الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ لُعِنُوا في الدُّنْيا والآخِرَةِ ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ألْسِنَتُهم وأيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الحَقَّ ويَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ هو الحَقُّ المُبِينُ﴾
وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المسألة الأُولى: اخْتَلَفُوا في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ﴾ هَلِ المُرادُ مِنهُ كُلُّ مَن كانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أوِ المُرادُ مِنهُ الخُصُوصُ ؟ أمّا الأُصُولِيُّونَ فَقالُوا الصِّيغَةُ عامَّةٌ ولا مانِعَ مِن إجْرائِها عَلى ظاهِرِها فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى العُمُومِ فَيَدْخُلُ فِيهِ قَذَفَةُ عائِشَةَ وقَذَفَةُ غَيْرِها، ومِنَ النّاسِ مَن خالَفَ فِيهِ وذَكَرَ وُجُوهًا:
أحَدُها: أنَّ المُرادَ قَذَفَةُ عائِشَةَ قالَتْ عائِشَةُ: ”«رُمِيتُ وأنا غافِلَةٌ وإنَّما بَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَبَيْنَما رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عِنْدِي إذْ أوْحى اللَّهُ إلَيْهِ فَقالَ أبْشِرِي وقَرَأ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ»﴾ )
وثانِيها: أنَّ المُرادَ جُمْلَةُ أزْواجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأنَّهُنَّ لِشَرَفِهِنَّ خُصِّصْنَ بِأنَّ مَن قَذَفَهُنَّ فَهَذا الوَعِيدُ لاحِقٌ بِهِ واحْتَجَّ هَؤُلاءِ بِأُمُورٍ:
الأوَّلُ: أنَّ قاذِفَ سائِرِ المُحْصَناتِ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعالى في أوَّلِ السُّورَةِ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا﴾ [النور: ٥٤] وأمّا القاذِفُ في هَذِهِ الآيَةِ، فَإنَّهُ لا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ قالَ: ﴿لُعِنُوا في الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ ولَمْ يَذْكُرِ الِاسْتِثْناءَ، وأيْضًا فَهَذِهِ صِفَةُ المُنافِقِينَ في قَوْلِهِ: ﴿مَلْعُونِينَ أيْنَما ثُقِفُوا﴾ [الأحزاب: ٦١]
الثّانِي: أنَّ قاذِفَ سائِرِ المُحْصَناتِ لا يَكْفُرُ، والقاذِفَ في هَذِهِ الآيَةِ يَكْفُرُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ألْسِنَتُهم وأيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ﴾ وذَلِكَ صِفَةُ الكُفّارِ والمُنافِقِينَ كَقَوْلِهِ: ﴿ويَوْمَ يُحْشَرُ أعْداءُ اللَّهِ إلى النّارِ﴾ [فصلت: ١٩] الآياتِ الثَّلاثَ.
الثّالِثُ: أنَّهُ قالَ: ﴿ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ والعَذابُ العَظِيمُ يَكُونُ عَذابَ الكُفْرِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ عِقابَ هَذا القاذِفِ عِقابُ الكُفْرِ، وعِقابَ قَذْفِهِ سائِرَ المُحْصَناتِ لا يَكُونُ عِقابَ الكُفْرِ
الرّابِعُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ كانَ بِالبَصْرَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وكانَ يُسْألُ عَنْ تَفْسِيرِ القُرْآنِ، فَسُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: مَن أذْنَبَ ذَنْبًا ثُمَّ تابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ إلّا مَن خاضَ في أمْرِ عائِشَةَ، أجابَ الأُصُولِيُّونَ عَنْهُ بِأنَّ الوَعِيدَ المَذْكُورَ في هَذِهِ الآيَةِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ التَّوْبَةِ لِأنَّ الذَّنْبَ سَواءٌ كانَ كُفْرًا أوْ فِسْقًا، فَإذا حَصَلَتِ التَّوْبَةُ مِنهُ صارَ مَغْفُورًا فَزالَ السُّؤالُ، ومِنَ النّاسِ مَن ذَكَرَ فِيهِ قَوْلًا آخَرَ، وهو أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في مُشْرِكِي مَكَّةَ حِينَ كانَ بَيْنَهم وبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ عَهْدٌ فَكانَتِ المَرْأةُ إذا خَرَجَتْ إلى المَدِينَةِ مُهاجِرَةً قَذَفَها المُشْرِكُونَ مِن أهْلِ مَكَّةَ. وقالُوا إنَّما خَرَجَتْ لِتَفْجُرَ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ، والقَوْلُ الأوَّلُ هو الصَّحِيحُ.
المسألة الثّانِيَةُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ فِيمَن يَرْمِي المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ ثَلاثَةَ أشْياءَ: أحَدُها: كَوْنُهم مَلْعُونِينَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ وهو وعِيدٌ شَدِيدٌ، واحْتَجَّ الجُبّائِيُّ بِأنَّ التَّقْيِيدَ بِاللَّعْنِ عامٌّ في جَمِيعِ القَذَفَةِ ومَن كانَ مَلْعُونًا في الدُّنْيا فَهو مَلْعُونٌ في الآخِرَةِ والمَلْعُونُ في الآخِرَةِ لا يَكُونُ مِن أهْلِ الجَنَّةِ وهو بِناءٌ عَلى المُحابَطَةِ وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ فِيهِ، وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ألْسِنَتُهم وأيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ونَظِيرُهُ (p-١٦٩)قَوْلُهُ: ﴿وقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا﴾ [فصلت: ٢١] وعِنْدَنا البِنْيَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَياةِ فَيَجُوزُ أنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعالى في الجَوْهَرِ الفَرْدِ عِلْمًا وقُدْرَةً وكَلامًا، وعِنْدَ المُعْتَزِلَةِ لا يَجُوزُ ذَلِكَ فَلا جَرَمَ ذَكَرُوا في تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ سُبْحانَهُ يَخْلُقُ في هَذِهِ الجَوارِحِ هَذا الكَلامَ، وعِنْدَهُمُ المُتَكَلِّمُ فاعِلُ الكَلامِ، فَتَكُونُ تِلْكَ الشَّهادَةُ مِنَ اللَّهِ تَعالى في الحَقِيقَةِ إلّا أنَّهُ سُبْحانَهُ أضافَها إلى الجَوارِحِ تَوَسُّعًا.
الثّانِي: أنَّهُ سُبْحانَهُ يَبْنِي هَذِهِ الجَوارِحَ عَلى خِلافِ ما هي عَلَيْهِ ويُلْجِئُها أنْ تَشْهَدَ عَلى الإنْسانِ وتُخْبِرَ عَنْهُ بِأعْمالِهِ، قالَ القاضِي وهَذا أقْرَبُ إلى الظّاهِرِ، لِأنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ أنَّها تَفْعَلُ الشَّهادَةَ. وثالِثُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الحَقَّ﴾ ولا شُبْهَةَ في أنَّ نَفْسَ دِينِهِمْ لَيْسَ هو المُرادُ لِأنَّ دِينَهم هو عَمَلُهم. بَلِ المُرادُ جَزاءُ عَمَلِهِمْ، والدِّينُ بِمَعْنى الجَزاءِ مُسْتَعْمَلٌ كَقَوْلِهِمْ كَما تَدِينُ تُدانُ، وقِيلَ الدِّينُ هو الحِسابُ كَقَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾ أيِ الحِسابُ الصَّحِيحُ ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿الحَقَّ﴾ أيْ أنَّ الَّذِي نُوَفِّيهِمْ مِنَ الجَزاءِ هو القَدْرُ المُسْتَحَقُّ لِأنَّهُ الحَقُّ وما زادَ عَلَيْهِ هو الباطِلُ، وقُرِئَ“ الحَقَّ " بِالنَّصْبِ صِفَةً لِلدِّينِ وهو الجَزاءُ وبِالرَّفْعِ صِفَةً لِلَّهِ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿ويَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ هو الحَقُّ المُبِينُ﴾ فَمِنَ النّاسِ مَن قالَ إنَّهُ سُبْحانَهُ إنَّما سُمِّيَ بِالحَقِّ لِأنَّ عِبادَتَهُ هي الحَقُّ دُونَ عِبادَةِ غَيْرِهِ أوْ لِأنَّهُ الحَقُّ فِيما يَأْمُرُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ ومَعْنى ﴿المُبِينُ﴾ يُؤَيِّدُ ما قُلْنا لِأنَّ المُحِقَّ فِيما يُخاطِبُ بِهِ هو المُبِينُ مِن حَيْثُ يُبَيِّنُ الصَّحِيحَ بِكَلامِهِ دُونَ غَيْرِهِ، ومِنهم مَن قالَ الحَقُّ مِن أسْماءِ اللَّهِ تَعالى ومَعْناهُ المَوْجُودُ، لِأنَّ نَقِيضَهُ الباطِلُ وهو المَعْدُومُ، ومَعْنى المُبِينِ المُظْهِرُ ومَعْناهُ أنَّ بِقُدْرَتِهِ ظَهَرَ وُجُودُ المُمْكِناتِ، فَمَعْنى كَوْنِهِ حَقًّا أنَّهُ المَوْجُودُ لِذاتِهِ، ومَعْنى كَوْنِهِ مُبِينًا أنَّهُ المُعْطِي وُجُودَ غَيْرِهِ.
{"ayahs_start":23,"ayahs":["إِنَّ ٱلَّذِینَ یَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ ٱلۡغَـٰفِلَـٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ لُعِنُوا۟ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ","یَوۡمَ تَشۡهَدُ عَلَیۡهِمۡ أَلۡسِنَتُهُمۡ وَأَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ","یَوۡمَىِٕذࣲ یُوَفِّیهِمُ ٱللَّهُ دِینَهُمُ ٱلۡحَقَّ وَیَعۡلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ ٱلۡمُبِینُ"],"ayah":"یَوۡمَىِٕذࣲ یُوَفِّیهِمُ ٱللَّهُ دِینَهُمُ ٱلۡحَقَّ وَیَعۡلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ ٱلۡمُبِینُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق