الباحث القرآني

﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ قالَ عِكْرِمَةُ ومُقاتِلٌ: (p-٢٨)نَزَلَتْ في ابْنِ مَسْعُودٍ، وأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وسالِمٍ مَوْلى أبِي حُذَيْفَةَ، ومُعاذِ بْنِ جَبَلٍ، وقَدْ قالَ لَهم بَعْضُ اليَهُودِ: دِينُنا خَيْرٌ مِمّا تَدْعُونَنا إلَيْهِ، ونَحْنُ خَيْرٌ وأفْضَلُ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في المُهاجِرِينَ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّها مِن تَمامِ الخِطابِ الأوَّلِ في قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] وتَوالَتْ بَعْدَ هَذا مُخاطَباتُ المُؤْمِنِينَ مِن أوامِرَ ونَواهٍ، وكانَ قَدِ اسْتَطْرَدَ مِن ذَلِكَ لِذِكْرِ مَن يَبْيَضُّ وجْهُهُ ويَسْوَدُّ، وشَيْءٍ مِن أحْوالِهِمْ في الآخِرَةِ، ثُمَّ عادَ إلى الخِطابِ الأوَّلِ، فَقالَ تَعالى: ”﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾“ تَحْرِيضًا بِهَذا الإخْبارِ عَلى الِانْقِيادِ والطَّواعِيَةِ. والظّاهِرُ أنَّ الخِطابَ هو لِمَن وقَعَ الخِطابُ لَهُ أوَّلًا وهم: أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَتَكُونُ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ”أُمَّةٍ“ إلى أُمَّةٍ مُعَيَّنَةٍ وهي أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ، فالصَّحابَةُ هم خَيْرُها. وقالَ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ وجَماعَةٌ: الخِطابُ لِجَمِيعِ الأُمَّةِ بِأنَّهم خَيْرُ الأُمَمِ، ويُؤَيِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ كَوْنُهم ﴿شُهَداءَ عَلى النّاسِ﴾ [البقرة: ١٤٣] وقَوْلُهُ: «نَحْنُ الآخِرُونَ السّابِقُونَ» . الحَدِيثُ. وقَوْلُهُ: «نَحْنُ نُكَمِّلُ يَوْمَ القِيامَةِ سَبْعِينَ أُمَّةٍ نَحْنُ آخِرُها وخَيْرُها» . وظاهِرُ كانَ هُنا أنَّها النّاقِصَةُ، و”﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾“ هو الخَبَرُ. ولا يُرادُ بِها هُنا الدَّلالَةُ عَلى مُضِيِّ الزَّمانِ وانْقِطاعِ النِّسْبَةِ نَحْوِ قَوْلِكَ: كانَ زَيْدٌ قائِمًا، بَلِ المُرادُ دَوامُ النِّسْبَةِ كَقَوْلِهِ: ﴿وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: ٩٦] ﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنا إنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٣٢] وكَوْنُ كانَ تَدُلُّ عَلى الدَّوامِ ومُرادِفُهُ، لَمْ يَزَلْ قَوْلًا مَرْجُوحًا، بَلِ الأصَحُّ أنَّها كَسائِرِ الأفْعالِ تَدُلُّ عَلى الِانْقِطاعِ، ثُمَّ قَدْ تُسْتَعْمَلُ حَيْثُ لا يُرادُ الِانْقِطاعُ. وقِيلَ: كانَ هُنا بِمَعْنى صارَ، أيْ صِرْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. وقِيلَ: كانَ هُنا تامَّةٌ، (وخَيْرُ أُمَّةٍ) حالٌ. وأبْعَدَ مَن ذَهَبَ إلى أنَّها زائِدَةٌ؛ لِأنَّ الزّائِدَةَ لا تَكُونُ أوَّلَ كَلامٍ، ولا عَمَلَ لَها. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كانَ عِبارَةً عَنْ وُجُودِ الشَّيْءِ في زَمَنٍ ماضٍ عَلى سَبِيلِ الإبْهامِ، ولَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلى عَدَمٍ سابِقٍ، ولا عَلى انْقِطاعٍ طارِئٍ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾ [النساء: ٩٦] . ومِنهُ قَوْلُهُ: ”﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾“ كَأنَّهُ قِيلَ: وُجِدْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. انْتَهى كَلامُهُ. فَقَوْلُهُ: إنَّها لا تَدُلُّ عَلى عَدَمٍ سابِقٍ، هَذا إذا لَمْ تَكُنْ بِمَعْنى صارَ، فَإذا كانَتْ بِمَعْنى صارَ دَلَّتْ عَلى عَدَمٍ سابِقٍ. فَإذا قُلْتَ: كانَ زَيْدٌ عالِمًا، بِمَعْنى صارَ، دَلَّتْ عَلى أنَّهُ انْتَقَلَ مِن حالَةِ الجَهْلِ إلى حالَةِ العِلْمِ. وقَوْلُهُ: ولا عَلى انْقِطاعٍ طارِئٍ، قَدْ ذَكَرْنا قَبْلُ أنَّ الصَّحِيحَ أنَّها كَسائِرِ الأفْعالِ، يَدُلُّ لَفْظُ المُضِيِّ مِنها عَلى الِانْقِطاعِ، ثُمَّ قَدْ تُسْتَعْمَلُ حَيْثُ لا يَكُونُ انْقِطاعٌ. وفَرْقٌ بَيْنَ الدَّلالَةِ والِاسْتِعْمالِ، ألا تَرى أنَّكَ تَقُولُ: هَذا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلى العُمُومِ ؟ ثُمَّ تُسْتَعْمَلُ حَيْثُ لا يُرادُ العُمُومُ، بَلِ المُرادُ الخُصُوصُ. وقَوْلُهُ: كَأنَّهُ قالَ: وُجِدْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، هَذا يُعارِضُ أنَّها مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: ٩٦]؛ لِأنَّ تَقْدِيرَهُ وُجِدْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ يَدُلُّ عَلى أنَّها تامَّةٌ، وأنَّ ”﴿خَيْرَ أُمَّةٍ﴾“ حالٌ. وقَوْلُهُ: ﴿وكانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾ [النساء: ٩٦] لاشَكَّ أنَّها هُنا النّاقِصَةُ، فَتَعارَضا. وقِيلَ: المَعْنى: كُنْتُمْ في عِلْمِ اللَّهِ. وقِيلَ: في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ. وقِيلَ: فِيما أُخْبِرَ بِهِ الأُمَمُ قَدِيمًا عَنْكم. وقِيلَ: هو عَلى الحِكايَةِ، وهو مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٧] أيْ فَيُقالُ لَهم في القِيامَةِ: كُنْتُمْ في الدُّنْيا خَيْرَ أُمَّةٍ، وهَذا قَوْلٌ بَعِيدٌ مِن سِياقِ الكَلامِ. وخَيْرٌ مُضافٌ لِلنَّكِرَةِ، وهي أفْعَلُ تَفْضِيلٍ، فَيَجِبُ إفْرادُها وتَذْكِيرُها، وإنْ كانَتْ جارِيَةً عَلى (p-٢٩)جَمْعٍ. والمَعْنى: أنَّ الأُمَمَ إذا فُضِّلُوا أُمَّةً أُمَّةً كانَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ خَيْرَها. وحُكِمَ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم خَيْرُ أُمَّةٍ، ولَمْ يُبَيِّنْ جِهَةَ الخَيْرِيَّةِ في اللَّفْظِ، وهي سَبْقُهم إلى الإيمانِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وبِدارِهِمْ إلى نُصْرَتِهِ، ونَقْلِهِمْ عَنْهُ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ، وافْتِتاحِهِمُ البِلادَ. وهَذِهِ فَضائِلُ اخْتُصُّوا بِها مَعَ ما لَهم مِنَ الفَضائِلِ. وكُلُّ مَن عَمِلَ بَعْدَهم حَسَنَةً فَلَهم مِثْلُ أجْرِها؛ لِأنَّهم سَبَبٌ في إيجادِها، إذْ هُمُ الَّذِينَ سَنُّوها، وأوْضَحُوا طَرِيقَها «مَن سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أجْرُها وأجْرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِن أجْرِهِمْ شَيْئًا» . ومَعْنى أُخْرِجَتْ: أُظْهِرَتْ وأُبْرِزَتْ، ومُخْرِجُها هو اللَّهُ تَعالى، وحُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أُخْرِجَتْ مِن مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ، وهي جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِأُمَّةٍ، أيْ خَيْرُ أُمَّةٍ مُخْرَجَةٍ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِخَيْرِ أُمَّةٍ، فَتَكُونُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ، أيْ: مُخْرَجَةٌ. وعَلى هَذا الوَجْهِ يَكُونُ قَدْ رُوعِيَ هُنا لَفْظُ الغَيْبَةِ، ولَمْ يُراعَ لَفْظُ الخِطابِ. وهُما طَرِيقانِ لِلْعَرَبِ، إذا تَقَدَّمَ ضَمِيرٌ حاضِرٌ لِمُتَكَلِّمٍ أوْ مُخاطَبٌ، ثُمَّ جاءَ بَعْدَهُ خَبَرُهُ اسْمًا، ثُمَّ جاءَ بَعْدَ ذَلِكَ ما يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ وصْفًا، فَتارَةً يُراعى حالُ ذَلِكَ الضَّمِيرِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الصّالِحُ لِلْوَصْفِ عَلى حَسَبِ الضَّمِيرِ، فَتَقُولُ: أنا رَجُلٌ آمِرٌ بِالمَعْرُوفِ، وأنْتَ رَجُلٌ تَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ. ومِنهُ: ﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ [النمل: ٤٧] و”«إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جاهِلِيَّةٌ» . ؎وأنْتَ امْرُؤٌ قَدْ كَثَأتْ لَكَ لِحْيَةٌ كَأنَّكَ مِنها قاعِدٌ في جَوالِقِ وتارَةً يُراعى حالُ ذَلِكَ الِاسْمِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الصّالِحُ لِلْوَصْفِ عَلى حَسَبِهِ مِنَ الغَيْبَةِ. فَتَقُولُ: أنا رَجُلٌ يَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ، وأنْتَ امْرُؤٌ تَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ. ومِنهُ:“ ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ﴾ ”. ولَوْ جاءَ أُخْرِجْتُمْ، فَيُراعى ضَمِيرُ الخِطابِ في كُنْتُمْ لَكانَ عَرَبِيًّا فَصِيحًا. والأوْلى جَعْلُهُ“ ﴿أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ﴾ ”صِفَةً لِأُمَّةٍ لا لِخَيْرٍ؛ لِتُناسِبَ الخِطابَ في كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ مَعَ الخِطابِ في تَأْمُرُونَ وما بَعْدَهُ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: لِلنّاسِ أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِأُخْرِجَتْ. وقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِخَيْرِ. ولا يَلْزَمُ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ أنَّها أفْضَلُ الأُمَمِ مِن نَفْسِ هَذا اللَّفْظِ، بَلْ مِن مَوْضِعٍ آخَرَ. وقِيلَ: بِتَأْمُرُونَ، والتَّقْدِيرُ: تَأْمُرُونَ النّاسَ بِالمَعْرُوفِ. فَلَمّا قُدِّمَ المَفْعُولُ جُرَّ بِاللّامِ كَقَوْلِهِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣] أيْ تَعْبُرُونَ الرُّؤْيا، وهَذا فِيهِ بُعْدٌ. تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ كَلامٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الثَّناءِ مِنَ اللَّهِ، قالَهُ الرَّبِيعُ. أوْ مَخْرَجَ الشَّرْطِ في الخَيْرِيَّةِ، رُوِيَ هَذا المَعْنى عَنْ عَمْرٍو، ومُجاهِدٍ، والزَّجّاجِ. فَقِيلَ: هو مُسْتَأْنَفٌ بَيَّنَ بِهِ كَوْنَهم خَيْرَ أُمَّةٍ، كَما تَقُولُ: زَيْدٌ كَرِيمٌ يُطَعِّمُ النّاسَ ويَكْسُوهم ويَقُومُ بِمَصالِحِهِمْ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَأْمُرُونَ وما بَعْدَهُ أحْوالٌ في مَوْضِعِ نَصْبٍ. انْتَهى، وقالَهُ الرّاغِبُ. والِاسْتِئْنافُ أمْكَنُ وأمْدَحُ. وأجازَ الحَوْفِيُّ في أنْ يَكُونَ“ تَأْمُرُونَ ”خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وأنْ يَكُونَ نَعْتًا لِخَيْرِ أُمَّةٍ. قِيلَ: وقَدَّمَ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ عَلى الإيمانِ؛ لِأنَّ الإيمانَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ الأُمَمِ، فَلَيْسَ المُؤَثِّرُ لِحُصُولِ هَذِهِ الزِّيادَةِ، بَلِ المُؤَثِّرُ كَوْنُهم أقْوى حالًا في الأمْرِ والنَّهْيِ. وإنَّما الإيمانُ شَرْطٌ لِلتَّأْثِيرِ؛ لِأنَّهُ ما لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَضُرَّ شَيْءٌ مِنَ الطّاعاتِ مُؤَثِّرًا في صِفَةِ الخَيْرِيَّةِ، والمُؤَثِّرُ ألْصَقُ بِالأثَرِ مِن شَرْطِ التَّأْثِيرِ. وإنَّما اكْتَفى بِذِكْرِ الإيمانِ بِاللَّهِ عَنِ الإيمانِ بِالنُّبُوَّةِ لِأنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ. انْتَهى، وهو مِن كَلامِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الرّازِيِّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جُعِلَ الإيمانُ بِكُلِّ ما يَجِبُ الإيمانُ بِهِ إيمانًا بِاللَّهِ؛ لِأنَّ مَن آمَنَ بِبَعْضِ ما يَجِبُ الإيمانُ بِهِ مِن رَسُولٍ أوْ كِتابٍ أوْ بَعْثٍ أوْ حِسابٍ أوْ عِقابٍ أوْ ثَوابٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُعْتَدَّ بِإيمانِهِ، فَكَأنَّهُ غَيْرُ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ. ويَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضِ الآيَةِ. انْتَهى. وقِيلَ: هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ وتُؤْمِنُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ. والظّاهِرُ في المَعْرُوفِ والمُنْكَرِ العُمُومُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المَعْرُوفُ الرَّسُولُ، والمُنْكَرُ عِبادَةُ الأصْنامِ. وقالَ أبُو العالِيَةِ: المَعْرُوفُ التَّوْحِيدُ، والمُنْكَرُ الشِّرْكُ. ﴿ولَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ أيْ ولَوْ آمَنَ عامَّتُهم وسائِرُهم. ويَعْنِي الإيمانَ التّامَّ النّافِعَ. واسْمُ كانَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن آمَنَ، كَما يَقُولُ: (p-٣٠)مَن صَدَّقَ كانَ خَيْرًا لَهُ، أيْ لَكانَ هو، أيِ الإيمانُ. وعَلَّقَ كَيْنُونَةَ الإيمانِ خَيْرًا لَهم عَلى تَقْدِيرِ حُصُولِهِ؛ تَوْبِيخًا لَهم مَقْرُونًا بِنُصْحِهِ تَعالى لَهم أنْ لَوْ آمَنُوا لَنَجَّوا أنْفُسَهم مِن عَذابِ اللَّهِ. و“ خَيْرٌ " هُنا أفْعَلُ التَّفْضِيلِ، والمَعْنى: لَكانَ خَيْرًا لَهم مِمّا هم عَلَيْهِ؛ لِأنَّهم إمّا آثَرُوا دِينَهم عَلى دِينِ الإسْلامِ حُبًّا في الرِّئاسَةِ واسْتِتْباعِ العَوامِ، فَلَهم في هَذا حَظٌّ دُنْيَوِيٌّ. وإيمانُهم يَحْصُلُ بِهِ الحَظُّ الدُّنْيَوِيُّ مِن كَوْنِهِمْ يَصِيرُونَ رُؤَساءَ في الإسْلامِ، والحَظُّ الأُخْرَوِيُّ الجَزِيلُ بِما وعَدُوهُ عَلى الإيمانِ مِن إيتائِهِمْ أجْرَهم مَرَّتَيْنِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ولَفْظَةُ خَيْرٍ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، ولا مُشارَكَةَ بَيْنَ كُفْرِهِمْ وإيمانِهِمْ في الخَيْرِ، وإنَّما جازَ ذَلِكَ لِما في لَفْظَةِ خَيْرٍ مِنَ الشِّياعِ وتَشَعُّبِ الوُجُوهِ، وكَذَلِكَ هي لَفْظَةُ أفْضَلَ وأحَبَّ وما جَرى مَجْراها. انْتَهى كَلامُهُ. وإبْقاؤُها عَلى مَوْضُوعِها الأصْلِيِّ أوْلى إذا أمْكَنَ ذَلِكَ، وقَدْ أمْكَنَ، إذِ الخَيْرِيَّةُ مُطْلَقَةٌ، فَتَحْصُلُ بِأدْنى مُشارَكَةٍ. ﴿مِنهُمُ المُؤْمِنُونَ وأكْثَرُهُمُ الفاسِقُونَ﴾ ظاهِرُ اسْمِ الفاعِلِ التَّلَبُّسُ بِالفِعْلِ، فَأخْبَرَ تَعالى أنَّ مِن أهْلِ الكِتابِ مَن هو مُلْتَبِسٌ بِالإيمانِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، وأخِيهِ، وثَعْلَبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، ومَن أسْلَمَ مِنَ اليَهُودِ. وكالنَّجاشِيِّ، وبَحِيرا، ومَن أسْلَمَ مِنَ النَّصارى، إذْ كانُوا مُصَدِّقِينَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ أنْ يُبْعَثَ وبَعْدَهُ. وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتابِ﴾ الخُصُوصُ، أيْ باقِي أهْلِ الكِتابِ؛ إذْ كانَتْ طائِفَةٌ مِنهم قَدْ حَصَلَ لَها الإيمانُ. وقِيلَ: المُرادُ بِاسْمِ الفاعِلِ هُنا الِاسْتِقْبالُ، أيْ: مِنهم مَن يُؤْمِنُ، فَعَلى هَذا يَكُونُ المُرادُ بِأهْلِ الكِتابِ العُمُومُ، ويَكُونُ قَوْلُهُ: مِنهُمُ المُؤْمِنُونَ إخْبارًا بِمَغِيبٍ، وأنَّهُ سَيَقَعُ مِن بَعْضِهِمُ الإيمانُ، ولا يَسْتَمِرُّونَ كُلُّهم عَلى الكُفْرِ. وأخْبَرَ تَعالى أنَّ أكْثَرَهُمُ الفاسِقُونَ، فَدَلَّ عَلى أنَّ المُؤْمِنِينَ مِنهم قَلِيلٌ. والألِفُ واللّامُ في (المُؤْمِنُونَ) وفي (الفاسِقُونَ) يَدُلُّ عَلى المُبالَغَةِ والكَمالِ في الوَصْفَيْنِ، وذَلِكَ ظاهِرٌ؛ لِأنَّ مَن آمَنَ بِكِتابِهِ وبِالقُرْآنِ فَهو كامِلٌ في إيمانِهِ، ومَن كَذَّبَ بِكِتابِهِ إذْ لَمْ يَتْبَعُ ما تَضَمَّنَهُ مِنَ الإيمانِ بِرَسُولِ اللَّهِ، وكَذَّبَ بِالقُرْآنِ - فَهو أيْضًا كامِلٌ في فِسْقِهِ مُتَمَرِّدٌ في كُفْرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب