الباحث القرآني

ولَمّا ثَبَتَ أنَّهُ لا وُجُودَ لَهم لِأنَّهم لا عِلْمَ لَهم ولا قُدْرَةَ، وأنَّهم لا يُمْنَ لَهم ولا بَرَكَةَ، لا عَلى أنْفُسِهِمْ ولا غَيْرِهِمْ، أثْبَتَ لِنَفْسِهِ سُبْحانَهُ ما يَسْتَحِقُّ مِنَ الكَمالِ الَّذِي يَفِيضُ بِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ ما يَشاءُ فَقالَ: ﴿تَبارَكَ﴾ أيْ ثَبْتَ ثَباتًا مُقْتَرِنًا بِاليُمْنِ والبَرَكَةِ، لا ثَباتَ إلّا هو ﴿الَّذِي إنْ شاءَ﴾ فَإنَّهُ لا مُكْرِهَ لَهُ ﴿جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِن ذَلِكَ﴾ أيِ الَّذِي قالُوهُ عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ؛ ثُمَّ أبْدَلَ مِنهُ قَوْلَهُ: ﴿جَنّاتٍ﴾ فَضْلًا عَنْ جَنَّةٍ واحِدَةٍ ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ أيْ تَكُونُ أرْضُها عُيُونًا نابِعَةً، أيْ مَوْضِعٍ أُرِيدَ مِنهُ إجْراءُ نَهْرٍ جَرى، فَهي لا تَزالُ رَيّا تُغْنِي صاحِبَها عَنْ كُلِّ حاجَةٍ ولا تُحْوِجُهُ في اسْتِثْمارِها إلى سَقْيٍ. ولَمّا كانَ القَصْرُ - وهو بَيْتُ المُشَيِّدِ - لَيْسَ مِمّا يَسْتَمِرُّ فِيهِ الجَعْلُ (p-٣٤٨)كالجَنَّةِ الَّتِي هَذِهِ صِفَتُها، عَبَّرَ فِيهِ بِالمُضارِعِ إيذانًا بِالتَّجْدِيدِ كُلَّما حَصَلَ خَلَلٌ يَقْدَحُ في مُسَمّى القَصْرِ فَقالَ: ﴿ويَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ أيْ بُيُوتًا مُشَيَّدَةً تَسْكُنُها بِما يَلِيقُ بِها مِنَ الحَشَمِ والخَدَمِ، قالَ البَغَوِيُّ: والعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ بَيْتٍ مُشَيَّدٍ قَصْرًا. وهَذِهِ العِبارَةُ الصّالِحَةُ لِأنْ يَجْعَلَ لَهُ سُبْحانَهُ ذَلِكَ في الدُّنْيا مِمّا فَتَّتَ في أعَضادِهِمْ، وخافُوا غائِلَتَها فَسَهَّلَتْ مِن قِيادِهِمْ، لِعِلْمِهِمْ بِأنَّ مُراسِلَهُ قادِرٌ عَلى ما يُرِيدُ، لَكِنَّهُ سُبْحانَهُ أغْناهُ عَنْ ذَلِكَ بِتَأْيِيدِهِ بِالأعْوانِ، مِنَ المَلائِكَةِ والإنْسِ والجانِّ، حَتّى اضْمَحَلَّ أمْرُهُمْ، وعِيلَ صَبْرُهُمْ، ولَمْ يَشَأْ سُبْحانَهُ ما أشارَ إلَيْهِ في هَذِهِ الآيَةِ الشَّرِيفَةِ في هَذِهِ الدُّنْيا الفانِيَةِ، وأخَّرَهُ إلى الآخِرَةِ الباقِيَةِ، وقَدْ عَرَضَ سُبْحانَهُ عَلَيْهِ ما شاءَ مِن ذَلِكَ في الدُّنْيا فَأباهُ، رَوى البَغَوِيُّ مِن طَرِيقِ ابْنِ المُبارَكِ، والتِّرْمِذِيِّ - وقالَ: حَسَنٌ عَنْ أبِي أُمامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي أنْ يَجْعَلَ لِي (p-٣٤٩)بَطْحاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فَقُلْتُ: لا يا رَبِّ! ولَكِنْ أشْبَعُ يَوْمًا وأجُوعُ يَوْمًا، فَإذا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إلَيْكَ ودَعَوْتُكَ، وإذا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وشَكَرْتُكَ» . ورُوِيَ عَنْ طَرِيقِ أبِي الشَّيْخِ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَوْ شِئْتُ لَسارَتْ مَعِي جِبالُ الذَّهَبِ جاءَنِي مَلَكٌ إنَّ حُجُزَتَهُ لَتُساوِي الكَعْبَةَ فَقالَ: إنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ ويَقُولُ لَكَ: إنْ شِئْتَ نَبِيًّا عَبْدًا وإنْ شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكًا، فَنَظَرْتُ إلى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَأشارَ إلَيَّ أنْ ضَعْ نَفْسَكَ، فَقُلْتُ: نَبِيًّا عَبْدًا قالَ: فَكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ ذَلِكَ لا يَأْكُلُ مُتَكِّئًا ويَقُولُ:”آكُلُ كَما يَأْكُلُ العَبْدُ، وأجْلِسُ كَما يَجْلِسُ العَبْدُ»“ . وسَيَأْتِي في سُورَةِ سَبَأٍ عِنْدَ ﴿وأسَلْنا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ﴾ [سبإ: ١٢] ما يَتِمُّ هَذا، ولا يَبْعُدُ عِنْدِي أنْ يَكُونَ أُشِيرَ بِالآيَةِ الشَّرِيفَةِ - وإنْ كانَتْ في أُسْلُوبِ الشَّرْطِ إلى ما فَتَحَ عَلَيْهِ ﷺ مِنَ الحَدائِقِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ مِثْلُها في بِلادِ العَرَبِ لَمّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْبَرَ ووادِيَ القُرى، وتَصَرَّفَ في ذَلِكَ بِنَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ وأكَلَ مِنهُ وإلى ما فَتَحَ عَلى أصْحابِهِ مِن بَعْدِهِ مِن بِلادِ فارِسَ والرُّومِ ذاتِ القُصُورِ والجِنانِ الَّتِي لا مِثْلَ لَها ولِذَلِكَ عَبَّرَ في الجَنّاتِ بِالماضِي، وفي القُصُورِ بِالمُضارِعِ، وأُتِيحُوا كُنُوزَ كِسْرى بْنِ هُرْمُزَ، فَإنَّ اللّائِقَ بِمَقامِ المُلُوكِ أنْ تَكُونَ إشاراتُهم أوْسَعَ مِن عِباراتِهِمْ، فَإذا ذَكَرُوا شَيْئًا مُمْكِنًا عَلى سَبِيلِ الفَرْضِ كانَ مِن إرادَتِهِمْ (p-٣٥٠)إيجادُهُ، ويُحِبُّونَ أنْ يَكْتَفِيَ مِنهم بِالإيماءِ، وأنْ يَعْتَمِدَ عَلى تَلْوِيحِهِمْ أعْظَمَ مِمّا يَعْتَمِدُ عَلى تَصْرِيحِ غَيْرِهِمْ، وأنْ يُعَدَّ المَفْرُوضُ مِنهم بِمَنزِلَةِ المَجْزُومِ بِهِ مِن غَيْرِهِمْ، والمُمْكِنُ في كَلامِهِمْ كالواجِبِ، فَما ظَنُّكَ بِمَلِكِ المُلُوكِ القادِرِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ! وهو قَدْ صَرَفَ سُبْحانَهُ الخِطابَ إلى أعْلى النّاسِ فَهْمًا، وأغْزَرِهم عِلْمًا، وقَدْ أراهُ سُبْحانَهُ ما يَكُونُ مِن ذَلِكَ مِن بَعْدِهِ في غَزْوَةِ الخَنْدَقِ. رَوى البَيْهَقِيُّ في دَلائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ المُزَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا خَطَّ الخَنْدَقَ لِيَحْفِرَهُ جَعَلَ عَلى كُلِّ عَشَرَةٍ أرْبَعِينَ ذِراعًا، وكانَ سَلْمانُ الفارِسِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا قَوِيًّا، فاخْتَلَفَ فِيهِ المُهاجِرُونَ والأنْصارُ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ:”سَلْمانُ مِنّا أهْلَ البَيْتِ“فَخَرَجَتْ لَهم صَخْرَةٌ بَيْضاءُ مُدَوَّرَةٌ، قالَ عَمْرٌو: فَكَسَرَتْ حَدِيدَنا. وشَقَّتْ عَلَيْنا، فَقُلْنا: يا سَلْمانُ ارْقَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأخْبِرْهُ خَبَرَ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَأخْبَرَ فَأخَذَ ﷺ المِعْوَلَ مِن سَلْمانَ فَضَرَبَها ثَلاثَ ضَرَباتٍ صَدَعَ فِيها في كُلِّ ضَرْبَةٍ صَدْعًا، وكَسَرَها في الثّالِثَةِ، وبَرَقَتْ مَعَ كُلِّ ضَرْبَةٍ بُرْقَةٌ أضاءَتْ ما بَيْنَ لابَتَيِ المَدِينَةِ حَتّى لَكَأنَّ مِصْباحًا في جَوْفِ بَيْتٍ مُظْلِمٍ، وكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَعَ كُلِّ بُرْقَةٍ تَكْبِيرَةً، ثُمَّ أخَذَ (p-٣٥١)بِيَدِ سَلْمانَ فَرَقِيَ فَسَألَهُ سَلْمانُ فقال لِلْقَوْمِ: هَلْ رَأيْتُمْ ما يَقُولُ سَلْمانُ ؟ قالُوا: نَعَمْ! يا رَسُولَ اللَّهِ! بِأبِينا أنْتَ وأُمِّنا! قَدْ رَأيْناكَ تَضْرِبُ فَيَخْرُجُ بَرْقٌ كالمَوْجِ فَرَأيْناكَ تُكَبِّرُ، لا نَرى شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، فَقالَ: أضاءَتْ لِي مِنَ البُرْقَةِ الأُولى قُصُورُ الحَيْرَةِ ومَدائِنَ كِسْرى كَأنَّها أنْيابُ الكِلابِ، ومِنَ الثّانِيَةِ القُصُورُ الحُمْرُ مِن أرْضِ الرُّومِ كَأنَّها أنْيابُ الكِلابِ، ومِنَ الثّالِثَةِ قُصُورُ صَنْعاءَ كَأنَّها أنْيابُ الكِلابِ، وأخْبَرَنِي، جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّ أُمَّتِي ظاهِرَةٌ عَلَيْها» . فاسْتَبْشَرَ المُسْلِمُونَ وقالُوا: الحَمْدُ لِلَّهِ! مَوْعُودٌ صادِقٌ بِأنَّ وعْدَنا النَّصْرَ بَعْدَ الحَصْرِ، فَطَلَعَتِ الأحْزابُ فَقالَ المُسْلِمُونَ ”هَذا ما وعَدَنا اللَّهُ ورَسُوله وما زادَهم إلّا إيمانًا وتسليمًا“ وقالَ المُنافِقُونَ في ذَلِكَ ما أشارَ إلَيْهِ اللَّهُ تَعالى في القُرْآنِ؛ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى كَذَّبَ المُنافِقِينَ وصَدَّقَ رَسُولَهُ ﷺ، فافْتَتَحَ أصْحابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم جَمِيعَ ما ذَكَرَ، وغَلَبُوا عَلى سائِرِ مَمْلَكَةِ الفُرْسِ واليَمَنِ وأكْثَرِ الرُّومِ، وانْتَثَلُوا مِن كُنُوزِ كِسْرى وقَيْصَرَ ما يَفُوتُ الحَصْرَ، وقَدْ كانَ ﷺ تَصَرَّفَ في ذَلِكَ مِن ذَلِكَ الوَقْتِ تَصَرُّفَ المُلُوكِ، لِأنَّ وعْدَ اللَّهِ لا خُلْفَ فِيهِ، بَلْ غائِبُهُ أعْظَمُ مِن حاضِرِ غَيْرِهِ، ومَوْعُودُهُ أوْثَقُ مِن ناجِزِ سِواهُ، فَأعْطى ﷺ تَمِيمَ بْنَ أوْسٍ الدّارِيَّ بَلَدَ الخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن أرْضِ الشّامِ مِن مَمْلَكَةِ الرُّومِ، وأعْطى خَرِيمَ بْنَ أوْسٍ - الَّذِي يُقالُ لَهُ: شَوِيلُ - كَرامَةَ بِنْتَ عَبْدِ المَسِيحِ (p-٣٥٢)ابْنِ بَقِيلَةَ مِن سَبْيِ الحَيْرَةِ مِن بِلادِ العِراقِ مِن مَمْلَكَةِ فارِسٍ، وكُلٌّ مِنهم قَبَضَ ما أعْطاهُ عِنْدَ الفَتْحِ كَما يَعْرِفُهُ مَن طالَعَ كُتُبَ الفُتُوحِ عَلى أيّامِ الخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجْمَعِينَ، فَعِنْدِي أنَّ هَذا مِمّا أشارَتْ إلَيْهِ الآيَةُ الشَّرِيفَةُ، نَزَّهَ اللَّهُ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ عَنْهُ وفَتَحَهُ عَلى أصْحابِهِ، تَشْرِيفًا لَهم بِإزالَةِ أهْلِ الشِّرْكِ عَنْهُ، وإنْعامًا عَلَيْهِمْ بِهِ تَصْدِيقًا لِوَعْدِهِ، وإكْرامًا لِنَبِيِّهِ ﷺ بِنَصْرِ أوْلِيائِهِ وتَكْثِيرِ أُمَّتِهِ، وحَضَرَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ كانَ مِنَ القائِلِينَ ﴿مالِ هَذا الرَّسُولِ﴾ [الفرقان: ٧] إلى آخِرِهِ، وقَدْ كانَ قادِرًا عَلى أنْ يُقَوِّيَهُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ، ولَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ لِأنَّ ذَلِكَ أوْضَحُ في الأمْرِ، لِأنَّ نَصْرَهُ عَلى خِلافِ ما يُنْصَرُ بِهِ أهْلُ الدُّنْيا مِن غَيْرِ جُنُودٍ كَثِيرَةٍ ظاهِرَةٍ، ولا أمْوالٍ وافِرَةٍ، ولا مُلُوكٍ مُعِينَةٍ قاهِرَةٍ، بَلْ كانَتِ المُلُوكُ عَلَيْهِ، ثُمَّ صارُوا كُلُّهم أهْوَنَ شَيْءٍ عَلَيْهِ، بِيَدِ أصْحابِهِ مِن بَعْدِهِ وأحْبابِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب