى تَرْكِ المَعْصِيَةِ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الفائِدَةُ، فَهَذا تَلْخِيصُ كَلامِ المُعْتَزِلَةِ في هَذِهِ الآيَةِ، ورُبَّما أوْرَدُوا هَذا الكَلامَ مِن وجْهٍ آخَرَ، فَقالُوا: المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ﴾ إمّا أنْ يَكُونَ هو لا يُرِيدُ أنْ يَظْلِمَهم أوْ أنَّهُ لا يُرِيدُ مِنهم أنْ يَظْلِمَ بَعْضُهم بَعْضًا فَإنْ كانَ الأوَّلَ فَهَذا لا يَسْتَقِيمُ عَلى قَوْلِكم، لِأنَّ مَذْهَبَكم أنَّهُ تَعالى لَوْ عَذَّبَ البَرِيءَ عَنِ الذَّنْبِ بِأشَدِّ العَذابِ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا بَلْ كانَ عادِلًا، لَأنَّ الظُّلْمَ تَصَرُّفٌ في مِلْكِ الغَيْرِ، وهو تَعالى إنَّما يَتَصَرَّفُ في مِلْكِ نَفْسِهِ فاسْتَحالَ كَوْنُهُ ظالِمًا وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَمْلُ الآيَةِ عَلى أنَّهُ لا يُرِيدُ أنْ يَظْلِمَ الخَلْقَ، وإنْ حَمَلْتُمُ الآيَةَ عَلى أنَّهُ لا يُرِيدُ أنْ يَظْلِمَ بَعْضُ العِبادِ بَعْضًا، فَهَذا أيْضًا لا يَتِمُّ عَلى قَوْلِكم لِأنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِإرادَةِ اللَّهِ وتَكْوِينِهِ عَلى قَوْلِكم، فَثَبَتَ أنَّ عَلى مَذْهَبِكم لا يُمْكِنُ حَمْلُ الآيَةِ عَلى وجْهٍ صَحِيحٍ. والجَوابُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهُ تَعالى لا يُرِيدُ أنْ يَظْلِمَ أحَدًا مِن عِبادِهِ ؟ قَوْلُهُ الظُّلْمُ مِنهُ مُحالٌ عَلى مَذْهَبِكم فامْتَنَعَ التَّمَدُّحُ بِهِ قُلْنا: الكَلامُ عَلَيْهِ مِن وجْهَيْنِ. الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى تَمَدَّحَ بِقَوْلِهِ: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] وبِقَوْلِهِ: ﴿وهُوَ يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ﴾ [الأنعام: ١٤] ولا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ صِحَّةُ النَّوْمِ والأكْلِ عَلَيْهِ فَكَذا هاهُنا. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى إنْ عَذَّبَ مَن لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذابِ فَهو وإنْ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا في نَفْسِهِ لَكِنَّهُ في صُوَرِ الظُّلْمِ، وقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ أحَدِ المُتَشابِهَيْنِ عَلى الآخَرِ كَقَوْلِهِ: ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠] ونَظائِرُهُ كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ هَذا تَمامُ الكَلامِ في هَذِهِ المُناظَرَةِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِقَوْلِهِ: ﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ عَلى كَوْنِهِ خالِقًا لِأعْمالِ العِبادِ، فَقالُوا لا شَكَّ أنَّ أفْعالَ العِبادِ مِن جُمْلَةِ ما في السَّماواتِ والأرْضِ، فَوَجَبَ كَوْنُها لَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ وإنَّما يَصِحُّ قَوْلُنا: إنَّها لَهُ لَوْ كانَتْ مَخْلُوقَةً لَهُ فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّهُ خالِقٌ لِأفْعالِ العِبادِ.
أجابَ الجُبّائِيُّ عَنْهُ بِأنَّ قَوْلَهُ: (لِلَّهِ) إضافَةُ مِلْكٍ لا إضافَةُ فِعْلٍ، ألا تَرى أنَّهُ يُقالُ: هَذا البِناءُ لِفُلانٍ (p-١٥٤)فَيُرِيدُونَ أنَّهُ مَمْلُوكُهُ لا أنَّهُ مَفْعُولُهُ، وأيْضًا المَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ تَعْظِيمُ اللَّهِ لِنَفْسِهِ ومَدْحُهُ لِإلَهِيَّةِ نَفْسِهِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَتَمَدَّحَ بِأنْ يَنْسِبَ إلى نَفْسِهِ الفَواحِشَ والقَبائِحَ، وأيْضًا فَقَوْلُهُ: ﴿ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ إنَّما يَتَناوَلُ ما كانَ مَظْرُوفًا في السَّماواتِ والأرْضِ وذَلِكَ مِن صِفاتِ الأجْسامِ لا مِن صِفاتِ الأفْعالِ الَّتِي هي أعْراضٌ.
أجابَ أصْحابُنا عَنْهُ بِأنَّ هَذِهِ الإضافَةَ إضافَةُ الفِعْلِ بِدَلِيلِ أنَّ القادِرَ عَلى القَبِيحِ والحَسَنِ لا يُرَجِّحُ الحَسَنَ عَلى القَبِيحِ إلّا إذا حَصَلَ في قَلْبِهِ ما يَدْعُوهُ إلى فِعْلِ الحَسَنِ، وتِلْكَ الدّاعِيَةُ حاصِلَةٌ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعالى دَفْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، وإذا كانَ المُؤَثِّرُ في حُصُولِ فِعْلِ العَبْدِ هو مَجْمُوعُ القُدْرَةِ والدّاعِيَةِ، وثَبَتَ أنَّ مَجْمُوعَ القُدْرَةِ والدّاعِيَةِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى ثَبَتَ أنَّ فِعْلَ العَبْدِ مُسْتَنِدٌ إلى اللَّهِ تَعالى خَلْقًا وتَكْوِينًا بِواسِطَةِ فِعْلِ السَّبَبِ، فَهَذا تَمامُ القَوْلِ في هَذِهِ المُناظَرَةِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى ﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ زَعَمَتِ الفَلاسِفَةُ أنَّهُ إنَّما قُدِّمَ ذِكْرُ ما في السَّماواتِ عَلى ذِكْرِ ما في الأرْضِ لِأنَّ الأحْوالَ السَّماوِيَّةَ أسْبابٌ لِلْأحْوالِ الأرْضِيَّةِ، فَقُدِّمَ السَّبَبُ عَلى المُسَبَّبِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ جَمِيعَ الأحْوالِ الأرْضِيَّةِ مُسْتَنِدَةٌ إلى الأحْوالِ السَّماوِيَّةِ، ولا شَكَّ أنَّ الأحْوالَ السَّماوِيَّةَ مُسْتَنِدَةٌ إلى خَلْقِ اللَّهِ وتَكْوِينِهِ فَيَكُونُ الجَبْرُ لازِمًا أيْضًا مِن هَذا الوَجْهِ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ فَأعادَ ذِكْرَ اللَّهِ في أوَّلِ الآيَتَيْنِ والغَرَضُ مِنهُ تَأْكِيدُ التَّعْظِيمِ، والمَقْصُودُ أنَّ مِنهُ مَبْدَأ المَخْلُوقاتِ وإلَيْهِ مَعادَهم، فَقَوْلُهُ: ﴿ولِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهُ سُبْحانَهُ هو الأوَّلُ وقَوْلُهُ: ﴿وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهُ هو الآخِرُ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى إحاطَةِ حُكْمِهِ وتَصَرُّفِهِ وتَدْبِيرِهِ بِأوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ، وأنَّ الأسْبابَ مُنْتَسِبَةٌ إلَيْهِ وأنَّ الحاجاتِ مُنْقَطِعَةٌ عِنْدَهُ.
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: كَلِمَةُ (إلى) في قَوْلِهِ: ﴿وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ لا تَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ تَعالى في مَكانِ وُجْهَةٍ، بَلِ المُرادُ أنَّ رُجُوعَ الخَلْقِ إلى مَوْضِعٍ لا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُ أحَدٍ إلّا حُكْمُهُ ولا يَجْرِي فِيهِ قَضاءُ أحَدٍ إلّا قَضاؤُهُ.
* *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ لَكانَ خَيْرًا لَهم مِنهُمُ المُؤْمِنُونَ وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ﴾ ﴿لَنْ يَضُرُّوكم إلّا أذًى وإنْ يُقاتِلُوكم يُوَلُّوكُمُ الأدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ﴾.
(p-١٥٥)فِي النَّظْمِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِبَعْضِ الأشْياءِ ونَهاهم عَنْ بَعْضِها وحَذَّرَهم مِن أنْ يَكُونُوا مِثْلَ أهْلِ الكِتابِ في التَّمَرُّدِ والعِصْيانِ، وذَكَرَ عَقِيبَهُ ثَوابَ المُطِيعِينَ وعِقابَ الكافِرِينَ، كانَ الغَرَضُ مِن كُلِّ هَذِهِ الآياتِ حَمْلَ المُؤْمِنِينَ المُكَلَّفِينَ عَلى الِانْقِيادِ والطّاعَةِ ومَنعَهم عَنِ التَّمَرُّدِ والمَعْصِيَةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أرْدَفَ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ آخَرَ يَقْتَضِي حَمْلَ المُؤْمِنِينَ عَلى الِانْقِيادِ والطّاعَةِ فَقالَ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ والمَعْنى أنَّكم كُنْتُمْ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ خَيْرَ الأُمَمِ وأفْضَلَهم، فاللّائِقُ بِهَذا أنْ لا تُبْطِلُوا عَلى أنْفُسِكم هَذِهِ الفَضِيلَةَ، وأنْ لا تُزِيلُوا عَنْ أنْفُسِكم هَذِهِ الخَصْلَةَ المَحْمُودَةَ، وأنْ تَكُونُوا مُنْقادِينَ مُطِيعِينَ في كُلِّ ما يَتَوَجَّهُ عَلَيْكم مِنَ التَّكالِيفِ.
الثّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا ذَكَرَ كَمالَ حالِ الأشْقِياءِ وهو قَوْلُهُ: ﴿فَأمّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ وكَمالَ حالِ السُّعَداءِ وهو قَوْلُهُ: ﴿وأمّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ نَبَّهَ عَلى ما هو السَّبَبُ لِوَعِيدِ الأشْقِياءِ بِقَوْلِهِ: ﴿وما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ﴾ يَعْنِي أنَّهم إنَّما اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ بِأفْعالِهِمُ القَبِيحَةِ، ثُمَّ نَبَّهَ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى ما هو السَّبَبُ لِوَعْدِ السُّعَداءِ بِقَوْلِهِ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ﴾ أيْ تِلْكَ السَّعاداتُ والكَمالاتُ والكَراماتُ إنَّما فازُوا بِها في الآخِرَةِ لِأنَّهم كانُوا في الدُّنْيا ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: لَفْظَةُ (كانَ) قَدْ تَكُونُ تامَّةً وناقِصَةً وزائِدَةً عَلى ما هو مَشْرُوحٌ في النَّحْوِ واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في قَوْلِهِ: (كُنْتُمْ) عَلى وُجُوهٍ. الأوَّلُ: أنَّ (كانَ) هاهُنا تامَّةٌ بِمَعْنى الوُقُوعِ والحُدُوثِ وهو لا يَحْتاجُ إلى خَبَرٍ، والمَعْنى: حَدَثْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ووُجِدْتُمْ وخُلِقْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ بِمَعْنى الحالِ وهَذا قَوْلُ جَمْعٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ. الثّانِي: أنَّ (كانَ) هاهُنا ناقِصَةٌ وفِيهِ سُؤالٌ: وهو أنَّ هَذا يُوهِمُ أنَّهم كانُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وأنَّهم ما بَقُوا الآنَ عَلَيْها.
والجَوابُ عَنْهُ: أنَّ قَوْلَهُ (كانَ) عِبارَةٌ عَنْ وُجُودِ الشَّيْءِ في زَمانٍ ماضٍ عَلى سَبِيلِ الإبْهامِ، ولا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلى انْقِطاعٍ طارِئٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم إنَّهُ كانَ غَفّارًا﴾ [نوح: ١٠] وقَوْلِهِ: ﴿وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: ١٠٠] إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: لِلْمُفَسِّرِينَ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ أقْوالٌ. أحَدُها: كُنْتُمْ في عِلْمِ اللَّهِ خَيْرَ أُمَّةٍ. وثانِيها: كُنْتُمْ في الأُمَمِ الَّذِينَ كانُوا قَبْلَكم مَذْكُورِينَ بِأنَّكم خَيْرُ أُمَّةٍ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿أشِدّاءُ عَلى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩] إلى قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهم في التَّوْراةِ﴾ [الفتح: ٢٩] فَشِدَّتُهم عَلى الكُفّارِ أمْرُهم بِالمَعْرُوفِ ونَهْيُهم عَنِ المُنْكَرِ. وثالِثُها: كُنْتُمْ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ مَوْصُوفِينَ بِأنَّكم خَيْرُ أُمَّةٍ. ورابِعُها: كُنْتُمْ مُنْذُ آمَنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ. وخامِسُها: قالَ أبُو مُسْلِمٍ قَوْلُهُ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ تابِعٌ لِقَوْلِهِ: ﴿وأمّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ والتَّقْدِيرُ: أنَّهُ يُقالُ لَهم عِنْدَ الخُلُودِ في الجَنَّةِ: كُنْتُمْ في دُنْياكم خَيْرَ أُمَّةٍ فاسْتَحَقَّيْتُمْ ما أنْتُمْ فِيهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وبَياضِ الوَجْهِ بِسَبَبِهِ، ويَكُونُ ما عُرِضَ بَيْنَ أوَّلِ القِصَّةِ وآخِرِها كَما لا يَزالُ يُعْرَضُ في القُرْآنِ مِن مِثْلِهِ. وسادِسُها: قالَ بَعْضُهم: لَوْ شاءَ اللَّهُ تَعالى لَقالَ (أنْتُمْ) وكانَ هَذا التَّشْرِيفُ حاصِلًا لِكُلِّنا ولَكِنَّ قَوْلَهُ: (كُنْتُمْ) مَخْصُوصٌ بِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ مِن أصْحابِ الرَّسُولِ ﷺ وهُمُ السّابِقُونَ الأوَّلُونَ، ومَن صَنَعَ مِثْلَ ما صَنَعُوا. وسابِعُها: كُنْتُمْ مُذْ آمَنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهم كانُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُذْ كانُوا.
الِاحْتِمالُ الثّالِثُ: أنْ يُقالَ (كانَ) هاهُنا زائِدَةٌ، وقالَ بَعْضُهم قَوْلُهُ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ هو كَقَوْلِهِ: ﴿واذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف: ٨٦] وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿واذْكُرُوا إذْ أنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ﴾ [الأنفال: ٢٦] وإضْمارُ كانَ وإظْهارُها سَواءٌ إلّا أنَّها تُذْكَرُ لِلتَّأْكِيدِ ووُقُوعِ الأمْرِ لا مَحالَةَ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: هَذا القَوْلُ ظاهِرُ (p-١٥٦)الِاخْتِلالِ، لِأنَّ (كانَ) تُلْغى مُتَوَسِّطَةً ومُؤَخَّرَةً، ولا تُلْغى مُتَقَدِّمَةً، تَقُولُ العَرَبُ: عَبْدُ اللَّهِ كانَ قائِمٌ، وعَبْدُ اللَّهِ قائِمٌ كانَ عَلى أنَّ كانَ مُلْغاةٌ، ولا يَقُولُونَ: كانَ عَبْدُ اللَّهِ قائِمٌ عَلى إلْغائِها، لِأنَّ سَبِيلَهم أنْ يَبْدَءُوا بِما تَنْصَرِفُ العِنايَةُ إلَيْهِ، والمُلْغى لا يَكُونُ في مَحَلِّ العِنايَةِ، وأيْضًا لا يَجُوزُ إلْغاءُ الكَوْنِ في الآيَةِ لِانْتِصابِ خَبَرِهِ، وإذا عَمِلَ الكَوْنُ في الخَبَرِ فَنَصَبَهُ لَمْ يَكُنْ مُلْغًى.
الِاحْتِمالُ الرّابِعُ: أنْ تَكُونَ (كانَ) بِمَعْنى صارَ، فَقَوْلُهُ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ مَعْناهُ صِرْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ، أيْ صِرْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ بِسَبَبِ كَوْنِكم آمِرِينَ بِالمَعْرُوفِ وناهِينَ عَنِ المُنْكَرِ ومُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ولَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ يَعْنِي كَما أنَّكُمُ اكْتَسَبْتُمْ هَذِهِ الخَيْرِيَّةَ بِسَبَبِ هَذِهِ الخِصالِ، فَأهْلُ الكِتابِ لَوْ آمَنُوا لَحَصَلَتْ لَهم أيْضًا صِفَةُ الخَيْرِيَّةِ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ إجْماعَ الأُمَّةِ حُجَّةٌ، وتَقْرِيرُهُ مِن وجْهَيْنِ. الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومِن قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ﴾ [الأعراف: ١٥٩] ثُمَّ قالَ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ فَوَجَبَ بِحُكْمِ هَذِهِ الآيَةِ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الآيَةُ أفْضَلَ مِن أُولَئِكَ الَّذِينَ يَهْدُونَ بِالحَقِّ مِن قَوْمِ مُوسى، وإذا كانَ هَؤُلاءِ أفْضَلَ مِنهم وجَبَ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الأُمَّةُ لا تَحْكُمُ إلّا بِالحَقِّ إذْ لَوْ جازَ في هَذِهِ الآيَةِ أنْ تَحْكُمَ بِما لَيْسَ بِحَقٍّ لامْتَنَعَ كَوْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ أفْضَلَ مِنَ الأُمَّةِ الَّتِي تُهْدِي بِالحَقِّ، لِأنَّ المُبْطِلَ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ خَيْرًا مِنَ المُحِقِّ، فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ لا تَحْكُمُ إلّا بِالحَقِّ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ إجْماعُهم حُجَّةً.
الوَجْهُ الثّانِي: وهو (أنَّ الألِفَ واللّامَ) في لَفْظِ (المَعْرُوفِ) ولَفْظِ (المُنْكَرِ) يُفِيدانِ الِاسْتِغْراقَ، وهَذا يَقْتَضِي كَوْنَهم آمِرِينَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ، وناهِينَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ ومَتى كانُوا كَذَلِكَ كانَ إجْماعُهم حَقًّا وصِدْقًا لا مَحالَةَ فَكانَ حُجَّةً، والمَباحِثُ الكَثِيرَةُ فِيهِ ذَكَرْناها في الأُصُولِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ الزَّجّاجُ: قَوْلُهُ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ ظاهِرُ الخِطابِ فِيهِ مَعَ أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ، ولَكِنَّهُ عامٌّ في كُلِّ الأُمَّةِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ [البقرة: ١٨٣] ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ﴾ [البقرة: ١٧٨] فَإنَّ كُلَّ ذَلِكَ خِطابٌ مَعَ الحاضِرِينَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، ولَكِنَّهُ عامٌّ في حَقِّ الكُلِّ كَذا هاهُنا.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أصْلُ الأُمَّةِ الطّائِفَةُ المُجْتَمِعَةُ عَلى الشَّيْءِ الواحِدِ فَأُمَّةُ نَبِيِّنا ﷺ هُمُ الجَماعَةُ المَوْصُوفُونَ بِالإيمانِ بِهِ والإقْرارِ بِنُبُوَّتِهِ، وقَدْ يُقالُ لِكُلِّ مَن جَمَعَتْهم دَعْوَتُهُ أنَّهم أُمَّتُهُ إلّا أنَّ لَفْظَ الأُمَّةِ إذا أُطْلِقَتْ وحْدَها وقَعَ عَلى الأوَّلِ، ألا تَرى أنَّهُ إذا قِيلَ أجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى كَذا فُهِمَ مِنهُ الأوَّلُ وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«أُمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلى ضَلالَةٍ» “ ورُوِيَ «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَقُولُ يَوْمَ القِيامَةِ ”أُمَّتِي أُمَّتِي“» فَلَفْظُ الأُمَّةِ في هَذِهِ المَواضِعِ وأشْباهِها يُفْهَمُ مِنهُ المُقِرُّونَ بِنُبُوَّتِهِ، فَأمّا أهْلُ دَعْوَتِهِ فَإنَّهُ إنَّما يُقالُ لَهم: إنَّهم أُمَّةُ الدَّعْوَةِ، ولا يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ إلّا لَفْظُ الأُمَّةِ بِهَذا الشَّرْطِ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ. الأوَّلُ: أنَّ المَعْنى كُنْتُمْ خَيْرَ الأُمَمِ المُخْرَجَةِ لِلنّاسِ في جَمِيعِ الأعْصارِ، فَقَوْلُهُ: ﴿أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ﴾ أيْ أُظْهِرَتْ لِلنّاسِ حَتّى تَمَيَّزَتْ وعُرِفَتْ وفُصِلَ بَيْنَها وبَيْنَ غَيْرِها. والثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: (لِلنّاسِ) مِن تَمامِ قَوْلِهِ: (كُنْتُمْ) والتَّقْدِيرُ: كُنْتُمْ لِلنّاسِ خَيْرَ أُمَّةٍ، ومِنهم مَن قالَ: (p-١٥٧)﴿أُخْرِجَتْ﴾ صِلَةٌ، والتَّقْدِيرُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ لِلنّاسِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ .
واعْلَمْ أنَّ هَذا كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ، والمَقْصُودُ مِنهُ بَيانُ عِلَّةِ تِلْكَ الخَيْرِيَّةِ، كَما تَقُولُ: زَيْدٌ كَرِيمٌ يُطْعِمُ النّاسَ ويَكْسُوهم ويَقُومُ بِما يُصْلِحُهم، وتَحْقِيقُ الكَلامِ أنَّهُ ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ ذِكْرَ الحُكْمِ مَقْرُونًا بِالوَصْفِ المُناسِبِ لَهُ يَدُلُّ عَلى كَوْنِ ذَلِكَ الحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الوَصْفِ، فَهاهُنا حَكَمَ تَعالى بِثُبُوتِ وصْفِ الخَيْرِيَّةِ لِهَذِهِ الأُمَّةِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ هَذا الحُكْمَ وهَذِهِ الطّاعاتِ، أعْنِي الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ والإيمانَ، فَوَجَبَ كَوْنُ تِلْكَ الخَيْرِيَّةِ مُعَلَّلَةً بِهَذِهِ العِباداتِ.
وهاهُنا سُؤالاتٌ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: مِن أيِّ وجْهٍ يَقْتَضِي الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ والإيمانُ بِاللَّهِ كَوْنَ هَذِهِ الأُمَّةِ خَيْرَ الأُمَمِ مَعَ أنَّ هَذِهِ الصِّفاتِ الثَّلاثَةَ كانَتْ حاصِلَةً في سائِرِ الأُمَمِ ؟
والجَوابُ: قالَ القَفّالُ: تَفْضِيلُهم عَلى الأُمَمِ الَّذِينَ كانُوا قَبْلَهم إنَّما حَصَلَ لِأجْلِ أنَّهم يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ بِآكَدِ الوُجُوهِ وهو القِتالُ لِأنَّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ قَدْ يَكُونُ بِالقَلْبِ وبِاللِّسانِ وبِاليَدِ، وأقْواها ما يَكُونُ بِالقِتالِ، لِأنَّهُ إلْقاءُ النَّفْسِ في خَطَرِ القَتْلِ. وأعْرَفُ المَعْرُوفاتِ الدِّينُ الحَقُّ والإيمانُ بِالتَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ، وأنْكَرُ المُنْكَراتِ: الكُفْرُ بِاللَّهِ، فَكانَ الجِهادُ في الدِّينِ مَحْمَلًا لِأعْظَمِ المَضارِّ لِغَرَضِ إيصالِ الغَيْرِ إلى أعْظَمِ المَنافِعِ، وتَخْلِيصِهِ مِن أعْظَمِ المَضارِّ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الجِهادُ أعْظَمَ العِباداتِ، ولَمّا كانَ أمْرُ الجِهادِ في شَرْعِنا أقْوى مِنهُ في سائِرِ الشَّرائِعِ، لا جَرَمَ صارَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِفَضْلِ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلى سائِرِ الأُمَمِ، وهَذا مَعْنى ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: قَوْلُهُ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ﴾ تَأْمُرُونَهم أنْ يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ ويُقِرُّوا بِما أنْزَلَ اللَّهُ، وتُقاتِلُونَهم عَلَيْهِ، و”لا إلَهَ إلّا اللَّهُ“ أعْظَمُ المَعْرُوفِ، والتَّكْذِيبُ هو أنْكَرُ المُنْكَرِ.
ثُمَّ قالَ القَفّالُ: فائِدَةُ القِتالِ عَلى الدِّينِ لا يُنْكِرُهُ مُنْصِفٌ، وذَلِكَ لِأنَّ أكْثَرَ النّاسِ يُحِبُّونَ أدْيانَهم بِسَبَبِ الأُلْفِ والعادَةِ، ولا يَتَأمَّلُونَ في الدَّلائِلِ الَّتِي تُورَدُ عَلَيْهِمْ فَإذا أُكْرِهَ عَلى الدُّخُولِ في الدِّينِ بِالتَّخْوِيفِ بِالقَتْلِ دَخَلَ فِيهِ، ثُمَّ لا يَزالُ يَضْعُفُ ما في قَلْبِهِ مِن حُبِّ الدِّينِ الباطِلِ، ولا يَزالُ يَقْوى في قَلْبِهِ حُبُّ الدِّينِ الحَقِّ إلى أنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الباطِلِ إلى الحَقِّ، ومِنَ اسْتِحْقاقِ العَذابِ الدّائِمِ إلى اسْتِحْقاقِ الثَّوابِ الدّائِمِ.
السُّؤالُ الثّانِي: لِمَ قُدِّمَ الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ عَلى الإيمانِ بِاللَّهِ في الذِّكْرِ مَعَ أنَّ الإيمانَ بِاللَّهِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلى كُلِّ الطّاعاتِ ؟
والجَوابُ: أنَّ الإيمانَ بِاللَّهِ أمْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ جَمِيعِ الأُمَمِ المُحِقَّةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى فَضَّلَ هَذِهِ الأُمَّةَ عَلى سائِرِ الأُمَمِ المُحِقَّةِ، فَيَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ المُؤَثِّرُ في حُصُولِ هَذِهِ الخَيْرِيَّةِ هو الإيمانُ الَّذِي هو القَدْرُ المُشْتَرَكُ بَيْنَ الكُلِّ، بَلِ المُؤَثِّرُ في حُصُولِ هَذِهِ الزِّيادَةِ هو كَوْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ أقْوى حالًا في الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ مِن سائِرِ الأُمَمِ، فَإذَنِ المُؤَثِّرُ في حُصُولِ هَذِهِ الخَيْرِيَّةِ هو الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، وأمّا الإيمانُ بِاللَّهِ فَهو شَرْطٌ لِتَأْثِيرِ هَذا المُؤَثِّرِ في هَذا الحُكْمِ لِأنَّهُ ما لَمْ يُوجَدِ الإيمانُ لَمْ يَصِرْ شَيْءٌ مِنَ الطّاعاتِ مُؤَثِّرًا في (p-١٥٨)صِفَةِ الخَيْرِيَّةِ، فَثَبَتَ أنَّ المُوجِبَ لِهَذِهِ الخَيْرِيَّةِ هو كَوْنُهم آمِرِينَ بِالمَعْرُوفِ ناهِينَ عَنِ المُنْكَرِ وأمّا إيمانُهم فَذاكَ شَرْطُ التَّأْثِيرِ، والمُؤَثِّرُ ألْصَقُ بِالأثَرِ مِن شَرْطِ التَّأْثِيرِ، فَلِهَذا السَّبَبِ قَدَّمَ اللَّهُ تَعالى ذِكْرَ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ عَلى ذِكْرِ الإيمانِ.
السُّؤالُ الثّالِثُ: لِمَ اكْتَفى بِذِكْرِ الإيمانِ بِاللَّهِ ولَمْ يَذْكُرِ الإيمانَ بِالنُّبُوَّةِ مَعَ أنَّهُ لا بُدَّ مِنهُ ؟
والجَوابُ: الإيمانُ بِاللَّهِ يَسْتَلْزِمُ الإيمانَ بِالنُّبُوَّةِ، لِأنَّ الإيمانَ بِاللَّهِ لا يَحْصُلُ إلّا إذا حَصَلَ الإيمانُ بِكَوْنِهِ صادِقًا، والإيمانُ بِكَوْنِهِ صادِقًا لا يَحْصُلُ إلّا إذا كانَ الَّذِي أظْهَرَ المُعْجِزَ عَلى وفْقِ دَعْواهُ صادِقًا لِأنَّ المُعْجِزَ قائِمٌ مَقامَ التَّصْدِيقِ بِالقَوْلِ، فَلَمّا شاهَدْنا ظُهُورَ المُعْجِزِ عَلى وفْقِ دَعْوى مُحَمَّدٍ ﷺ كانَ مِن ضَرُورَةِ الإيمانِ بِاللَّهِ الإيمانُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَكانَ الِاقْتِصارُ عَلى ذِكْرِ الإيمانِ بِاللَّهِ تَنْبِيهًا عَلى هَذِهِ الدَّقِيقَةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ وفِيهِ وجْهانِ. الأوَّلُ: ولَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ بِهَذا الدِّينِ الَّذِي لِأجْلِهِ حَصَلَتْ صِفَةُ الخَيْرِيَّةِ لِأتْباعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَحَصَلَتْ هَذِهِ الخَيْرِيَّةُ أيْضًا لَهم، فالمَقْصُودُ مِن هَذا الكَلامِ تَرْغِيبُ أهْلِ الكِتابِ في هَذا الدِّينِ. الثّانِي: أنَّ أهْلَ الكِتابِ إنَّما آثَرُوا دِينَهم عَلى دِينِ الإسْلامِ حُبًّا لِلرِّياسَةِ واسْتِتْباعِ العُلُومِ ولَوْ آمَنُوا لَحَصَلَتْ لَهم هَذِهِ الرِّياسَةُ في الدُّنْيا مَعَ الثَّوابِ العَظِيمِ في الآخِرَةِ، فَكانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهم مِمّا قَنِعُوا بِهِ.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى أتْبَعَ هَذا الكَلامَ بِجُمْلَتَيْنِ عَلى سَبِيلِ الِابْتِداءِ مِن غَيْرِ عاطِفٍ، إحْداهُما: قَوْلُهُ: ﴿مِنهُمُ المُؤْمِنُونَ وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ﴾ . وثانِيَتُهُما: قَوْلُهُ: ﴿لَنْ يَضُرُّوكم إلّا أذًى وإنْ يُقاتِلُوكم يُوَلُّوكُمُ الأدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: هُما كَلامانِ وارِدانِ عَلى طَرِيقِ الِاسْتِطْرادِ عِنْدَ إجْراءِ ذِكْرِ أهْلِ الكِتابِ، كَما يَقُولُ القائِلُ: وعَلى ذِكْرِ فُلانٍ فَإنَّ مِن شَأْنِهِ كَيْتُ وكَيْتُ، ولِذَلِكَ جاءَ (آمَنَ) غَيْرَ عاطِفٍ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿مِنهُمُ المُؤْمِنُونَ وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ﴾ فَفِيهِ سُؤالانِ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: الألِفُ واللّامُ في قَوْلِهِ: (المُؤْمِنُونَ) لِلِاسْتِغْراقِ أوْ لِلْمَعْهُودِ السّابِقِ ؟
والجَوابُ: بَلْ لِلْمَعْهُودِ السّابِقِ، والمُرادُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ ورَهْطُهُ مِنَ اليَهُودِ، والنَّجاشِيُّ ورَهْطُهُ مِنَ النَّصارى.
السُّؤالُ الثّانِي: الوَصْفُ إنَّما يُذْكَرُ لِلْمُبالَغَةِ فَأيُّ مُبالَغَةٍ تَحْصُلُ في وصْفِ الكافِرِ بِأنَّهُ فاسِقٌ ؟
والجَوابُ: الكافِرُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا في دِينِهِ وقَدْ يَكُونُ فاسِقًا في دِينِهِ فَيَكُونُ مَرْدُودًا عِنْدَ الطَّوائِفِ كُلِّهِمْ، لِأنَّ المُسْلِمِينَ لا يَقْبَلُونَهُ لِكُفْرِهِ، والكُفّارُ لا يَقْبَلُونَهُ لِكَوْنِهِ فاسِقًا فِيما بَيْنَهم، فَكَأنَّهُ قِيلَ: أهْلُ الكِتابِ فَرِيقانِ: مِنهم مَن آمَنَ، والَّذِينَ ما آمَنُوا فَهم فاسِقُونَ في أدْيانِهِمْ، فَلَيْسُوا مِمَّنْ يَجِبُ الِاقْتِداءُ بِهِمُ البَتَّةَ عِنْدَ أحَدٍ مِنَ العُقَلاءِ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَنْ يَضُرُّوكم إلّا أذًى﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا رَغَّبَ المُؤْمِنِينَ في التَّصَلُّبِ في إيمانِهِمْ وتَرْكِ الِالتِفاتِ إلى أقْوالِ الكُفّارِ وأفْعالِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ رَغَّبَهم فِيهِ مِن وجْهٍ آخَرَ، وهو أنَّهم لا قُدْرَةَ لَهم عَلى الإضْرارِ بِالمُسْلِمِينَ إلّا بِالقَلِيلِ مِنَ القَوْلِ الَّذِي لا عِبْرَةَ بِهِ، ولَوْ أنَّهم قاتَلُوا المُسْلِمِينَ صارُوا مُنْهَزِمِينَ مَخْذُولِينَ، وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ الِالتِفاتُ إلى أقْوالِهِمْ وأفْعالِهِمْ، وكُلُّ ذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِما تَقَدَّمَ مِن (p-١٥٩)قَوْلِهِ: ﴿إنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ﴾ [آل عمران: ١٠٠] فَهَذا وجْهُ النَّظْمِ، فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿لَنْ يَضُرُّوكم إلّا أذًى﴾ فَمَعْناهُ: أنَّهُ لَيْسَ عَلى المُسْلِمِينَ مِن كُفّارِ أهْلِ الكِتابِ ضَرَرٌ وإنَّما مُنْتَهى أمْرِهِمْ أنْ يُؤْذُوكم بِاللِّسانِ، إمّا بِالطَّعْنِ في مُحَمَّدٍ وعِيسى عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإمّا بِإظْهارِ كَلِمَةِ الكُفْرِ، كَقَوْلِهِمْ: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠] و﴿المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠] و﴿اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ [المائدة: ٧٣] وإمّا بِتَحْرِيفِ نُصُوصِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، وإمّا بِإلْقاءِ الشُّبَهِ في الأسْماعِ، وإمّا بِتَخْوِيفِ الضَّعَفَةِ مِنَ المُسْلِمِينَ، ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿إلّا أذًى﴾ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ وهو بَعِيدٌ، لِأنَّ كُلَّ الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ يُوجِبُ وُقُوعَ الغَمِّ في قُلُوبِ المُسْلِمِينَ، والغَمُّ ضَرَرٌ، فالتَّقْدِيرُ لا يَضُرُّوكم إلّا الضَّرَرَ الَّذِي هو الأذى، فَهو اسْتِثْناءٌ صَحِيحٌ، والمَعْنى لَنْ يَضُرُّوكم إلّا ضَرَرًا يَسِيرًا، والأذى وقَعَ مَوْقِعَ الضَّرَرِ، والأذى مَصْدَرُ أذَيْتُ الشَّيْءَ أذًى.
{"ayah":"كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَـٰبِ لَكَانَ خَیۡرࣰا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق