الباحث القرآني

(p-٤٧)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَبارَكَ الَّذِي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِن ذَلِكَ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ ويَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسّاعَةِ وأعْتَدْنا لِمَن كَذَّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيرًا﴾ ﴿إذا رَأتْهم مِن مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وزَفِيرًا﴾ ﴿وإذا أُلْقُوا مِنها مَكانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُورًا﴾ ﴿لا تَدْعُوا اليَوْمَ ثُبُورًا واحِدًا وادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ . اعْلَمْ أنَّ هَذا هو الجَوابُ الثّانِي عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، فَقَوْلُهُ: ﴿تَبارَكَ الَّذِي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِن ذَلِكَ﴾ أيْ مِنَ الَّذِي ذَكَرُوهُ مِن نِعَمِ الدُّنْيا كالكَنْزِ والجَنَّةِ، وفَسَّرَ ذَلِكَ الخَيْرَ بِقَوْلِهِ: ﴿جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ ويَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾، نَبَّهَ بِذَلِكَ سُبْحانَهُ عَلى أنَّهُ قادِرٌ عَلى أنْ يُعْطِيَ الرَّسُولُ كُلَّ ما ذَكَرُوهُ، ولَكِنَّهُ تَعالى يُدَبِّرُ عِبادَهُ بِحَسَبِ الصّالِحِ، أوْ عَلى وفْقِ المَشِيئَةِ، ولا اعْتِراضَ لِأحَدٍ عَلَيْهِ في شَيْءٍ مِن أفْعالِهِ، فَيَفْتَحُ عَلى واحِدٍ أبْوابَ المَعارِفِ والعُلُومِ، ويَسُدُّ عَلَيْهِ أبْوابَ الدُّنْيا، وفي حَقِّ الآخَرِ بِالعَكْسِ، وما ذاكَ إلّا أنَّهُ فَعّالٌ لِما يُرِيدُ، وهَهُنا مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: خَيْرٌ مِن ذَلِكَ مِمّا عَيَّرُوكَ بِفَقْدِهِ الجَنَّةُ؛ لِأنَّهم عَيَّرُوكَ بِفَقْدِ الجَنَّةِ الواحِدَةِ، وهو سُبْحانَهُ قادِرٌ عَلى أنْ يُعْطِيَكَ جَنّاتٍ كَثِيرَةً، وقالَ في رِوايَةِ عِكْرِمَةَ: ﴿خَيْرًا مِن ذَلِكَ﴾ أيْ مِنَ المَشْيِ في الأسْواقِ وابْتِغاءِ المَعاشِ. المسألة الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿إنْ شاءَ﴾ مَعْناهُ أنَّهُ سُبْحانَهُ قادِرٌ عَلى ذَلِكَ، لا أنَّهُ تَعالى شاكٌّ؛ لِأنَّ الشَّكَّ لا يَجُوزُ عَلى اللَّهِ تَعالى، وقالَ قَوْمٌ: ﴿إنْ﴾ هَهُنا بِمَعْنى إذا، أيْ قَدْ جَعَلْنا لَكَ في الآخِرَةِ جَنّاتٍ وبَنَيْنا لَكَ قُصُورًا، وإنَّما أدْخَلَ إنْ تَنْبِيهًا لِلْعِبادِ عَلى أنَّهُ لا يَنالُ ذَلِكَ إلّا بِرَحْمَتِهِ، وأنَّهُ مُعَلَّقٌ عَلى مَحْضِ مَشِيئَتِهِ، وأنَّهُ لَيْسَ لِأحَدٍ مِنَ العِبادِ عَلى اللَّهِ حَقٌّ، لا في الدُّنْيا ولا في الآخِرَةِ. المسألة الثّالِثَةُ: القُصُورُ جَماعَةُ قَصْرٍ، وهو المَسْكَنُ الرَّفِيعُ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ لِكُلِّ جَنَّةٍ قَصْرٌ، فَيَكُونَ مَسْكَنًا ومُتَنَزَّهًا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ القُصُورُ مَجْمُوعَةً والجَنّاتُ مَجْمُوعَةً. وقالَ مُجاهِدٌ: إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ جَنّاتٍ في الآخِرَةِ وقُصُورًا في الدُّنْيا. المسألة الرّابِعَةُ: اخْتَلَفَ الفَرّاءُ في قَوْلِهِ: ﴿ويَجْعَلْ﴾، فَرَفَعَ ابْنُ كَثِيرٍ وابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ اللّامَ، وجَزَمَهُ الآخَرُونَ، فَمَن جَزَمَ فَلِأنَّ المَعْنى: إنْ شاءَ يَجْعَلْ لَكَ جَنّاتٍ ويَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا، ومَن رَفَعَ فَعَلى الِاسْتِئْنافِ، والمَعْنى سَيَجْعَلُ لَكَ قُصُورًا، هَذا قَوْلُ الزَّجّاجِ، قالَ الواحِدِيُّ: وبَيْنَ القِراءَتَيْنِ فَرْقٌ في المَعْنى، فَمَن جَزَمَ فالمَعْنى: إنْ شاءَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا في الدُّنْيا، ولا يَحْسُنُ الوُقُوفُ عَلى الأنْهارِ، ومَن رَفَعَ حَسُنَ لَهُ الوُقُوفُ عَلى الأنْهارِ، واسْتَأْنَفَ، أيْ ويَجْعَلُ لَكَ قُصُورًا في الآخِرَةِ. وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وابْنِ مَسْعُودٍ: (تَبارَكَ الَّذِي إنْ شاءَ يَجْعَلُ) . المسألة الخامِسَةُ: عَنْ طاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «بَيْنَما رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جالِسٌ وجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَهُ قالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: هَذا مَلَكٌ قَدْ نَزَلَ مِنَ السَّماءِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ في زِيارَتِكَ. فَلَمْ يَلْبَثْ إلّا قَلِيلًا حَتّى جاءَ المَلَكُ وسَلَّمَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وقالَ: ”إنَّ اللَّهَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أنْ يُعْطِيَكَ مَفاتِيحَ كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يُعْطِها أحَدًا قَبْلَكَ ولا يُعْطِيهِ أحَدًا بَعْدَكَ مِن غَيْرِ أنْ يَنْقُصَكَ مِمّا ادَّخَرَ لَكَ شَيْئًا. فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: بَلْ يَجْمَعُها جَمِيعًا لِي في الآخِرَةِ. فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿تَبارَكَ الَّذِي إنْ شاءَ﴾ الآيَةَ» وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «عَرَضَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ بَطْحاءَ (p-٤٨)مَكَّةَ» ذَهَبًا، فَقُلْتُ: بَلْ شُبْعَةٌ وثَلاثُ جَوْعاتٍ، وذَلِكَ أكْثَرُ لِذِكْرِي ومَسْألَتِي لِرَبِّي، وفي رِوايَةِ صَفْوانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ الوَهّابِ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «أشْبَعُ يَوْمًا وأجُوعُ ثَلاثًا، فَأحْمَدُكَ إذا شَبِعْتُ وأتَضَرَّعُ إلَيْكَ إذا جُعْتُ» . وعَنِ الضَّحّاكِ:“ «لَمّا عَيَّرَ المُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِالفاقَةِ حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِذَلِكَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ مُعَزِّيًا لَهُ، وقالَ: إنَّ اللَّهَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ ويَقُولُ: ﴿وما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلّا إنَّهم لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ﴾ [الفُرْقانِ: ٢٠] الآيَةَ، قالَ: فَبَيْنَما جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ والنَّبِيُّ ﷺ يَتَحَدَّثانِ إذْ فُتِحَ بابٌ مِن أبْوابِ السَّماءِ لَمْ يَكُنْ فُتِحَ قَبْلَ ذَلِكَ، ثم قال: أبْشِرْ يا مُحَمَّدُ، هَذا رِضْوانُ خازِنُ الجَنَّةِ قَدْ أتاكَ بِالرِّضا مِن رَبِّكَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وقالَ: إنَّ رَبَّكَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا وبَيْنَ أنْ تَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا ومَعَهُ سَفَطٌ مِن نُورٍ يَتَلَأْلَأُ، ثم قال: هَذِهِ مَفاتِيحُ خَزائِنِ الدُّنْيا فاقْبِضْها مِن غَيْرِ أنْ يَنْقُصَكَ اللَّهُ مِمّا أعَدَّ لَكَ في الآخِرَةِ جَناحَ بَعُوضَةٍ. فَنَظَرَ النَّبِيُّ ﷺ إلى جِبْرِيلَ كالمُسْتَشِيرِ، فَأوْمَأ بِيَدِهِ أنْ تَواضَعْ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا» . قالَ: فَكانَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَأْكُلْ مُتَّكِئًا حَتّى فارَقَ الدُّنْيا. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسّاعَةِ وأعْتَدْنا لِمَن كَذَّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيرًا﴾ فَهَذا جَوابٌ ثالِثٌ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ، كَأنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ: لَيْسَ ما تَعَلَّقُوا بِهِ شُبْهَةً عَلَيْكَ في نَفْسِ المسألة، بَلِ الَّذِي حَمَلَهم عَلى تَكْذِيبِكَ تَكْذِيبُهم بِالسّاعَةِ اسْتِثْقالًا لِلِاسْتِعْدادِ لَها، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى أنَّهم يُكَذِّبُونَ بِالسّاعَةِ فَلا يَرْجُونَ ثَوابًا ولا عِقابًا ولا يَتَحَمَّلُونَ كُلْفَةَ النَّظَرِ والفِكْرِ، فَلِهَذا لا يَنْتَفِعُونَ بِما يُورَدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الدَّلائِلِ. ثم قال: ﴿وأعْتَدْنا لِمَن كَذَّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيرًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قالَ أبُو مُسْلِمٍ: ”وأعْتَدْنا“ أيْ: جَعَلْناها عَتِيدًا ومُعَدَّةً لَهم، والسَّعِيرُ: النّارُ الشَّدِيدَةُ الِاسْتِعارِ، وعَنِ الحَسَنِ أنَّهُ اسْمٌ مِن أسْماءِ جَهَنَّمَ. المسألة الثّانِيَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا عَلى أنَّ الجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٣٣] وعَلى أنَّ النّارَ الَّتِي هي دارُ العِقابِ مَخْلُوقَةٌ بِهَذِهِ الآيَةِ، وهي قَوْلُهُ: ﴿وأعْتَدْنا لِمَن كَذَّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيرًا﴾، وقَوْلُهُ: ﴿وأعْتَدْنا﴾ إخْبارٌ عَنْ فِعْلٍ وقَعَ في الماضِي، فَدَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ دارَ العِقابِ مَخْلُوقَةٌ، قالَ الجُبّائِيُّ: يَحْتَمِلُ وأعْتَدْنا النّارَ في الدُّنْيا وبِها نُعَذِّبُ الكُفّارَ والفُسّاقَ في قُبُورِهِمْ، ويَحْتَمِلُ نارَ الآخِرَةِ ويَكُونُ مَعْنى ﴿وأعْتَدْنا﴾ أيْ: سَنَعُدُّها لَهم؛ كَقَوْلِهِ: ﴿ونادى أصْحابُ الجَنَّةِ أصْحابَ النّارِ﴾ [ الأعْرافِ: ٤٤]، واعْلَمْ أنَّ هَذا السُّؤالَ في نِهايَةِ السُّقُوطِ؛ لِأنَّ المُرادَ مِنَ السَّعِيرِ إمّا نارُ الدُّنْيا وإمّا نارُ الآخِرَةِ، فَإنْ كانَ الأوَّلُ فَإمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّهُ تَعالى يُعَذِّبُهم في الدُّنْيا بِنارِ الدُّنْيا، أوْ يُعَذِّبُهم في الآخِرَةِ بِنارِ الدُّنْيا، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى ما عَذَّبَهم بِالنّارِ في الدُّنْيا، والتّالِي أيْضًا باطِلٌ لِأنَّهُ لَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِنَ الأُمَّةِ: إنَّهُ تَعالى يُعَذِّبُ الكَفَرَةَ في الآخِرَةِ بِنِيرانِ الدُّنْيا، فَثَبَتَ أنَّ المُرادَ نارُ الآخِرَةِ، وثَبَتَ أنَّها مُعَدَّةٌ، وحَمْلُ الآيَةِ عَلى أنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُها مُعَدَّةً تَرْكٌ لِلظّاهِرِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ، وعَلى أنَّ الحَسَنَ قالَ: السَّعِيرُ اسْمٌ مِن أسْماءِ جَهَنَّمَ فَقَوْلُهُ: ﴿وأعْتَدْنا لِمَن كَذَّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيرًا﴾ صَرِيحٌ في أنَّهُ تَعالى أعَدَّ جَهَنَّمَ. المسألة الثّالِثَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ السَّعِيدَ مَن سَعِدَ في بَطْنِ أُمِّهِ، فَقالُوا: إنَّ الَّذِينَ أعَدَّ اللَّهُ تَعالى لَهُمُ السَّعِيرَ وأخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ وحَكَمَ بِهِ أنْ صارُوا مُؤْمِنِينَ مِن أهْلِ الثَّوابِ، انْقَلَبَ حُكْمُ اللَّهِ بِكَوْنِهِمْ مِن أهْلِ السَّعِيرِ كَذِبًا، وانْقَلَبَ بِذَلِكَ عِلْمُهُ جَهْلًا، وهَذا الِانْقِلابُ مُحالٌ، والمُؤَدِّي إلى المُحالِ مُحالٌ، فَصَيْرُورَةُ أُولَئِكَ مُؤْمِنِينَ مِن أهْلِ الثَّوابِ مُحالٌ، فَثَبَتَ أنَّ السَّعِيدَ لا يَنْقَلِبُ شَقِيًّا، والشَّقِيَّ لا يَنْقَلِبُ سَعِيدًا. * * * ثُمَّ إنَّهُ (p-٤٩)سُبْحانَهُ وتَعالى وصَفَ السَّعِيرَ بِصِفاتٍ: إحْداها قَوْلُهُ: ﴿إذا رَأتْهم مِن مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وزَفِيرًا﴾، وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: السَّعِيرُ مُذَكَّرٌ، ولَكِنْ جاءَ هَهُنا مُؤَنَّثًا لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿رَأتْهُمْ﴾ وقالَ: ﴿سَمِعُوا لَها﴾ وإنَّما جاءَ مُؤَنَّثًا عَلى مَعْنى النّارِ. المسألة الثّانِيَةُ: مَذْهَبُ أصْحابِنا أنَّ البِنْيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا في الحَياةِ، فالنّارُ عَلى ما هي عَلَيْهِ يَجُوزُ أنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الحَياةَ والعَقْلَ والنُّطْقَ فِيها، وعِنْدَ المُعْتَزِلَةِ ذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ، وهَؤُلاءِ المُعْتَزِلَةُ لَيْسَ لَهم في هَذا البابِ حُجَّةٌ إلّا اسْتِقْراءُ العاداتِ، ولَوْ صَدَقَ ذَلِكَ لَوَجَبَ التَّكْذِيبُ بِانْخِراقِ العاداتِ في حَقِّ الرُّسُلِ، فَهَؤُلاءِ قَوْلُهم مُتَناقِضٌ، بَلْ إنْكارُ العاداتِ لا يَلِيقُ إلّا بِأُصُولِ الفَلاسِفَةِ، فَعَلى هَذا قالَ أصْحابُنا: قَوْلُ اللَّهِ تَعالى في صِفَةِ النّارِ: ﴿إذا رَأتْهم مِن مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وزَفِيرًا﴾ يَجِبُ إجْراؤُهُ عَلى الظّاهِرِ؛ لِأنَّهُ لا امْتِناعَ في أنْ تَكُونَ النّارُ حَيَّةً رائِيَةً مُغْتاظَةً عَلى الكُفّارِ، أمّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدِ احْتاجُوا إلى التَّأْوِيلِ وذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أحَدُها: قالُوا: مَعْنى رَأتْهم ظَهَرَتْ لَهم، مِن قَوْلِهِمْ: دُورُهم تَتَراءى وتَتَناظَرُ، وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إنَّ المُؤْمِنَ والكافِرَ لا تَتَراءى ناراهُما» أيْ: لا تَتَقابَلانِ؛ لِما يَجِبُ عَلى المُؤْمِنِ مِن مُجانَبَةِ الكافِرِ والمُشْرِكِ، ويُقالُ: دُورُ فُلانٍ مُتَناظِرَةٌ، أيْ: مُتَقابِلَةٌ. وثانِيها: أنَّ النّارَ لِشِدَّةِ اضْطِرامِها وغَلَيانِها صارَتْ تَرى الكُفّارَ وتَطْلُبُهم وتَتَغَيَّظُ عَلَيْهِمْ. وثالِثُها: قالَ الجُبّائِيُّ: إنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ النّارَ وأرادَ الخَزَنَةَ المُوَكَّلَةَ بِتَعْذِيبِ أهْلِ النّارِ؛ لِأنَّ الرُّؤْيَةَ تَصِحُّ مِنهم ولا تَصِحُّ مِنَ النّارِ، فَهو كَقَوْلِهِ: ﴿واسْألِ القَرْيَةَ﴾ [يُوسُفَ: ٨٢] أرادَ أهْلَها. المسألة الثّالِثَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: التَّغَيُّظُ عِبارَةٌ عَنْ شِدَّةِ الغَضَبِ، وذَلِكَ لا يَكُونُ مَسْمُوعًا، فَكَيْفَ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿سَمِعُوا لَها تَغَيُّظًا وزَفِيرًا﴾ ؟ والجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ التَّغَيُّظَ وإنْ لَمْ يُسْمَعْ فَإنَّهُ قَدْ يُسْمَعُ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الصَّوْتِ، وهو كَقَوْلِهِ: رَأيْتُ غَضَبَ الأمِيرِ عَلى فُلانٍ، إذا رَأى ما يَدُلُّ عَلَيْهِ، وكَذَلِكَ يُقالُ في المَحَبَّةِ فَكَذا هَهُنا، والمَعْنى سَمِعُوا لَها صَوْتًا يُشْبِهُ صَوْتَ المُتَغَيِّظِ، وهو قَوْلُ الزَّجّاجِ. وثانِيها: المَعْنى: عَلِمُوا لَها تَغَيُّظًا وسَمِعُوا لَها زَفِيرًا، وهَذا قَوْلُ قُطْرُبٍ، وهو كَقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحًا وثالِثُها: المُرادُ تَغَيُّظُ الخَزَنَةِ. المسألة الرّابِعَةُ: قالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: إنَّ جَهَنَّمَ لَتَزْفِرُ زَفْرَةً لا يَبْقى أحَدٌ إلّا وتُرْعَدُ فَرائِصُهُ، حَتّى إنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَجْثُو عَلى رُكْبَتَيْهِ ويَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي. * * * الصِّفَةُ الثّانِيَةُ لِلسَّعِيرِ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا أُلْقُوا مِنها مَكانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُورًا﴾ واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لَمّا وصَفَ حالَ الكُفّارِ حِينَما يَكُونُونَ بِالبُعْدِ مِن جَهَنَّمَ، وصَفَ حالَهم عِنْدَما يُلْقَوْنَ فِيها، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنهُ بِما لا شَيْءَ أبْلَغُ مِنهُ، وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: في ﴿ضَيِّقًا﴾ قِراءَتانِ؛ التَّشْدِيدُ، والتَّخْفِيفُ وهو قِراءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ. المسألة الثّانِيَةُ: نُقِلَ في تَفْسِيرِ الضِّيقِ أُمُورٌ، قالَ قَتادَةُ: ذَكَرَ لَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قالَ: ”إنَّ جَهَنَّمَ لَتَضِيقُ عَلى الكافِرِ كَضِيقِ الزُّجِّ عَلى الرُّمْحِ“ . وسُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ ذَلِكَ فَقالَ: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهم يُسْتَكْرَهُونَ في النّارِ كَما يُسْتَكْرَهُ الوَتَدُ في الحائِطِ»، قالَ الكَلْبِيُّ: الأسْفَلُونَ يَرْفَعُهُمُ اللَّهِيبُ، والأعْلَوْنَ يَخْفِضُهُمُ الدّاخِلُونَ (p-٥٠)فَيَزْدَحِمُونَ في تِلْكَ الأبْوابِ الضَّيِّقَةِ. قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: الكَرْبُ مَعَ الضِّيقِ، كَما أنَّ الرُّوحَ مَعَ السَّعَةِ، ولِذَلِكَ وصَفَ اللَّهُ الجَنَّةَ بِأنَّ عَرْضَها السَّماواتُ والأرْضُ، وجاءَ في الأحادِيثِ ”«إنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ القُصُورِ والجِنانِ كَذا وكَذا» “ ولَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ عَلى أهْلِ النّارِ أنْواعَ البَلاءِ، حَيْثُ ضَمَّ إلى العَذابِ الشَّدِيدِ الضِّيقَ. المسألة الثّالِثَةُ: قالُوا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مُقَرَّنِينَ في الأصْفادِ﴾ [إبراهيم: ٤٩]: إنَّ أهْلَ النّارِ مَعَ ما هم فِيهِ مِنَ العَذابِ الشَّدِيدِ والضِّيقِ الشَّدِيدِ يَكُونُونَ مُقَرَّنِينَ في السَّلاسِلِ، قُرِنَتْ أيْدِيهِمْ إلى أعْناقِهِمْ، وقِيلَ: يُقْرَنُ مَعَ كُلِّ كافِرٍ شَيْطانُهُ في سِلْسِلَةٍ، وفي أرْجُلِهِمُ الأصْفادُ، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ حَكى عَنْ أهْلِ النّارِ أنَّهم حِينَما يُشاهِدُونَ هَذا النوع مِنَ العِقابِ الشَّدِيدِ دَعَوْا ثُبُورًا، والثُّبُورُ: الهَلاكُ، ودُعاؤُهم أنْ يَقُولُوا: واثُبُوراهْ، أيْ يَقُولُوا: يا ثُبُورُ، هَذا حِينُكَ وزَمانُكَ. ورَوى أنَسٌ مَرْفُوعًا: «أوَّلُ مَن يُكْسى حُلَّةً مِنَ النّارِ إبْلِيسُ، فَيَضَعُها عَلى جانِبَيْهِ ويَسْحَبُها مِن خَلْفِهِ ذُرِّيَّتُهُ وهو يَقُولُ: يا ثُبُوراهْ، ويُنادَوْنَ: يا ثُبُورَهم حَتّى يَرِدُوا النّارَ» . * * * أمّا قَوْلُهُ: ﴿لا تَدْعُوا اليَوْمَ ثُبُورًا واحِدًا﴾ أيْ: يُقالُ لَهم ذَلِكَ، وهم أحِقّاءُ بِأنْ يُقالَ لَهم ذَلِكَ، وإنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ قَوْلٌ، ومَعْنى ﴿وادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾ أنَّكم وقَعْتُمْ فِيما لَيْسَ ثُبُورُكم مِنهُ واحِدًا، إنَّما هو ثُبُورٌ كَثِيرٌ، إمّا لِأنَّ العَذابَ أنْواعٌ وألْوانٌ، لِكُلِّ نَوْعٍ مِنها ثُبُورٌ لِشِدَّتِهِ وفَظاعَتِهِ، أوْ لِأنَّهم كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهم بُدِّلُوا غَيْرَها، أوْ لِأنَّ ذَلِكَ العَذابَ دائِمٌ خالِصٌ عَنِ الشَّوْبِ، فَلَهم في كُلِّ وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ الَّتِي لا نِهايَةَ لَها ثُبُورٌ، أوْ لِأنَّهم رُبَّما يَجِدُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ القَوْلِ نَوْعًا مِنَ الخِفَّةِ، فَإنَّ المُعَذَّبَ إذا صاحَ وبَكى وجَدَ بِسَبَبِهِ نَوْعًا مِنَ الخِفَّةِ فَيُزْجَرُونَ عَنْ ذَلِكَ، ويُخْبَرُونَ بِأنَّ هَذا الثُّبُورَ سَيَزْدادُ كُلَّ يَوْمٍ لِيَزْدادَ حُزْنُهم وغَمُّهم، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنهُ، قالَ الكَلْبِيُّ: نَزَلَ هَذا كُلُّهُ في حَقِّ أبِي جَهْلٍ والكُفّارِ الَّذِينَ ذَكَرُوا تِلْكَ الشُّبُهاتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب