الباحث القرآني

النوع التّاسِعُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ومَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإنَّهُ يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ والمُنْكَرِ ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ ما زَكا مِنكم مِن أحَدٍ أبَدًا ولَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشاءُ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ قُرِئَ ”خُطُواتِ“ بِضَمِّ الطّاءِ وسُكُونِها، والخُطُواتِ جَمْعُ خُطْوَةٍ وهو مِن خَطا الرَّجُلُ يَخْطُو خَطْوًا، فَإذا أرَدْتَ الواحِدَةَ قُلْتَ: ”خَطْوَةٌ“ مَفْتُوحَةَ الأوَّلِ، والجَمْعُ يُفْتَحُ أوَّلُهُ ويَضُمُّ، والمُرادُ بِذَلِكَ السِّيرَةُ والطَّرِيقَةُ، والمَعْنى لا تَتَّبِعُوا آثارَ الشَّيْطانِ ولا تَسْلُكُوا مَسالِكَهُ في الإصْغاءِ إلى الإفْكِ والتَّلَقِّي لَهُ وإشاعَةِ الفاحِشَةِ في الَّذِينَ آمَنُوا، واللَّهُ تَعالى وإنْ خَصَّ بِذَلِكَ المُؤْمِنِينَ فَهو نَهْيٌ لِكُلِّ المُكَلَّفِينَ وهو قَوْلُهُ: ﴿ومَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإنَّهُ يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ والمُنْكَرِ﴾ ومَعْلُومٌ أنَّ كُلَّ المُكَلَّفِينَ مَمْنُوعُونَ مِن ذَلِكَ. وإنَّما قُلْنا إنَّهُ تَعالى خَصَّ المُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ؛ لِأنَّهُ تَوَعَّدَهم عَلى اتِّباعِ خُطُواتِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾ وظاهِرُ ذَلِكَ أنَّهم لَمْ يَتَّبِعُوهُ، ولَوْ كانَ المُرادُ بِهِ الكُفّارَ لَكانُوا قَدِ اتَّبَعُوهُ، فَكَأنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا بَيَّنَ ما عَلى أهْلِ الإفْكِ مِنَ الوَعِيدِ أدَّبَ المُؤْمِنِينَ أيْضًا، بِأنْ خَصَّهم بِالذِّكْرِ لِيَتَشَدَّدُوا في تَرْكِ المَعْصِيَةِ، لِئَلّا يَكُونَ حالُهم كَحالِ أهْلِ الإفْكِ والفَحْشاءِ، والفاحِشَةُ ما أفْرَطَ قُبْحُهُ، والمُنْكَرُ ما تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ فَتَنْفِرُ عَنْهُ ولا تَرْتَضِيهِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ ما زَكا مِنكم مِن أحَدٍ أبَدًا﴾ فَقَرَأ يَعْقُوبُ وابْنُ مُحَيْصِنٍ ما زَكّى بِالتَّشْدِيدِ، واعْلَمْ أنَّ الزَّكِيَّ مَن بَلَغَ في طاعَةِ اللَّهِ مَبْلَغَ الرِّضا ومِنهُ يُقالُ زَكى الزَّرْعُ، فَإذا بَلَغَ المُؤْمِنُ مِنَ الصَّلاحِ في الدِّينِ إلى ما يَرْضاهُ اللَّهُ تَعالى سُمِّيَ زَكِيًّا، ولا يُقالُ زَكِيٌّ إلّا إذا وُجِدَ زَكِيًّا، كَما لا يُقالُ لِمَن تَرَكَ الهُدى هَداهُ اللَّهُ تَعالى مُطْلَقًا، بَلْ يُقالُ هُداهُ اللَّهُ فَلَمْ يَهْتَدِ، واحْتَجَّ أصْحابُنا في مَسْألَةِ المَخْلُوقِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشاءُ﴾ فَقالُوا التَّزْكِيَةَ كالتَّسْوِيدِ والتَّحْمِيرِ فَكَما أنَّ التَّسْوِيدَ تَحْصِيلُ السَّوادِ، فَكَذا التَّزْكِيَةُ تَحْصِيلُ الزَّكاءِ في المَحَلِّ، قالَتِ المُعْتَزِلَةُ هاهُنا تَأْوِيلانِ: أحَدُهُما: حَمْلُ التَّزْكِيَةِ عَلى فِعْلِ الألْطافِ. والثّانِي: حَمْلُها عَلى الحُكْمِ بِكَوْنِ العَبْدِ زَكِيًّا، قالَ أصْحابُنا: الوَجْهانِ عَلى خِلافِ الظّاهِرِ، ثُمَّ نُقِيمُ الدَّلالَةَ العَقْلِيَّةَ عَلى بُطْلانِهِما أيْضًا، أمّا الوجه الأوَّلُ: فَيَدُلُّ عَلى فَسادِهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّ فِعْلَ اللُّطْفِ هَلْ يُرَجِّحُ الدّاعِيَ أوْ لا يُرَجِّحُهُ فَإنْ لَمْ يُرَجِّحْهُ البَتَّةَ لَمْ يَكُنْ بِهِ تَعَلُّقٌ فَلا يَكُونُ لُطْفًا، وإنْ رَجَّحَهُ فَنَقُولُ المُرَجَّحُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُنْتَهِيًا إلى حَدِّ الوُجُوبِ، فَإنَّهُ مَعَ ذَلِكَ القَدْرِ مِنَ التَّرْجِيحِ إمّا أنْ يَمْتَنِعَ وُقُوعُ الفِعْلِ عِنْدَهُ أوْ يُمْكِنَ أوْ يَجِبَ، فَإنِ امْتَنَعَ كانَ مانِعًا لا داعِيًا، وإنْ أمْكَنَ أنْ يَكُونَ وأنْ لا يَكُونَ، فَكُلُّ ما يُمْكِنُ لا يَلْزَمُ مِن فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحالٌ، فَلْيُفْرَضْ تارَةً واقِعًا وأُخْرى غَيْرَ واقِعٍ، فامْتِيازُ وقْتِ الوُقُوعِ عَنْ وقْتِ اللّاوُقُوعِ، إمّا أنْ يَتَوَقَّفَ عَلى انْضِمامِ قَيْدٍ إلَيْهِ أوْ لا يَتَوَقَّفَ، فَإنْ تَوَقَّفَ كانَ المُرَجَّحُ هو المَجْمُوعُ الحاصِلُ بَعْدَ انْضِمامِ هَذا القَيْدِ، فَلا يَكُونُ الحاصِلُ أوَّلًا مُرَجَّحًا، وإنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ كانَ اخْتِصاصُ أحَدِ الوَقْتَيْنِ بِالوُقُوعِ والآخَرِ بِاللّاوُقُوعِ تَرْجِيحًا لِلْمُمْكِنِ مِن غَيْرِ (p-١٦٢)مُرَجِّحٍ وهو مُحالٌ، وأمّا إنَّ اللُّطْفَ مُرَجِّحًا مُوجِبًا كانَ فاعِلُ اللُّطْفِ فاعِلًا لِلْمَلْطُوفِ فِيهِ، فَكانَ تَعالى فاعِلًا لِفِعْلِ العَبْدِ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشاءُ﴾ عَلَّقَ التَّزْكِيَةَ عَلى المَشِيئَةِ وفِعْلُ اللُّطْفِ واجِبٌ، والواجِبُ لا يَتَعَلَّقُ بِالمَشِيئَةِ الثّالِثُ: أنَّهُ عَلَّقَ التَّزْكِيَةَ عَلى الفَضْلِ والرَّحْمَةِ وخَلْقُ الألْطافِ واجِبٌ فَلا يَكُونُ مُعَلَّقًا بِالفَضْلِ والرَّحْمَةِ، وأمّا الوجه الثّانِي: وهو الحُكْمُ بِكَوْنِهِ زَكِيًّا فَذَلِكَ واجِبٌ لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْكَمْ بِهِ لَكانَ كَذِبًا والكَذِبُ عَلى اللَّهِ تَعالى مُحالٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالمَشِيئَةِ ؟ فَثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشاءُ﴾ نَصٌّ في البابِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فالمُرادُ أنَّهُ يَسْمَعُ أقْوالَكم في القَذْفِ وأقْوالَكم في إثْباتِ البَراءَةِ، عَلِيمٌ بِما في قُلُوبِكم مِن مَحَبَّةِ إشاعَةِ الفاحِشَةِ أوْ مِن كَراهِيَتِها، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ الِاحْتِرازُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب